باستثناء عدم نشر قنّاصين ونقاط تفتيش حول السوق، ما أعلنه موظفو دائرة التراث الثقافي في مجمّع «گَنجْعلي خان» في كِرمان عن كيفية استقبال الرجل لم يختلف عمّا يفعلونه لدى استقبالهم رئيس الجمهورية. حين يأتي الرئيس يرهق الموظفون معاصمهم من فرط فتح ظروف الرسائل التي تحتوي على الجداول وشرح البروتوكولات أو رفع سماعات الهواتف وقولِ: «حاضر! حاضر!»، ويكون الكثير من هذه الأمور بالإكراه، وبحسب التكليف الإداري.
لكن في حالته، بدا الأمر مختلفًا؛ ثمة حبّ، وثمة شغف يلمع في عيون الموظفين. كلّهم كانوا بانتظاره، غير أنّ أزلام المحافظة والبلدية، الذين يضْفون الصبغة الأمنية على كل شيء، ومن أرادوا لأنفسهم دورًا في كلّ ما يتعلق به، كانوا يفسدون الأمر. بسببهم، كان كلّ شيء صعبًا ومعقدًا، ليفقد حضوره هناك لمدة ساعةٍ أو ساعتين حلاوتَه.
يومان قبل مجيئه. كان على «جميل كِرماني»، الدليل الموثوق لرئيس إدارة التراث، أن يسير معه خطوةً بخطوة ويشرح له تاريخ هذه المباني وعمارتها. منهَكًا تحت وطأة الأوامر والنواهي وقائمة الأحكام الطويلة، جلس جميل في ركنٍ من الخان وحدّث نفسه: لو أنه يأتي قريبًا ويغادر، فنتخلّص منه! لقد سلبوا منّا راحة حياتنا!
كان هناك شخص واحد فقط تلتهب نيران الشوق في قرارة قلبه أكثر فأكثر كلّما اقترب يوم مجيئه وتبيّنت لحظةُ الوصال، كما لو أنّ لحظة شروق رسولٍ ما تقترب. وربما شيء أكثر من ذلك، فمحمد رضا شجريان كان بالنسبة للجندي «جَهانگیر قشقائي» إلهًا يسير على الأرض.
كان جَهانگیر يخدم في المقرّ العسكري لمجمع «گَنجْعلي خان» منذ سبعة عشر شهرًا، وعلى بعد سبعمائة كيلومتر من بيته. محبّ، مولع، مغرم؛ لم تستطع هذه الصفات شرحَ شكل علاقته بسيّد الغناء. كلمات من هذا القبيل سارت عاجزة خلفه، وبشهادة الجميع، كان الجنديُّ «مصابًا» بشجريان.
حيلةُ العاشق
كان جَهانگیر إنسانًا بسيطًا بحسب الشروح العامة للتعريف بالإنسان البسيط، لكنّه حتى التاسعة عشرة من عمره لم تنم أذنه سوى على صوت ذاك المطرب الجليل الذي لم يعرف له مثيلاً في العالم.
كلّما ازداد تعب الآخرين ارتفع الجَوى في قلب جَهانگیر وقلّ نومه وطعامه. زار قائدَ الحراسة وتضرّع إليه: «سيدي! أحلّفك بكلّ ما تقدّسه، اسمحْ لي أن أكون ضمن فريق الاستقبال في الحمّام، في مدخل الخزينة. سيدي! في المقابل مستعدّ أن أقف حارسًا كل ليلة في السبعة أشهر المتبقية من خدمتي».
لمَ الحمّام؟ ولمَ التأكيد على الخزينة؟ كان جَهانگیر يعرف أنه إذا وقف في مدخل الخزينة، لا بدّ لشجريان حين يصل إلى الفوارة ويبدأ جميلُ بالحديث، بطريقته الجذابة، عن طريقة تسخين الماء في قديم الزمن في كِرمان، أن يتقدّم خطوة أو اثنتين وينحني ليشاهد عن كثب ما يشرحه جميل، حينها ستكون المسافة بين الجانب الأيسر من وجه جَهانگیر ووجه شجريان أربعين سنتيمترًا في أبعد تقدير. تلك المسافة وتلك الطريقة لوقوف الزائر والإله ليست سوى هندسة مستحيلة.
كانت تلك الحيلة خلاصة كلّ الخبرة والمعرفة التي اختزلها جميل من سنوات إرشاده السياحي للمشاهير والمسؤولين وقد أسرّ بها في أذن جَهانگیر، ثم ربّت على كتفه وناوله منديلاً ليمسح دموعه.
في الجهة الأخرى كانت الرسائل توضع الواحدة فوق الأخرى وأجراسُ الهاتف ترنّ من المحافظة والبلدية ورئيس التراث ونائب رئيس الجمهورية ومدير الأعمال وغيرهم مناديةً: «السادة هناك! نكرر التذكير بأنه خلال الزيارة لا ينبغي لأحد أن يسأل، لا أحد ينادي حضرته، ولا يتقدم أبدًا للتوقيع والصورة».
خرج جَهانگیر من غرفة قائد المقرّ بصفة حارس مدخل خزينة الحمّام. ركض نحو دوّار «مشتاق»، دلف إلى محلّ بيع الألبسة العسكرية، خلع الجزمة والجوارب والسروال والقميص والقبعة وجميع الحمّالات، وضعها جانبًا ونظر في عيني البائع وقال: «أريد الجديدة منها».
يُعتبر هذا تبذيرًا غير اعتيادي في حياة الجنود، لكنّ هذه الثياب التي تبدو من الخارج أداةَ حرب، كانت في قلب الجندي عبارة عن تأهّب للقاء مهمّ لن يتكرّر.
وحان يوم القدوم
كان جَهانگیر واقفًا كالعمود، كما لو أنّ جنديًّا أخمينيًّا اقتُلع من جدران «برسبوليس» ووُضع في كرمان لأجلٍ غير مسمّى ولا يمكن لأحد سوى الملك داريوس أن يأتي ويسمح له بتحريك يده والخروج من تلك الهيئة.
مرّت أربعٌ وأربعون دقيقة على وقوف تمثال الجندي إلى أن تغيّر الشعور بالأصوات في مدخل الحمام. كان يغني في رأسه «بَرَندِ شوشتَري زِ كُل نازُكتَري» بدلًا من المارش العسكري، فإذ بخطًى تدخل يختلف إيقاعها عن الأخرى.
كانت قدما شجريان تلامسان أرضية الحمام وصداهما يدور في أقواس الجدران والأعمدة حتى وصل إلى أذن جَهانگیر المحمومة من الشوق. بدأت أوصاله تخفق كمعصمه. في لحظةٍ ما أطل جزءٌ من الكتف، ثم قليلٌ من الشَّعر، ثم التفت رأسٌ وماس جسدٌ، وعلى عتبة صخرة التدليك ظهرت كلُّ أغاني روحه وذاكرته على هيئة آدميّ. كانت تقطر الأغاني من جيوبه وكتفيه ومن كعب قدمه.
الجندي الإخميني أو الرومي أو أي شيء، كان ينحني على جهة اليسار، ولا أحد سوى جميل الكرماني الذي كانت عيناه قد رأتا آلاف الأبنية والجدران القديمة واستقامتها، لم يلاحظ أن جَهانگیر أخذ يفقد توازنه.
فعل شجريان ما كان يتوقّعه جميل؛ حين انتهت الشروح، ذهب نحو مدخل الخزينة وانحنى ليرى داخلها. وفي تلك الانحناءة، كان الجندي مثل دمية أخطأ ماسكُ الخيوط في مسرح العرائس في سحب خيوطها ورفعِها. الجندي الحارس الذي كان عليه أن يبقى متيبسًا في مثل تلك اللحظات، وفقًا لكلّ القوانين العسكرية في العالم، كان يذوب شيئًا فشيئًا كالشمع تحت حرارة الشمس. نظر جميلُ محملقًا في عينيه ليؤجّل تلاشيه، لكن المسافة كانت أربعين سنتيمترًا، وإلهه أقرب إليه من جميع المسافات في العالم.
التفّت غصةٌ ممزوجةٌ برعشة، وبخوف، واحتراز، ورغبة حول صوته ومن دون اكتراث بكلّ الخدم والحشم والحاشية المحيطة بالإله، حدّق في عينَي جميل الكرماني، ومن بين فكّيه المُطبقين خرج صوته: «أحلّفك بالله اسمحْ لي أن أسلّم عليه!».
التفتَ أصحاب البدلات جميعًا نحو مصدر الصوت. ولأول مرة رأت عينُ شجريان، جَهانگیر القشقائي. كان يرتجف وتقطر من عينيه أشياء، لكنه لم يتلاشَ إلى درجةٍ يزلزل فيها طريقةَ وقوف الجندي ونظْرته المحدقة في الأمام.
عرف شجريان كلّ شيء. مدّ يده نحو جَهانگیر وسلّم عليه. تلك الحنجرة التي كانت قد غنّت في أذنه آلاف المرات: «يارَم جو شمعِ محفل است/ ديدنِ رويَش مُشكل است»، قالت: «سلام».
ارتخت مفاصل نائب المحافظة ومبعوث البلدية ومدير الأعمال. كانت يدا شجريان ممدودتين، وبدا جَهانگیر كأنه فرنسي عاشق للوطن واقف خلف بوابات موسكو، ينظر حوله ولم يجد نابليون ليعرف إن كان عليه التقدم وفتح المدينة أم التراجع وعدم تجشّم الجوع بعد الانتصار. الجندي القشقائي لم يعرف بماذا ستعاقبه البروتوكولات، قال فقط: «أحلّفك بالله السيد كرماني، اسمحْ لي أن أردّ عليه!».
لم يحتمل شجريان، أدار رأسه وسأل: «من هو كرماني؟».
التفت المسؤولون جميعًا على مدار تسعين درجة وحدّقوا من دون هدف بزخارف سقف الحمّام، وتركوا جميلاً وحيدًا شامتين جميعًا.
قال جميل: «حضرة الأستاذ، إنها أوامر، وما لنا إلا أن ننفّذ فقط».
لم يتمهل شجريان حتى يتدخل شخص آخر ويوضّح ما حدث، وليضيف شيئًا إلى حديث جميل. مدّ يده وأمسك بيد الجندي وسحبه نحوه. في وسط قسم التدليك كانت ثمة قبّة يدور الصوت فيها ويخرج الصدى. احتضن الصبيَّ القشقائي، ثم طأطأ رأسه وغنّى:
«مستور و مَست هر دو چو اَز يِک قبيلهاند / ما دِلْ به عِشوهيِ کِه دَهيم؟ اختيار چيست؟».
(إذ يكون المستور والمنتشي من قبيلة واحدة/ فإلى تدلُّلِ مَن نمنح القلبَ؟ وما الاختيار؟) (سعدي الشيرازي).
حفلة جمهورها شخص واحد، أقرب من حبل الوريد، لجندي كانت أعضاؤه كلها جديدة؛ لامعة ومكويّة.
كان جَهانگیر القشقائي في وسط حمام «گَنجْعلي خان»، وبين يدي شجريان قد تحوّل إلى شعرٍ وأغنية، وإلى: «رازِ دَرون پَرده چه داند فلک؟ خَموش!/ اي مدّعي نِزاعِ تو با پَرده دار چيست؟» (من أين للدَهر أن يعرف السرّ وراء الستارة؟ فَصِهْ!/ أيها المدّعي ما نزاعُك مع حاجبِ السِّتر؟) (من قصيدة سعدي الشيرازي ذاتها).
كان يستمع إليه في المعراج، في السماء الثالثة أو الرابعة أو السابعة. وما الفرق؟ في إحدى السموات كان يستمع.
في مشهد مفتوح من أعلى المدينة، ثمة جندي، وكأنه كان يحمل خبر الانتصار في الماراثون إلى أثينا، كان يدور حول كِرمان، حاملاً ورقة في جيب قميصه العسكري سُجّل فيها رقم الهاتف والعنوان لسيد الغناء، وكان قد طلب منه أن يأتي إلى بيته كلما يزور طهران.
كان يحمل خبر الانتصار إلى نفسه؛ هو الذي اقتُلع من الأرض في بقعة من كرمان ولم يعرف أين وضعتْه الريح.
لم يوجد اليوم شجريان إلا في بيت جَهانگیر القَشقائي. مرّت سنوات على الحدث، ولجَهانگیر ابنان إن وقفا جنبًا إلى جنب تكتمل قُطع اللغز. واحدٌ سمّاه «محمد رضا» والآخر «شجريان»؛ حين يناديهما، يكون ثمة أحد في هذا الكون ينادي سيّد الغناء في إيران: «محمد رضا شجريان»، وكأنه لم يمت إطلاقًا.
القصة من تأليف إحسان عبدي بور، وهي قصة حقيقية ذكرها له المرشد السياحي جميل كِرماني في إحدى زيارات الكاتب لمدينة كِرمان.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.