Pandemic!: COVID-19 Shakes the World
Slavoj Žižek, OR Books, LLC, 2020
146 صفحة
بحسب قولٍ مأثور، «وقت الأزمة كلّنا اشتراكيّون». لكن هل يمكن الركون إلى هذه الغريزة في عالم يزداد بربريّة؟
إنّ غلاف كتاب الفيلسوف السلوفيني سلافوي جِيجِكْ الجديد «الجائحة! كوفيد–١٩ يهزّ العالم» ينطق بالأمر صراحةً: تتصدّره كلمة «هلع!» (PANIC)، وقد علق في وسطها مفردة «الشعب» (“DEM” أي demos).
لنضع جانبًا أمرَ الفيروسات التي نجهل طبيعتها، ماذا يمكن للجائحة أن تَكون أكثر من هلعٍ تصيب به الناس؟ في هذا الكتاب الصغير من ١٤٦ صفحة، (دار OR Books وتعود عائداتُه إلى «جمعية أطبّاء بلا حدود»)، يحاجج جيجك، الذي يقدّم نفسَه على أنه الماركسي والهيغلي واللاكاني المشاغب، بأنّه يُفترض بنا أن نتجاهل ثلاثة أشكال من المنطق الخاطئ يعزّزها الهلع/ الجائحة: الرغبة في الانصياع للتهديد الغامض، إضفاء أهميّة خرافيّة على الحدث، وتقلّبات الهلع بذاته. يرفض جيجك هذه الإغراءات الثلاثة ليُرسيَ تقييمًا رصينًا، بعيدًا عن المثاليّة، للمسارات المستقبليّة.
ينبّه جيجك إلى كَون «الهلع له منطقُه الخاصّ به». الآثار المدمّرة للإشاعات التي تشكّل معطًى من معطيات الفترات غير المستقرّة معروفة طبعًا. لكنّ منطق الهلع يحتِّم أن يصير الاعتقاد بمضمون الإشاعات أمرًا غير مهمّ. يفسّر جيجك أنّ الإشاعات في أوقات الأزمات، حتّى في حال دحضها، تُغذّي الهلع: «أنا أعلم بأنّ هنالك ما يكفي من ورق الحمّام وأنّ الإشاعة غير صحيحة، لكن ماذا لو أخذ بعضُهم هذه الإشاعة على محمل الجدّ، وراحوا، بسبب الهلع، يشترون مخزونات إضافيّة من ورق الحمّام متسبّبين بالتالي بشُحٍّ فعلي؟» نحن نلاحظ اشتغالَ هذا المنطق في كل مرّة تطمْئننا وسائلُ الإعلام بأنّه ليس هنالك من سبب للهلع، تقوم هذه الوسائل نفسُها بضخّ إحصائيّات وقصص مصمَّمة لأجل المحافظة على موقعها الإعلامي من خلال صَدْمنا وإقلاقنا. فالهلع إذًا علامة إخفاقٍ سلفًا، أنّنا لم نفهم الخطر على نحو صحيح: «حين نتفاعل بهلع، نحن لا نأخذ الخطر على محمل الجدّ، نحن على العكس، نستخفّ به».
تطميناتٌ لا تُطمئِنْ
وبشكل مماثل، تُخفق جهود الدولة في طمأنتنا. يقول جيجك مستذكرًا شبابَه في يوغوسلافيا «حين كان المسؤولون الحكوميون يطمْئنون الشعب باستمرار بأنّه لا داعيَ للهلع […] كنا جميعًا نَعتبر تطمينات كهذه بمثابة علامة واضحة على أنّهم هم أنفسُهم هَلِعون؟» يفضح هذا الإخفاق عجزَ قادتنا، فيفاقمُ من عوارض الهلع لدى الشعب. من هذه العوارض المبالَغةُ في نَسْب الفعاليّة لهذه الحكومات ذاتها التي خذلتْنا. يمْكن رؤية ذلك على طرفَي نقيضٍ في الطَيْف السياسي، من احتجاجات معارضي الحَجْر، إلى المعارضين اليساريين. هنا يتعارض جيجك بنحوٍ لافتٍ مع زميله الإيطالي جورجيو أغامبن Giorgio Agamben الذي يرى أن التطبيق الحالي لإجراءات الطوارئ حول العالم يعكس تمدُّد ما يسمّى «حالة الاستثناء» (زيادة سلطة الدولة على حساب حقوق الأفراد). بالنسبة لجيجك، تفكير يشكّل «ممارسةَ الاختزاليّة من قِبَل الذين يعتمدون نظرية البنائيّة الاجتماعيّة social constructivism، أي يستنكرون [الجائحة] باسم المعنى الذي يسبغه عليها المجتمع.
يذهب جيجك أبعد من ذلك فيدعونا إلى رفض كل ما هو من قبيل «العاديات المشبوهة» لليسار السياسي: «العولمة، السوق الرأسمالية، وسرعة زوال الأغنياء». فيما يُبقي تركيزه باستمرار على الطبيعة الأيديولوجيّة الأساسية للرأسماليّة («يزول رأس المال إذا توقّفنا عن التصرف كأنّنا نؤمن به»)، يصرّ جيجك على أن نرفض التفسيرات الخرافيّة لكوفيد-١٩ التي تعمل على مَوضَعة تجربتنا الإنسانيّة في المحور كضحايا عاجزين، أو كمذنِبين ينالون ما يستحقونه. بدلاً من تقديم معانٍ عميقة، يصير الارتياب من الجائحة كأنّما هو التطبيق الفعلي لمفعول الفيروس: «ما يُفترض بنا تقبّلُه ومصالحةُ ذواتنا معه، هو أنّ هناك طبقةً سفلى لما قبل حياة الفيروسات الجنسيّة، كامنة وتكرّر ذاتَها بغباء تام وأنها موجودة دومًا، وستلازمنا كخيال قاتم يهدّد وجودنا ذاتَه، وتنفجرعلى حين غفلة». في مواجهة هذا التهديد، يشجّع جيجك على أشكالٍ جديدة من التعاضد — فهو وحده القادرُ على أن يوصلنا إلى مستقبلٍ أكثرَ أمانًا.
بالنهاية، ما هو البديل؟ أن تنظرَ إلى التهديد مباشرة وتُهمِل اتّخاذ الاستجابات الجَماعيّة العمليّة في الاعتبار، يعني أن تُهزَم بواسطة الغموض المَرضي للتهديد. فجزءٌ من منطق الهلع هو الاستسلامُ لخَدر المجهول. يعترف الكاتب هنا بقوله «في هذه الأيّام أتمنّى أحيانًا أن يصيبني الفيروس. فبهذه الطريقة، على الأقل، تنتهي حالة عدم القلق المُنهِكة». لقد بدأ الهلع يؤثّر ليس في وسائل الإعلام والمَتاجر فحسب، بل إنّه يستأثر بكوابيسنا بهواجسنا أوقات يقْظتنا. النقاشات حول التأثيرات السيكولوجيّة للحجْر والتباعُد الاجتماعي قد استقطبت اهتمام وسائل الإعلام، ويولّد تسليطُ الضوء هذا بدوره الهلعَ المتعلّقَ بالصحّة العامّة. بالنظر الى هذه الحالة من عدم الاستقرار، تصبح الرغبة في الاستسلام للتهديد من أجل جعله في النهاية أمرًا ملموسًا، تهديدًا حقيقيًّا بحدّ ذاته: «لحظة يصبح هذا العامل الغامض جزءًا من واقعنا (حتى ولو كان هذا يعني الإصابةَ بالفيروس)، تصبح سُلطته محدّدة، يصبح أمرًا بإمكاننا التعاطي معه (حتى ولو خسرنا المعركة)». بالطبع لا يَصلح هذا الوهمُ الشخصيُّ لأن يكون برنامجًا مجتمعيًّا في حالة الجائحة، إلّا إذا اقترحنا، كما فعل معاون حاكم ولاية تكساس، التضحيةَ الجماعيّةَ بالأكثر عرضةً للإصابة بالفيروس بيننا. يصفُ جيجِك مثل هذه الإجراءات بالقريبة من السياسة النفعيّة الفظّة لرومانيا إبّان عهد شاوشيسكو حيث كان يُمنعُ المتقاعدون من دخول المستشفيات. تؤدّي مثلُ هذه المعتقدات إلى أمر واحد: «البربريّة بوجه إنساني – أي إجراءات متوحّشة للبقاء تفرض مع شعورٍ بالندم أو حتى التعاطف، لكنها تستمدّ شرعيّتها من آراء الخبراء».
تعاون دولي، مساواة، كرامة إنسانيّة
هذا الكتاب القصير مليءٌ بأفكار أخرى متبصّرة ترتبط بالواقع وتتعلّق بالعمل والإنتاجيّة في زمن الكوفيد-19 وبَعده. مع أكثر من مئة ألف ضحيّةٍ مؤكّدة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، (حتى أوائل شباط/ فبراير [2020] تخطى عدد الإصابات بالفيروس في الولايات المتحدة 27 مليونًا) و٤٠ ألفًا كإحصاء ترجيحي لعدد الأميركيّين العاطلين من العمل، وملايين المستأجِرين غيرِ القادرين على تسديد إيجاراتهم، لن يلعب جيجك دور فيلسوف يعزّي أو يشتّت الانتباه. لكنه يوجّه أنظارنا إلى الوراء باتّجاه الطريق الوحيد إلى الأمام، ألا وهو مجابهةُ المشاكل التي تواجهنا. يستعيد جيجك قولاً مأثورًا قديمًا في علم الاقتصاد: «وقت الأزمة كلّنا اشتراكيّون». معنى القول أنّ الحكومات تكون مستعدّةً لاستخدام سياساتٍ تبدو وكأنّها «اشتراكيّة» من أجل تخفيف الضغوط الشعبيّة أو الاضطرابات الناجمة عن الجائحة. يطالبنا الكاتب بأن نتساءلَ في ما لو أنه يكفي وضعُ ‘وجهٍ إنساني’ على ما سيظلّ فعليًّا عالمًا بربريًّا. هل يكفي أن نحلّ تأثيرات هذه الأزمة، أم نحُول دون وقوع مثلها في المستقبل؟ هل يكفي «إنهاءُ الحجْر» و«العودة إلى الحياة الطبيعيّة» في حين، وكما يُقرّ العلماء، سيكون شبَح التهديد الذي ترخيه الفيروسات على الصحّة العامّة في العالم حاضرًا على الدوام؟ بالنسبة لجيجك، البديلُ الأوحدُ للبربريّة هو إعادة ابتكار مرحلةٍ شُوّهت سمعتُها كثيرًا في التاريخ، مرحلةٍ كانت تتطلّع إلى تعاون دولي، إلى المساواة والكرامة الإنسانيّة. هي المرحلة التي عُرفَت بالشيوعيّة. إنّ الجهودَ لتنسيق «أمميّة تقدميّة» Progressive International اليوم قد تلبّي هذه الفرصة الآتية من الماضي، لكنّها بحِملٍ توتاليتاري أخفَّ من ذي قبل. وإذا نحن قرّرنا أن ننظر حولنا بعقل منفتحٍ فمن الممكن أن نلمح إمكاناتٍ أخرى تنبثق من التفكير بالجماعة، إمكانات اندماج لم تكن في الحسبان. لكنّ أوّلَ ما يُفترض بنا فعلُه، هو رفضُ الهلع واختيار الإنسانيّة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.