ترجمة فادي العبد الله
على مشارف الشتاء. تُوفي قريبٌ لأمي. واقفًا بين الرجال قرب مدخل قاعة الاستقبال الكبيرة الواقعة تحت الكنيسة حديثة البناء، وكما في الغالب، غير مكتملته، أرى المستطيل بأضلع غير متوازية تمامًا تشكّله النساء المتّشحات بالسواد متحلّقاتٍ حول التابوت الذي يضمّ جثة جاك. كنَّ كثيرات. عائلة والدتي كبيرة ومتشعّبة. كنّ قليلات الكلام، وجلسن ساكنات كما لو أنهن يتوضَّعن لفنانين، في تنويعات على الركب المضمومة والأيدي المتهدّلة على حواف القماش الذي يغطّي أذرع الكراسي. في تحفّظهنّ، كانت النسوة يتركن للزوجة أن تجمع الأسى في وجهها المنكسر، الناظر قليلاً للأعلى، مبتعدًا عن الصدر الذي ينحدر بخفر تجاه الركبتين المغطّاتين. سكون مؤقت يلفّ القاعة كما لو أنه وقف رحيم لضجة العيش. إلا أنه سكون غير كافٍ، لا يزال هنالك بلاط غير مغطى، وسقف يعكس الصدى، وجدران كئيبة ودهان أبيض يتقشر في أغرب الأماكن. ناظرًا إليهم من وسط تجمع الرجال غير المنتظم، بدت لي النسوة كما لو أن ما لا يُسمّى يكسرهن. هناك الزوجة، أو بالأحرى المترمِّلة، التي لم تصبح أرملة بعد، كان لأساها صوت، بالكاد يُسمع، لرحلة بين ضفتين، صوت العبور المحتوم نحو العزلة، أو الإبحار البطيء نحو شاطئ نهر لا زلت أقدر على تجاهله حتى ولو كان يلامس في صمت طرف عيني. في وسطهنّ، جثة رجل منتهٍ، بالكاد يُلمس. حوله جلسن، لا يعرفن ما العمل بالاسم الذي يحملن: جاك.
ربما في مثل هذه اللحظة، المتطاولة والمتذبذبة، تغدو سباباتنا خدرة، ينزلق اسمٌ عائدًا نحو راحاتنا، المتعرّقة والمحرَجة، بينما هناك، على بعد بضع أقدام، ثمة ما يرفض الدلالة. قريبًا، سنودع الاسم لدى الحكَّائين الماهرين. ربما يمكنهم أن يعيدوا إدماجه في قصص تُروى عن طفلٍ يتعلم العيش بوِركٍ أيسر مشوّه، وعرجٍ قاسٍ خلفته الحُمى المالطية فيه. عن شابٍّ شقَّ طريقه ليصير مراقب طيران في شركة طيران عبر المتوسط. ربما سيذكرون أو سيسهون عن أن شقيقه الأكبر كان طيبًا خفيف الذكاء وأن شكري، أصغرهم، كان شيكو أبله القرية. ربما سيقولون أيضًا إن والدته ترمّلت باكرًا وكدحت باسمٍ نادرٍ غير مألوف، ليزيت، منحته العائلة والجيرة رنة إيطالية فصار لازيتا. كل هذا يعرف الحكاؤون كيف يصوغونه. لكني الآن في رفقة زوجين مما لا يقبل التسمية، واسم. والهسيس الجلي للعيش هناك من أجل أن أشهد كان عائقًا تولد عن ثلاثتهم: المرأة المبحرة، الشيء الملموس، والاسم المعلّق.
الزمن
لم أكن أشعر بالفقد. ولم أكن متأكدًا مَنْ بينَ الحاضرين كان يشعر بغصة خسارة لا تعوض. جاك كان نسيبًا بعيدًا ولم ألتقِ به إلا نادرًا. على الرغم من ذلك، حتى في غياب شعور بفقدان عزيز، كانت الجثة تناديني. ربما ليس وحدي، ربما تنادي الآخرين أيضًا، والقاعة، وجدرانها العارية. كل ذلك كان عالقًا في جاذبية التابوت المفتوح. هل كان هذا هو الحِداد؟ هل كنا، واقفين أو جالسين، منهمكين في عمل الحداد، لا من خلال شعور داخلي بالأسى بل من خارجنا، بفعل الجثة التي تفتح، عبر حضورها المستمر، زمانيةً أخرى مختلفة عن تلك التي تشير بالدفن إلى قرب اختتام حياة سابقة وبدء الحداد؟ كان في مقدوري الزعم أننا في فصل الختام، بناءٌ مغلوطٌ على افتراضٍ وحيد بأن التقاليد المرعية ستفرض قريبًا إغلاق الكفن، وستحمله في مشهدٍ طقوسيٍّ نحو المقبرة، كي يعود المشاهدون إلى حيواتهم. في النهاية، تدخلت التقاليد لإنهاء ما كان قد بدا سهرًا مختصرًا حول الجثة، التي كانت، في حياة سابقة، تحمل اسم جاك.
ولكن في هاتيك الدقائق أو ربما كنّ ساعات حين كنا نبدو متلكئين، بعضنا بنفاد صبر وتعجُّل، كانت فترة أخرى قد افتتحت: سيل زمن بلا ترتيب يبرز ببطء ويقودني إلى الشك في الزمن الذي كنا فيه، مقدار يقيني بالمكان الذي كنا فيه. تقسيم العمل في مسار سهر العزاء حيث يحزن البعض ويعزّي البعض فيما يظل آخرون بلا انفعال ويرعون المراحل المختلفة الضرورية حتى اختتام الطقس، كل ذلك بدا أصعب مما يسهل الاعتراف به: المفجوعون ليسوا بالضرورة على طريق التعافي النفسي، والأقارب الذين نودوا بعيدًا عن مشاغلهم لم يعودوا متعجّلين لتقديم التعازي والمغادرة، والمساعدون يقتربون بشدة من الوقوع في ضجر الرتابة والسأم من واجباتهم المتكررة. وحدها الجثة، كما يمكن للمرء أن يستنتج، مغتبطةٌ في عملها المستوحد، خافضة الصوت إلى ما دون قدرة مسامعنا. من وجهة نظر الموت، تبدو الجثة كما لو أنها بدأت عيشها الخاص، انحدارًا بطيئًا متقطعًا نحو اللادوام. بل فوق ذلك، في تلك القاعة التي يبرز فيها غياب المنحوتات الخشبية المعتادة لمراحل آلام المسيح الأربع عشرة، كانت الجثة متروكة دون غاية، دون الترتيب المثالي لسيل الزمن. لا صورة لنخاطبها أو نلجأ إليها ولا زمن آخر يومئ إلينا.
في تلك القاعة وقفنا جميعًا أو جلسنا كمقيمين غير متنبهين في عالم ألزم بالسكينة منجذبًا إلى التابوت المفتوح. كان لناظرٍ أن يحسبنا خطأً منتظرين، لكن في حضرة الجثة أي نوع من الانتظار يظلُّ بالإمكان؟ هل يسعنا أن نزعم أننا ننتظر مؤقتًا نهاية الزمن على الأقل نهاية زمن رجل واحد ليتم الدفن ويبدأ مسار الحداد فنعود على مهلٍ إلى زمانيات حياة لا يزال فيها سعيٌ وطلب؟ أم يمكن لنا أن نكون منتظرين زمن النهاية، كما في اقتراح جورجيو أغامبن لقراءة المسيحية البولُسية، لخلاص نهائي سيأتي ربما، مبشَّرًا به في صورة جثة كجثة جاك؟1. هل زمن حضور الجثة زمن دنيوي انتقالي بين قداسة الموت وقداسة ما سيأتي لاحقًا، فيطوي نفسه طيّ الموت ويكمله؟ هل يكون انتظارًا دون وعد الفكاك منه؟ أو، من جهة أخرى، هل يكون انتظارنا، إذا ما اضطر المرء إلى استخدام مفردة في غير مكانها، دون نفاد صبر وتعجُّل ودون أمل بالنجاة؟ ذلك أننا في حضرة الجثة نبدو متمهِّلين في مكاننا، لا منتظرين، في ثبات غير بعيد عما رسمه جون مارتين (1789–1854) في صورة رجل أخير يحتجزه التفكير في مكان غير محدد تبتلعه الكارثة ولكنه عارمٌ بصخور شديدة الإيحاء برؤوس مثلَّمة ومرتبة لنوع جُحْرِيٍّ من الزواحف، صورة لعالم ثابت الوضع في لانهائية، مصممٍ على قلب داخله خارجًا كجورب مقلوب2. أظن لوحة مارتين كانت ستناسب الجدران العارية لقاعة الكنيسة، لوحة لا تقترح زمنًا غير الحاضر المتمادي تكون فيه الجثة، هنا على الأرض أمامي، تبتدئ نوعًا مختلفًا من الانتظار، أو بالأحرى التمهل، وتولِّد زمانية مختلفة عن تلك الاجتماعية والطبيعية، حيث لا ننتظر فيها أمرًا ما، بل نكون فيها متلقِّين سلبيين ولكن في همَّة ونشاط، ومتنبهين لما يسع الجثة أن تفعله: أن توسع ما بين القوسين الهشين عادة وتتثاءب كما لو أنها تنهض من سبات سحيق3. ولكن حتّامَ يمكن لذلك أن يستمر؟ وما هي هذه السلبية الناشطة التي يفرضها بهذه القوة ذلك الآخر الذي لا يُسمى، الجثة؟
بعد همهماتٍ بكلمات العزاء ونظراتٍ متقاطعة خلسةً عبر القاعة، استقررنا جميعا كما لو أن لا شيء آخر يحدث. عدا رأس المترمِّلة المنحني قليلًا يغادر ناظراها ببطء التابوت. ظننت أنّ حقل رؤيتها سينحصر قريبًا في بضع بلاطات، ورؤوسٍ مدبّبةٍ لأحذية سوداء وركب مغطاة. من بين كل الحضور، كان حزنها الأوضح: امرأة مع اسم رجل في يديها، اسم مهجور ولَها، فعليها حمله. (افترض أنّ المترمل أو المترملة هما بالضبط هذا: حمَلة اسمين مختلفين، واحد لحامله وواحد كان قبلُ مِلْكًا لما بات الآن جثة). غير أنّ وحدتها تلوح كأنّ العزاء لا يطاولها. لمواكبة أساها، كان علينا أن نتعلم كيف نتمهل ونتحاور من خلال الجثة معها4. بدا حضور الآخر الحي كأنه لا يطاول إلا من خلال مغايرة الجثة التامة، من خلال المتدخل ولكنه غير متشارَك بعد، الشيء الملموس لما بعد الموت.
حِداد لبنان والحرب
هكذا أخذتُ أفكر في حضور الجثة كنداء لإعادة التفكير في عمل الحِداد في لبنان، وسيلة لتحدي الزمانية المتطاولة، المتطاولة حتى الآن، التي تتعهّدها فئات طائفية سياسية قادرة بشكل بنيوي ومن خلال نوبات عنف وهدن هشّة على تجديد شروط الحرب الأهلية وضمان استمرار هيمنتها. من الضروري التشديد على أنّ هذا التطاول يستمر في استصحاب خطاب رغبوي بضرورة التحرر المستقبلي من براثن الطائفية، التي يتم تصويرها زيفًا على أنها من فخاخ الماضي، في حين أنها عنصر أساسي بنيويًّا في صناعة لبنان المعاصر5. في الفصل الأول من كتاب «في أصول لبنان الطائفي»، يقدّم وضّاح شرارة نقدًا مركزًا وصارمًا ضد هذا الخطاب الذي يلوح في نصوص وخطب الكثير من المفكرين الليبراليين واليساريين، فضلًا عن السياسيين الكبار، مثل بشارة الخوري، الرئيس الأول للبنان المستقل6. يعلن هذا الخطاب أن الطائفية، التي هي شر، ستنتهي من خلال مسارات تنويرية خارجية مثل الحصول على المعرفة، التربية الوطنية، التقنيات الحداثية العقلانية أو حتى الصراعات القاسية وتاليًا التحريرية بين الطبقات. الطائفية هي إذن موصوفة بأنها من بين مخلّفات الماضي التي ينبغي التخلص منها أو أنها قناع إيديولوجي ينبغي تمزيقه من خلال بزوغ وعي تاريخي حقيقي7.
في مصاحبة تكرار عنف الحرب الطائفية السياسية بخطاب رغبوي، تتلفّح حتمية التطاول الآن بوشاح الشكل التراجيدي حيث يبدو اللبنانيون محتضَرين، باحثين عن الخلاص من ماضٍ مريضٍ يسكنهم. معًا، العودة الدورية للعنف والهدنة مع هذا الخلاص المستقبلي المنشود، المؤجل أبدًا، يولدان إثيقا اليأس التي تستدعي رفضًا تامًّا وتخلّيًا عن الماضي باسم انبعاثٍ يقرّ بأن الكل قد تساوى في المعاناة8. هذا التطاول، المصنوع لا الحتمي أو التراجيدي شكلاً، يضبط الآن اللبنانيين في عنف بنيوي يجري تصويره على أنه مرحلي وأنه نار ضرورية لصوغ مستقبل لا طائفي لم يولد بعد. المثول في حضرة الجثة، أقول، يوفر شرطًا لتجريد الحاضر المتطاول للحرب الأهلية من الخطاب الرغبوي ويعرضه في وصفه زمن الانتهاك الصارخ للتمثيل السياسي والنهب الفاضح للموارد الاقتصادية من جانب زمرة حاكمة من المتنفعين الأقوياء. حضور الجثة ظرف، حاسم ربما، يضاعف الزمانية المتطاولة لهذه البنية ويفترض عجزًا عن الاستمرار في احترام العادات المفروضة، تلك التي تدفن بقايا العنف حينما تنهض النزاعات حول تسمية الجثة، وحول قيمة الموت الذي تَسمه الجثة بميسمها فوق الحد. أو بعبارة أخرى، فإن حضور الجثة علامةٌ على رفض الانفصال عما يشكّل، في بعض الحالات، الدليل الوحيد المتبقي على العنف، ورفضٌ للسماح للامبالاة أو لفقدان الذاكرة الملفق أن يسيطرا لدى تسليم الجثة إلى الدفن.
يطرح حضور الجثة معضلة على بنية الحرب اللبنانية الأهلية حيث يتعسّر الانتقال من الموت إلى الشهادة أو إلى النسيان، مع أو بدون حبائل الحِداد، لوجود شيء فائض: جثة لا يمكن تسميتها، ادعاء امتلاكها ولا دفنها، ولا يمكن تركها جيفةً. حضور الجثة تحدٍّ في وجه صناعة الحرب الأهلية حيث يتم إخفاء الجثث سريعًا تحت معاني الموت المفروضة من جانب الفصائل المتحاربة، كما من جانب مقاتلي المليشيات السابقين الذين يقدّمون اعتذارات علنية. حضورها تحدٍّ لا لأولئك الذين في السلطة والذين لا يشعرون بالخجل في وجه إصرار شيء مما بعد الحياة على الحضور، بل تحدٍّ لأولئك الذين يجدون أنفسهم، عن قصدٍ أو عن غير قصد، متمهّلين مع الجثة في ثبات يفتح على زمانية مختلفة وعلى أسئلة موازية عما إذا كان في وسع الاجتماع أن يستمر أو أن يكون ممكنًا خارج الحروب الأهلية المتطاولة9. حتى وإن لم يكن بالإمكان القول بأن مجرد حضور الجثة يخرب بنية الحاضر المتطاول، إلا أنه على أية حال قادر، إذا ما تحلّقنا حولها، على إنشاء حوار صعب عما حصل وعن سبب تأجيل المستقبل الأفضل الموعود إلى ما لا نهاية، أو دفعه إلى الانهيار نحو الحاضر الذي يتطاول دون عائق. أن نتمهّل دون نفاد صبر أو تعجل في حضور الجثة يعني ألا نخاف من ماضٍ لا يمضي، بل وأن نجد في دورية العنف فرصة للتفكير السياسي في اللامساواة البنيوية بدلاً من تمنّي الإعلان أن الماضي شر، على أمل أن يغدو الشر يومًا ما ماضيًا.
الحِداد من منظورٍ نفسيّ
قبل أن نتناول مسألة احتمال الاجتماع في حضرة الجثة، هنالك سؤال ملحّ عما يسمح، وبالتالي قد يمنع، بالتمهُّل المطلوب مع الجثة. ما هي هذه السلبية الناشطة التي تسكن أولئك الذين يبقون دون نفاد صبر مع الجثة؟ كيف يمكن أن ننظر للتمهل مع شيء مما بعد الوفاة دون أن نسقط، كما لو أنه المحتوم، في تشخيص مَرَضي؟ بحثًا عن الشروط الزمانية للبقاء في حضرة الجثة، يطرح نموذج التحليل النفسي بقوة إطارًا لمثل هذا البقاء كمرحلة مرَضية من الحِداد الفاشل، لحظة هاربة لا تعوّض من زمن بلا قيود. يمكن للتحليل النفسي أن يرى في مثل هذا البقاء مع الجثة انعكاسًا زمنيًّا، لحظة تحاشٍ وابتعادٍ عن التعافي النفسي تجاه موضوع الفقد، وبالتالي احتمال الانزلاق نحو مياه المالنخوليا المضطربة. لكن التدقيق في تنبّه التحليل النفسي إلى الاضطرابات الزمنية سيمكّننا من توضيح ما يشكّل قوة الجثة على الجذب وشروط التمهل في حضرتها. في النموذج الذي يعرضه فرويد في «الحِداد والمالنخوليا»، فإن الحداد عملية تتضافر مع الزمن بقدر ما يكون الزمن مقيَّدًا ومضبوطًا: «على الرغم من أن الحِداد يتضمن مخالفات كثيرة للتصرفات العادية في الحياة، فإننا لا ننظر إليه كحالة مَرَضية تستدعي العلاج الطبي. بل نعتمد على تخطيه بعد مدة معينة من الزمن»10. العامل الذي يثير الاضطراب هنا هو بالضبط هذه «المدة المعينة من الزمن» التي تَعِد، إن كانت مضبوطة، بعملية حِداد موثوقة ومشهودة، ولكن يمكن أن تتسبب، إن تفلَّتت، بالانزلاق نحو المَرَضيّ. في دراسته هذه، يتكلَّف فرويد عسرًا في محاولة تحديد وإقامة الزمن حليفًا لصاحب الحِداد في تخلّيه التدريجي عن موضوع الفقد. التدرُّج الواضح الذي يعرضه، بدءًا بشعور الأسى أو افتقار العالم، ومن ثم الحِداد الذي يبدأ فقط حين يعترف الحادُّ بأن الموضوع المحبوب لم يعد موجودًا، يصبح هشًّا ما إن يوضح المحلل النفسي بأن عملية الحِداد تتعارض مع إرادة المفجوع نفسه أن يتذكر أو أن يستثمر نفسيًّا بإفراط Hpyer-cathexis في هذا الموضوع وبالتالي إطالة حضور هذا الموضوع نفسيًّا11. المسار الزمني المفضّل في عملية الحداد يشتبك مع قدرة الحادِّ النفسية ويفتقر بذلك إلى الاستقرار ويغدو من الممكن عكسه. يقترح فرويد في النهاية أن أنانية الذات هي ما يحرّرها من موضوع الفقد: «… والذات، في مواجهة السؤال عن ضرورة مشاركة هذا القدر المحتوم، تقتنع بالانفصال عن الموضوع الذي فُقِد بفضل جماع عوامل الرضا النرجسية التي تنالها من كونها على قيد الحياة»12.
متحررةً يمكن للذات أن تستثمر نفسيًّا في موضوع آخر. هذا المسار المعقَّد المؤلف من مراحل متلاحقة من الأسى، فالاعتراف بالفقد، فالاهتمام مجددًا بموضوع آخر، هو ما قد يشكّل، بعبارة جوديث باتلر، علامة على الأمل «كما لو أنّ استشراف إمكانية الدخول مجددًا في الحياة يستفيد من مخالطة هدفٍ ليبيديّ»13 غير أن نظرتها الناقدة تشير إلى أن مثل هذا الأمل ليس بسهولة قادرًا على إقناعنا بأن نجاح عملية الحداد يستلزم إحلال موضوع محلّ آخر «كما لو كان الاستبدال الناجز أمرًا نتشوَّق إليه»14.
ويعرض فرويد ملاحظة شبيهة بتحفظات باتلر في رسالته عام 1929 إلى زميله لودفيغ بينسفانغر: «على الرغم من أننا نعلم أن حالة الحداد الحادّ ستستمر بعد مثل هذا الفقد، فإننا أيضًا نعلم أن لا شيء سيعزِّينا وأننا لن نجد أبدًا عِوَضًا. أيًّا يكن ما سيملأ هذا الفراغ، وإن تمامًا، فإنه سيظل مغايرًا. وهذا بالمناسبة ما ينبغي بالحال أن يكون عليه. هذا هو السبيل الوحيد لإدامة حبٍّ لا نريد عنه فراقًا»15.
نجد مثل هذه الملاحظة أيضًا في نص سابق لفرويد: «في الواقع، لا نتخلى أبدًا عن أي شيء، بل نحلُّ واحدًا محل آخر. ما يبدو تخليًا هو في الحقيقة إحلال أو تبديل»16. لكن حتى وإن كان فرويد ملتبسًا حول قدرة الذات على نزع الاستثمار في الموضوع المفقود، فإنه يبدو جازمًا بأن الاستثمار النفسي المفرط هو إطالةٌ مَرَضية لعمل الحداد، وبالتالي تشويشٌ على عملية المضي إلى الأمام التي يفضّلها لإعادة تشغيل زمانيةٍ لا بد أن تزداد زخمًا كلما يحرر الحادُّ نفسه من قيود التعلق بالموضوع المفقود. وإذا كان تنظير فرويد للحداد معنيًّا أساسًا بكيفية تخلص الذات من موضوع الفقد، فإن الطبيعة الأكيدة للاستثمار النفسي المفرط تقدم إشارة أولى على زمانية مختلفة لا تكتسب زخمًا مع الابتعاد عن الجثة. مفهوم فرويد عن الاستثمار النفسي المفرط متعالق مع عمليّتين مختلفتين، هما الاستدماج introjection، والاستبطان internalization، وتعتبران خطيرتين حتى وإن اعتُرِفَ بوجودهما عادة في عملية الحداد، ذلك بسبب قدرتهما على تفكيك زمانية الحداد التي يفضلها17.
في مقالة نشرها عام 1924، يجادل كارل إبراهام بأن المرء يحاول، من خلال عملية استدماج المحبوب المفقود، أن يحافظ على علاقة ما معه كما لو أنه يقول «محبوبي لم يمض، لأنني الآن أحمله بداخلي ولا يمكن أن أخسره أبدًا»18. غير أن إبراهام متخوّف من ذلك الذي يعتبره جزءًا من المالنخوليا التي هي شكل سحيق للحداد. هانس لوفالد أكثر تنوعًا في دراسته عن الاستبطان19 الذي يفهمه على أنه وسيلة دفاعية أولى ضد ألم الفقد، ولكنها «تغير وظيفتها وتصير هدفًا، هدف إتمام الذاتية والانعتاق»20. على الرغم من ذلك، إذا ما كان للاستبطان أن يكون مولِّدًا لحدادٍ ناجح، فعليه، وفقًا للورين سيغينس وتفسيرها للوفالد، أن يكون وسيلة لغاية تحويلية وبالضرورة خطوةً أولى نحو التخلي عن موضوع الفقد21.
من الواضح أن نموذج الحِداد في التحليل النفسي يعترف بإمكانية التمهل مع موضوع الفقد. ولكن لأنه يموضع هذا الموضوع في زمانية غير مولِّدة، فإنه حتمًا يشخص هذا التمهل على أنه معاندة وتاليًا على أنه إهدار مَرَضي للوقت. وفقًا للتحليل النفسي، فإن الزمانية المفروضة للحداد ينبغي أن تتمايز عن تمهل «تكريس النفس حصريًّا للحداد» في فترة يحتل فيها موضوع الفقد كامل المساحة الذهنية للحادِّ22. في اعتباره مثل هذا التكريس الحصري بالدرجة الأولى متوحدًا ولا اجتماعيًا، دون أن يكون أنانيًّا كما ينبغي بالذات أن تكونه عندما تعي الفقد وتتعافى، فإن النموذج الفرويدي قليل الاهتمام بحالة يكون فيها موضوع الفقد، أو الجثة، انقطاعًا ضروريًّا يسمح بعمل إعادة تشكيل اجتماعٍ تسمه الجثة بأنه متقطِّع. بعبارة أخرى، فإن النموذج الفرويدي يفترض أن موضوع الفقد يُفقِر عالم المفجوع، لكنه لا يتعامل مع حالة يمكن فيها لموضوع الفقد أن يغني عالم الآخرين.
ينتج الفقد جثةً، وبالتالي لا يمكن للحِداد أن يكون فقط عمل التعافي من خلال مسار تتعلم فيه الذات أن تفك بالدفن عرى ارتباط لأجل أن تعقد غيره. ليست الجثة بالضرورة ما نتلكأ أمامه، ومن ثم نعود إلى معيشتنا. إنه شيء نلتقي به ومن خلاله قد نبدأ عملًا باتجاه صيغة اجتماعية لا تقبل التنبؤ بها. إعادة بناء الاجتماع قد تبدأ أيضًا وتبني مكانًا لنفسها حول موضوع الفقد. بالتالي، فإن عمل الحداد في حضرة الجثة ليس متجهًا نحو تحرير الذات المفجوعة من ارتباطها بموضوع الفقد، بل إلى العمل من خلال الجثة باتجاه الآخرين وإلى إعادة بناء اجتماعٍ حيٍّ مشروط بحضور الجثة. السؤال ليس عن التخلص منها، بل عن البقاء وبناءِ مستَقَرٍّ في زمن الجثة.
الملك والجثّة
لنفكر أكثر في ذلك، متذكرين الأسطورة التي تتحدث عن ملكٍ خرج في مغامرة وفُرِض عليه أن يجتاز مقبرةً مخيفةً بحثًا عن جثة تتدلّى من شجرة، فينزلها ويحملها عائدًا بها23. بعدما عثر على الشجرة، تسلق الملك الأغصان وقطع الحبل وترك الجثة تسقط. فتأوّهت. حسب الملك أن لا يزال بها رمق، فأخذ يتحسّس الجسد المتخشّب. انطلقت ضحكة حادة من حنجرة الجثة ففهم الملك أن شبحًا يتلبّسها. سأل «ما الذي يضحك؟»24 فلمّا تلفّظ بكلماته طارت الجثة عائدة إلى موضعها متدلية من الشجرة. عاد الملك مصممًا وتسلق الشجرة وأنزل الجسد. حمله دون كلام، وضعه على كتفه وشرع بالمسير. أثناء المشي، طرح عليه الصوت القادم من الجثة لغزًا في صورة حكاية وراهنه: «إذا عرفتَ الجواب ولم تجب، ستتحطم جمجمتك ألف قطعة»25. أجاب الملك الخائف على رأسه بالإجابة التي ظنّها صحيحة، وفي لحظتها اختفت الجثة عن ظهره، في أنينٍ كاحتضارٍ زائف، وطارت عائدةً لتتدلى من الشجرة من جديد26. عاد الملك فأنزل الجسد وحمله عبر الأرض الكئيبة. طرح عليه الصوت من الجثة لغزًا جديدًا أجاب عليه الملك. اختفت الجثة وعادت من جديد لتتدلّى من الشجرة. بعد خمس وعشرين كرَّة، عجز الملك أمام اللغز الذي طرحته عليه الجثة الناطقة. حاملاً العبء الملقى عليه، عجز الملك عن العثور على إجابة واضحة. لقد بَهَتَه اللغز. سار الملك صامتًا «بخطى ملحوظة النشاط، متأملاً المعضلة في صمت». تحدّث الصوت مجددًا «سيدي، لك الجثة… خذها معك. سأغادرها»27.
هذه الحكاية، حتى وإن قرأناها في ظل حواشي هينريش زيمر المتزمّتة أخلاقيًا حول ثنائيات الحياة والموت، والمعرفة والجهل، تقدّم إشارةً غير متوقعة إلى زمانية التمهل مع الجثة. الملك، قيل لنا، بهت وتحيَّر لكنه ظل يفكر ويتأمل. صامتًا لكن فقط لأنه تراجع إلى حوارٍ داخلي. عند ذاك فقط كان مع الجثة وكانت له ليحملها. إذ تراجع إلى قلق الصمت الظاهري، دخل الملك الحي في زمانية يحكمها ذاك العبء الملقى على ظهره. كان، حرفيًّا، ينيخ تحت فائض الحضور، وزن زائد لا يُتَخَفَّفُ منه، إن كان ذلك ممكنًا أصلًا، إلا بجواب صحيح لكنه غير ملائم. يمكن القول بأن الملك كان، من دون عناء مثل تلك الإجابة، ملزمًا بزمانية الجثة لا بزمنه هو.
متجمّعين في الزمن المتطاول لشيء مما بعد الموت، كنا نحن، كما الملك الصبور، نقوم بما يزيد على مجرد انتظار أن يتذكر أحدهم فيغلق التابوت، مشيرًا إلى الحكائين ببدء عملهم أو إلى سادات الطوائف السياسية أن يستمروا في نشاطهم. بالأحرى، كان انتظارنا الصامت ملزمًا بأن يكون مجرد مظهر، ذلك أن الجثة معنا ونحن معها، بأن يكون غطاءً رقيقًا ملقًى على جمود نشط وقلق. في لفتة تجاه هذه الأسطورة، كنا نحن المتحلّقين حول حضور الجثة نغرق في صمتٍ ظاهرٍ وحوارٍ داخلي. ذلك أن الجثة تشير إلى وصول، لا إلى عبور، إلى لقاءٍ بالشيء لا إلى شيءٍ ضاع. الحوار الداخلي بداية عمل يمكن أن يجمع صوتًا ويبثّ كلامًا إلى أولئك الماكثين على الضفة الأخرى للجثة.
من الضروري القول بأن نجاح الملك نهاية الأمر في لقاء جثة يمكن له أن يبقى معها لم يحصل إلا بعد أن تعثّر بضرورة حملها والعيش تحتها. اللقاء مع جثة تكون مجرد شيء فائض بلا صوت ولا حركة لا يحدث، تقول لنا الأسطورة، إلا بعد خمس وعشرين محاولة، حين كان لتعجل الملك تجاه الألغاز، ما بدا في سرعة إجاباته، أن يختنق بتحفُّزه، فينقلب داخلاً ويبقى هناك كتلة صمّاء. فهذا هو الحوار الداخلي: اضطراب التعجل وقد سقط في الداخل وانقلب رأسًا على عقب. ما يبلغنا به هذا الملك الأسطوري هو أن اللقاء مع الجثة لا يحدث بغتة أو فجأة وليس مجرد مشهدِ مرضٍ بدائي يحصل مصادفةً. بل إن الجثة التي نلتقي بها هي جثة نشارك فيها من خلال نبذ التعجل ونفاد الصبر، ومن خلال حوار داخلي يقلب التعجل رأسًا على عقب في اتجاه زمانية الجثة لا في ابتعاد عنها.
ولادة جثّة الابن
ربما كان في مسرحية إدوارد ألبي الشهيرة «من يخاف فيرجينيا وولف؟»، التموضع الأوضح للجثة كشيء/ لقاء يتولد عن الرغبة المعذبة لشخصين في أن يبقيا معًا28. تتحدث المسرحية عن زوجين متوسطي السن متناكفين دومًا، عاجزين عن الهروب من مؤسسة زواجهما المعذب أو عن العثور على ملجأ من نوبات الكراهية وكراهية الذات المتكررة دوريًّا. إلى أن يدفع تراكم الأحداث في إحدى الليالي الحاسمة الزوج، جورج، إلى أن يقوم باقتراف قتلٍ رمزي. في فعلِ اعتداءٍ يائس وأخير، ها هو يعلن لزوجته ذاتِ الاثنين وخمسين عامًا أن رسالةً قد وصلت معلنة أن ابنهما، الأشقر المحبوب، لن يأتي إلى الاحتفال بعيد ميلاده في المنزل:
«مرتا… ابننا… مات. لقد… قُتل… في آخر النهار… على طريق فرعي، مع رخصة سواقة المبتدئين في جيبه، لقد انحرف، لتفادي شيهمٍ واصطدم… بشجرة ضخمة»29.
كان هذا التصريح مدمرًا حيث إنه أنهى أسطورة الابن الذي ما أنجباه، لكنهما تصرفا على اعتبار أنه صمام زيجتهما المترنحة. بموت الابن الأسطورة تكشَّف الرابط الأليم الذي أبقاهما في نشاط محموم أثناء سقوطهما في إدمان مستنقع المالنخوليا. إذ، ما دامت الأسطورة، كان شيئهما/ فقدهما محتجبًا عن الوعي وكان في إمكانهما إذن أن يستمرّا في تحويل الانحدار في تقدير الذات إلى كراهية متبادلة.
تنتهي المسرحية على نغمةِ إنهاكٍ حيث يستسلم كلٌّ منهما إلى الآخر وينظران في خوف إلى الغد المقبل: يوم أحد. وعلى الرغم من أن مسرحية ألبي غالبًا ما تُقْرأ من منظور التمييز الفرويدي بين الحداد الصحيِّ وبين المالنخوليا المريضة، فإن تفصيلًا مهمًّا في السيناريو يفتح احتمالية اعتبارها تبعات منتجة عن الفقد: بعد أن تسمع نبأ وفاة ابنهما، تحاول مرتا أن تتفادى نهاية الابن بأن تتحدى الزوج في أن يُظهر الرسالة التي يدعي أنه تسلمها للتو. فيجيب جورج: «لقد أكلتها»30. صارم الوجه، لا يعيد جوابه تكرار فحوى الرسالة بل يؤكد مادية الشيء الذي هو التلغراف كتحويل خطي عن أكل الابن. يستحيل جورج الزوج إلى جورج ساتورن (زحل) الذي يرتكب جرم قتل الأبناء. أكلُ الرسالة لا يقضي على موضوع الفقد الذي يقلق الزوجين المكتهلين، لكنه يولد شيئًا: جثة لابن، ولو تغوُّطًا. يوحي هذا بأن المسرحية لا تختتم على مشهد زوجين متعبين يتقدمان في العمر وحيدين، وقد باتا أخيرًا واعيين بألمٍ بفقدهما وتاليًا يبدآن مسار حدادهما. بل تنتهي المسرحية مفتتحة من جديد وضعًا يكونان فيه أبًا وأمًّا لابن مُتوفَّى. مجتمعين في الثبات القلق الذي تحول إليه تعجلهما المسموم المتبادل، ها هما يبقيان مع الجثة وينطويان في زمانية لا يتحكمان بها ولا يفهمانها بالكامل. يوم الأحد الذي يترقبان ليس يومًا بدون ابن ولا أسطورة، وليس بالتالي محررًا لهما، بل هو يوم مثقل ومهموم بشيء وصل للتو. هذا الأحد والأيام التالية ستجعلهما يتعلمان العيش من جديد: العيش في صحبة جثة، أجرؤ على القول بأنهما خلَّفاها.
مدينةٌ في جثّة
كيف يمكن للمرء أن يعيش هذا «الأحد» والأيام التالية؟ هذه مهمة يزيدها صعوبة أن ننظر إليها من خلال الرواية ثرية التعقيد والتي لا محيد لنا عنها حيث تضع جثةً في موقع البطل الرئيسي.
نشر الياس خوري عام 1981 روايته «الوجوه البيضاء» التي تتناول التحديات الأعند لجثة تتمهَّل بين الأحياء31. تفتتح الرواية باكتشاف خليل أحمد جابر، ميتًا ومشوهًا، في مكبّ زبالة قرب النصب التذكاري لحبيب أبي شهلا في بيروت. يُعد المطلع برواية تحرِّيًا، لكن الرواية سريعًا ما تتوقف عند تعدد الشهادات التي يقدمها أعضاء العائلة وشهود آخرون. سريعًا ما يتم التنازل عن استكشاف هذه الشهادات بحثًا عن القتلة ودوافعهم حين تبدأ الرواية بالتكشف عن أن خليل أحمد جابر كان رجلًا مزعجًا، منتهيًا لا فائدة منه، أبًا لابن قُتل في الحرب الأهلية وسرعان ما أعلنه رفاق المليشيا شهيدًا، انفصل خليل أحمد جابر عن عائلته ووسطه الاجتماعي ليتسكع في شوارع بيروت، لا يقوم إلا بدهان الجدران بالأبيض الكلسي.
تلمِّح الرواية بإصرار إلى أن جابر جثة متسكّعة حيث يشير كل الأشخاص إلى صدمتهم برائحته: رائحته الغريبة، رائحته التي لا تشبه شيئًا آخر، رائحة تستقرّ في الأنف، تلك الرائحة الرهيبة التي تذكّر بتلك الرائحة الأخرى، الرائحة اللافتة، الرائحة التي تتبعه كما رائحة جثة، رائحة كما رائحة الديدان لا يمكن غسلها، الرائحة التي لا يمكن غسلها تحتلّ الغرفة32. أكثر من ذلك، فإن جابرًا أبٌ تحوّل إلى جثة حبلى بابن مفقود تحمله فيها. هو جثة مع ابن، الابن الذي حلم، يا لغبطة والده وفخره، بأن يكون ملاكمًا محترفًا. أحمد الابن الذي قُتل في المعارك ودُفن على عجل ومن ثم عاد مؤقتًا على الحياة في صورة شهيد على ملصقات الجدران، استبطنه جابر الأب الذي يجيب: «أنا بطل في الملاكمة ورفع الأثقال. أنت تعرفين التلفزيون، اسألي التلفزيون عني، أنا ملك التلفزيون»33. غير أن وصفه بأنه أب تحوّل إلى جثة حبلى تمشي في الشوارع وتتكلم من بطنها لا يتطلب بالضرورة قتله. فشيء فائض، حتى وإن كان عجيبًا بين الأحياء، يظل أمرًا تافهًا بل يكاد يكون غير ملحوظ في مدينة تنتهبها الحرب الأهلية. فلمعرفة لمَ قررت المدينة - إذا ما شئنا الإشارة إلى إرادةٍ عامةٍ وغَفْلَةٍ - قتله والتخلص من الجثة المتجولة في أنحائها، علينا أن ننظر إلى ما يقترحه خليل أحمد جابر. ذلك أنه جثة تنشر على جدران المدينة دعوات بالدهان الأبيض الكلسي. البياض هو إعلان جابر وهو ما يدعونا إلى التجمع حوله:
«فبطلت. تركت كل شيء، وقررت أن أشتري شرشفًا أبيض، لكن الشراشف غالية الثمن. المدينة فارغة… كل السكان تحت الشرشف، أنا تحت الشرشف وأنت تحت الشرشف، تعالي وادخلي تحت الشرشف»34.
هذا الشرشف كبير بقدر المدينة وبياضه ستتمِّمه في النهاية محَّاية ضخمة لا تنظف الجدران فقط بل كل شيء:
«أضعها على الحائط هكذا فيختفي الحائط، لا يتهدّم، لا ضجيج ولا أصوات ولا غبار ولا ركام ولا حجارة… ونخرج، نكون ألف رجل وألف امرأة، نخرج، ألف رجل وألف امرأة يخرجون، كلّ واحد يحمل محاية كبيرة ونمحو، نمحو الحيطان والبيوت والوجوه. لا يبقى هناك شيء، كل شيء يختفي، أنتِ تختفين وأنا أختفي والمدينة تختفي والصور تختفي، كل شيء يختفي ويصبح أبيض، أبيض مثل بياض البيضة، مثل بياض العيون، مثل الأبيض… سنكون ألف رجل وألف امرأة، هل تستطيعون تخيّل عددنا، وسنمحو ونموت. كل شيء يموت، كأننا نموت، كأن كل شيء يموت، كأن كل شيء»35.
البياض الذي يدعونا إليه جابر هو مكان وزمان يموت فيهما الألوف، كما لو أنهم يتشاركون في إرادة محو كل ما تجمَّع على جدران المدينة، واستعادة نعمة البياض الذي يستوي فيه كل شيء. أن يموتوا كما لو أنه غسل النفس، والمدينة كما لو أنها حالة مهلوسة من اللاتحديد متعدّد الأشكال، حيث يختلط ما هو داخلٌ وما هو خارج36. هو اجتماع «اللاممكن» لأنه دعوة إلى الرجوع، بل إلى النكوص، إلى زمن يسبق وقوعنا في هذا العالم، عالم اللغة التمييزية. الممحاة الهائلة الماحية لكل شيء تَعِدُ ببياضٍ مُشْبِعٍ لشاشة بلا تمثيلات عليها، لخلفيةٍ خاليةٍ تشكّل، بالنسبة للمحلّل النفسي برترام د. لوين، «سطحًا يبدو الحلم معروضًا عليه. إنها الخلفية الخالية، الحاضرة في الحلم حتى ولو لم تكن بالضرورة ظاهرة للعيان…»37. بياض شاشة، لا يتحكم فيها شخص بالغ، ذاك هو وعد المحَّاية: تحقيق الرغبة بالنوم دون أي شيء عدا حسيَّةٍ بالغة الأمومة ومتعددة الأشكال38. إذا ما اعتبر لوين وغيره البياض في الأساس، وإن ليس على سبيل الحصر، بياض الثدي الأمومي، فإن خليل أحمد جابر مهرطق:
«أمي، الحاجة صبحية، كانت امرأة جميلة، حلوة وبيضاء، وكان أبي يضربها وأنا أركض بين ساقيها البيضاوين، أختبئ تحت تنورتها وأرى الساقين الطويلتين، وهي ملتصقة بالحائط، وأبي كان يضربها ويشتمها، وهي تبكي وتمد يدها إلى تحت، إلى حيث أنا، لم تكن تتحرك من مكانها لأنها تخاف أن تدعسني، وهو يضربها ولا يتوقف»39.
مغلفٌ بالبياض، والعنف على مبعدة، في أبوّةٍ لم يعد خليل أحمد جابر يتماهى معها، هو الذي هو الآن مصحوبٌ بابن. أكثر من ذلك، الموقع الأبيض بين ساقي الأم ينطق به الأب الذي تحوّل إلى جثة من دون العنف المعهود للأم المَخْصِيَّة التي لا يُتَعرّفُ عليها ومن دون القلق المقيم للفتشيّة. ما يتذكره خليل أحمد جابر من ساقي أمه البيضاوين شأنٌ ما قبل أوديبي: حينذاك، لا ينتظر العنف اللقاء مع ما يبدو إخصاءً، إنه بعيد في الخارج، في صورة الأب الخاصي الذي هو منه محميٌّ بالخفاء. هنالك حيث البياض، سنجد أمانًا ما قبل اجتماعي، وحسيّةً لا يمكن تسميتها. الجثة التي تمشي في شوارع بيروت تقاوم بالضرورة الدفن. هي أيضًا ترفض أن تحدَّ، ببساطة، على فقد المدينة. بدل ذلك، تدعونا الجثة إلى أن نستبطن ما فقدناه، كما فعلت بالابن الشهيد، وأن نعود إلى حيث لم يكن من إمكان للفقد، حيث تُمحى الفواصل بين الشيء المفقود وبين فاقده. تلك هي دعوة الجثة، والسبب الذي جعل المدينة عاجزةً عن تحمّل حضورها. فإذا ما بدأت رواية خوري بالجثة المشوّهة لخليل أحمد جابر، فذلك لتشخيص حالة مدينة فائضة بالجثث والأهالي المفجوعين بكيف يمكن العيش معهم.
يأتي الأحد
في الشهادات القليلة للمقاتلين السابقين في الحرب الأهلية، تفيض الجثث، كما يجدر بالمرء أن يتوقع، ولكن فقط كأدوات لتبريرات انتصارية وثأرية، أو كمادة عامة تتيح فرصة الاعتذارات المتنوعة والتأملات في جنون الحرب. وحدهما جثتان، لم يتعرف عليهما ذووهما، تفلتان من هذا المصير. بإلقاء العار على أولئك الذين كان يُفترض بهما أن يتعرّفا عليهما تقاوم هاتان الجثتان الدفن. تتمهلان كأشياء فائضة تذكرنا بأن الوقت قد أزف، لقد أتى يوم الأحد، كي نستملك الجثة ونبدأ عملنا في حضرتها: …«وعند وصوله إلى بسرين صادف جثةً ملقاةً على الطريق، فقلبها ليرى ما إذا كان فيها نبض حياةٍ فلم يجد فتركها وأكمل طريقه. في دير القمر سأل «الحنون» عن ابنه فقوبل سؤاله بالوجوم والأسى. لقد استشهد ابنه شمعون في بسرين، أما جثته فكانت تلك التي صادفها الوالد ولم يتعرف إليها…»40.
«تصوَّر حمقي يا صغيري إيلي. لقد وقعت صورة جسدك المشوه بين يدي ولم أتعرفك فيه»41.
أتت الترجمة العربية الأولى لنص وليد صادق المنشور بالإنكليزية في ٢٠٠٧، كجزء من معرض"عمر من الريح - عن اجتماعيات المرض والموت" والذي امتد من كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٠ وحتى نهاية شباط/ فبراير ٢٠٢١ بـ"مركز الصورة المعاصرة" في القاهرة. تم عرض النص من خلال تجهيز يضم كتيّبات تترصّص على طاولة ملاصقة للحائط والذي نستطيع أن نرى عليه نسخة مرسومة بالقلم الرصاص للوحة جون مارتين: الرجل الأخير. تصعب رؤية الرسمة بتفاصيلها من على الحائط ممّا يحيل إلى النص الذي يضم وصف اللوحة على أول صفحات الكتيب.
اقترح الكاتب المصري هيثم الورداني قراءة النص جماعيًّا كجزء من مجموعة القراءة التي أقمناها في "مركز الصورة المعاصرة" حول المرض والموت خلال صيف 2020 والذي اتسم بالكثير من الحديث حول سياسات توزيع المرض والموت عالميًّا ومحليًّا. كما وجدنا النص ذا صلة بالوضع الحالي في مصر ولبنان من خلال ما يتيحه من فرصة لتثبيت وضع هشّ سواءً بما يفرضه المرض أو لحظات ما بعد الفقد. كما رأيناه مدخلاً مناسبًا للنظر إلى الموتى الذين خلّفهم الانفجار الأخير في لبنان وإعادةَ فتح لتاريخ عنيف، وفي ذات الوقت اقتراحًا لإعادة النظر في شأن موتانا من الأمراض المستوطنة أو من الوباء أو غيره من المسبّبات غير العادلة حولنا.
- 1. جورجيو أغامبن، الزمن الباقي: تعليق على الرسالة إلى أهل روما. مطبوعات ستانفورد، كاليفورنيا 2005 ص 63.
- 2. جون مارتين، الرجل الأخير، بالألوان المائية على ورق، حوالي 1832، غاليري لاين، نيوكاسل ابون تاين.
- 3. في الافتتاحية، يكتب الأنَّاس غسان الحاج «لكن، كما تظهر بوضوح المقالات العديدة في هذا الكتاب، هنالك حالات تنبثق فيها القدرة على الفعل من الانتظار. ليس مفاجئًا إذن أن يكون سؤال القدرة في ارتباطها بالانتظار مرتعًا للالتباس. (فنسنت) كرابانزانو يسمي بلطافةٍ الانتظار «نشاطًا سلبيًّا»، مشددًا على أنه أمر نقوم به، وإن كان في مقدورنا أن نراه بسهولة «سلبية ناشطة» في نظرة مختلفة قليلًا ولكن ذات معنى، إلى ما هو الشكل عينه من الوجود في العالم». غسان الحاج، محررًا، الانتظار، مطبوعات جامعة ملبورن 2009، ص 2.
- 4. في إحدى الشهادات النادرة للمقاتلين السابقين في الحرب اللبنانية الأهلية، يكتب جوزيف سعادة أساسًا عن نفسه ورغبته بالانتقام، ولا يقول إلا القليل عن زوجته عدا وصف قصير معبّر عن أساها على مقتل ابنهما الثاني بأنها ظلت لثلاثة أيام في مقعدها دون أن تتحرك. في جوزيف سعادة، أنا الضحية والجلاد أنا، دار الجديد، بيروت، 2005.
- 5. يكتب المؤرخ أسامة مقدسي أن الطائفية هي أولاً ممارسة تطوّرت وينبغي فهمها في إطار إصلاحات القرن التاسع عشر العثماني، وهي ثانيًا خطاب مدون في وصفه الآخر المغاير للسرديات العثمانية والأوروبية واللبنانية عن الحداثة. أسامة مقدسي، في ثقافة الطائفية، الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني، دار الآداب، 2005.
- 6. وضاح شرارة، في أصول لبنان الطائفي، دار الطليعة، بيروت، 1975، ص 5–28.
- 7. على الرغم من أن ذلك يتجاوز موضوع هذه المقالة، فإن من المفيد الإشارة إلى أن الطائفية لم تكن دومًا تُعتبر مرضًا في فترة الحرب الأهلية من 1975 إلى 1991، حيث تم تبريرها بزعم غنى التعدد في الثقافات والإثنيات كما تم التطبيع معها وإعادة أفهمتها من خلال طرح الفيدرالية. خير دليل على ذلك تصريحات سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية في الثمانينيات. للمزيد، أنظر نولا إميل شرفان، فكرة لبنان في خطب نبيه بري وسمير جعجع خلال الحرب من 1975 إلى 1991: تماثل واختلاف. أطروحة ماجستير، قسم العلوم السياسية، الجامعة الأميركية ببيروت، 2004.
- 8. صدى لشطر من نقد روبرت ميستر المؤثّر والضخم لفكرة العدالة الانتقالية المسيطرة في خطاب حقوق الإنسان السائد. انظر كتابه، بعد الشر: سياسة لحقوق الإنسان، مطبوعات جامعة كولومبيا، نيويورك، 2011. في مطلع التسعينيات، نادى عديد من المثقفين اللبنانيين بإثيقا مبنيّة على الاشتراك في المعاناة مدخلاً إلى إعادة هيكلة الاجتماع في ما بعد الحرب. كان وضاح شرارة الأكثر انتقادًا لذلك. أنظر الموت لعدوّكم، دار الجديد، بيروت 1991، وكذلك نصه الاستعاري الغريب «أرخبيل الغولاغ أو كيف نتدبر ماضينا»، في تذييله لكتاب سولجنتسين، على أي وجه ندبر روسيا، نقله إلى العربية عن الروسية والفرنسية علي ماجد ووضاح شرارة، دار الجديد، بيروت 1991، ص 93 - 133.
- 9. بارزًا بين المقاتلين السابقين الذين قدّموا اعتذارات علنية واضحة كان أسعد الشفتري، عضو القوات اللبنانية السابق، والذي استمر لسنوات في متابعة فعله الرمزي الأول، أي اعتذاره المنشور في صحيفة الحياة في 14 شباط/ فبراير 2002. إلا أن شخصيته العامة والنصوص القليلة المنشورة حوّلته إلى ممثل لخطاب تصالحي يسعى إلى «إنسان لبناني جديد». ممارسات الشفتري مربكة على الرغم من شجاعة فعله الأول لأنها تظلّ تعيده إلى دائرة الضوء، وتاليًا تؤجل إلى ما لا نهاية محاسبته على أفعاله خلال الحرب الأهلية. والأهم فإن الجثة أو الجثث التي قدّم إليها الاعتذار لا تزال مدفوعة إلى العتمة بفعل أدائية الاعتذار ومفاعيلها. انظر مقالته «من أجل إنسان لبناني جديد» في: بالروح، بالدم… دراسة إحصائية في أحوال عيّنة من مقاتلي «الحرب»، دار أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت 2010 ، ص ix–xiii.
- 10. سيغموند فرويد، الحداد والمالنخوليا (1917)، ص 243- 244 ، من المجلد 14 من مجموع أعماله المنشور بالإنكليزية عام 1975 عن دار هوغارث، لندن.
- 11. المصدر عينه، ص 246.
- 12. المصدر عينه، ص. 255.
- 13. جوديث باتلر، حياة هشة: قوة الحداد والعنف، عن دار فيرسو، نيويورك 2004، ص. 20 21.
- 14. المصدر عينه، ص. 21.
- 15. سيغموند فرويد، رسالة إلى بيسفانغر، ص.386، من مجموع رسائله المنشورة بالإنكليزية عن دار هوغارث، لندن، عام 1961.
- 16. سيغموند فرويد، الكتابة الإبداعية وحلم اليقظة، ص. 133، من المجلد 14 من مجموع فن وأدب الصادر عن دار بينغوين، هارموندسورث، 1990.
- 17. لمراجعة شاملة لهذه المفاهيم وغيرها، انظر لورين سيغينس، الحداد: استقصاء نقدي للمكتوب، في المجلة الدولية للتحليل النفسي، المجلد 47، رقم 14، ص. 14 15. انظر أيضًا جون بولبي، عمليات الحداد، المجلة الدولية للتحليل النفسي، المجلد XLII سنة 1961، ص. 317 340.
- 18. كارل إبراهام، دراسة قصيرة عن تطور الليبيدو، على ضوء الاختلالات العقلية، 1924، في أوراق مختارة عن التحليل النفسي، دار هوغارث، لندن، 1949، ص. 435.
- 19. هانس لوفالد، «الاستبطان، الانفصال، الحداد والأنا العليا»، فصلية التحليل النفسي، المجلد 31، سنة 1962، ص, 483 504.
- 20. سيغنس، المصدر السابق، ص. 17.
- 21. المصدر عينه، ص. 21.
- 22. «الحداد والمالنخوليا»، المصدر السابق، ص. 244.
- 23. هينريش زيمر، الملك والجثة: حكايات انتصار الروح على الشر، الطبعة الثانية، تحرير جوزف كامبل، مطبوعات جامعة برينستون، نيوجيرسي، 1956، ص. 202- 235.
- 24. المصدر عينه ص. 206.
- 25. المصدر عينه ص. 206.
- 26. المصدر عينه ص. 212.
- 27. المصدر عينه ص. 213.
- 28. إدوارد ألبي، من يخاف فيرجينيا وولف؟
- 29. المصدر عينه، طبعة فينتاج، لندن 2001، ص. 135.
- 30. المصدر عينه ص. 136.
- 31. إلياس خوري، الوجوه البيضاء، 1981، مؤسسة الأبحاث العربية بيروت، الطبعة الثانية 1986.
- 32. على التوالي ص 123 و162 و188 و189 و198 و236 من المصدر عينه.
- 33. المصدر عينه ص. 102، وفي ص. 103 إشارة أخرى إلى الأب الذي تحوّل إلى ملاكمٍ ابن.
- 34. المصدر عينه، ص. 102- 103.
- 35. المصدر عينه، ص. 115- 116.
- 36. أوتو ايساكوير، مساهمة في علم النفس المرضي حول الظواهر المرتبطة بالنوم، المجلة الدولية للتحليل النفسي، مجلد 19- 1938 ، ص. 331ـ 345.
- 37. برترام د. لوين، النوم والفم وشاشة الحلم، فصلية التحليل النفسي، مجلد 15، رقم 4، 1949، ص. 420.
- 38. المصدر عينه ص. 433.
- 39. إلياس خوري، المصدر السابق ص. 89.
- 40. بول عنداري، الجبل حقيقة لا ترحم، الطبعة السادسة، 2008، ناشر لم يُسمَّ، ص. 144.
- 41. جوزيف سعادة، المصدر السابق، ص. 96.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.