العدد ٣٠ - ٢٠٢١

الفلسفة والحياة اليومية في ظلّ الرأسمالية

ترجمة رائد القاقون

 

بدايةً، دعوني ألفت انتباهكم إلى لوحة.

صورة 1

رسم جون كونستابل هذه اللوحة في العام 1816. لقد ترعرعتُ وهي في خاطري. اشترت والدتي نسخةً منها من «المعرض الوطني للفنون» في العاصمة واشنطن، وعلّقَتها فوق مدفأة منزلنا. تُصوّر اللوحةُ متنزّه «ويفنهوي بارك» الذي كانت ملكيّته تعود إلى رجل إنكليزي ثري على بعد مئة كيلومتر من لندن. أعجبني مرج العشب الأخضر المشذّب والمعتنى به، والسماءُ المتّسمة بمسحةٍ دراماتيكية، وتناغُم الضوء والظلال فوق العشب والبحيرة. إنّها صورة عن الجمال الريفي. وتُشكّل هذه اللوحة نسخةً مثالية عن نوعٍ من الحياة اليومية أخذ يختفي سريعًا في الوقت الذي رُسمَت فيه. وفي العام نفسه، أدّى فرضُ زيادةٍ كبيرةٍ على أسعار الخبز إلى تظاهرات «الخبز أو الدماء» حرصًا على لقمة العيش في «إيست أنغليا»، على بُعد مئة كيلومتر من متنزّه «ويفنهوي».

 

صورة 2

ومن ثمّ هذه اللوحة الثانية، وقد رسمَها في الريف الفرنسي بعد ذلك بنحو ستةٍ وخمسين عامًا الرسّام الفرنسي كاميل بيسارو، وهي أيضًا تُصوّر سماءً وحقولاً وغابة، لكن من دون إضفاء مَسحةٍ مثالية، فالحقولُ غير مُشذَّبة ومعتنى بها على نحوٍ تام، بل تُمثّل فحسب مكانًا يعمل فيه الناس، في إطار الحياة اليومية في الريف.

وإنني لا أُلمّحُ إلى أنّ إضفاء المسحة المثالية أمرٌ سيّئ على الدوام. أعتقد أنّ الناس غالبًا ما يعجبهم ذلك. بل قد يكون ذلك تعبيرًا عن الأمل، لأنه فعليًّا أقل صراحةً من الحقيقة في تعبيره عن شيءٍ بشع أو منفّر.

في ستينيات القرن الماضي، كنتُ محظوظًا للتمكّن من تعليم فنّ التصوير لأطفالٍ من ذوي البشرة السوداء في حي «روكسبيري» المنعزل بمدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستيس. ولم يرغب هؤلاء المصوِّرون الصغار في أن يلتقطوا صورًا للأحياء التي يعيشون فيها، لأنّها كانت بشعة وكئيبة.

 

صورة 3

لكنّ الطلاب سَرَّهم تصوير الناس. وكانت النتيجة صورةً أكثر إيجابية عن الحياة اليومية في مجتمعاتهم.

 

صورة 4

وطرحت تلك الصور بعض الأسئلة الحسّاسة حول تصوير وفهم أو تغيير الحياة اليومية. وهي على وجه التحديد:

- هل نودّ معرفة الحقيقة عن الحياة اليومية؟ هل الحقيقة أفضل من الصورة التي أُضفيَ عليها الكمالُ المثالي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا؟

- من هو الذي نودّ معرفة حياته اليومية؟ الغنيّ، الشهير، القويّ أم كلّ واحد منّا، أم عامّة الناس؟

- ما الأدوات النظرية المتوافرة لتساعدنا على فهم الحياة اليومية؟ وكيف أمكن للفلسفة أن تساهم في ذلك الفهم؟

سأقدّم بعض الإجابات التقريبية عن تلك الأسئلة، وأحاول الوصول إلى بعض الاستنتاجات حول الفلسفة والحياة اليومية.

 

«يوميات» الطبقة العاملة

تخضع الحياةُ المعاصرةُ للرأسمالية التي تنتشر الآن، في عصر العولمة، في كلّ مكان. حتى إنّ الدول الاشتراكية المتبقّية تملك جميعها السّمات الأوليّة للرأسمالية: الرواتب المتفاوتة، الأسواق، الأموال، عدم المساواة، العنصرية والتمييز الجنسي، وطريقة عيشٍ متّسمة بالتّرف للنخبة، وجيوشًا مستعدّة لخوض الحروب. لذا من أجل فهم الحياة اليومية، ينبغي أن نستطلع كيف تصوغ الرأسمالية تلك الحياة.

وقولنا هذا يعني رفضًا للمقاربة التجزيئيّة للنظرية السياسية الليبرالية، التي ترى إلى المجتمعات بما هي نتيجة لخياراتٍ فردية مستمَدّة من طبيعة بشرية ثابتة. كما أنّ هذا القول يرفض على نحوٍ مساوٍ ما يُسمّى النزعة الفردانيّة المنهجيّة في علم الاجتماع التي تعتبر أنّ الأفراد، لا الفئات الاجتماعية، هم الفاعلون الاجتماعيون الأساسيون. الناسُ يصنعون تاريخَهم، لكنّهم يقومون بذلك بما هم طبقات، وفقط ضمن نطاقات اجتماعيّة قائمة. ومن أجل فهم هذا التاريخ، من المهمّ فهم كيف يحيا الناس حيواتَهم بما هم طبقات.

لقد تجاهل معظمُ فلاسفة القرن العشرين الحياةَ اليومية، أو كانت لهم وجهة نظرٍ تشاؤمية عنها. نظر الفيلسوف الهنغاري لوكاش إلى الحياة اليومية على أنها تافهة. أمّا الفيلسوف الألماني هايدغر فرأى أنّها تقف في طريق تحقيق البشر لإمكاناتهم. وثمّة استثناءٌ لهذا التشاؤم يتَمثّل بالفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر. لقد طوّر الأخير منذ أربعينيات القرن الماضي، وعلى مدى عقود أربعة، مفهومَ الحياة اليومية وكيفية نقدها، أي كيفية إثبات أنّ الحياة بالإمكان أن تكون أفضل، بل ينبغي أن تكون كذلك.

ورأى لوفيفر الحياةَ اليومية كتنظيمٍ لحياة البشر إلى جانب التمثيلات التي تقنّعها، والناجمة عن نمط الإنتاج الرأسمالي. واعتبر الحياةَ اليومية أمرًا حيويًّا وخلّاقًا، يضمّ سواءً بسواء دوراتِ التكرار والحركة في اتّجاهات محدّدة. وتشمل الحياةُ اليومية العملَ وحياة العائلة والراحة والرّفاه، من بين أشياء أخرى. وتعتريها اضطرابات لكنّها ليست بالفوضوية كليًّا، وتؤثّر جوانبها المختلفة في بعضها البعض، وهي تنتظم أساسًا عبر النساء، على أنّ أولئك الذين يعيشون هذه الحياة عادةً لا يفهمون أوضاعهم، من وجهة نظر لوفيفر.

وجديرٌ بالذكر أنّ لوفيفر كان يفكّر أنّه على الرغم من كون العمّال وربّات المنازل منغمسين في الحياة اليومية، فإنّ المنشغلين في الاختصاصات التقنية، ورجالَ الدولة، وما يُسمّى «سيدات المجتمع» ليسوا كذلك. وتعني هذه الأمثلة أنّ باقي الطبقة الرأسمالية غير منغمسة في الحياةِ اليومية أيضًا. وهكذا، فإذا ما تقبّلنا رؤيةَ لوفيفر، نكون قد أجبنا عن السؤال حول من هو الذي نرغب في فهم حياته اليومية، إذ إنّ الطبقةَ العاملة بشكلٍ أساسي هي التي تحيا فعليًّا مثلَ تلك الحياة.

سأتناول رؤية لوفيفر كنقطة انطلاق، وأقترحُ بعضَ التغييرات التي أعتقد أنّها ستجعل مفهوم الحياة اليومية أكثر اقترابًا من وقائع الحياةِ في القرن الواحد والعشرين، والحياةِ في ما يتعدّى أوروبا. وسأعتمد لأجل ذلك على بعض الأفكار والمواقف المحدّدة لدى ماركس، كما فعلَ لوفيفر ذاته.

 

الحياة اليومية في الماركسية

رأى ماركس في الرأسمالية نظامًا عضويًّا مكوَّنًا من أجزاء متّصلة في ما بينها، ومتبادَلة التأثير، ومتناقضة في آن. إنّه نظامٌ ذو قوانين موضوعية للحركة، تشمل تلك التي تؤدّي إلى أزمات من شأنها أن تنتشر حتمًا في أرجاء الكرة الأرضية. ولا يملك هذا النظام سوى مقدرة محدودة على الحدّ من البؤس الجماعي الناتج من الركود أو الكساد، والحروبِ الإمبريالية والأوبئة، أو التعافي منها فيما التأثيراتُ السلبية لتلك الأزمات عميقة على الحياة اليومية. ومِن بين الأفكار التي استعرتُها من ماركس، قوةُ المال. كتبَ ماركس في شبابه أنّ امتلاك المال يَمنح قوةً كبيرة، مِن حيث كونه يَستبدل الصفات والقدرات التي يفتقدها مالكه، جاعلاً من البَشِعِ جذابًا والمحتال نزيهًا. وفي الجهة المقابلة، يبدو بديهيًّا أنّ الافتقار إلى المال يمنع الناس من تلبية احتياجاتهم، مهما تكن نقاطُ قوّتهم وفضائلهم. كما أنّ المال وجهٌ من أوجه الهيمنة المادية المنهجيّة. كتبَ ماركس: «… تتنامى الثروة المتراكمة التي تجابِه العاملَ بسرعةٍ وهي تواجهه على هيئة رأس مال، أو ثروة تسيطر عليه. فعالَم الثروة يتوسّع ويجابهه كعالَمٍ غريبٍ يهيمن عليه، وخلال ذلك يزداد فقرُه الشخصي وحاجتُه واعتمادُه على الغير بنسب متزايدة». وعَنِيَ بذلك أنّ المال لا يَملك فحسب القوة على أن يجعلَ البشع جذابًا، بل إنّه على هيئة رأسِ مالٍ يُخضِع العديدَ من الناس إلى نوعٍ من العبودية.

وثمّة فكرة ثانية تستوجب أن أستعيرها، وهي أنّ الطبقة الاجتماعية تسود في كلّ نواحي الحياة اليومية. جادل ماركس بأنّ الطبيعةَ البشرية ليست كليًّا مشفّرة في الموروث البيولوجي للإنسان، بل تكمن في العلاقات الاجتماعية بين البشر. وتختلف تلك العلاقات بطُرقٍ عديدة على مرّ الوقت وعبر الطبقات الاجتماعية. فقد اكتشف علماء الاجتماع أنّ أنماط الكلام، وخيارات الصداقة، والمشاركة الدينية، والنشاطات الاستجمامية الترفيهية، والمواقف السياسية وأوجهًا عديدة أخرى من حياة الطبقة العاملة تختلف إلى حدّ كبير عن سمات الرأسماليين ونشاطاتهم. بل إنّها تختلف أيضًا على نحوٍ ما عن حياة المزارعين، وأصحاب الحوانيت أو الأكاديميين، حتى حين لا تكون مداخيلُ هؤلاء مختلفة كثيرًا عن مداخيل العمّال. إنّ الطبقة الاجتماعية أكثر أهمية من المال كعامل محدِّد للحياة اليومية.

أمّا الفكرة الثالثة فهي أنّ الرأسمالية نظام استغلالي في جوهره. جادل ماركس بأنّ عمل العمّال في مؤسسة رأسمالية ما ينتِج قيمةً جديدةً تزيد عن الأجر الذي يُدفع لهم. وبالتالي فإنّ العمل غير المدفوع، أو العمل «الفائض» يتم الاستيلاء عليه مِن قِبَل الرأسماليين، وهو يشكّل مصدرًا للربحِ وللفائدة والريع الذي يُمرَّر إلى المصرفيين ومالكي الأراضي. وهذا يعني أنّ تكديس الرأسماليين للثروة لا ينجح إلا بقدر ما أمكن لهؤلاء أن يخفّضوا أُجور العمّال. وتُمثّل محاولة القيام بذلك السببَ الرئيسي للعولمة الرأسمالية، التي يسعى من خلالها رأسُ المال إلى البحث عن عمالة ذات أجور منخفضة، أي «السباق إلى القاع».

ويجادل ماركس بأنّ التناقض الداخلي الجوهري في الرأسمالية هو أنّها تحتاج إلى توسُّعٍ غير مقيَّد لثروة الرأسماليين وقوى إنتاجهم، لكن ينبغي أن تُقيِّد عمل مجموع المنتِجين إلى مستوى الضروريات المجردة. والفحوى من هذا التحليل أنّ الرأسمالية لا يسعها أن تسمح بحياة يومية مستقبلية يستطيع فيها كلّ امرئ أن يحيا حياةً كريمةً مُرضية يختفي فيها عدم المساواة.

ولا يكتفي الرأسماليون طبعًا بتقييد استهلاك عامة الناس، بل يسيطرون على مضمون ذاك الاستهلاك، وهو واقع له تأثير كبير على الحياة اليومية. وكما يصف لوفيفر المسألة: «إنّ سادةَ الإنتاج هم أيضًا سادةُ الاستهلاك». فمن خلال سيطرتهم على وسائل الإعلام، يستحدثون الطلبَ لكلّ ما يودّون إنتاجه، ويستخدمونه لانتزاع مزيدٍ من مداخيل أولئك الذين يمكنهم أن يشتروا أكثر من مجرّد ضرورياتهم الأساسية. وهم يقومون بذلك، على سبيل المثال، عبر إنفاق مبالغ هائلة لاستحداث طلب قوي بين شبّان المناطق الحضَريّة للأحذية الرياضية الذي يُباع الزوجُ منها بمئات الدولارات.

 

الاغتراب والعنصرية

وهناك مفهوم ماركسي عامّ يشمل العديد من سِمات الرأسمالية التي تؤثّر في الحياة اليومية، هو مفهوم «الاغتراب». وقد استعار ماركس هذا المفهوم من الفيلسوف المثالي هيغل. يمكن باختصار القول إنّ الاغتراب يعني انفصالَ ما لا ينبغي انفصالُه. فقد نظر هيغل إلى الاغتراب في المجتمعِ الرأسمالي في أيامه كمشكلة عمليّة وفلسفية. وأدرَك أنّ العديد من الناس لا يرون الأُسس والمرتكزات الاقتصادية والسياسية للرأسمالية بكونها صالحة في جوهرها، وهم لم يشعروا معها بـ«الأُلفة». وبدلاً من ذلك شعروا بالاغتراب، وهو أنّهم اختبروا انقساماتٍ اجتماعية مؤلمة مثل الحروب والفقر والعداء للحكومة وتفكّك الأسَر.

ورأى هيغل في هذا الاغتراب ظاهرةً يمكن تلطيفها وتحسينها بالفلسفة، وذلك بإظهار أنّ لتلك الانقسامات أساسًا منطقيًا عقلانيًا أو أنّه يمكن التغلّب عليها بخطوات تتخذها الدولة. والتقط ماركس مفهومَ الاغتراب وأظهرَ أنّ اغتراب العمال هو بالفعل مُبَيّتٌ داخل الرأسمالية، ففي ظل الرأسمالية، يُفصَل العمّال عن المنتجات التي يصنعونها وكذلك عن الثروات التي تنجمُ عنها. ويتم فصل العديد من العمّال عن الثروة، ليعيشوا في الفقر، وهم منتِجوها الفعليون. وإنّما عملهم هو مَن يجعل الرأسماليين أكثر ثراءً وقوة، ويضاعِف سيطرة رأس المال على العمل. كتبَ ماركس يقول: «إنّ القوة الخلّاقة لعمل العامل تتحوّل إلى قوة لرأس المال، وتواجهه كقوة غريبة عنه».

وعادةً ما تُقصي هذه القوة الاغترابية العمّالَ عن تخطيط عملهم وتوجيهه. ويبقى العمّال جرّاء ذلك بمنأى عن الإبداعِ الخلّاق والتعبير عن الذات اللذين يحتاج إليهما البشر، فيضطرّون إلى إيجاد فُسحاتٍ للتعبير عن إبداعهم في مكان آخر، إذا ما تسنّى لهم ذلك. وهكذا، العمل في ظل الرأسمالية هو دائمًا نوعٌ من عمالة الرقيق، فالعمّالُ يعملون فحسب لدفعِ فواتيرهم المستحقّة، لا للتعبير عن طاقاتهم وقيمهم أو مواهبهم.

إنّ قوة المال ظاهرةُ تغريب. كتبَ ماركس: «المال هو قدرة اغترابية للبشرية. إنّها نتاج عمل الناس الذين يتم فصلهم عن نتائج عملهم».

العنصرية أيضًا نوعٌ من الاغتراب، انفصالُ مجموعاتٍ بشرية وجب ألّا تنفصل. ويسود الاغتراب الرأسمالية، لكن من أجل فهم الحياة اليومية وآفاقها المستقبلية لا بدّ من أن نتخطَّى التقييم المجرّد ونتقصّى الاغترابَ في الحياة اليومية على نحو أكثر دقّة وموضوعية. فلنحاول أن نعتمد هذا التقصّي مع العنصرية.

باستخدامنا لمصطلح «العنصرية» على نحو واسع، لكي يشمل جميع أنواع النزاعات الإثنية والرّهاب من الأجانب والتعصّب الديني على غرار الرّهاب من الإسلام «إسلاموفوبيا»، يتّضح لنا أنّ للعنصرية في أشكالها المختلفة تأثيرًا عميقًا وبليغًا على الحياة اليومية في معظم البلدان. فالعداء تجاه المسلمين والتمييز ضدّهم يتواصلان خصوصًا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا وميانمار والهند. ويحدث الاضطهاد العامّ للمسلمين في الهند إلى جانب أفعالٍ مماثلة ضدّ طبقة «الداليت» المنبوذة وغيرها من المجتمعات الأدنى في النظام الطّبقي الهندوسي.

وقد لاقت الاحتجاجات الكبيرة في الولايات المتحدة ضد قتْل الشرطة العنصرية للمُواطن جورج فلويد، وغيره من الأميركيين من أصول أفريقية، أصداءً قوية في العديد من البلدان الأخرى، حيث اختبرَت عامّةُ الناس عنفَ الشرطة ورفعت شعارات تلك الحركة «لا أستطيع التنفّس» و«حياة السّود مهمّة» في إشارةٍ إلى حياتهم أيضًا.

تناول ماركس «العنصرية»- بمفهومها الشامل - بكونها عنصرًا أساسيًّا للرأسمالية في زمنه. فهو في سبعينيات القرن التاسع عشر اعتبر ترويجَ النزاعات الإثنية استراتيجيةً حاسمةً للحفاظ على حُكم الطبقة الرأسمالية البريطانية. كتبَ يقول: «كلّ مركز صناعي وتجاري في إنكلترا يَملك الآن طبقةً عاملةً تنقسم إلى معسكرين متعاديَين، الطبقة الكادحة الإنكليزية والطبقة المماثلة الأيرلندية… ويتم الإبقاء على هذه العدائية المصطنعة وتأجيجها من قِبَل الصحافة والمنابر والصحف الساخرة، أي باختصار، عبر جميع الوسائل الموجودة في تصرّف الطبقات الحاكمة. وهذه العدائية هي سرّ عجز الطبقة العاملة الإنكليزية، على الرغم من انتظامها. وهي أيضًا السرّ الذي تحتفظ من خلاله الطبقة الرأسمالية بقوّتها. وتلك الطبقة تدرك تمامًا ذلك».

وبوسعِ الطبقة الرأسمالية في كلّ بلدٍ ضمانَ أن تُحقّق أيديولوجياتُ «فرّقْ تَسُدْ» مَكانةً متفوّقةً بسبب هيمنتها على الاقتصاد وعلى الدولة. وكتبَ ماركس: «إنّ الطبقة التي هي القوة المادية الحاكمة في المجتمع هي في الوقت نفسه القوةُ الفكريّة الحاكمة».

وليست الهيمنةُ الأيديولوجيةُ خيارًا للسلطة الرأسمالية. بل إنّ مِن طبيعة الرأسمالية أن يُشكِّل الرأسماليون نسبةً مئوية صغيرة من عدد السكّان. ويدرك الرأسماليون تمامًا أنّ نظامهم لم يكن ليستمرّ لو اتّحدت الطبقةُ العاملة التي يستغلّونها في مواجهتِه. ويتعيّن على كلّ مجموعة متنافسة من الرأسماليين التثبّت من أنّ العمّال لا يعتزمون الاتحاد ضدّها، وتسعى أيضًا إلى الحصول على دعمٍ من بعض شرائحِ العامّة بجَعلها ترى المجتمعَ الرأسمالي مقسّمًا بطريقة جذرية تتخلَّل حدودَ مختلف الطبقات. وفي ما يتعدّى الانقسام، تميل التراتبية العرقية أو الإثنية الاجتماعية إلى إحداث انقسامٍ في المجتمع إلى فئاتٍ اجتماعية تبدو أكثر ضرورةً أو مشروعية، وترسيخِ تفاوتٍ عرقي في فهم الناس للطبقة الاجتماعية وحياتِهم اليومية داخل التراتبية الطبقيّة.

لكن سيكون من الخطأ رؤية التأثيرات الفاعِلة للعنصرية فقط في الانقسامات التي تستحدثها. وهذا يعني تجاهلَ الاضطهاد المادي الممنهج لمجموعات الأقلية التي تنطوي عليها العنصرية. وعادةً ما يشمل هذا الاضطهاد، المفروض بعنف الدولة، أُجورًا منخفضة وبطالة وظروفَ حياةٍ بائسة وخدماتٍ صحية وتربوية متدنية، إلخ. وتفيد هذه الظروف الرأسماليين بشكل مباشر عبر خفض تكاليف العمّال التي يتعيّن عليهم دفعها. ويتبدّى فرضُ عدم المساواة من قِبَل الحكومة بشكلٍ خاص في أنماط حالات القتل التي تنفّذها الشرطة في الولايات المتحدة، وكذلك في العنف الذي تتغاضى عنه الدولة بحقّ المسلمين وضدّ طبقة «الداليت» المنبوذة في الهند.

حتى إنّ التجربة الشخصية الفعلية للعنصرية تتأثَّر بقوة بالظروف المادية المفروضة على مجموعات إثنيّة محدّدة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يُعتبر البالغون السّود أكثر تهيّؤًا من البالغين البيض لتسجيل حالات قلق أو معاناة سيكولوجية شديدة بنسبة 20 في المئة. والبالغون والأطفال السّود أكثر ميلاً لاختبار مشاعر الحزن وفقدان الأمل وعدم الجدوى، من أقرانهم البيض. أمّا البالغون السّود الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي الذي حدّدته الحكومة، فهم أكثر ميلاً بضعفين أو ثلاثة أضعاف لتسجيل اكتئاب أو معاناة سيكولوجية شديدة من أولئك الذين يعيشون فوق خط الفقر.

لذا من الخطأ محاولة فهم «العنصرية» بأنّها ناشئة فحسب عن التفاعلات العرقية في ما بين الأفراد من دون النظر إلى الاضطهاد المادي داخل الرأسمالية. وهذا الخطأ هو سِمَة مشتركة لنظريات «العنصرية» التي تُستمدّ من المدرسة المثالية الأوروبية التقليدية، والتي تدافع عن الفكرة القائلة بأنّ المرء يمكنه الحصول على منزلة كائن حُرّ واعٍ لذاته - أي من المواطنين الرعايا - فقط إذا ما اعترف بمنزلته هذه بعضُ الرعايا الآخرين.

وتتمثَّل العنصرية المعادية للسود في هذا الإطار بمثابة فشلٍ دائمٍ للبيض في الاعتراف بالسّود كمواطنين. وتُخفي هذه المقاربةُ أسبابَ العنصرية داخل الرأسمالية، وهي إطارٌ أيديولوجي نشأ كجزءٍ من الاتجار بالرقيق الأفارقة ولا يزال يَخدم كحصنٍ منيع للرأسمالية.

ويعني إنهاء العنصرية وتأثيراتها إزالةَ أساسها المادي، وهو نظام الرأسمالية العالمي الذي يفيد من الانقسامات التي تستحدثها العنصريةُ والاضطهادُ المادي الذي تمثّله. ومن شأن الحركة الهادفة إلى إزالة الرأسمالية وإيجاد حياة يومية تحفل بالحرية والإبداع لعامّة الناس، من دون اضطهادٍ وظلمٍ وبؤس، أن تتبدّى في حال نجاحها حتمًا، تحسّنًا هائلاً في الحياة اليومية. ويعني ذلك على وجه الخصوص أنّ ملايين البشر لن يعيشوا بعد الآن تحت تهديدات القتل على يد الشرطة.

 

بعيدًا عن المثاليّة

وعلى الرغم من أنني أعتقد أنّ لوفيفر قد أسهم إلى حدّ كبير في فهم الحياة اليومية، أرى من المهم جدًّا تخطّي بعض العيوب والنواقص المهمّة في عمله لجعله منطبقًا على واقع القرن الواحد والعشرين.

 

صورة 5

 

صورة 6

 

صورة 7

 

صورة 8

 

صورة 9

يتركّز معظمُ أعمال لوفيفر على الحياة اليومية في أوروبا، لكنّ ذلك المنظور في عصر الرأسمالية المعولَمة ضيّقٌ على نحو كبير. ثمّة حاجة إلى منظور دولي بنطاق أوسع، في حين أنّ تأثيرات الاضطهاد العنصري في الحياة اليومية تحتاج إلى دراسة جدّية وإسهاب أكبر.

ولا ريب أنّ وجهة نظر لوفيفر حول الأدوار الجندرية في الحياة اليومية حتمًا قديمةُ العهد، هذا إذا كانت صحيحة. فليس صحيحًا الآن أنّ عمّال المصانع جميعهم من الذكور تقريبًا وأنّ زوجاتهم يفضّلن أن يكنّ ربّات منازل لا عاملات في المصانع. ففي أنحاء العالم تبلغ نسبة مشاركة القوة العاملة من النساء قرابة خمسين في المئة، وهي أكثر من خمسين في المئة في بلدان «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية». ومعظم هذه الوظائف هي في مصانع، خصوصًا مصانع الألبسة الجاهزة. وغالبًا ما تشكّل النساء غالبية عمّال المصانع في مناطق التصدير (لشركات التصنيع المعفاة من التعرفة والرسوم الجمركية) في الدول منخفضة الأجور. وعلى الرغم من أنّ أعداد النساء العاملات خارج المنازل هذه الأيام أكبر ممّا كانت عليه في الماضي، لا تزال النساء مصدرَ التنظيم الرئيسي للحياة اليومية، وهنّ مقارنةً بالرجال يقضينَ عددًا أكبر من الساعات في عمل غير مدفوع داخل المنزل.

أخيرًا دعوني أنهي كلمتي بإجابات مختصرة عن بعض الأسئلة التي طُرحت في البداية. أفترض أننا نودّ معرفة الحقيقة حول الحياة اليومية. وما إذا كانت الحقيقة أفضل من إسباغٍ للكمالِ المثالي، إنّما يَعتمد على ما إذا كان هناك طريقٌ تفضي قُدمًا إلى حياة أفضل في المستقبل. وثمّة قناعة لديّ بأنّ مستقبلاً مماثلاً أمرٌ ممكن. وإذا لم يكن كذلك، فعلينا أن نقتنع بالطمأنينة التي تمنحنا إيّاها وجهةُ النظر المثالية للواقع.

أعتقد أنّ الماركسية تكمن في صميم الأدوات النظرية لفهم الحياة اليومية وتحسينها. لكن على الماركسية لكي تتابع هذا الدور أن تواصل التقدّم وأن تتخلّى عن الأخطاء القديمة وتطوّر منظورات جديدة.

وأظنّ أنّ الخطأ الكبير للماركسية في الوقت الراهن يتمثّل في الفكرة القائلة بأنّ الاشتراكية ستُفضي إلى الشيوعية، أي ذلك المجتمع الذي لا طبقات فيه. وقد عبّر لوفيفر مرارًا عن تحفّظاته إزاء الاشتراكية. وأعتقد أنّه من الممكن تصوّر لماذا لا تفضي الاشتراكية إلى الشيوعية، الأمر الذي يبدو أنه حكمٌ للتاريخ.

وتتيح السّماتُ الرأسماليةُ للاشتراكية لطبقةٍ حاكمةٍ جديدة متمتّعة بامتيازات بأن تنمو داخلها، طبقة لا تودّ التخلّي عن امتيازاتها، بل تحافظ عليها. وتقوم بذلك أحيانًا عبر النأي كليًّا عن الاشتراكية، كما هو الحال في روسيا وأوروبا الشرقية. وأحيانًا تكون ثمّة اشتراكية مع أصحاب المليارات، كما هو الحال في الصين. ولا تكون النتيجة أبدًا شيوعية أو أيّ شيءٍ قريبٍ منها. وكما قال ماركس إنّ على النظريات أن تثبِت حقيقتَها وقوّتها في التطبيق، وعند هذا الاختبار سقطت النظرية التي تقول إنّ الاشتراكية تفضي إلى الشيوعية.

لكني لا أعتقد بأنّ ذلك يعني عدم قدرة الشيوعية على الاستمرار كذلك. لقد نشأت المجتمعات الطبقيّة قبل نحو اثني عشر ألف عام. وقد عاش البشرُ منذ وجودهم قبل مئتي ألف عام، أو نحو ذلك، على وجه هذا الكوكب من دون طبقات اجتماعية، وضمن مجتمعات أشبه بالشيوعية منها إلى الرأسمالية. وأعتقد أنّ الشيوعية ستثبت أنّها الوسيلة المثلى للبشر كي يعيشوا ويوفّروا أفضل حياة يومية. لكن من أجل المضي قُدمًا في هذا الاتجاه، ينبغي هزيمة الرأسمالية بتحرّك جماعي لأشخاص غير راضين عن طريقة عيشهم. ولاستحداث مثل هذه الحركة، من المهمّ أن نملك فهمًا حقيقيًّا عن الحياة اليومية كما هي عليه الآن، وجهةُ نظرٍ فعلية لا إضفاء للمِثالية عليها، إنّما تُظهر التحمّل الفعلي للبشر وطاقتهم على العيش في الحياة اليومية. وهو ما صوّره الرسّام كاميل بيسارو في العديد من لوحاته حول الحياة اليومية في زمنه. وهذه واحدةٌ من تلك اللوحات

العدد ٣٠ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.