العدد ٣١ - ٢٠٢١

هبّة أيار

انتصار الشعب وهشاشة الحالة الفلسطينية

أصل الحكاية

خلال الشهرين الماضيين، كُتب كثيرٌ من التحليلات والتقديرات للحالة الفلسطينية. وبالمجمل، أغنت الكتابات حالة النهوض الفلسطيني لكونها تنبثق عنها. في خضمّ الأحداث والكفاح الشعبي الواسع، وتسارُع التطورات والتصعيد والمواجهة، تم التطرّق إلى مواضيع عدّة، خصوصًا أنّ الإعلام السائد والمؤثر والمجنّد كان الإعلام الشعبي. ويمكن أن نطلق على الأخير تسمية الإعلام الشبابي المتمكّن من إتقان لغة التواصل الاجتماعي بين الشعب الفلسطيني والعربي وأيضًا مع العالم وحركة شعوبه المتضامنة والمناصرة. إلا أنّ المسألة التي لم يتم التعامل معها بالقدْر الكافي والجدّي وهي المحرّك لكل ما شهدنا وما زلنا نشهد، هي صمود ونضال أهل الحق المباشرين، وفي هذا أحد أهم دروس كفاح التحرر الوطني الفلسطيني.

لو أنّ أهالي الشيخ جرّاح لم يصمدوا أو أنهم تهاونوا وابتعدوا عن الهدف أو استسلموا للواقع الاحتلالي، أو فتشوا عن صفقة مع المشروع الاستعماري وعن حلٍّ بالتراضي، ولو على مضض، فأغلب الظنّ أنّ ما شهدناه ما كان سيحصل. لقد خلق أهالي الشيخ جرّاح بصمودهم جدولَ الأعمال الحقيقي للشعب الفلسطيني وكل قوى المناصرة من الشعوب العربية، وقوى التضامن في العالم.

لقد حوّل سلوكُ أهل الحق المباشرين هذا التفصيل من حدث يبدو «صغيرًا» أو محليًّا إلى حدث عالمي ودولي ومفصلي خلق حالةً جديدة. ويصحّ هذا الأمر أيضًا في مواجهة سياسة هدم البيوت في الداخل الفلسطيني، حيث يوجد أكثر من خمسين ألف بيت يعرّفها القانون العنصري بيوتًا غير قانونية ومن دون ترخيص رسمي وكلها مبنية على أراضي أصحابها. ويكفي أحيانًا أن يتصدّى أهل البيت لجرّافات الهدم ومعهم المحيط القريب الذي ينتظم في لجنة شعبية، وهي ظاهرة سيجري التطرّق إليها لاحقًا. بينما لو وافق صاحبُ البيت، ومن دون الإسناد الشعبي المحلّي أولاً، على هدم بيته ذاتيًّا، تفاديًا لغرامات المحاكم الفتّاكة التي تلزمه أن يغطّي نفقات جريمة الدولة تجاهه، لتوقفت المسألة عند هذه الحلقة. ماذا لو رحل أهالي قرية العراقيب بقيادة الشيخ صياح الطوري عن بلدتهم التي هدمتْ حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات ١٩٠ مرة، وأعيد ترميم ما أمكن منها بعد كلّ هدم؟ لقد بقي هؤلاء في أرضهم ولو اضطروا إلى افتراش رمال صحراء النقب.

وفّر الفعل الشعبي متّسعًا لمشاركة كل الناس وبالشكل الذي يرتؤونه. لم يكن الناس بوضعية المدعوّين للمشاركة في الأحداث، بل اندفعوا لصنع الحدث وتحمّل المسؤولية كما يرَونها وبالشعار الذي يريدونه، وعلى أساس وعيهم الخاص، لا بناءً على القيادات، أي الحركة السياسية. وهذه أيضًا مسألة تحتاج إلى قراءة بما تفتحه من آفاق وما توفّره في المقابل من تحدّيات للحركة السياسية الشعبية، سواء بين فلسطينيي الـ٤٨ أم الكلّ الفلسطيني. لقد باتت التحديات أمام الحركة السياسية، الفصائلية أو الحزبية، جديةً جدًّا بالمفهوم التنظيمي الذي اتّضح مدى قصوره عن الإحاطة بكل القوى الشريكة في صنع المشهد. لقد تغيّرت صدارة المشهد وتراجع فيها منسوب القوى السياسية المنظّمة.

الشيخ جرّاح والنكبة

لم يفتح الكفاح الشعبي حول حي الشيخ جرّاح ملف احتلال العام ١٩٦٧ فحسب، بل فتَح، وبشكل واضح، مسألة الـ٤٨ والنكبة في الوجدان الفلسطيني، أي التهجير المباشر والتطهير العرقي للفلسطينيين، أصحاب البيت، لتنفيذ الاستيطان اليهودي. وباعتقادي أنه منذ إخفاق إسرائيل في تحقيق هدفها من مجزرة كفر قاسم، التي تزامنت مع العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام ١٩٥٦، وبعدما تحطم حلمها بأنّ من تبقّى من الفلسطينيين بعد ١٩٤٨ سيرحل، اكتشفت أنّ الناس لم يعودوا يتركون مكانهم. بل أصبح وعيُ البقاء متجذرًا لديهم برغم السيطرة الإسرائيلية المطلقة. ليس ما حصل بفضل نوايا إسرائيل، بل بفضل إرادة أهل البلد. وهناك وعي متجذّر بأن إسرائيل لا تتورّع عن شيء تقدر عليه، لكنها ليست قادرة على كل شيء يستدعي المواجهة من قِبل أصحاب الحق.

إنّ تكامل الأدوار بين قوّات شرطة الاحتلال والجيش والاستخبارات وبين ما يسمّى «البؤر التوراتية»، وهي أنوية استيطانية إرهابية، تعود إلى اتفاق عقَده آرييل شارون مع مدارسَ دينية توراتية (يشيفات ههسدير). قضى الاتفاق بأن ينفّذ الشبان خدمتهم العسكرية في بؤر استيطانية في المدن التاريخية، وتتوزّع الخدمة بين الاستيطان التوراتي وتعلّم التوراة. حصل هذا في عكا عام ٢٠٠٨، وفي اللد ويافا والقدس لاحقًا. ويتماشى اختيار المواقع مع الأهداف السياسية العليا. ففي عكا بُذِل مسعى لمنع توسُّع سكن الفلسطينيين في «الأحياء اليهودية» بما يدفع اليهود إلى تركها. وتكرَّر الأمر في اللد لمواجهة الهجرة اليهودية من المدينة بسبب الاحتكاك مع العرب وانزعاجهم من صوت الآذان الذي يخدش عنصريّتهم. وكما في اللد، كذلك في يافا. لم يشذّ فعل الاحتلال في الشيخ جرّاح عن هذا النموذج، أي عن التحالف الوثيق بين الدولة ومجموعاتٍ إرهابية يهودية بهدف طرد الفلسطينيين. وللتذكير، فإن الناس معتادون أكثر على مواجهة أجهزة القمع الرسمية من مواجهة مجموعات إرهابية تهاجمهم في بيوتهم وأحيائهم.

«الشاباك» يقود سياسة ذات ركيزتين

ارتأيت أن أبدأ بهذه المقدمة من أجل التأسيس لقراءة التحولات الداخلية التي أعتقد أنها باتت ذات أبعادٍ استراتيجية محلية ودولية لإعادة النظر بالقضية الفلسطينية وقضية فلسطين كما هي في نظر أهلها أولاً، ثم في نظر العالم المتغيّر.

العودة إلى أصل الحكاية في الحالة الفلسطينية أمر ضروري. وكل الحكايات، مهما بدت صغيرة في مواجهة الاحتلال ودولته وقضائه وعنصريّته، تعيدنا إلى الحدث المفصلي الأهم: نكبة العام ١٩٤٨ وقيام إسرائيل على أنقاض شعبنا. وأكثر ما يكشف هذا الأصل الجهازُ الذي يبدو «الأكثرَ مدنيّة» لكنه الاكثر ضبطًا وهيمنةً وتبريرًا للجريمة، وأقصد الجهاز القضائي. هناك تقاسم أدوار داخل المؤسسة الإسرائيلية في تطبيق وجهين لسياسة واحدة وجوهر واحد، وهما القمع والقهر. يتولى منظومةَ القمع كلٌّ من جيش الاحتلال والشرطة ودوريات هدم البيوت. أما منظومة القهر فتتولاها المؤسسة المدنية، وفي مقدمتها القضاء وأجهزة التخطيط الحضري والتعليم وسياسات الرفاه الاجتماعي العنصرية. ويشرف جهاز الأمن العام، «الشاباك»، على المنظومتين معًا في كلّ ما يخصّ فلسطينيي الـ٤٨. وقد جاء في تصريحات لقيادة الشرطة، سُرّبت إلى القناة الإسرائيلية الثانية بتاريخ ١ تموز/ يوليو ٢٠٢١، بأن ما يعوّق عملها في مواجهة رؤساء الجريمة المنظمة في الداخل الفلسطيني هو أنّ معظمهم عملاء لـ«الشاباك». وهذا يحول دون أن تملك الشرطة أيّ صلاحيات في التعامل معهم. وهكذا نكتشف أنّ «الشاباك» هو الحاكم الفعلي، أو ما يسمّى الدولة العميقة، التي تدير شؤون الشعب الفلسطيني الواقع تحت النفوذ الإسرائيلي في المجمل.

وبالفعل، فإن النماذج الأصلية للممارسات الإسرائيلية في المناطق المحتلة عام ١٩٦٧، تبلورتْ بعد احتلال العام ١٩٤٨ وإحلال النكبة بشعبنا. بل باتت هذه النماذج أشبه بعقيدةٍ إسرائيلية قائمة على التشتيت المتواصل للشعب الفلسطيني وهدم بُنيته الداخلية ودفعه إلى تطوير هويّات محلية وجهوية متصارعة تفوق من حيث أثرُها الفعلي الانتماءَ إلى الهويّة الوطنية الفلسطينية الجامعة. وهذا ما نجده في مناطق الـ٤٨ وفي الضفة، وأكثر ما نجده في القدس حيث السعي لسلخها إداريًّا عن الحالة الفلسطينية. ونجد الممارسات نفسها في السجون وفي التعامل مع الحركة الأسيرة التي يتمّ فصلها وتوزيعها على أقسام منفصلة على أساس المناطق الجغرافية التي جاء منها الأسرى. بدأ ذلك بعد اتفاقيات أوسلو وبما يتلاءم مع النوايا الإسرائيلية لتجزئة القضية الفلسطينية وتفريغها من جوهرها (المسائل المؤجلة في حينه) وتقسيم الضفة الغربية والقدس إلى مناطق تحمل وضعيّاتٍ قانونية مختلفة. وهو شكل من أشكال هندسة المستعمِر لهويّات ضحاياه. وأعتقد أنه مع تراجع مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، نجحت هذه السياسات والممارسات في خلق نخَب تتواءم معها، أي ما يمكن أن نطلق عليه «هندسة وعي السجن»، المطبّقة على كل الشعب الفلسطيني، والقائمة على تضييق الأفق المعيشي وجعل الكيان الفلسطيني ينشغل في أمور حياته اليومية بعيدًا من الحلم.

في هذا السياق، يفوتنا أحيانًا الالتفات إلى أنه قد نشأ جيل فلسطيني كامل في ظل جدارين: الأول، جدار الاحتلال المنفّذ بروح المشروع الصهيوني. وأعتقد أن في حصر التسمية المتداولة بـ«جدار الفصل العنصري» تقليلًا من جوهره الاستعماري الاستيطاني، وبالمفهوم الأوسع: جوهرِه الصهيوني. وقد خلق الجدار جيلاً فلسطينيًّا كاملاً لم يخرج من حدود الجدار. أما الجدار الثاني فهو الانقسام الفلسطيني السلطوي البنيوي الذي أسس منظومتين فلسطينيتين في كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزّة. لم يعد هذا الانقسام انقسامًا سياسيًّا فحسب، بل أصبح انقسامًا بين كيانَي حكم. فلا سوء تفاهم ولا خلافًا إجرائيًّا أو تنظيميًّا بين الطرفين، إنما واقعٌ بائس ليس الطرفان الفلسطينيان المقرّرَين الوحيدين فيه، بل بات الخلاف مشتبكًا بمصالحَ إقليمية ودولية، وبالطبع بدولة الاحتلال. والجدير بالذكر أن هناك نقاشات في مؤسسات الأمن القومي الإسرائيلي التي راهنت على الانقسام حتى معركة أيار/ مايو الأخيرة، فثبت أنّ الانقسام لا يحمي بالضرورة مصالح إسرائيل. لكنها تسعى مجددًا إلى استخدامه للنيل سياسيًّا من الموقف الفلسطيني.

هناك مسعًى ثابت في المنظومة الإسرائيلية وضمن استرتيجياتها في سياسات الضبط والهيمنة والتجزئة، بأن تعمل كمنظومة متكاملة الأدوار والأدوات وبرؤية سياسية استراتيجية. ويتضمن ذلك ألّا يرى الفلسطيني سوى الجهاز الذي يواجهه، لا المنظومة بأكملها، لدفعه إلى المفاضلة بين هذا القامع وذاك. وبات هذا الأمر أشبه بعقيدة حرب توجّه الممارسات تجاه الشعب الفلسطيني. إلا أنّ هبّة أيار/ مايو قوّضت كثيرًا من هذه العقيدة، كما من مجمل عقيدة الضبط والردع الإسرائيلية، وخلقت حالة جديدة في الصراع، في حال توفرت قدرة فلسطينية بالحفاظ عليها وتثبيتها.

من سياسة الهويّة إلى وعي القضية

على الرغم من التداخل بين الأمرين، إلا أن ما شهدناه من هبّة فلسطينيي الـ٤٨ والضفة وغزّة، والتي تدحرجت من الشيخ جرّاح إلى أحداث باب العامود ومساعي الاحتلال لمنع تجمهر الشباب المقدسي هناك في الأمسيات الرمضانية، وصولاً إلى الاعتداء على الأقصى والتصريح بمسيرة المستوطنين في القدس، وإطلاق الصواريخ من غزّة لمنع هذه المسيرة بعد ضبط إيقاع سياسي لها، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي على غزّة – نشأ عنه عدوان على كل الشعب الفلسطيني في فلسطين، واستدعى حالة تصدٍّ خاضها الشعب الفلسطيني بأكمله. واللافت أنّ صوت الشعب لم يصمت للحظة. لم تخرج الجماهير الشعبية من أجل مطلب مادي مباشر، بل من أجل قضية. لم تنشغل بهويّتها الوطنية، بل بحماية الشيخ جرّاح، بكل رمزيّته، وكذلك الأقصى وغزّة.

التحوّل الكبير كما يبدو هو ما حصل في فلسطين الـ٤٨ وتعامُل إسرائيل مع هذا الجزء من الشعب. في خضمّ العدوان على غزّة (يوم ١٦ أيار/ مايو)، عيّن وزير الأمن بني غانتس ثلاثة أهداف للعملية العسكرية، بينها هدف لافت هو «دعم الاعتدال في المنطقة». وركز المؤتمر الصحافي الذي عقده بنيامين نتنياهو وقائد الأركان أفيف كوخافي، على فلسطينيي الـ٤٨ بلغة الترويج لـ«الاعتدال»، والترهيب من «التطرف»، «الذي يشكّل أقليّة جدّية»، حسب تعبير رئيس الوزراء.

في المرحلة التي سبقت الإضراب العام الشامل لكل الشعب الفلسطيني، والذي أعلنتْه لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل، بدت المدن الساحلية كأنها تتعرّض لمجزرة. فور إخفاق قوّات الأمن في قمع المسيرات والاحتجاجات، جاءت الخطوة الانتقامية الدموية من قِبل الدولة وأجهزة القمع والإعلام صاحب الخطاب الدموي، مع اصطفافات سريعة للأوساط العنصرية والفاشيّة، لتتحوّل إلى عصابات إرهابية دموية تستهدف الوجود الفلسطيني في مدننا التاريخية، في اللد ويافا وحيفا وعكا. لكنها استهدفت تلك المدن بحماية الشرطة، بغض الطرف عن ممارساتها حين يكون التواجد الفلسطيني ضعيفًا أم بالحماية المباشرة حين ينتظم الفلسطينيون.

بلغت حملة الاعتقالات في صفوف الفلسطينيين ما يعادل ثلاثة آلاف حالة، وأكثرَ من ثلاثمائة لائحة اتهام خطيرة، واستحدَثت إجراءات السجن الإداري وملاحقة القيادات بتهم التحريض. لكنّ النصيب الأكبر من القمع كان من نصيب الجيل الشاب، بمن فيهم القاصرون دون السن القانونية. لقد كانت الاعتقالات انتقائية، خصوصًا تلك التي يضبط الشاباك، لا الشرطة، إيقاعها ميدانيًّا ويرسم سياساتها. كانت أساليب الاعتقال ترهيبية للمعتقَل وللأهل على حدٍّ سواء من خلال الاقتحامات الليلية وترهيب المحيط كله، مع أنّ الاستدعاء كافٍ لكي يمثُل المطلوب أمام الشرطة. وكانت مساعي الإذلال واضحة وجدت تعبيرًا عنها في الدوس على رأس المعتقل أو المعتقلة أو الوجه، إضافةً إلى الإهانات والتعذيب في أقبية التحقيق، فضلاً عن العنف المبرّح وكسر العظام وتشويه الخَلق، وإلقاء القنابل «الصوتية» مباشرةً على المتظاهرين والإصابات الخطيرة التي أدّت إليها، وكذلك آثارها النفسية.

التنظيم المجتمعي للنضال الشعبي

وإذ تغذي الحالةُ الفلسطينية حالةَ الإسرائيليين، والعكس صحيح، فإنّ شكل التنظيم الشعبي الذي قاد المواجهات والتظاهرات في الداخل كان المبادرات الشعبية المحلّية أو الحراكات، وفي معظمها الشبابية، والتي شكّلت حالةً وطنية شاملة ومترابطة. وهناك شعور عامّ بأن الحركة السياسية الوطنية المنظّمة باتت قاصرة عن تصدّر المشهد بقواها الذاتية من دون المشاركة مع القوى الجديدة الواقعة خارجها. وهذا يشكل تحديًا من نوع جديد. لقد جاءت هذه الممارسات تطبيقًا للهدف الذي أعلنه وزير الأمن بتشجيع الاعتدال، فالهدفُ أبعد من اعتقالات، إنه كسر روح الشعب. في حين أن الداخل هو حجر أساسٍ في بنية الإرادة.

إن الشرطة وقوّات «حرس الحدود» المنتشرة في تجمّعات الـ٤٨، إضافة إلى مراكز الشرطة الثابتة المزروعة خلال العقد الأخير بحجّة محاربة الجريمة التي اتسع نطاقُها، تحوّلت إلى ثكنات ثابتة لاجتياح أي بلدة عندما يقتضي الأمر. وجاء هذا الانتشار أيضًا ردًّا على نمط العمل الشعبي القائم على مركزية اللامركزة، أي النشاطات المحلية المنسّقة قُطريًّا أو المتفاعلة قُطريًّا. وبالعودة إلى ما ذكرتُ بشأن المنظومة الإسرائيلية وتعدُّد الأذرع، فإنّ إسرائيل تدرك أنّ الداخل الفلسطيني بات اكثر تجمّعات شعبنا تنظيمًا وقدرة على الفعل السريع والمساند لمجمل قضاياه. وهو أكثر مجموعة من الشعب تلامس، حتى في حياتها اليومية، جوهر الصراع مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، فضلاً عن أن لديها قوّة سياسية قابلة لأن تعوّق ثبات أي ائتلاف سياسي حاكم. وقد نجحت الدولة، بعد جولات الكرّ والفرّ، في النيل من هذه القوّة مع انهيار مشروع «القائمة المشتركة».

في سعي إسرائيل إلى إبقاء الشعب الفلسطيني ضعيفًا، تقوم بتشخيص كل مَواطن قوّته وتستهدفها بأشكال مختلفة، منها القمع والقهر وخلق المصالح، ومنها أيضًا الاستعانة بأنظمة محيطة، والخليجية منها بالذات، لبناء نخَب جديدة تكرّس الضعف. والنموذج الأكبر لذلك هو الدعم الخليجي لغزّة، وهي أقرب إلى صفقة ثابتة تقوم على «التهدئة مقابل المال»، للأسف. وإذ فاجأت «كتائب القسّام» إسرائيل بإطلاق الصواريخ، بدءًا من القدس ومركز البلاد، وضعت كلَّ العقيدة الإسرائيلية العدوانية في مأزق، وتحوّل أكبر ميدان قتالي إلى «داخل إسرائيل»، وانتقلت القدس من قضية مستباحة إسرائيليًّا إلى قضية دولية قد تجرّ المنطقة إلى حرب بسبب ممارسات الاستيطان والانتهاكات فيها. كما أنّ دولة الاحتلال تسعى، وبدعم دولي وبوجود نخبٍ فلسطينية مؤاتية، إلى استعداة زخم المعادلة نفسها.

فلسطينيّو الـ٤٨ من مواطني إسرائيل هم في نظر الدولة معادلة صعبة، إنّهم مجتمع فتيّ وقوي ومنظّم ولديه مشروع سياسي مناوئ للصهيونية وأهدافها. هم سنَد القدس التي باتت خارج أي تواصل فلسطيني شعبي باستثنائهم، وهم الذين تعتبرهم المؤسسة الحاكمة جبهةً معادية، لكن أدواتها تجاههم تحتكم إلى كونهم مواطنين أيضًا حسب القانون الدولي، فضلاً عن كونهم يطالبون بالحماية الدولية، وهذا تحوّل جوهري في سلوكهم السياسي ورسالة إلى الدولة والعالم. هذا بينما تغيُّر الأدوات لا يعني التخلّي عن الجوهر وهو أنّ إضعاف الداخل يؤدي إلى إضعاف مجمل الشعب الفلسطيني وقضيّته.

في المقابل، وأمام كل صخب اللحظة، هناك مظاهرُ خطيرة أبرزها دخول حزب عربي فلسطيني هو «القائمة العربية الموحّدة» (الحركة الإسلامية الجنوبية)، إلى الائتلاف الإسرائيلي الصهيوني الحاكم. بالطبع، لم يقبلوا به شريكًا في الحكم إنما في الائتلاف الحاكم. وكي لا نوهم أنفسنا، يجب الالتفات إلى أن هذا نهجٌ متكامل، ولا ينبغي التعامل معه كحدث عابر. هناك نخَب وأوساط في الداخل معنيّة بهذا النهج القائم على صفقة تقوم بين «تيسير» القضايا المطلبية وفكّ الارتباط بالقضية الفلسطينية، أي تأييد ممارسات الاحتلال في الضفة الغربية، مثلاً، مقابل الحصول على ميزانيات. وباتت منظومة الجريمة الفلسطينية تتقاسم هذا الدور مع الحكم المحلّي من خلال فرض سطوتها المدعومة من الشاباك. وهذا أيضًا تطوّر ليس سهلاً ويهدّد الحركة الوطنية الفلسطينية وصدارة أحزابها وحركاتها السياسية.

وبرغم هذا، ثمة اعتراف رسمي، والأساسي أنه اعتراف شعبي، بأنه لا يمكن تجاوز هذا الجزء من الشعب الفلسطيني ولا دوره فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا. إن قرار مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتشكيل لجنة تحقيقٍ رسمية في ممارسات الاحتلال بما فيها ممارسات إسرائيل تجاه فلسطينيي الـ٤٨، إنجازٌ غير مسبوق وينطوي على مقوّمات الحماية والاعتراف بأن المؤسسة الإسرائيلية وقضاءها لا يحميان المواطنة، بل يهدّدانها.

نزار بنات والهشاشة الفلسطينية

ان جريمة تصفية الناشط الشعبي والسياسي الفلسطيني نزار بنات بحيثيّاتها، قد تعصف بالكثير من حالة «نشوة الانتصار» الفلسطيني. قد تتجاوزها قوى التغيير الفلسطينية في تعزيز النضال نحو مخرج من حالة البؤس القيادي، سواء الحاكم أو الفصائلي بشكل عام. أذكر هذه الجريمة في هذا السياق للدلالة على هشاشة الحالة الفلسطينية، فمن ناحية، قد نكون في ذروة حالةٍ نهضوية، وبلحظة، نقع في إحدى أكثر القضايا بؤسًا وإحباطًا. فكل هراوات القمع تمر عبر مرفأ حيفا، الهراوات الإسرائيلية والفلسطينية، وقد تكون من الصنف نفسه، لكن مقابل هراوة الاحتلال التي تزيد مناعتنا، فإن الهراوة الفلسطينية أكثر ايلامًا، ليس بسببها، بل بسبب اليد التي تحملها والتي كان من المفترض أن تحمي الشعب وثورته لا أن تقمع روحه. ولكن هذه هي حال الفلسطينيين، وهي لا تختلف عن حال شعبنا في كافة أنحاء الوطن العربي.

يشير الأمر إلى حالة طوارئ صاخبة وحرب استنزاف دائمة يعيشها الشعب ولا فكاك منها. إن الاستعمار يخلق أدواتِه باستمرار، لا يبدو أن كل قهره يأتي مباشرةً منه لكنه فعليًّا من صنعه. ولا يكفي أن الشعب الفلسطيني في حالة طوارئ، بل إسرائيل أيضًا في حالة طوارئ مستدامة كجزء من وجودها. وهذا وقتٌ لا تفكر فيه الجماهير الشعبية بالحلول، فأصحاب الحلول المختلفة ساروا معًا في المواجهة وتصدّوا معًا ودفعوا الثمن معًا. إنها مرحلة لم تغيّر معادلاتِ القوّة الجوهرية ولم تحرّر «إلا ما في نفوس الناس». نحن أمام معركةٍ انتصرت فيها إرادة الشعب الفلسطيني، ولو معنويًّا، وهذه مسألة هامة وليست سهلة. وما ينتج من هذه المعركة ليس الحق، بل خطوات في الطريق إلى الحق. والمعركة طويلة لم تبدأ في لحظة ولن تنتهي بلحظة.

لا تستطيع الحركة السياسية الفلسطينية أن تعيد بناء ذاتها في المدى المنظور، لكن لا بدّ من إقامة هيئة تنسيق ثابتة حبّذا لو تبادر لها «منظمة التحرير الفلسطينية» وبالتعاون مع لجنة المتابعة في الداخل وكل الفصائل لاتخاذ القرار السياسي. إن العبث بالقرار السياسي هو ما يهدّد إنجازات شعبنا الذي أثبت أنه لا يعرف المستحيل بل يفرضه. وعلى صعيد فلسطين الـ٤٨، لا بد من المبادرة إلى حوار واسع، وقد بدأت بوادره، يسعى إلى إشراك كل الحركة الوطنية والقوى غير المؤطّرة والتي باتت عمومًا ذات شأن كبير.

العدد ٣١ - ٢٠٢١
انتصار الشعب وهشاشة الحالة الفلسطينية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.