ترجمة رباب عبيد
شكّل النطاق الواسع للتهميش الاقتصادي، وحِدّة المظالم الاجتماعية - السياسية، بالإضافة إلى انعدام الديموقراطيّة أهم أسباب اندلاع الثورة في سورية عام ٢٠١١. لقد عانت سورية، وما زالت، من عوارض اقتصادية كامنة يمكن ملاحظتها منذ عقود، وذلك خلْف مظاهر أداءٍ مقبول للاقتصاد على المستوى الكلّي. ينطوي ذلك على تطوّر بعض القطاعات الاقتصادية وتوسّعها، لا سيّما قطاع الخدمات. وقد تَرافق هذا التطور مع تراجع للقطاعات الإنتاجية وانخفاض شديد لمعدّلات التوظيف مصحوب بمعدّلات مرتفعة جدًّا لهجرة الكفاءات، أي هجرة الأدمغة، ما يشكّل نموذجًا لاقتصادٍ ريعيّ للدولة في ما يتعلق بإدارة الموارد (لتشتمل على أكثر من الموارد الطبيعيّة/ بما فيها الموارد غير الطبيعية).
«اقتصاد السوق الاجتماعي»
خلال العقد الذى تلى وصول بشار الأسد إلى السلطة عام ٢٠٠٠، شرَع النظام السوري بعمليّة اعتماد سريع للسياسات النيوليبرالية. تميّزت هذه العملية بشكل أساسيّ بعمليات خصخصة على نطاقٍ واسع، وتوجُّه نحو تحرير الأسواق، وتخفيض الدعم على كثير من السلع والخدمات. لكنّ ذلك لم يكن شاملاً، إذ ظلّت الحكومة السورية تلعب دورًا مهمًّا في الاقتصاد من خلال توظيف جزء كبير من السوريين.
سمح بشار الأسد، بخلاف والده، للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي بالتدخّل في عملية التوجّه نحو ليبرالية السوق. وقد اعتمد «حزبُ البعث»، في مؤتمره الإقليمي العاشر عام ٢٠٠٥، «اقتصادَ السوق الاجتماعي» استراتيجيّةً اقتصاديّةً جديدة، أي أنّ القطاع الخاص يكون شريكًا وقائدًا في عملية التنمية الاقتصاديّة وتوفير الوظائف عوضًا عن الدولة. كان الهدف تشجيع تراكم الثروة بيَد القطاع الخاص عن طريق التوجّه نحو عملية تسويق الاقتصاد فيما تنسحب الدولة من مجالات أساسية في توفير الرعاية الاجتماعية، الأمر الذي فاقم من المشاكل الاقتصادية- الاجتماعية الموجودة في الأصل.
خلال العقد الذي سبق الثورة أدّت التدفقات الاستثمارية إلى طفرة في التجارة والإسكان والعمليّات المصرفية والبناء والسياحة. خلال عام ٢٠٠٠، كان ١٣٪ فقط من الاستثمار الوطني والخارجي من نصيب قطاعات التصنيع، كما تأثّرت بشكل سلبي معظم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للأعمال، والتي شكّلت في السابق أكثر من ٩٩٪ من كافة المؤسسات التجاريّة في سورية، وذلك من جرّاء التوجّه نحو عملية تسويق الاقتصاد وتحرير الأسواق ابتداءً من عام ٢٠٠٠. إبّان اندلاع الحرب، شكّلت الصناعة والتعدين ٢٥٪ من الناتج المحلّي الإجمالي، بينما ساهمت الصناعات التحويليّة بـ٤٪ فقط من الناتج المحلّي الإجمالي١.
في مجال الزراعة، تمّت خصخصة الأراضي على حساب عشرات آلاف الفلاحين من شمال شرق سورية، خصوصًا بعد الجفاف بين ٢٠٠٧ و٢٠٠٩ حين حصل مليون فلاح على مساعدات دوليّة وإمدادات غذائيّة؛ وقد دفع هذا الأمر بـ ٣٠٠,٠٠٠ من سكان مناطق شمال شرق سورية إلى دمشق وحلب ومدن أخرى. لكن لا يجوز اعتبار هذه الكارثة الاجتماعية نتيجة لكارثة طبيعيّة حَصرًا، إذ إن سورية كانت قبل الجفاف، بين ٢٠٠٢ و٢٠٠٨، قد خسرت ٤٠٪ من اليد العاملة في الزراعة، إذ انخفضت من ١،٤ مليون إلى ٨٠٠,٠٠٠ عامل. لقد أدّت إجراءات توجيه القطاع الزراعي نحو الليبرالية الاقتصادية في أواخر عام ٢٠٠٠ إلى خصخصة مزارعَ للدولة في الشمال بعد أكثر من أربعة عقود من الملكيّة الجماعيّة٢. كان المستفيدون الفعليّون من هذه الخصخصة المستثمرين ورجال الأعمال الذين تمكّنوا، وبشكل غير قانوني، من استئجار ممتلكات الدولة، كما انحصرت ملكيّة الأراضي في عدد قليل من الأشخاص. وفي عام ٢٠٠٦ جاء عنوان مقالة في جريدةٍ سوريّة ساخرة ليعكس جيّدًا هذه الديناميّة: «بعد ٤٣ سنة من الاشتراكية، تعود الإقطاعية».
تراجَع إسهام القطاعات المنتِجة في الاقتصاد من ٤٨٪ من الناتج الوطني الإجمالي خلال ١٩٩٢ إلى ٤١٪ في ٢٠١٠. ومع تراجع الإنتاج، انخفضت حصّة الأجور من الدخل الوطني في مقابل الأرباح والريوع، وانخفض المجموع الفعلي للأجور. وهكذا انخفضت حصّة الأجور من ٤١٪ عام ٢٠٠٤ إلى أقلَّ من ٣٣٪ خلال ٢٠٠٨-٢٠٠٩، ما يعني أنّ الأرباح والريوع شكّلت أكثر من ٦٧٪ من الناتج الوطني الإجمالي٣. وارتفع إسهام قطاع الخدمات في القيمة المضافة من ٤١,٩٪ عام ٢٠٠٠ إلى ٥٥,٥٪ عام ٢٠٠٨. شكّل هذا القطاع ٤٨٪ من النمو المسجّل خلال هذه الفترة، إذًا ازداد ارتكاز النمو على الريع الذي يعتمد على عائدات تصدير النفط والتدفّقات المالية بما فيها التحويلات النقديّة التي شكّلت ٣٪ من الدخل الوطني الإجمالي خلال ٢٠٠٨.
ومع المضيّ في التوجّه نحو الاقتصاد الليبرالي والخصخصة ازدادت العمالة غير المنظّمة. لقد أشارت الخطّة الخمسية العاشرة للدولة عام ٢٠٠٥ إلى زيادة نسبة العمالة الهشّة منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بما فيها الأعمال الحرّة، ما ساهم في العمل الأسَري أو في قطاع العمل غير المنظّم. بحسب تقديرات خطة عام ٢٠٠٥، ساهمت العمالة غير المنظّمة بحوالى ٣٠٪ من مجموع التوظيفات وحوالى ٣٠ إلى ٤٠٪ من الناتج الوطني الإجمالي، ومن المهم بمكانٍ الإشارة إلى أنّ أكثر من نصف عمّال القطاع غير المنظّم كانوا دون عمر الثلاثين، الأمر الذي يشير إلى تراجع المجالات الاقتصاديّة أمام الشباب السوري خلال فترة توجّه الاقتصاد نحو الليبرالية.
بالنسبة للقوّة العاملة، انخفضت مشاركة الأشخاص في سنّ الخامسة عشرة أو أكثر من ٥٢,٣٪ عام ٢٠٠١ إلى ما بين ٣٩ و٤٣٪ عام ٢٠١٠، فوصلت البطالة والعمالة الناقصة إلى معدّلات مرتفعة خاصّةً ضمن الفئة الشابّة، ولم يعد سوق العمل الذي أنشأته الدولة قادرًا على استيعاب الوافدين المحتمَلين وخصوصًا الخرّيجين الشباب. قبل عام ٢٠١١، كانت الجامعات والمعاهد التقنيّة السوريّة تزوّد سوق العمل سنويًّا بـ ٢٠٠,٠٠٠ عامل إضافي من ذوي المهارات العالية، تمكنت الدولة وقتها من توفير ٦٠,٠٠٠ وظيفة فقط لهم، في حين كانت قدرة القطاع الخاص محدودةً في التعويض واستيعاب فائض يوازي ١٤٠,٠٠٠ شخص٤. وفي الوقت عينه جاء قانون العمل رقم ١٧ ليعطي الأفضليّة لأرباب العمل على حساب حماية العمّال، فمنَحهم بشكل ملحوظ الحقّ في طرد موظّفيهم من دون أي مسوّغ وبتعويض غير وافٍ٥. وكانت الدولة أقرّت هذا القانون عام ٢٠١٠، والذي ينظم العلاقة بين العمّال وأرباب العمل في القطاع الخاص، والقطاع المشترك ما بين العام والخاص، والقطاع التعاوني٦.
لقد أفادت السياسات النيوليبرالية إلى حدّ كبير الطبقة العليا في سورية والمستثمرين الأجانب، لا سيّما من تركيا وممالك الخليج، على حساب الأكثريّة العظمى من السوريين الذين تضرّروا من التضخم الماليّ وارتفاع كلفة المعيشة. وخلال هذه الفترة، خفّضت الحكومة الضرائب إلى حد كبير على أرباح قطاع الأعمال من مجموعات وأفراد.
وقد ترافقت إجراءات التوجّه نحو الاقتصاد الليبرالي مع تخفيضٍ للدعم وتجميد التوظيف في القطاع العام، وتقليص دور الدولة في الاستثمار المحلّي. بالإضافة إلى ذلك، تراجعت مدفوعات الضمان الاجتماعي من خلال تخفيضات في تعويض نهاية الخدمة مع بداية الألفيّة الثانية، كما رُفع الدعم عن مواد غذائيّة أساسيّة، وعن الغاز ومصادر أخرى للطاقة. جعل تحرير الأسعار، وبشكل متزايد، الكثير من السلع الضروريّة في الحياة اليوميّة بعيدة عن متناول العائلات ذات الدخل المنخفض. كذلك، فإنّ الإنفاق على الصحة والتعليم لم يرتفع بما يتناسب مع الزيادة السكّانية. وفي السياق نفسه، شرعت الدولة تدريجيًّا في تطبيق الليبرالية على النظام التعليمي وتحديدًا من خلال إنشاء جامعات وكليات خاصّة. ترافقت هذه العملية مع تخفيض خدمات الصحة العامّة كمًّا ونوعًا ما أجبر السوريين على التوجّه إلى القطاع الخاص لتلبية خدمات أساسية.
وبنحوٍ متزايد تحوّلت الخدمات الاجتماعية، التي تخفف من وطأة اللامساواة المتنامية، من الإنفاق الحكومي إلى العمل الخيري الخاص بقيادة البرجوازية والطبقات المحافظة دينيًّا في المجتمع السوري، وخصوصًا الجمعيات الدينية.
لقد أفرزت السياسات النيوليبرالية وتعميق عمليّة الخصخصة احتكاراتٍ جديدةً في أيدي الأقارب والمقرّبين من بشّار الأسد والنظام. كما شكّل التوظيف في مراكز أساسيّة في الإدارة والحكومة والجيش والأمن قنوات للمحسوبيّة. وقد جسّد رامي مخلوف، ابن خال الأسد والرجل الأغنى في سورية، عملية الخصخصة التي نفّذها النظام على طريقة المافيا. وبشكلٍ أعمّ، كان وصول بشار الأسد إلى السلطة، مترافقًا مع السياسات النيوليبرالية، عاملاً داعمًا إلى حد كبير للطبيعة الميراثية للدولة٧ إذ تزايدَ تأثير الرأسماليين المحسوبين على السلطة داخل مراكز القوى.
إنّ نموّ تأثير الرأسماليين المحاسيب، الذي زاد من مستوى الفساد وانعدام التوازن في توزيع الثروة، هو أساس المشاكل الاقتصادية في سورية. أخفقت الطبقة الحاكمة في تحقيق نموّ مستدام وبعيد المدى، كما كان استثمار الدولة ضعيفًا في القطاعات الاقتصاديّة المنتِجة. بتعبيرٍ آخر، عطّلت طريقةُ الإنتاج النموّ الاقتصادي في سورية: رأسمالية تجاريّة تركّز على المضاربة وهدفها جني الأرباح في مدًى قصير٨. وقد تمّ تعزيز هذه الديناميّة من خلال السياسات النيوليبرالية لنظام الأسد خلال العقد الأخير ما قبل الثورة. لقد أدّى حكم الأسد وسياساته الاقتصاديّة إلى مستوى غير مسبوق من الفقر، فيما استمرّت اللامساواة بالازدياد. وعلى الرغم من أنّ الناتج الوطني الإجمالي الفعلي نما بمعدّل ٤,٣٪ سنويًّا ما بين ٢٠٠٠ و٢٠١٠، إلا أنّ هذا النمو استفادت منه فقط طبقة الأغنياء قليلة العدد. ارتفع الناتج الوطني الإجمالي إلى أكثر من الضعف إذ تحوّل من ٢٨,٨ مليار دولار عام ٢٠٠٥ إلى ٦٠ مليار دولار عام ٢٠١٠. وفي ٢٠٠٧ كان ٣٣٪ من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، أي حوالى سبعة ملايين شخص، كما كان ٣٠٪ بالكاد فوق مستوى هذا الخط. شكّل هذا تحوّلًا كبيرًا عن أواخر التسعينيّات التي كان فيها ١٤،٣٪ فقط مسجّلين تحت خط الفقر. تركّز الفقرُ بشكل خاص في المناطق الريفيّة، فمنذ عام ٢٠٠٤ كان ٦٢٪ من الفقراء يعيشون في الأرياف مقارنةً بـ٣٨٪ في المناطق المدينيّة. في الوقت نفسه كان أكثر من نصف المتعطلين من العمل في سورية يعيشون في الأرياف٩. لقد استمرّ منذ الثمانينيات الإفقار في مناطق سورية الريفيّة.
هذا النظام السياسي المستبدّ، إضافةً إلى إفقار أجزاء كبيرة من المجتمع السوري في جوّ من الفساد وتزايد التفاوت الاجتماعي، أمورٌ مهّدت الطريق لانتفاضة شعبيّة ما كانت تحتاج سوى إلى شرارة لتندلع. وبثقةٍ كبيرة صرّح الأسد في مقابلة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» عام ٢٠١١ بعد خلع الرئيس بن علي في تونس: «سورية مستقرّة على الرغم من ظروفها الأصعب من تلك في باقي البلدان العربيّة. لماذا؟ لأنه يجب البقاء قريبين جدًّا ممّا يؤمن به الشعب».
لقد أخطأ القائد السوري كثيرًا باعتقاده أنّ نظامه ما كان ليتأثّر بموجات الاحتجاج هذه.
ما فعلته الحرب
بعد عشر سنوات من الثورة التي تحوّلت إلى حرب ينخرط فيها أفرقاء دوليون متعدّدون ها هو النظام السوري يسيطر على ٧٠٪ تقريبًا من الأرض بفضل الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الذي قدّمه حلفاؤه، روسيا وإيران. إلا أن دمشق تواجه تحديات اجتماعيّة-اقتصاديّة ضخمة لا تبدو حلولها متوافرةً في الأمد القريب.
إن مفاعيل الحرب كارثيّة على اقتصاد البلد ومجموعاته السكانية. لقد انخفض الدخل الوطني الإجمالي من ٦٠,٢ مليار دولار أميركي خلال ٢٠١٠، إلى حوالى ٢١,٦ مليارًا في ٢٠١٩، في وقت يقَدّر فيه مجموع الخسائر الاقتصاديّة خلال الصراع حتى نهاية ٢٠١٩ بـ٥٣٠,١ مليار دولار أميركي١٠. نتيجةً للتدمير على نطاق واسع في سنوات الحرب، تبدّلت هيكليّة الاقتصاد والناتج الوطني الإجمالي إلى حدّ بعيد١١.
لقد ساهم القطاع الزراعي بما بين ٢٥ و٤١٪ من الدخل الوطني الإجمالي منذ عام ٢٠١٣، وأصبح القطاع الأساسي في الدخل الوطني الإجمالي السوري. لكن حصّة الزراعة من الدخل الوطني الإجمالي ليست نتيجة النموّ الصافي لهذا القطاع، إنما نتيجة للتدمير الواسع الذي أصاب القطاعات الاقتصاديّة الأخرى. عام ٢٠١٦، قدّر «برنامج الغذاء العالمي» الخسائر في القطاع الزراعي في سورية بـ ١٦ مليار دولار منذ ٢٠١١ (حوالي ٤٠٪ وفق الصيغة المطلَقة للأرقام). إضافةً إلى التدمير، ظلّ القطاع يعاني من مشاكل ما قبل ٢٠١١، مثل الارتفاع المستمر في كلفة الإنتاج (بما فيها أسعار الوقود والأسمدة) وسوء إدارة المياه وموجات الجفاف المتكرّرة، إلخ.
لقد كان قطاع الصناعات التحويليّة واحدًا من أكثر القطاعات التي تأثرت سلبًا بالحرب، وهو بعيد كل البعد عن استعادة مستوى إنتاج ما قبل عام ٢٠١١. وتقدَّر قيمة الضرر والدمار اللذين لحقا بالقطاع الصناعي، العام والخاص، بما بين ٣ و٤,٥ مليارات دولار أميركي. في آذار/ مارس ٢٠١٩ انخفض عدد المنشآت الصناعيّة السوريّة إلى حوالى ٧٥,٠٠٠ منشأة على المستوى الوطني، في حين كان عددها حوالي ١٣٠,٠٠٠ قبل الثورة١٢.
وبشكل مماثل للقطاعات الاقتصاديّة الأخرى، عانى قطاع الخدمات على أنواعها كثيرًا من دمار الحرب. وما زال القطاع المالي وقطاعَا العقارات وخدمات الدولة تتحمّل الصعوبات وتعاني من ركود اقتصادي عميق وصل إلى ٢٢٪ ثم إلى ١٩٪ خلال عام ٢٠١٩ ١٣. وقد تكبّدت السياحة ما يقارب ١٤ مليار ليرة سوريّة (تقريبًا ٢٧ مليون دولار) من الأضرار والدمار. حتى مع التحسّن البطيء الذي حصل منذ ٢٠١٦ في أعداد زائري البلد، وصلت العائدات في مجموعها إلى سبعة مليارات ليرة سوريّة خلال ٢٠١٧، ما يوازي ١٤ مليون دولار فقط١٤. وبالمقارنة، خلال ٢٠١٠ بلغت عائدات قطاع السياحة في سورية ٨,٢١ مليارات دولار أميركي (أو ٣٨٦ مليار ليرة سوريّة بحسب سعر الصرف وقتها)، ما شكّل حوالى ١٣,٧٪ من الناتج المحلّي الإجمالي١٥. ولقد تأثّر القطاع المصرفي الخاص بانعدام البيئة الآمنة وعدم الاستقرار السياسي، وعانى بالتالي من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، فانخفضت الأرصدة في المصارف الخاصّة في البلاد من ١٣,٨مليار دولار في ٢٠١٠، إلى ٢,٦ مليار دولار في نهاية ٢٠١٩ ١٦. أما قطاع البناء فلا يزال يعاني من صعوبات، منها الانكماش المستمر بسبب الوضع الأمني المتردّي، وتضاؤل استثمارات الدولة والاستثمارات الخاصّة أيضًا، إضافةً إلى التدمير اللاحق لوسائل الإنتاج والارتفاع العامّ في أسعار مواد البناء. إنّما في المحصّلة ساهم قطاع الخدمات بـ٥٤٪ من الناتج المحلّي الإجمالي في العام ٢٠١٩. إضافةً إلى ذلك، عزّزت الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر ٢٠١٩، وأيضًا تداعيات الوباء العالمي منذ بدايات ٢٠٢٠، كل أوجه القصور هذه والمشاكل الاقتصاديّة.
سورية الآن أقرب ما تكون إلى مجتمع استهلاكي ذي مستويات إنتاج لا تكفي حاجاته المحليّة. كانت قيمة صادرات سورية قبل الحرب حوالى ١١ مليار دولار، فيما لم تتعدّ الـ٧٠٠ مليون دولار عام ٢٠١٩، وفاق العجز في الميزان التجاري ٥,٧ مليارات دولار. في الوقت نفسه، عائدات الدولة محدودة جدًّا نتيجة للتناقص الكبير في الصادرات (خصوصًا النفط ومنتجات الصناعة التحويليّة) ما عمّق من سلبيّة ميزان البلد التجاري. إضافة إلى ذلك، حرم تدمير قطاعات أساسيّة أخرى في الاقتصاد كالسياحة، مثلًا، الدولةَ من العملات الأجنبية. كما توقّفت تقريبًا الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة التي ارتفعت قبل الصراع لتصل إلى مجموع يزيد على ثمانية مليارات دولار ما بين ٢٠٠٥ و٢٠١١. وينعكس تحوّلُ بنية الاقتصاد في تبدّل بنية الموازنة التي باتت ترتكز بشكل متزايد على توفير السلع والخدمات الأساسيّة للشعب، كما تفتقر إلى المجال للاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة والتي تعاني من تدمير هائل، من أجل النهوض بها.
ويعكس انهيار الليرة السوريّة حال التدمير في الاقتصاد١٧. لقد استمرّ هبوط الليرة في السوق السوداء منذ نهاية ٢٠١٩ موسّعًا بالتالي الهوّة ما بين السعر الرسمي لصرف الليرة وسعرها في السوق السوداء. وأدّى هذا الهبوط في قيمة الليرة إلى تآكل كبير في قدرة سورية الشرائيّة، ما حدا بمعظم موظّفي الدولة من جنود وموظّفين إلى السعي وراء أعمال إضافيّة، وصاروا أكثر عرضة للقيام بنشاطات تجاريّة واقتصاديّة غير قانونيّة بما فيها الفساد في كافة مفاصل الدولة والقطاع العام. في دمشق ازدادت كلفة سلّة الاستهلاك الأساسي لخمسة أشخاص من ٣٨٠ ألف ليرة سوريّة (ما يوازي ٨٧٦ دولارًا في سوق الصرف الرسمي، و٣٦٥ دولارًا في السوق السوداء) في كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠، إلى ٧٣٢ ألف ليرة سوريّة في كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٠ (ما يوازي ٥٨١ دولارًا في سوق الصرف الرسمي، و٢٥٤ دولارًا في السوق السوداء)١٨.
بعد انخفاض جديد وعميق في قيمة الليرة السورية بسعر السوق السوداء في آذار ٢٠٢١، لتصل إلى ٤٠٠٠ ليرة للدولار خلال هذه الفترة، تجاوزت تكلفة المعيشة لأسرة سورية من خمسة أشخاص في دمشق المليون ليرة سورية١٩.
وفي الوقت نفسه، بلغ معدّل الأجر الشهري في القطاع العامّ ما بين ٨٠ ألفًا و١٠٠ ألف ليرة سوريّة (ما بين ٢٠ و٢٥ دولارًا)، وفي القطاع الخاص حوالي ١٢٠ ألفًا و١٥٠ ألف ليرة (ما بين ٣٠ و٣٧,٥ دولارًا).
خلال الحرب تضاءلت حصّة الأجور شيئًا فشيئًا من الناتج الوطني. في تموز/ يوليو ٢٠٢٠ كانت حصة الأجور حوالي ٢٠٪ من الدخل الوطني، بينما بلغت حصّة الأرباح والريوع ٨٠٪ منه٢٠. في هذا الإطار اكتسبت التحويلات الماليّة من السوريّين المقيمين في الخارج أهمية متزايدة في إعالة شرائح واسعة من الشعب منذ اندلاع الثورة في ٢٠١١ ٢١.
«الشراكة الوطنية»: تعميقٌ للأزمات
فيما غيّر الصراع هيكليّة الاقتصاد جذريًّا منذ ٢٠١١، لم تعكس السياسات النيوليبرالية للدولة خلال الحرب أي انقطاع عن سياساتها ما قبل الحرب، بل على العكس، يبدو أنّ الصراع قد أفسح المجال لتعميقها. في شباط/ فبراير ٢٠١٦ أعلنت الحكومة السوريّة عن «استراتيجيّة اقتصاديّة جديدة» اسمها «التشاركية الوطنية» لتحلّ محل نموذج «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي اعتُمِد عام ٢٠٠٥. ويعبّر هذا التعميق للإطار النيوليبرالي عن نفسه خير تمثيل في قانون عام ٢٠١٦ للشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، وهو عبارة عن سلسلة قوانين متعلقة بالمنازل والأراضي والممتلكات.
بحسب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجيّة وقتئذٍ، وفّرت الشراكة بين القطاعين العامّ والخاص بناءً على قانون ٢٠١٦ «إطارًا قانونيًّا لتنظيم العلاقات بين القطاعين العام والخاص وتلبية الحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتزايدة في سورية، خاصّةً في ما يتعلّق بمجال إعادة الإعمار»، كما أنّ تلك الشراكة ستتيح الفرصة للقطاع الخاص «بالإسهام في التطوّر الاقتصادي كشريك فاعل وأساسي»٢٢. في الواقع، يخوّل قانون ٥/٢٠١٦ القطاع الخاص إدارة وتطوير ممتلكات الدولة في كافة القطاعات الاقتصاديّة بما هو صاحب أكثرية الأسهم أو مالك المؤسسة، باستثناء قطاع استخراج النفط. إنّ تطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وسيلة بيد الدولة لإعادة هيكلة السياسات الاقتصاديّة لما قبل العام ٢٠١١ وتعميقها. يتم هذا عن طريق توسيع نطاق السوق في مروحة واسعة من القطاعات الاقتصاديّة التي كانت تسيطر عليها الدولة إلى حدّ كبير في السابق، بما فيها الطاقة والصناعات التحويليّة وشركات الدولة للصناعات الغذائية، وفي الوقت نفسه، يصار إلى تجديد سلطويّة النظام وتوارثيّته وتعزيزهما من خلال شبكاته الاقتصاديّة.
كما يجدر النظر إلى هذا القانون من منظار الديناميّة المتنامية للنيوليبرالية على مستوى المنطقة والعالم: قطاعات اقتصاديّة كانت تدار سابقًا من قِبَل الدولة حصرًا صارت مفتوحة على احتمال تراكم رأس المال لصالح القطاع الخاص. لقد اعتمدت مختلف دول الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وذلك لتعميق خصخصة الخدمات العامّة والبنى التحتيّة المدينيّة للدولة٢٣. وإنّ «البنك الأوروبي للإنشاء والإعمار»، الذي بدأ نشاطاته في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعدما بدأت الثورات الشعبيّة في ٢٠١١، صرّح بوضوح بأنّ أحد أهدافه الأساسيّة الترويج للشراكة بين القطاعين العام والخاص.
وفيما لم تكشف دمشق عن أي برنامج عامّ لها لإعادة إعمار الدولة ككل، فإن الحكومة السوريّة سنّت أكثر من خمسين قانونًا تتعلّق بقضايا «الإسكان والأرض والممتلكات» (HLP) خلال العقد المنصرم. تُعدّ هذه السلسلة من القوانين الإطارَ لمصادرة المُلكيّة وللتطوير العقاري. لكنّ تطبيق المشاريع العقاريّة يبقى محدودًا. حتى الآن، وباستثناء مشروع «بساتين الرازي» في ضواحي دمشق، الذي لا يزال محدودًا جدًّا، لم تركّز إعادةُ الإعمار على إعادة بناء المناطق السكانية الواسعة التي دمّرتها الحرب، بل عملت على إصلاح الطرقات والبنى التحتيّة وتوفير بعض الخدمات كالكهرباء والماء وترميم بعض المساحات الصغيرة في وسط المدن مثل الأسواق القديمة في حلب وحمص.
منذ اندلاع الثورة، قدّمت الحكومات السوريّة المتعاقبة السياسةَ الاقتصاديّة للنظام السوري، لا سيّما تلك المتعلّقة باستراتيجيّة الشراكة الوطنيّة وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب قانون حقوق الإسكان والأرض والممتلكات، على أنّها إجراءات ضروريّة و«تكنوقراطيّة». ينبغي النظر إلى هذه الإجراءات بصفتها وسيلة لتغيير الظروف العامّة لمراكمة رأس المال وتقوية الشبكات الاقتصاديّة المرتبطة بالنظام، بالإضافة إلى تحقيق أهداف أمنيّة في ما خص القضايا المتعلّقة بالإسكان والأرض والممتلكات.
سورية في السنوات المقبلة
ترتبط السياسات الاقتصاديّة النيوليبرالية للحكومة السوريّة بالطبيعة الميراثية والطبقيّة للنظام في دمشق، والتي تعززت خلال الحرب، وتأثيرها واضح على البُنى الاجتماعيّة-الاقتصاديّة والمجتمعيّة في البلاد. خلال السنوات الأخيرة، عزّز هذا النهج توسعًا مفرطًا في قطاعَي التجارة والخدمات، ودفع بأشكال عديدة من الاستثمار المُضارِب، خصوصًا في العقارات، مصحوبًا بالفساد وبإدارة للموارد تركّز على الريعيّة (بما فيها الموارد غير الطبيعيّة). لقد تحوّل الاقتصاد السوري إلى شبه اقتصاد استهلاكي بكلّيته، وعلى درجة منخفضة جدًّا من الإنتاج.
يترافق هذا مع عزلة اقتصاديّة متزايدة في وقت تعاني فيه البلاد من عقوبات كبيرة خاصّةً مع قانون قيصر الأميركي. في هذا السياق، لا يُتوقّع من الإدارة الأميركيّة الجديدة أي تغييرات أساسيّة في سياسة واشنطن تجاه سورية، وبالتالي من المرجّح أن يبقى الضغط لإبقاء العزلة على البلاد خلال السنوات القليلة المقبلة. إنّ غياب معارضة سياسية سورية منظّمة ومستقلّة وديموقراطية وشاملة مجتمعيًّا، قادرة على اجتذاب مختلف الطبقات الشعبيّة، يجعل من الصعب على الشرائح المختلفة من الشعب أن تتّحد وتواجه النظام من جديد على مستوى الوطن.
يبدو التعافي الاقتصادي صعبًا جدًّا في المدى المتوسط. وعلى عكس ذلك، فإنّ ما نشهده هو مزيد من الإضعاف والتراجع لقطاعات الإنتاج، ما يعني المزيد من الإفقار لشرائح واسعة من المجتمع، والدفع باتجاه معدّلات ضخمة من البطالة والبطالة المقنّعة التي تترافق مع معدّلات للهجرة مرتفعة للغاية بين المتخرّجين الشباب، إضافةً إلى ندرةٍ في مجالات العمل للمحاربين وأفراد المليشيات سابقًا أو حاليًّا. أدّى هذا إلى زيادة التذمر لدى الشعب السوري، والذي يظهر من خلال الانتقادات في وسائل التواصل الاجتماعي، واحتجاجات صغيرة الحجم ضد التراجع المستمر لاقتصاد البلاد وسياسات الدولة. إلا أنّ مظاهر التذمّر والانتقادات هذه لن تتحوّل تلقائيًّا إلى فرص سياسيّة، خصوصًا بعد عشر سنوات من الحرب الضارية. كما أنّها تبقى متجذّرة في مناطق معيّنة من دون ارتباط بعضها ببعض.
فيما أمّن النظام بقاءه إلى هذا الحدّ أو ذاك، وبشكل أساسي عبر دعم حلفائه من الخارج، تبقى قدرة دمشق على المحافظة تلقائيًّا على سيطرتها على شرائح كبيرة من الشعب بعيدة المنال. وهذا ما يغذّي وضعًا مستمرًّا من عدم الاستقرار، الأمر الذي يرجّح أن يبقى مستدامًا في المديَين القريب والمتوسط.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.