العدد ٣٠ - ٢٠٢١

عبد الله حبيب يقدّم فيلمه «أصابع»

مغامرة في التوليف العمودي و«الكولّاج»

فاز فيلم «أصابع- فيلم شخصي» للكاتب والسينمائي العُماني عبد الله حبيب بجائزة «اعتراف» ضمن فئة الأفلام التجريبيّة في «مسابقة أفضل الأفلام القصيرة» في الولايات المتحدة الأميركية، عام 2020، وعُرض قبل ذلك في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية. هنا يكتب المخرج عن خلفيات الفيلم وهواجسه والطموح.

أنتمي إلى الجيل الذي ورث هموم الستينيات والسبعينيات العربية من عقود القرن المنصرم، خاصةً في مسألة «الثورة» (سياسيًّا) و«التعبير الثوري» (فنيًّا). وقد أدركت مع الوقت وما أمكن من النضج أنّ ما هو «ثوري» (أيديولوجيًّا) يختلف عن «الثوري» (جماليًّا)، بمعنى أنّ الثاني ليس تابعًا ولا خادمًا للأول. وأظنّ أنّ الخلط بين ذينك الأمرين هو أحد أسباب إخفاق الدولة الوطنية العربية، وفشل اليسار العربي (أو هو من المآزق الكبرى لذلك اليسار، على الأقل). هكذا اتضحت لي أهمية فردانيّة التجربة الإبداعية واستقلاليّتها.

تزامنت دراستي الأكاديمية للفلسفة مع تغيّر صوتي أدبيًّا (في الشعر والقصة القصيرة والنص المفتوح)، فقد صرت قريبًا من «الذاتي»، بعيدًا عن صخب الشعارات حين تطفو على الصوت الداخلي للمبدع. وفي الوقت نفسه ازداد شغفي بالسينما التي وجدت فيها عزائي من حيث إنها تتيح آفاقًا رحبةً للحرية التعبيرية، فكانت السينما مجال دراستي العليا.

«قصة» لا تشبه القصص

أوردتُ الخلفية أعلاه لأنها تمثل حصيلة أكثر من أربعين عامًا من التجربة، وإعادة إنتاجها، ونقدها الذاتي. تلك الخلفية هي التي أنجبت «أصابع (فيلم شخصي)». لكن الحديث عن الفيلم نفسه يصعب عليَّ لأنّ من الأفضل أن يقدّم العمل نفسه بنفسه ليُقَيِّمه النقاد والمُحَكِّمون، خاصةً وأنه لا يتضمّن «قصة» بالمعنى المألوف (مع أنني أزعم أنه فيلم روائي) لكن لعلّي أستطيع قول ما يلي.

في هذا الفيلم التجريبي تتجاور مقاطع من نصوص شعرية لي مع أخرى لقيس بن الملوّح وبدر شاكر السيَّاب وقسطنطين كفافي، إلى صور فوتوغرافية ومقولات في الخلفية السمعيّة لكارل ماركس ولينين وجان- لوك غودار، وفردرِك نيتشه مع مقاطع من أفلام لبيير باولو بازوليني وأندريه تاركوفسكي وسيرغي بارادغانوف ضمن نسيج السرد غير المركزي. وممّا أستطيع قوله أن الفيلم يطمح إلى محاورة «سينما المؤلف» الأوروبية ليصل إلى محاولة تحقيق «الفيلم الشخصي» عبر محاورة أخرى لـ«السينما الثالثة» ذات المنشأ الأميركي اللاتيني بالتوكيد على «الجمالي» من دون التضحية بـ«السياسي». ومع أن الـ (mise-en-scene) الإخراج في «أصابع» ينتمي إلى «سينما الحد الأدنى» (minimalist cinema) فقد سعيت إلى أن يكون شعريًّا بالمعنييَن الحرفي والمجازي. وفي هذا فقد كان يقلقني دومًا أنّ السينما لم تهتم بالكولّاج (ربما باستثناء حالات نادرة في السينما التجريبيّة والطليعيّة لا نجدها خارج الأراشيف المتخصصة في الجامعات ومراكز البحوث)، وذلك على عكس الفنون التشكيلية. وفي هذا رأيت في الكولّاج انعكاسًا بصريًّا لفكرة النص المفتوح في الأدب، فاقتنعت بمغادرة الفهم الجامد لـ«النوع» (genre). وعمومًا فإنّ هذا الطموح المشتهى لا يعني أنه قد تحقّق بالضرورة في الفيلم، والأرجح أنه لن يتحقّق بصورة مثاليّة في أي فيلم آخر، لكن هذا لا يعفي من مهمة الحلم.

يطرح الفيلم مسألة «الانعكاسيّة الذاتيّة» (self-reflexivity). والحقيقة أنّ هذا يعود إلى اهتمامي بموضوع «التمثيل» (representation) استفادةً من مفهوم «تأثير الاغتراب» (alienation-effect) لدى بريخت في المسرح ومفهوم «الفيلم المقالي» (film-essay) لدى غودار في سينما الموجة الجديدة. وبذلك فإنّ «أصابع» يأتي محاولة ضمن ذلك الاهتمام كما تمّ التعبير عنه في فيلمي القصير الأسبق «هذا ليس غليونًا» الذي حاولت فيه مؤاخاة قصيدة لتشارلز بودلير، ولوحة لرينيه ماغريت، ومقطوعة موسيقية لمنير بشير.

تعمّدتُ «النغمة الوتيريّة» (monotone) في «أصابع» على مستويات عدّة منها الحوار بين الشخصيتين الحاضرتين صوتيًّا/ الغائبتين بصريًّا في السرد، وفي هذا أجريت الكثير من التدريبات للمؤدّيين (ولا أقول «الممثلين») للوصول إلى درجة «اللاطبيعية» المطلوبة لمناخ الفيلم، بينما يكتسي صوت «السارد المُعَلِّق» (commentating narrator) الذي يلقي الاقتباسات الشعريّة والنثرية نبرة عاطفيّة. وبالتباين، سعيتُ في الوقت نفسه إلى انتهاك «السرد الخطّي» (linear narrative) لصالح «السرد المُشَظَّى» (fragmented narrative) لأسباب تتعلق باعتقادي أنّ سرد الحياة اليوميَّة ليس سردًا خطيًّا كما تحاول أن توهمنا لغةُ السينما التجاريّة السائدة (والتَّشظِّي أصلاً من طبيعة المعرفة في الفلسفة). وفي هذا ارتأيتُ أنّ «سوناتا ضوء القمر» لبيتهوفن هي الأصلح للتعبير الموسيقي المواكب، بحيث حاولت أن أدغمها مباشرةً لتصبح عنصرًا «ثيماتيًّا» وليس «موتيفيًّا» فحسب.

تسعى السينما الاستهلاكية إلى تكريس «المونتاج الأفقي» (horizontal editing)، غير أنني في «أصابع» أسعى أكثر نحو «المونتاج العمودي» (vertical editing). وأسعى في هذا إلى كسر التوقّع، كما يحدث عند سماع صوت إطلاق نار من خارج الشاشة (off screen) مصحوبًا بصوت رفرفة ليتولّد انطباعٌ بأنّ الأمر يتعلّق بقنص طائر، ولكن يتّضح غير ذلك تمامًا من خلال الحوار بين الشخصيتين الحاضرتين صوتيًّا/ الغائبتين بصريًّا، إذ ينجلي الأمر عن أنّ صوت الرصاصات يتعلّق بتنفيذ حكم الإعدام بصديق الراوي.

في ثقافتنا العربية يُراق الكثير من الحبر حول موضوعات من قبيل «الهوية» و«الأصالة» و«المعاصرة» و«التقليد» و«الحداثة» و«العولمة». وفي هذا يحاول «أصابع» أن يترجِم، ولو بصورة متواضعة، قناعاتي الشخصية حول ذلك بأنّ ما هو «محلّي» لا يستطيع الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك إلا إذا كانت آفاقه «إنسانية» في بعدها الكوني، وأنّ ما هو «عالمي» لا يمكن فرضه على هذا الأساس إلا إذا كان منسجمًا مع هو «محلّي» في الوشائج الجماليّة والأخلاقيّة. وربما كان التعبير عن ذلك واضحًا عند نهاية «أصابع» حيث يحدث «تجاور» (juxtaposition) لعناصر تبدو «متنافرة» للوهلة الأولى: مقطع من أغنية لفيروز (كان قد ورد في بداية الفيلم)، ومقطع من قصيدة نبطيّة لراشد الخضر، و«سوناتا ضوء القمر»، وصوت قلب يخفق بنفس الطريقة التي تخفق بها قلوب كل البشر.

العدد ٣٠ - ٢٠٢١
مغامرة في التوليف العمودي و«الكولّاج»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.