العدد ٣١ - ٢٠٢١

محمد رضا شجريان

الموّال يفقد سحرَه

ترجمة مريم حيدري

 

بين الأغنية والموّال

منذ القدم، قُسّمت الموسيقى الغنائية الإيرانية إلى قسمين: «التصنيف»، وهو يعادل «الأغنية» في العربية، و«آواز»، ويعادل «الموّال». وقبل الفترة الحديثة، لطالما حمل الموّال (آواز) مكانةً أعلى من الأغنية (التصنيف). وحتى اليوم لا يزال بعضُ متابعي الموسيقى الإيرانية بطريقة أكثر راديكالية يرَون أنّ للموّال (آواز) مكانةٌ فنية، وحتى ثقافية، أعلى وأرقى من مكانة الأغنية (التصنيف).

يُطلَق الموّال عمومًا على الغناء في المساحة الحرّة. وإذا نظرنا إليه بعد تشكيل وتدوين المقامات نهايةَ الفترة القاجاريّة (١٧٩٤-١٩٢٥)، يمكن القول إنّ الموّال هو الغناء ضمن المساحة الحرة في إطار مقام واحد أو أكثر عبر التردد بين اثنين أو أكثر من المقامات السبعة في الموسيقى الإيرانية. أما التصنيف فهو قطعةٌ إيقاعية تشبه الأغنية (Song) أو الأغاني التي تمّ تأليفها لاحقًا كأغاني البوب، غالبًا في هيكل زمنيّ محدود يراوح عادةً بين خمس إلى سبع أو ثماني دقائق. غالبًا، كانت الأغنية ذات إيقاع، وبطبيعة الحال، كانت ملموسة لدى الجمهور أكثر من الموّال. وأصبحت الأغنية أكثر جديةً وتألقًا بعد ظهور عددٍ من الموسيقيين. أبرز هؤلاء عارف قزويني (١٨٨٢- ١٩٣٤) وهو مؤلف ومؤدٍّ للأغنية. ساهم بشكل أساسي في منح الأغنية وجهةً اجتماعية، باعتباره شخصية احتجاجية وفنية. بعد القزويني، كان لأشخاص مثل الشاعر والموسيقي علي أكبر شيدا (١٨٤٤- ١٩٠٦) والموسيقار درويش خان (١٨٧٢- ١٩٢٦) والموسيقار وعازف التّار مرتضى ني داود (١٩٠٠- ١٩٩٠) تأثير في هذا الاتجاه، إذ أبدت الموسيقى الإيرانية أهمية خاصة للأغنية دامت خلال المائة عام الماضية.

قصيدة "از خون جوانان وطن لاله دميده" والتي تعتبر من أشهر قصائد عارف قزوينى تؤديها المغنية الإيرانية الهه Elaheh ويقود الأوركسترا روح الله خالقي

 

قصيدة از خون جوانان وطن لاله دميده بصوت محمد رضا شجريان مع محمد رضا لطفي

 

ألبوم لمحمد رضا شجريان في ذكرى عارف

 

درويش خان

 

مرتضى ني داود مع شهلا سرشار

 

وعلى الرغم من بروز تلك الشخصيات الموسيقية وغيرها مع نهايات الحقبة القاجاريّة وبدايات الحقبة البهلوية، وعلى الرغم من أن الأغنية أصبحت أكثر جدية بالنسبة للشعب الإيراني خصوصًا بعد فترة الثورة الدستورية، بقي للموّال مكانةً أعلى من مكانة الأغنية.

إذا استعرضنا فترة عمل المغنّي غلام حسين بنان (١٩١١-١٩٨٦) والمطربة قمر الملوك وزيري (١٩٠٥-١٩٥٩)، نجد أن الاثنين، بصفتهما شخصيتين برزتا في نهاية أربعينيات القرن الماضي، لم تكن لديهما رغبة كبيرة في الأغنية، خاصةً قمر الملوك، إذ بقي من أعمالها بضع أغانٍ ليس إلا. ولكن مع ظهور الموسيقار أبو الحسن صَبا (١٩٠٢-١٩٥٧) والتغيير الذي أحدثه في الموسيقى الإيرانية، أصبح موضوع الأغنية أكثر جدية. وقد حصل هذا التغيير مع فتح مساحةٍ لآلة الكمان في الموسيقى الإيرانية، فعزف أبو الحسن الآلةَ بأسلوبٍ كان يمكن من خلاله عزف المسافات الموسيقية الإيرانية والنغمات الربعية.

 

أبو الحسن صبا وحسين عليزاده

 

متأثرين بفكر وأسلوب صَبا، دخل بعض التلامذة مجالَ الموسيقى الإيرانية وتولّوا إدارة التيار الكاسح فيها عبر برنامج گلها (الأزهار) الإذاعي. آنذاك، كان الراديو الوسيلةَ الموسيقية الوحيدة في إيران. بعد إطلاق برنامج «گلها» في الأربعينيات وتعزيز قوّته وتأثيره في الخمسينيات، تم تأليف معظم الأعمال الموسيقية على شكل أغانٍ. وكان معظم المؤلفين من تلاميذ صَبا، مثل الملحّن وعازف الكمان هُمايون خرم (١٩٣٠-٢٠١٢) والموسيقي وعازف الكمان رحمة الله بديعي (مواليد ١٩٣٦) وقائد الأوركسترا والملحّن وعازف الكمان علي تجويدي (١٩١٩-٢٠٠٦) وآخرين.

شجريان يحْيي الموّال

نهاية الخمسينيات، أجرى محمد رضا شجريان اختباراً للالتحاق ببرنامج «گلها» الإذاعي الشهير، ونجح فيه برغم تشدّد مدير البرنامج داود بير نيا، وأثبت نفسه كصاحب حنجرةٍ صافية وقوية، وقد أدى ما يزيد على مائة موّال هناك. لقد مثّل شجريان خلال الستينيات والسبعينيات، أي قبل الثورة الإسلامية في إيران، امتدادًا لتيّار الموّال الذي جسّده أمثال سيّد حسين طاهر زاده (١٨٨٢- ١٩٥٥)، ورضا قُلي ميرزا ظِلّي (١٩٠٦- ١٩٤٦) وتاج إصفهاني (١٩٠٣- ١٩٨١)، وقمر الملوك وزيري، وبَنان وآخرون في النصف الأول من القرن الماضي.

عرض خاص لتاج اصفهانى في سورية

 

في الحقيقة، لم يكن لدينا بعد بَنان، بصفته الشخصيةَ الأكثر نفوذًا في الموسيقى الإيرانية، سوى شجريان شخصية شعبية حاولتْ إحياء الموّال. وعلى الرغم من أنّ شجريان أدّى «الأغنية» في الإذاعة، إلا أنه «ابتعد عن النمط الغالب في برنامج «گلها»، أي عن الأغنية. والتفت نحو الموّال بسبب تعاليمه التقليدية. إنه مدينٌ لحركة تمّ تحويلها لاحقًا إلى نظرية في «مركز حفظ ونشر الموسيقى» تحت عنوان «مدرسة العودة»، وقد تمّ تعزيزها. بعد برنامج «گلها»، وفي بدايات السبعينيات، استحوذت هذه الحركة على الراديو بقيادة الشاعر الإيراني الشهير هوشنك ابتهاج، وأصبح شجريان المغنّي الذي أولى اهتمامًا خاصًّا بالموّال، بعد بَنان وقمر الملوك وإصفهاني.

وعلى الرغم من أنّ كلّاً من المغني إيرَج (حسين خواجه أميري) والمغنّي گُلپا (أکبر گُلپایگاني) كانا يتمتّعان أيضًا بأصوات جيدة جدًّا، ويمكن القول إنهما كانا يجيدان أداء الأغنية والموّال بشكل ممتاز، إلى جانب مطربات من أمثال پوران ومَرضية، غير أنّ شجريان كان يؤدّي الموّال بدقّة بالغة وبشكل أكاديمي للغاية، وقد تلقّى تعاليمه على أيدي أساتذة كبارٍ منهم إسماعيل مهرتاش (١٩٠٤- ١٩٨٠) ونور علي بُرومند (١٩٠٥- ١٩٧٧) وعبدالله دَوامى (١٨٩١- ١٩٨١).

وما يُعتبر مهمًّا أيضًا في متابعة شجريان للموّال بطريقة جدية هو أنه تمكّن من الاستمرار بهذا المسار بعد الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩، فبعيد الثورة فُرض حظر على الموسيقى وتمّ تضييق المجال أمام الموسيقيين وعلى أنواع من أشكال الغناء، لا سيما البوب والأغاني الراقصة وذات الإيقاع، ولكن لم يُفرض هذا الحظر على شجريان وعدد قليل غيره من الموسيقيين. وقد أطلق المطربون الذين كانوا يعملون في «مركز حفظ ونشر الموسيقى» حركة «تشافوس» Chavush، وانضمّوا إلى الثورة الإسلامية. و«تشافوس» حركة ومؤسسة موسيقية تأسست في السبعينيات على يد حسن كامكار ومحمد رضا لطفي، أصدرت ١٢ ألبومًا موسيقيًّا، كلٌّ منها تحت عنوان «تشافوس ١ إلى تشافوس ١٢»، وكان لهذه الألبومات تأثير واضح في تقدم الموسيقى التقليدية الإيرانية. تأثّر بعض ألبومات هذه المجموعة بالجوّ السياسي آنذاك، قبل وقوع الثورة. وقد ذكر شجريان بعض الأغاني ذات الطابع السياسي لهذه الألبومات التي غنّاها بصوته وكانت تُسجّل في قبو بيته. توقفت المؤسسة عن العمل عام ١٩٨٤.

كان أولئك الفنانون الوحيدين الذين استطاعوا العمل خلال السنوات الأولى بعد الثورة، على الرغم من ضيق المجال بعض الشيء بالنسبة لهم. نتيجةً لذلك، لم يظهر خلال الثمانينيات في إيران نجوم البوب، لذا استطاع كلٌّ من شجريان والمغنّي الإيراني البارز شَهرام ناظري أن يكون في ذلك الوقت الفنانيْن البارزين من دون منافسة.

انتهز شجريان الفرصة لصالح الموّال واستمر في غنائه. نشرَ أعمالاً استثنائية بالتعاون مع فنانين مثل الملحّن الإيراني الشهير وعازف التار والسيتار محمد رضا لطفي (١٩٤٧- ٢٠١٤) والملحّن وعازف السنطور بَرويز مِشكاتيان (١٩٥٥- ٢٠٠٩).

من ناحية أخرى، ومن خلال تعاونه مع حسين عليزاده، الملحّن الحداثي البارز لذاك الجيل، حاول شجريان أداء الموّال بأسلوب جديد. ومن هذا المنطلق، نشرا معًا أعمالاً مثل «إنه الشتاء» (زمستان است) وموسيقى فيلم دِلشُدكان، الذي أصدره لاحقًا كألبوم موسيقي، وغنّى شجريان في كلا العملين مواويل رائعة.

لقد ظهر بَعد شجريان جيلٌ من المطربين مثل حسام الدين سِراج وصدّيق تعريف وشهرام ناظري، وكان معظمهم من تلامذة شجريان. بذل هؤلاء جهودًا في مجال غناء الموّال، لكنهم لم يتمكّنوا أبدًا من تحقيق المكانة نفسها التي خلقها شجريان للموّال. في الحقيقة، بَعد شجريان لم يتْبع أيّ شخصٍ «المسار»، حتى هُمايون، ابنه، لم يستمرّ في ذاك الطريق.

برحيل شجريان فقدنا أحد أهم أشكال الموسيقى الإيرانية؛ أي الغناء الذي يرافق فيه العازفُ المنفرد والآلةُ الموسيقيةُ المغنيَ الذي يؤدّي ارتجالاً وفي مساحةٍ حرّة، وهو الشكل الذي لطالما كان أحد أهم الأشكال عند تقييم الموسيقيين في الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية. ما كان شجريان قادرًا على القيام به بشكل جيّد ناجمٌ عن إتقانه لمدارس الموسيقى الإيرانية. ويمكن القول إنّ شجريان كان الفنان الوحيد خلال الأعوام الستين الماضية الذي جذب جمهورًا كبيرًا للموّال. والآن، بعد شجريان، وبعد نهاية مسيرته المهنية التي حصلت قبل سنوات قليلة من وفاته، بسبب توقّفه عن الغناء بفعل المرض، فقد الموالُ سحرَه، ومن المتوقع أن يصبح شكلاً من أشكال الموسيقى المتحفيّة في المستقبل، وقد يُحتفظ به في الأرشيفات الموسيقية فقط، على الرغم من أن المواويل التي غنّاها أقبل عليها الملايين.

العدد ٣١ - ٢٠٢١
الموّال يفقد سحرَه

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.