في ذلك المساء من الرابع من شهر آب/ أغسطس 2020، توقّفت عقارب الساعة عند السادسة والست دقائق، إذ دوّى انفجار ضخم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت عادلت قوّتُه طاقةَ زلزال بقوة أربع درجات على مقياس ريختر. هزّ الانفجار كل أنحاء المدينة فدمّر أحياءً بكاملها وتسبّب بأضرار جسيمة أصابت المنازل والمؤسسات والبنى التحتية ومرفأ بيروت، كما أدىّ إلى تهشيم الواجهات الزجاجية للمباني وامتدّت مفاعيله إلى عددٍ من بلدات المتن وبعبدا وعاليه. وأصابت شظايا الانفجار بصورة مباشرة قلوب جميع اللبنانيين، وراح ضحيّته مئات القتلى وألوف الجرحى والمنكوبين.
وقد شكّل هذا الانفجار حدثًا مفصليًّا في تاريخ لبنان وعاصمته بيروت. وهو يطرح مجموعة من الأسئلة تنطلق من إعادة إعمار المناطق المنكوبة لتطاول مجموعة قضايا تتعلق بإعادة تشكيل الحيّز العمراني وحماية النسيج الاجتماعي والهوية المدينية وكيفية استعادة دورة الحياة الاقتصادية والمعيشية وإشكالية التراث والذاكرة بعلاقتها مع التطلّعات المستقبلية لسكان المدينة.
أرقام الأضرار والخسائر
حسب التقرير الذي أعدّه البنك الدولي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والذي تضمّن تقييمًا سريعًا للأضرار والاحتياجات، بلغت الأضرار المادية بين 3.8 مليارات و4.6 مليارات دولار أميركي مع وقوع أكثر الأضرار في قطاعَي السكن والثقافة. كما بلغت الخسائر في تدفّقات الاقتصاد بين 2.9 و3.5 مليارات دولار مع انخفاضٍ في نموّ الناتج المحلّي الإجمالي قد يصل إلى 0.4 و0.6 نقطة مئوية عامَي 2020 و2021 على التوالي1. وأصدر البنك الدولي في شهر كانون الأول/ديسمبر 2020 بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تقريرًا جديدًا يتعلّق بالإطار العامّ للإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار يضع خطةَ عملٍ لتفعيل نتائج التقييم السريع للأضرار والاحتياجات قُدّرت فيه تكلفةُ الإجراءات الأساسية التي ينبغي اعتمادها لتأمين التعافي وإعادة إعمار ما تهدّم وتلبية الاحتياجات2 الأساسيّة للسكان بحوالي مليارين وخمسمئة مليون دولار أميركي لعامَي 2021 و2022.
تدلّ هذه الأرقام على حجم الفاجعة التي أصابت الوطن والتي أتت في وقت عصيب يُواجه فيه لبنان أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة تفاقمت بسبب جائحة كورونا. وتسبّبت هذه الأزمات بانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية وارتفاع معدّل التضخّم إلى خانة المئات وانكماش حادّ أصاب كافة القطاعات الاقتصادية ممّا أدّى إلى استفحال المشاكل الاجتماعية وتضاؤل فرص العمل وزيادة في معدلات الفقر والبطالة وهجرة الأدمغة وفقدان الأمل في مستقبل البلاد. وقد عبّرت التحركات الشعبية الواسعة التي انطلقت في خريف عام 2019، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الشابات والشبان في مختلف الأراضي اللبنانية، عن فقدان الثقة بالطبقة السياسية التي تتحكّم بمصير البلاد، كما عبّرت عن رفض الاستمرار في سياسات أوصلت البلاد إلى شفير الهاوية.
أي نموذج لإعادة الإعمار؟
إن حجم الدمار الذي تسبّب به انفجار المرفأ يطرح مجموعة أسئلة تتعلّق بالنموذج الذي يُمكن اعتماده لإعادة الإعمار في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعصف بالبلاد وعجز الطبقة السياسية عن إيجاد الحلول لأبسط المشاكل الحياتية التي يُعاني منها المواطنون. وإذ لم يبرز حتى الآن أي مشروع متّسق يمكن أن يرسم مسارًا للتعافي بعد حوالي ستة أشهر مضت على الانفجار، ربما كان في استرجاع التجارب الماضية ما يسمح باستكشاف الأسئلة التي تُشكّل المدخل الأوّلي لأيّ مقاربة واقعية لإعادة الإعمار. فاستعادة الماضي تثير أسئلةً في الحاضر والسؤال حين يتحدّد يفتح إمكانية الجواب.
تنطلق قراءتنا لتجارب الإعمار التي شهدتها بيروت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي من مقاربتنا للأطر التي تتحكّم بعملية إعادة الإعمار، إنْ من حيث السياسات الإعمارية والآليات التي يتمّ اعتمادها أو من حيث العلاقة بالنسيج الاجتماعي والتراث المبني وطرق التمويل. ويفترض الانطلاق من هذه التجارب أن نضعها في سياقها التاريخي وضمن «المناخ الأيديولوجي» العامّ للمرحلة التي تكوّنت فيها. لكن لا بدّ لنا في الوقت نفسه من أن ننظر إليها أيضًا عبر علاقتها بتجارب أخرى تكوّنت إثر الحروب والكوارث الطبيعية الكبرى التي عرفها العالم خلال القرن الماضي وأصبحت تُشكّل «نماذج» يتمّ الرجوع إليها والاقتضاء بها لتحديد الخيارات التي يمكن اعتمادها لإعادة الإعمار.
سنستعرض في ما يلي مشروع إعادة إعمار وسط بيروت الذي وُضع خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية وبقي حبرًا على ورق على الرغم من اعتماده من قِبل الحكومة اللبنانية عام 1977، ثمّ تجربة إعادة إعمار هذا الوسط التي تمّ تنفيذها على يد شركة سوليدير ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي، وأخيرًا تجربة إعادة إعمار الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية إثر الحرب التي شنّتها إسرائيل عام 2006. وليس الهدف من استرجاع هذه التجارب أن نتقدّم بسردٍ تاريخي يرسم «فهرسًا بيانيًّا» للتجارب المختلفة التي رافقت عمليات الإعمار هذه. لكنّ استعادة الماضي، إذ تطرح أسئلةً في الحاضر وعن الحاضر، قد تُساعدنا في رسم معالم التحوّلات التي تجري على الأرض كما تسمح لنا باستكشاف الاحتمالات المتاحة لمسارات جديدة.
المخطّط التوجيهي لإعمار
وسط بيروت بعد حرب السنتين
انطلقت التجربة الأولى بعد سنتين من اندلاع الحرب، حين خَلق دخولُ ما سُمّي آنذاك «بقوات الردع العربية» وهمًا بأنّ الحرب قد انتهت وأنّ دورات العنف التي تكرّرت منذ ربيع عام 1975 قد تمّ احتواؤها. وقد جعلت السلطات اللبنانية من قضية إعادة إعمار الوسط التجاري لبيروت محور سياستها الإعمارية بحثًا عن صورة رمزية تُعيد الوحدة إلى المجتمع اللبناني. كان الرئيس الياس سركيس يعتبر نفسه وريثًا للنهج الشهابي ويحلم بتحقيق ما عجز الأخير عن تحقيقه بعد ثورة 1958. وكان المشروع الذي أُطلق لإعادة تنظيم قلب العاصمة تجسيدًا لهذا الحلم.
كُلّفت بلدية بيروت ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت بإعداد هذا المشروع ضمن فترة زمنيّة محدودة. وطُلب من المحترف الباريسي لتنظيم المدن APUR التابع لبلدية باريس اقتراحَ تصوّر أوّلي لإعادة الإعمار تمّ على أساسه إعداد المخطّط التوجيهي العامّ لإعادة بناء الوسط التجاري للعاصمة. وشمل هذا المخطط منطقةً بلغت مساحتُها 130 هكتارا تطابقت حدودها مع محيط المناطق الأكثر تضرّرًا من جرّاء المعارك وتحدّدت أهدافه الأساسية كما جاء في التقرير الذي نشر في 28 شباط/ فبراير 1977 كالآتي3:
- • إعادة قلب بيروت إلى وضعه السابق كنقطة التقاء وتجمّع للّبنانيين من مختلف الطوائف والفئات وكتعبير عن وحدة لبنان.
- • تحديث الوسط التجاري وحلّ مشكلات التنقّل والخلل الوظائفي التي كان يشكو منها قبل الحرب، مع التركيز على ضرورة الحفاظ على الملامح الخاصة لهذا الوسط المرتبطة بمحيطه الطبيعي وتاريخه وعلى طابعه التقليدي الشرقي والمتوسطي.
- • التحلّي بأكبر قدر من الواقعيّة في تحديد اقتراحات التغيير كي لا يأتي الإعمار ليضيف خرابًا جديدًا فوق الدمار الذي أحدثته الحرب.
تماشيًا مع هذه المبادئ الرئيسة، اقترح المخطط الحفاظ على نسيج الأحياء القديمة مع وضع قواعد لترميم ما تهدّم أو إعادة بنائه، بالإضافة إلى تأهيل الأسواق الواقعة غربي ساحة الشهداء (سوق الصاغة، سوق سرسق، سوق النورية، سوق أبو النصر، إلخ) كما الأسواق الواقعة في محيط باب ادريس (سوق الجَميل، سوق الطويلة، سوق أيّاس، إلخ) والحفاظ على طابعها التراثي وتحويلها إلى مناطق مخصّصة للمشاة. كذلك اقترح الحفاظ على شبكة الطرقات وعلى الساحات الرئيسية بطابعها القديم (ساحة الشهداء، ساحة الدبّاس، ساحة النجمة، ساحة رياض الصلح، ساحة باب إدريس، إلخ) مع اقتراح توسيع بعض الشوارع وشقّ طرق جديدة لتسهيل حركة السير (شارع جورج حداد على الحدود الشرقية للوسط، الشارع البحري في منطقة الزيتونة وشارع جديد يربط شارع كليمنصو بساحة باب إدريس عبر حي وادي أبو جميل).
وأَولى المخطط أهميةً خاصةً لواجهة بيروت البحرية للتأكيد على علاقة المدينة بالبحر، فاقترح إقامة حديقة عامة على الأراضي المردومة في منطقة الزيتونة وتحويل المنطقة المحيطة بالحوض الأوّل للمرفأ إلى حيّ شبيه بحارات المرافئ التقليدية المنتشرة على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسّط. كما لحظ إنشاء مصلحة مستقلّة لتطوير المرفأ والتخطيط لإقامة واجهة «مرفئيّة صناعيّة» من الحوض الأول حتى حدود نهر بيروت.
يعكس هذا المشروع الاتجاهات التي برزت في ثقافة التنظيم المدني في العالم منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي التي أصبحت تولي اهتمامًا خاصًّا للحفاظ على التراث والنسيج المديني التاريخي. وهو يندرج أيضًا ضمن سياق السياسة الشهابيّة التي أعطت للدولة الدور الرئيسي في كلّ ما يتعلّق بالتخطيط الحضري والتنظيم المدني وترتيب الأراضي. فحين لحظ المخطط التوجيهي إعادة تنظيم بعض المناطق (كما في حيّ البغاء الواقع شرقيّ ساحة الشهداء وحيّ الغلغول الذي كان قد تحوّل خلال الحرب إلى ملاذ للهامشيين ومدمني المخدّرات) استعاد الخططَ التي كانت قد وُضعت في أوائل الستينيات لتشكيل شركات عقارية تديرها الدولة وتضمّ حصرًا المالكين وأصحاب الحقوق وفقًا لما تنصّ عليه المادة 21 من قانون التنظيم المدني.
مشاريع الثمانينيات
والانتقال نحو النموذج النيوليبرالي
على الرغم من إقراره رسميًّا عام 1977، لم يُبصر هذا المشروع النور بسبب اندلاع القتال من جديد واشتداد المعارك في وسط العاصمة وعلى طول خطوط التماس. وبقيت الأمور مجمّدة حتى أواخر عام 1982 حين دخلت القوات متعدّدة الجنسيات بعد الاجتياح الإسرائيلي، فأعيد طرح موضوع إعادة الإعمار. ودار نقاش في بعض الأوساط الأكاديمية تناول مجموعةً من الأسئلة حول النظرة المستقبليّة لوسط بيروت: هل ينبغي المباشرة بإعادة الإعمار فورًا كما كان يطالب أصحابُ الحقوق وتجّار بيروت أم من الأفضل التروّي للاستفادة من «فرصة ذهبية» للكشف على الثروات الأثريّة والتعرّف على تاريخ بيروت القديم؟ هل ينبغي تحويل الوسط إلى منطقة سياحية أثريّة أم أنّ اعتماد هذا الخيار سيؤدي حتمًا إلى «موت المدينة بدلاً من إحيائها» حسب ما كان يصرّح به وزير الأشغال المعمار الشيخ بيار الخوري4؟ كما طُرحت فكرة تنظيم مباراة معمارية عالمية «لإعادة خلق الوظائف الاقتصادية والاجتماعية التوحيدية للعاصمة (…) وإطلاق عملية إعمار لبنان عبر استعادة ثقة المستثمرين من البلدان المجاورة» كما جاء في دفتر شروط المباراة العالمية الذي أعدّته شركة «أوجيه لبنان» في حزيران/ يونيو5 1983.
لكن، بينما كان هذا النقاش دائرًا كانت القرارات الأساسية قد اتُّخذت ونُفّذت على الأرض. فبينما كانت شركة أوجيه ترمّم الأبنية المتضرّرة في منطقة فوش-اللمبي وشارع المعرض والمنطقة المحيطة بمبنى مجلس النواب، كانت جرّافاتها تنشط لتدمير الأسواق القديمة الواقعة غرب ساحة الشهداء بالإضافة إلى منطقة الصيفي حيث سوق البغاء القديم والواجهة البحرية قبالة الحوض الأول. ولم يعُد المخطط التوجيهي الذي كان قد أقرّ عام 1977 ذا جدوى بعد أن تمّ تدمير أحياء بكاملها كان قد لحظ هذا المخطط ضرورة الحفاظ عليها وإعادة إحيائها.
لقد جاء هذا الدمار الذي محا أجزاءً أساسيةً من تاريخ بيروت ليُعلن التخلّي عن النهج السابق الذي يعطي للدولة الدور الرئيسي في عمليّة الإعمار والانتقال نحو توجّهٍ جديدٍ يرتكز على تلزيم الإعمار للقطاع الخاصّ واستجلاب الرساميل لتمويل المشاريع عبر إغرائها بالأرباح التي يمكن تحقيقها. وتجلّى هذا التوجّه في العديد من المشاريع التي رأت النور خلال الثمانينيات من القرن الماضي مثل مشروع ردم البحر في منطقة الضبيّة شمال بيروت الذي كُلّف بإعداده المعمار الكاتالاني ريكاردو بوفيل وتمّ تلزيمه لـ«الشركة الوطنية للتعهّدات» التي يملُكها جوزيف خوري أو مشروع إعادة تنظيم الواجهة البحرية لمدينة صيدا القديمة أو غيرها من المشاريع التي أُطلقت في عهد الرئيس أمين الجميل. وفي الوقت نفسه كُلّفت شركة أوجيه بإعداد مخطّطٍ بديلٍ لإعمار وسط بيروت لم يتمّ استكماله بسبب تجدّد أعمال العنف في البلاد بعد حرب الجبل وانقسام العاصمة من جديد على جانبي خطوط التماس.
وقد ارتبط هذا التوجّه الجديد الذي يؤدي إلى تهميش دور المؤسسات الرسمية بواسطة الاتجاهات التي بدأت تبرز منذ أوائل الثمانينيات في معظم أقطار العالم الرأسمالي للحدّ من تدخل الدولة في آليّة السوق ومنح الحوافز لتشجيع الاستثمارات التي من شأنها أن تُغيّر وجهَ مناطق بكاملها، على غرار مشروع «كناري وارف» في لندن الذي أُطلق في عهد مارغرت ثاتشر والذي شكلّ مثالاً للنهج النيوليبرالي في تنظيم المدن.
١-إعادة اعمار الوسط التجاري
على يد شركة «سوليدير»
بعد الإعلان عن انتهاء الحرب في لبنان إثر توقيع اتفاق الطائف، عاد موضوع إعادة الإعمار إلى سلّم الأولويات. واختار الحكم الجديد تلزيمَ إعادة إعمار وسط بيروت التجاري للقطاع الخاص.
وقد أنشئت شركة «سوليدير» عام 1994 بموجب القانون رقم 117 الصادر في تاريخ 7 كانون الأول/ ديسمبر 1991 الذي سمح بإنشاء شركات عقارية خاصة «لإعادة ترتيب وضعية وإعمار منطقة أو أكثر من المناطق المتضررة في لبنان بسبب الأحداث الأمنية وفقًا لتصميم ونظام توجيهي مصدّق حسب الأصول، والقيام بالأعمال الضرورية التي يتطلّبها تنفيذ هذا الموضوع (…) وبيع الأراضي المرتّبة وإنشاء الأبنية عليها وبيعها أو تأجيرها أو استثمارها. وإذا كانت المنطقة المتضررة محاذيةً للبحر فيمكن للحكومة الاتّفاق مع الشركة العقارية على ردم جزءٍ من البحر وفقًا لتصميم ونظام توجيهي مصدّق أصولاً، ويتم ترتيب الأراضي الناجمة عن عملية الردم وتوزيعها بين الدولة والشركة بموجب اتفاق يضعه مجلس الإنماء والإعمار ويُصدّق بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء». وحدّد القانون أنّ رأسمال الشركة العقارية يتكوّن من التقديمات العينية لأصحاب الحقوق ومن مساهمات نقدية يكتتب بها أفراد أو شركات لبنانية أو عربية.
على هذا الأساس تأسّست شركة «سوليدير» برأسمال قدره 1,65 مليار دولار لتضمّ حوالي 35 ألف مساهم وتقوم بتنفيذ مشروع تطوير وسط بيروت وإعادة إعماره على مساحة 1,9 مليون متر مربع منها حوالي 700 ألف متر مربع من الأراضي المستحدثة على البحر. وبمجرّد صدور مرسوم الترخيص بتأسيس شركة «سوليدير» تمّ إسقاط الأملاك العامّة الواقعة ضمن المنطقة وإدخالها في أملاك الشركة الخاصة.
بمقارنة مفهوم الشركات العقارية كما لحظتها سابقًا المادة 21 من قانون التنظيم المدني مع القانون 117 الذي تأسّست بموجبه شركة «سوليدير» يتبيّن لنا بوضوح الانتقال من نهج يعطي للدولة مسؤولية إدارة مشاريع التطوير الحضري وإعادة الإعمار إلى نهج نيوليبرالي يقضي بتلزيم هذه المشاريع للقطاع الخاصّ واستجلاب الرساميل لتمويلها.
فقانون التنظيم المدني إذ يلحظ إمكانيةَ إنشاء شركات عقارية لأجل ترتيبٍ إجمالي لكلّ أو لجزءٍ من منطقة، يؤكّد أنّ هذه الشركات يُمكن أن تضمّ حصرًا «الملّاكين وسائر أصحاب الحقوق بمن فيهم المستأجرون والمستثمرون وكذلك الدولة أو البلديات ذات العلاقة» دون أن يعطى حقّ التملّك لغير هؤلاء. ويُعطى الملّاكون وكافّة أصحاب الحقوق أسهمًا في الشركة مقابل هذه الحقوق، كما تُخصَّص أيضًا أسهمٌ للدولة والبلديات مقابل مقدّماتها العينية لإدارة الشركة ومقابل الأموال النقدية التي تكون قد دفعتها لأجل إنشاء الشركة وتغذية صندوقها. أي أن قانون التنظيم المدني يعطي للمؤسسات العامة من دولة وبلديات مهمة إدارة الشركة العقارية التي تضمّ الملاكين وأصحاب الحقوق بينما يُخرج القانون رقم 117 الذي أنشئت على أساسه شركة «سوليدير» هذه المؤسسات العامّة من المعادلة ويعطي حقّ تملّك نصف أسهم الشركة لمتموّلين يرغبون بتقديم مساهمات مالية في رأس مال الشركة. ونظرًا لتفتّت المُلكيّات العقارية الناتج من التراكم التاريخي للمُلكيّة في قلب العاصمة وتعدّد أصحاب الحقوق الذين لا يملكون سوى عددٍ زهيدٍ من الأسهم، يتبيّن أنّ القانون الجديد يعطي السيطرة الفعلية في الشركة العقارية للمتموّلين الذين يتقدّمون بمساهمات مالية تمكنّهم من الاستحصال على نسبة من الأسهم قد تصل إلى 10% من رأسمال الشركة للمساهم الواحد.
وكانت النتيجة الطبيعية للقانون الجديد إحداث تغييرٍ ديموغرافي كبيرٍ وإجراء تحويلٍ جذري للنسيج الاجتماعي لوسط المدينة وتغيير طابعه العمراني عبر تدمير ما يقارب 80% من مباني الوسط القديم، ممّا يناقض الأهداف المعلنة للمخطّط التوجيهي السابق الذي كان قد أُقرّ عام 1977 والذي كان يضع على رأس أهدافه «إعادة قلب بيروت إلى وضعه السابق (…) وتجنّب كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى إضافة خرابٍ جديدٍ فوق الدمار الذي أحدثته الحرب». فالأهداف الفعلية لإعادة إعمار الوسط أصبحت محكومةً بقدرة المشروع على استجلاب الرساميل وتأمين أكبر نسبةٍ ممكنةٍ من الأرباح لضمان ديمومته.
ويتجلّى ذلك بالتركيز على ضرورة إدخال أكبر نسبةٍ ممكنةٍ من المرونة في التعامل مع المخطّطات وأنظمة البناء، مما أدّى إلى إدخال تغييرات عديدة على التصاميم التي أقرّها مجلس الوزراء والتي كُلّفت شركة «سوليدير» بتنفيذها، كتعديل أنظمة المنطقة المقابلة لخليج الزيتونة بغية السماح ببناء أبنية مرتفعة مثلاً أو السماح بهدم بعض الأبنية التراثية كما في منطقة وادي أبو جميل أو العديد من التعديلات الأخرى والتعامل بخفّة مع المواقع الأثرية لمجاراة طلبات المستثمرين. وعلى الرغم من شعار «بيروت مدينة عريقة للمستقبل» الذي أطلقته الشركة، وعلى الرغم من الجهود التي بُذلت لترميم المناطق المحيطة بشارع المعرض وشارعَي فوش واللمبي، فقد أقام المشروع علاقةً ملتبسةً بالتراث إذ لم يحتفظ من المدينة القديمة سوى بالأجزاء التي تزيد من جاذبيّته بالنسبة للمستثمرين، ممّا أفقد التراث علاقته بذاكرة السكان وحوّله إلى مجرد سلعة للاستهلاك.
في الحقيقة، لا يمكن فهم تجربة إعادة إعمار وسط بيروت على يد شركة «سوليدير» من دون العودة إلى الظروف التي رافقت نشأة هذه التجربة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. فبعد حرب الخليج الأولى وأثرِ مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، برز وهمٌ بإمكانية حدوث سلام عربي إسرائيلي وشيك يسمح لبيروت باستعادة الدور الذي كانت تلعبه قبل الحرب كمركزٍ اقتصادي ومالي رئيسي في المنطقة يلعب دور الوسيط بين الشرق والغرب. وإذ لم تكن دبي قد احتلّت آنذاك المركزَ الذي عرفته في ما بعد، كان مشروع إعادة إعمار الوسط يطمح إلى إطلاق مسارٍ يسمح لبيروت باحتلال موقعٍ مميّزٍ في خريطة العولمة الجديدة.
وتمكّن المشروع عند إطلاقه من أن يخلق فعلاً ديناميةً سمحت باستقطاب الرساميل اللبنانية والعربية. إلا أنّ تراجع حظوظ التسوية الإقليمية ما لبث أن أدخله في حالة جمودٍ لم يخرج منها سوى من خلال إعادة نظرٍ جذريةٍ بالأسس التي ارتكز عليها والتخلّي عن طموحات البداية. وأتت التطورات التي لحقت بأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأميركية لتعطي المشروع زخمًا جديدًا عبر الإيحاء بإمكانية تحويله إلى مكان إقامةٍ موسميّةٍ للأثرياء وملاذٍ لأمراء الخليج. إلا أنّ هذا الزخم لم يدمْ طويلاً إذ تعثّر المشروع من جديد بعد تداعيات حرب 2006 ثم اندلاع الحرب في سورية ودخول لبنان من بعدها في أزمة اقتصادية عميقة. واليوم، أصبح قلبُ المدينة الذي هدم وأعيد إعماره جسمًا ميتًا لا تدبّ فيه الحياة إلا حين ينزل إليه المتظاهرون ليسجّلوا على جدرانه المهجورة علامات غضبهم.
٢-محاولتا «إليسار» و «لينور»:
التنظيم المدني في ظلّ التقاسم الطائفي
بالتزامن مع إطلاق مشروع إعادة إعمار وسط بيروت على يد شركة «سوليدير» جرت محاولتان تهدفان إلى تنظيم المناطق الواقعة شمال العاصمة وجنوبها.
تمثّلت المحاولة الأولى بإطلاق مشروع تطوير ساحل المتن الشّمالي أو ما يُعرف بمشروع «لـيـنـور» الذي كان يلحظ ردم البحر من نهر بيروت حتى نهر أنطلياس ويُشكّل امتدادًا لتطوير الساحل من وسط بيروت التجاري حتى مشروع «مارينا ضبية» آنف الذكر. وبعدما تمّ التخلّي عن المخطط الذي كان قد أعدّه المعمار ريكاردو بوفيل في الثمانينيات، والذي كان يتميّز بتركيزه على تطوير المساحات العامة6 صدر المرسوم رقم 8937 الذي لحظ إنشاء «الشركة اللبنانيّة لتطوير الساحل الشمالي لمدينة بيروت ش.م.ل (لينور)»، وأوكل إليها ردم البحر والقيام بجميع الأعمال لتنفيذ مخطط توجيهي جديد. وشكّل ذلك سابقة قانونيّة حيث إنّ الحكومة أجازت لنفسها التصرّف بالأملاك العامّة فوهبتها إلى شركة خاصّة بدون العودة إلى مجلس النواب لإصدار قانون يسمح بذلك7.
وقد ألغى المخططُ الجديدُ المساحات العامّة التي كانت مقترحة سابقًا ولم يبقَ منها سوى حديقة عامة تُنشأ فوق مطمر برج حمود. وفي المقابل لحظ المشروع زيادة المساحات المبنيّة كما لحظ إنشاء منطقة صناعية تنقل إليها مخازن الوقود وتحتوي على محطّة لتكرير مياه الصرف الصحّي وقاعدة لخفر السواحل ومنطقة حرّة وقاعدة وطنيّة لتجارة التكنولوجيا ومنطقة سكنيّة تجذب الاستثمارات تمتدّ على مساحة 1،3 مليون متر مربّع من الأراضي المكتسبة على البحر.
أما المحاولة الثانية فقد أُطلقت أيضًا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي لإعادة ترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت. وكما بالنسبة لتطوير الساحل الشمالي لمدينة بيروت، ارتكز المشروع، الذي كان من المفترض أن يُلزّم تنفيذُه لشركة عقارية خاصّة شبيهة بنظام شركة «سوليدير»، على دراساتٍ كانت قد أُعدّت سابقًا في عهد الرئيس أمين الجميّل8. ودارت مفاوضاتٌ طويلةٌ بين حكومة الرئيس رفيق الحريري والأحزاب الموجودة في المنطقة انتهت بالتخلّي عن فكرة الشركة العقارية واستبدالها «بالمؤسسة العامّة لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت» (أي ما عرف باسم مشروع «إليسار») التي أُنشئت عام 1995 بموجب المرسوم رقم 6918. وكان يهدف هذا المشروع إلى الاستملاك المؤقّت لبعض العقارات ضمن أراضي الغبيري وبرج البراجنة والمزرعة لإعادة تنظيم البناء عليها وإزالة البناء «العشوائي» وتحرير الواجهة البحريّة لتطوير منطقة سياحية والعمل على بناء مساكن بديلة للسكّان في المنطقة الممتدّة من المطار إلى الجناح مرورًا بالرمل العالي وحرج القتيل وإعادة تأهيل البنى التحتية9.
لكنّ المشروع ما لبث أن اصطدم بعوائق كثيرة، منها سياسيّة تعود إلى المنافسة و «شدّ الحبال» بين مراكز القوى، ومنها ماليّة تعود إلى الكلفة الباهظة للمشروع والتي قُدّرت بمليار دولار أميركي، كما اصطدم بانتشار المخالفات في المنطقة ومعارضة الأهالي المقيمين منذ زمنٍ بعيدٍ بصورةٍ غير شرعية على الأملاك العامّة والخاصّة في الجناح والأوزاعي والرمل العالي على نقلهم من منازلهم وإبعادهم عن مصدر رزقهم.
من الواضح أنّ هذين المشروعين اندرجا ضمن مسارٍ واحدٍ يرتكز على المنافع الاقتصادية المرتقبة للتطوير العقاري وعلى مفهوم التقسيم الطائفي للفضاء الذي يهدف إلى تأمين شكلٍ من «التوازن» بين المناطق كترجمةٍ مباشرةٍ لما كرّسه اتفاقُ الطائف، حيث يتمّ «حفظ حقوق» الجبل المسيحي والضاحية الشيعية مقابل إطلاق مشروع إعادة إعمار وسط بيروت10.
لكن كلا المشروعين لم يبصرا النور، وأتى فشل محاولتَي «لينور» و «إليسار» ليعبّر عن تعثّر التسوية السياسية الناتجة من اتفاق الطائف واستمرار تأثير الانقسامات الناجمة عن الحرب على جغرافيا المدينة.
٣- إعادة إنتاج المدى المقاوم:
مشروع «وعد»
بعد العدوان الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2006 الذي أدّى إلى تدمير قسمٍ كبيرٍ من الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع، أطلق «حزب الله» عن طريق مؤسسة «جهاد البناء» مشروع «وعد» لإعادة إعمار ما هدّمته الحرب تحت شعار «نعيدها أجمل ممّا كانت». وشملت المنطقة الأكثر تضرّرًا في ضاحية بيروت الجنوبية قسمًا من منطقة حارة حريك يقع بين البوليفار الذي يربط طريق المطار بالحازمية عبر مخيّم برج البراجنة جنوبًا وطريق بئر العبد شرقًا وطريق حارة حريك الرئيسي غربًا.
فور انتهاء العدوان الإسرائيلي عمدت الحكومة اللبنانية إلى تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ ضمّت الإدارات الرسمية المعنيّة ونقابة المهندسين بالإضافة إلى بلديات الشياح والغبيري وبرج البراجنة وحارة حريك وممثّلين عن «حركة أمل» و«حزب الله» للبحث في إعادة الإعمار. وشكّلت الآليةُ التي ستُعتمد لإعادة الإعمار موضعَ نقاشٍ داخل اللجنة. وقد تمّ اقتراح تأسيس شركة عقارية تتولّى مسؤولية الإعمار قابلَه «حزبُ الله» بالرفض بحجّة ما يتطلّبه هذا الاقتراح من عمليات ضمّ وفرز تستغرق وقتًا طويلاً وخوفًا من تكرار تجربة «إليسار» التي مُنيت بالفشل11. كما عُرض اقتراحٌ آخر بإعطاء المساعدات مباشرةً للمتضررين ليبنوا منازلهم بأنفسهم عبر انتخاب لجانٍ تُمثّل المالكين بناءً لقانون المُلكيّة المشتركة. وفور صدور القرار 146 عن رئاسة الحكومة اللبنانية في أول شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 والذي حدّد آلية دفع التعويضات للمتضرّرين، أجرى «حزب الله» استشارات انتهت إلى أن يتولّى الحزب إعادة الإعمار عبر توكيل مؤسسة «جهاد البناء» من قِبل أصحاب الحقوق، على أن تجمع المؤسسةُ التعويضات التي تمنحها الدولةُ للمتضررين وتتولّى الإعمار مع تأمين ما ينقص من الأموال لإنجاز المشروع.
ومنذ البدء، أعلن القيّمون على مشروع «وعد» أنّ هذا المشروع يُمثّل نقيضًا لتجربة «سوليدير» التي «صادرت أملاك أصحاب الحقوق الصغيرة (…) وقضت على ذاكرة بيروت»12. فارتكز المشروع على ضرورة الحفاظ على «الاستقرار الديموغرافي» واعتماد السرعة القصوى في الإنجاز حرصًا على عودة الناس إلى مساكنهم وأماكن عملهم، وإعادة بناء ما تهدّم كما كان «مع تشذيب ما علق بالبناء من شوائب والعمل على حداثة الواجهة واعتماد سياسة تجميع الشرفات واحترام مبادئ السلامة العامّة»13.
وإذ شكّل عاملُ السرعة في إعادة الإعمار أولويّةً رئيسيةً لدى القيّمين على المشروع، تمّت إعادة بناء 270 مبنًى تضُمّ 4700 وحدةٍ سكنيّةٍ وتجاريةٍ فعادت الحياة إلى المنطقة وعاد السكّان إليها خلال فترةٍ وجيزةٍ لا تتعدّى الخمس سنوات. كما نجح المشروع في أن يُعلن موقفًا سياسيًّا يُعبّر عن إرادة الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي وبناء المدى الحاضن للمقاومة. وقد مثّل هذا المشروع تجربةً غير مألوفة تبتعد عن النماذج التقليدية لإعادة الإعمار التي غالبًا ما ترتكز إمّا على مؤسسات الدولة أو على الرساميل الخاصة. وفي هذا المضمار يمكن مقارنته بالسياسات العمرانية التي اعتمدتها الأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية والتي سمحت لها أن تعزّز مواقعها في ضواحي المدن «الحمراء» بمعزلٍ عن السلطات الرسمية14.
لكنّ الخيار المعتمد لإعادة بناء ما تهدّم كما كان والحفاظ على معدّلات الاستثمار وارتفاع المباني وحجم الشقق دون تعديل لم يسمح بإدخال تعديلات تهدف إلى تحسين النسيج المبنيّ في أحياء كانت تشكو من كثافة عالية. ولم يتمكّن المشروع من إيجاد حلولٍ لمشاكل مزمنة كازدحام السير والتلوّث البيئي وفقدان المساحات العامّة والمساحات الخضراء والخدمات العامّة وتحسين شروط التهوئة الطبيعية والإنارة في الوحدات السكنيّة15.
تغييب الدولة واحتجاب مفهوم المصلحة العامّة
تقدّم المشاريعُ التي استعرضناها مقارباتٍ مختلفةً للإنتاج المديني، كاشفةً عن خيارات سياسية وثقافية مختلفة سواء من حيث الآليّات المعتمدة أو من حيث العلاقة بالنسيج الاجتماعي والتراث المبنيّ وطرق التمويل.
ويتبيّن من هذا العرض أنّ كل المحاولات التي قامت على مبدأ أن تتولّى الدولة أو المؤسسات العامّة إدارة عملية الإعمار قد مُنيت بالفشل، بدءًا بالتجربة الأولى لإعادة إعمار وسط بيروت التي كانت قد أوكلت لشركة عقارية تُديرها الدولة، وانتهاءً بمشروع «إليسار» الذي كان يلحظ إعادة إعمار الضاحية الجنوبية لبيروت على يد مؤسسة عامّة. ويُعبّر هذا الفشل عن الضعف المزمن للدولة اللبنانية وتراجع قدرتها على التدخّل في قضايا الاقتصاد والإعمار والتنمية منذ أن أُجهضت المحاولات التي أطلقها المشروع الشهابي في الستينيات من القرن الماضي.
أما التجربة الثانية لإعادة إعمار وسط بيروت (مشروع «سوليدير») ومشروع مارينا الضبية الذي تمّ تلزيمه «للشركة الوطنية للتعهدات» وغيرها من المشاريع التي قامت على تلزيم إعادة الإعمار لشركات خاصّة فهي تُعطي الأولوية لتحقيق الأرباح للمستثمرين، كما تُعبّر عن التحوّل الذي جرى في العالم منذ الثمانينيات من القرن الماضي والذي شهد تراجعَ دور الدولة والمؤسسات العامّة وغلبة التيارات النيوليبرالية في الاقتصاد والسياسة.
ورغم أنّ تجربة إعمار الضاحية الجنوبية (مشروع «وعد») تختلف اختلافًا جذريًّا عن كلّ هذه المشاريع، إذ إنها تشاركها رفضها لتدخّل المؤسسات العامة التي يُصوّرها الطرفان (الإسلامي/المقاوم والنيوليبرالي) على أنها بطيئةٌ وغير فعّالة.
ويؤدّي هذا التغييب إلى تشويش مفهوم المصلحة العامّة التي يُعرّفها كلّ طرفٍ وفقًا لمُنطلقاته السياسية والأيديولوجية الخاصّة، ممّا يُقصي بطبيعة الحال فئاتٍ كثيرةً لا مكان لها في هذا التعريف، أو التي لا تُشارك توجّهات القيّمين على المشروع. كما يؤدّي إلى فرض قطيعةٍ صارمةٍ بين المنطقة التي يُعاد إعمارها (وسط بيروت في مشروع «سوليدير» وقلب الضاحية الجنوبية في مشروع «وعد») وباقي المدينة، إذ تُعتبر المناطق التي يُعاد إعمارها كمناطق تدخّل خاص، موضوعة تحت سلطة استثنائية وخاضعة لأحكام خاصة منفصلة عن آليات التخطيط الحضري «العادية».
نحو نموذج جديد لإعادة الإعمار؟
بعد مرور ستة أشهر على انفجار المرفأ هل يمكننا أن نضع تصوّرًا لكيفيّة سير عملية إعادة إعمار المناطق التي أصابها هذا الانفجار واستعادة دورة الحياة الاقتصادية والمعيشية فيها؟
في ظلّ الغياب شبه الكامل لمؤسسات الدولة وعجزها عن الاستجابة لأبسط حاجات المواطنين، يبدو واضحًا أنّ نموذج الإعمار الذي تتمّ إدارته من قِبل الدولة أو مؤسّسات القطاع العامّ لا يمكن أن يُشكّل حلًّا ناجعًا لتأمين ترميم المباني المتضرّرة وعودة السكان إلى منازلهم في أقرب وقتٍ لتفادي خطر التهجير وإحياء النشاطات الاقتصادية في المنطقة والمساعدة على عودة النشاطات الثقافية والفنية التي ضربها الانفجار. كما يبدو أنّ النموذج الآخر الذي يرتكز على تلزيم الإعمار لشركاتٍ خاصّة تستجلب الرساميل لتمويل المشاريع عبر إغرائها بالأرباح لا يُمكن الاعتمادُ عليه في ظلّ الأزمة المالية الخانقة التي يمرّ بها لبنان وانهيار النظام المصرفي وانعدام الثقة وتدهور قدرة الاقتصاد اللبناني على جذب الاستثمارات. أمّا نموذج الإعمار الذي تديره فئةٌ وفقًا لبرنامجٍ سياسي وأيديولوجي محدّد تتمكّن من خلاله من إقناع عددٍ كبيرٍ من أصحاب الحقوق بمنحها توكيلاً يسمح لها بتولّي مسؤولية إعادة البناء بشكلٍ كاملٍ كما كان الحال في مشروع «وعد»، فهو غيرُ واردٍ نظرًا إلى الخاصيّات الاجتماعية والتاريخية للمنطقة التي أصابها الانفجار والخليط الاجتماعي الذي يميّزها وتعدّد الطبقات والانتماءات والفئات العمرية التي تعيش فيها.
تقود هذه القراءة لتجارب الإعمار السابقة إلى نتيجةٍ بالغة الخطورة. ففي ظلّ استحالة اعتماد الآليات التي تمّ اعتمادها سابقًا، هل نستنتج أنه يستحيل فعلاً، أو على الأقلّ في المستقبل المنظور، إيجاد صيغةٍ تسمح بسير عملية إعمار المناطق التي أصابها انفجار المرفأ بوتائر سريعة؟ وهل الوضعَ ميؤوسٌ منه فعلاً والأفق مسدودٌ أمام عودة السكان إلى منازلهم وعودة النشاطات الاقتصادية فتتحوّل منطقةٌ كانت تنبض بالحياة إلى أرضٍ مهجورةٍ على هامش المدينة؟
في الحقيقة، ما يجري على الأرض يدلّ على عكس ذلك.
منذ الأيام الأولى لحدوث الانفجار تجنّد ألوفُ الشابات والشبان الذين أتوا من مختلف المناطق اللبنانية ونزلوا إلى الشوارع لرفع الأنقاض ومساعدة الأهالي وتقديم العون للمحتاجين. وعلى الرغم من الغياب شبه الكامل لأجهزة الدولة، وضآلة المساعدات التي وزّعها الجيش اللبناني لبعض السكان، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يُعاني منها اللبنانيون واحتجاز أموالهم في المصارف، فإنّ ترميمَ المباني المتضرّرة يسير على قدمٍ وساق، وتدعيمَ ما يقارب مئة مبنًى تراثي مهدّدة بالانهيار قد أُنجز قبل فصل الشتاء، وبدأ السكان يعودون إلى منازلهم، كما بدأت المقاهي في شارعَي غورو وأرمينيا تستعيد نشاطها تدريجيًّا. ويكفي أن يتجوّل المرء في شوارع الجمّيزة ومار مخايل والكرنتينا ليُلاحظ كيف أنّ المشهد المديني يتحوّل يومًا بعد يوم، وكيف أنّ المنطقة التي قلبها الانفجارُ رأسًا على عقب تعود تدريجيًّا، وإن بشيءٍ من البطء، إلى حالتها الطبيعية.
إنها لمفارقة حقيقية أن تشهد المنطقةُ المنكوبةُ مثل هذه الحركة في الوقت الذي يسيطر الجمود على كافة القطاعات الاقتصادية ويبدو البلد مشلولاً بسبب استفحال الأزمة السياسية وعجز الطبقة الحاكمة عن معالجة تابعيات جائحة كورونا. وتجري دينامية إعادة البناء في ظلّ غياب أي جهةٍ فاعلةٍ قادرةٍ على إدارة عملية الإعمار والتنسيق بين المبادرات المتفرّقة التي تعمل على الأرض بشكلٍ شبه عفويّ: الجمعيّات الأهلية والمنظّمات غير الحكوميّة، بعض نقابات المهن الحرّة (مهندسين، محامين، مقاولين، إلخ)، المؤسسات الجامعيّة ومراكز الأبحاث، المبادرات الفردية لمجموعات من اللبنانيين في الداخل والخارج، المؤسسات الكنسيّة والروابط الدينيّة، المنظّمات الدولية (منظمة الأونسكو للتربية والتعليم، برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشريّة، مفوّضيّة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، مفوّضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلخ) وبعض السفارات العربية والأجنبية.
صحيحٌ أنّ هذه المبادرات المختلفة كثيرًا ما تنقُصها القدرة على التناغم والتجانس والاتّساق. وهي لا تنتظم في سياقٍ موحّدٍ يندرج ضمن رؤيةٍ متكاملةٍ لصيرورة الإعمار. لكن بوسعها رغم ذلك، وعبر تراكم وتعدّد المبادرات المتفرّقة، أن تُكوّن تجربةً على الأرض قد تُنشئ، وإن بشكل متقطّع، نموذجًا جديدًا لإعادة إعمار الحيّز المديني الذي أصابته الكوارث.
قد لا يتناسب هذا النموذج مع الأطر والتشكيلات التقليدية لافتقاده لتركيبة متماسكة متجانسة تُنظّم إيقاعاته وتُرتّبها. لكن ربما يسمح بتأسيس تجربةٍ أكثر انفتاحًا تحمل في طيّاتها شيئًا من التناقض والمفارقة، لكنها تعكس في الوقت نفسه تعدّد الديناميات الاجتماعية. هذا النموذج «المتقطّع» لا يطمح إلى إعادة ترتيب المدينة بشكلٍ جذري وشاملٍ وهو لا يدّعي تقديم أجوبةٍ نهائيةٍ كما كان الحال بالنسبة للنماذج الأخرى، إلا أنّ من شأنه، عبر التركيب الجدلي للإيقاعات والأصوات المتنافرة، أن يؤسّس لأشكال جديدة غير مألوفة لممارسة الديموقراطية في الحيّز المديني.
لكنّ إنتاج مثل هذه الممارسات له شروط محدّدة.
بدايةً، ودون الانزلاق إلى خطاب شعبوي، ينبغي العمل على إيجاد أطر تسمح بتأمين مشاركة الأهالي في عملية الإعمار. لا تنشأ هذه الأطر ضمن قوالب جاهزة. فبالرغم من المحاولات التي أُجريت لإقامة شكلٍ من أشكال التواصل مع الأهالي في تجربتَي إعادة إعمار الضاحية الجنوبية على يد «وعد» وإعادة إعمار مخيّم نهر البارد للّاجئين الفلسطينيين، فإنّ سبل إيجاد آليات تُكرّس ممارسة الديموقراطية التشاركية تبقى بالغةَ الصعوبة في مجتمعٍ كالمجتمع اللبناني تأسّس فيه النظام السياسي على المحاصصات الفئوية والولاء لزعماء الطوائف. وما يزيد الأمور تعقيدًا غيابُ الأطر القانونية التي تُنظّم بشكلٍ واضحٍ العلاقةَ بين أصحاب الحقوق من مالكين ومستأجرين قدامى وجدد وأصحاب العقود التجارية في ظلّ الغموض الذي يسيطر على كيفية تطبيق قانون الإيجارات الجديد وتقلّبات سعر صرف الليرة. كما يُؤدّي هذا الغموض أحيانًا إلى التأخير في اتخاذ القرارات وبروز إشكالات عديدة بين المالكين والمستأجرين قد ينجم منه تباطؤ في عمليات الترميم وتهجير السكّان الأكثر فقرًا والنشاطات الاقتصادية الأكثر هشاشةً ويخلق فجوةً بين الماضي والحاضر. وتبرز أيضًا تساؤلاتٌ عديدةٌ حول مصير الأبراج التي أُقيمت في السنوات الأخيرة في المنطقة المحيطة بمبنى كهرباء لبنان قبالة المرفأ وكيفية ترميمها في ظلّ التعقيدات التي تُحيط بأنظمة الملكيّات المشتركة، إذ من الأرجح أن تبقى هذه الأبراج هياكلَ فارغةً لمدّةٍ طويلةٍ تشهد لفشل نموذجٍ اقتصادي ومعماري قائمٍ على المضاربة العقاريّة.
من جهةٍ أخرى، وبالرغم من أنّ العديد من المنظمات غير الحكومية تضطلّع الآن بدور أساسي في عملية الإعمار، إلا أنه من الضروري العمل على تلافي المشاكل التي رافقت تجربة إعمار جزيرة هاييتي بعد الزلزال الذي أصابها عام 2010، إذ لُقّبت الجزيرةُ الكاريبيةُ بـ «جمهورية المنظمات غير الحكومية» في ظلّ غيابٍ كاملٍ للتنسيق بين هذه المنظمات، ممّا أدّى إلى الكثير من الهدر والعبث واستبعاد شرائح كبيرة من المجتمع من المشاركة في عملية الإعمار. فعلى الرغم من المساعدات التي أرسلها المجتمع الدولي بقيمة مليارات الدولارات، ما زال اليوم أكثرُ من مليونٍ من السكان يعيشون في الخيم16.
وبالرغم من الهريان الذي يصيب أجهزة الدولة، وانعدام الثقة بهذه الأجهزة لدى المجتمع الدولي، لا بدّ من إيجاد آليات تسمح للمؤسسات الرسمية المعنيّة بالإعمار بأن تلعب دورها تحت رقابة المجتمع الأهلي. فرغم المخاطر التي قد تنتج من محاولات استغلال هذه المؤسسات لتقوية الشبكات الزبائنيّة للزعامات السياسية عبر تمويل الإعمار وتوزيع المساعدات، إلا أنّ استمرار التهميش الذي يطاول اليوم المؤسسات الرسمية المعنيّة بالإعمار (وعلى رأسها بلدية بيروت ووزارة الأشغال العامة ووزارة الثقافة والمؤسسة العامة للإسكان) لا يُشكّل ظاهرةً صحّية، فمن شأنه أن يُعرقل كل المبادرات الهادفة إلى إنتاج تصوّرٍ مستقبلي لتطوّر المنطقة ووضع هذا التصوّر قيد التنفيذ.
لا يعني الإعمارُ فقط ترميم وإعادة بناء ما تهدّم. وإذا أردنا أن نتخطّى الحدود التي رسمها مشروع «وعد» لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية والذي اكتفى بإعادة المنطقة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل حدوث الدمار من دون معالجة المشاكل التي كانت تعاني منها، علينا أن نبحث عن الخصائص المميّزة للمنطقة كي نتمكّن من رسم أفق تطوّرها المستقبلي. ويتطلّب ذلك اعتمادَ توجّهٍ يُعير الاهتمام للخصوصيات التاريخية والمدينية وللنسيج العمراني والاجتماعي لكلّ حيّ من الأحياء ممّا يُضفي على المنطقة التنوّعَ الذي يُغنيها. وفي هذا الإطار ينبغي التعامل مع الطابع التراثي للمناطق المنكوبة، الذي يتكوّن من نسيجها العامّ ومن الوحدات المكوّنة لهذا النسيج، باعتباره نسيجًا مدينيًّا واجتماعيًّا حيًّا مع المحافظة الكاملة على تنوّعه الذي يُعبّر عن المراحل والتطورات التي مرّت على المدينة.
كما يتطلّب مثلُ هذا التوجه الارتكازَ على طاقات واحتمالات الأمكنة لإحياء الحيّز العامّ للمدينة وإطلاق مشاريع تسمح بتطوير المساحات العامّة التي تمتلك طاقات احتمالية للتحوّل إلى مراكز التقاء وتجمّع. ويشمل ذلك إطلاق مشاريعٍ لتطوير مسارات التنقّل السلس وإنشاء حدائق عامّة ومساحات خضراء كمشروع الحديقة العامّة التي تربط حي مار متر في جوار مدرسة الحكمة بمرفأ بيروت، والاستفادة من محطة سكة الحديد في مار مخايل لتُنظّم فيها نشاطات عامّة ثقافية وفنية.
وينبغي إعادة دراسة مرفأ بيروت على نحوٍ شاملٍ يأخذ بعين الاعتبار آفاق تطوّره المستقبلية وموقعه بالنسبة للمرافئ الأخرى على الساحل اللبناني كما والمرافئ الأخرى شرقي البحر المتوسط (حيفا، طرطوس، إلخ.) ولحظ إعادة ربطه بالمدينة كما كان الحال في السابق قبل أن يتمّ عزله عنها خلال سنوات الحرب وتحويله إلى منطقة معزولة تدير ظهرَها للأحياء المجاورة.
في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020، بادرت نقابة المهندسين في بيروت، بالاشتراك مع كليات العمارة في لبنان، إلى إطلاق «إعلان بيروت العمراني» الذي يُقدّم رؤيةً عامّةً حول سبل إعادة تشكيل المنطقة المتضررة. تدعو هذه الوثيقة إلى اعتماد نظرةٍ شاملةٍ بجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، كما تستعرض مجموعة أفكار من شأنها أن تُشّكل نقطة انطلاقٍ للعمل على وضع صيغة متكاملة لإعادة الإعمار وتأهيل التراث وحماية النسيج الاجتماعي والهوية المحدّدة لخصوصية العمران في المنطقة المنكوبة وإعادة صياغة علاقة المرفأ ومحيطه العمراني.
كيف يمكن أن يندرج مثل هذا التوجّه ضمن الإطار الزمني الذي تُحدّده أولويات الإعمار والضغوط التي تخلقها ضرورة الاستجابة للحاجيّات الملحّة؟
تبدو المعاني اليوم وكأنها مطروحة أمامنا وما علينا إلا أن نُنظّمها. لكنّ التنظيم بحدّ ذاته يقود إلى إعادة صياغة المعاني وتجسيدها في أشكال وممارسات تكسبها أبعادًا جديدة. وهو أمرٌ قد يستغرق ردحًا من الزمن ويتطلّب الكثير من الصبر والتواضع.
قد يبدو ذلك مستحيلاً في وقتٍ يعيش الناس تحت ضغط الأحداث ويبحثون عن حلول سريعة تُخرجهم من حالة اليأس التي يعيشونها. لكن علينا أن نتذكّر دائمًا ما قاله هيغل17: «إذا كان التاريخ بطيئًا فإنّ طول الزمن قياسًا بمقاصد الروح إنما هو أمر نسبي».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.