العالقون بين رصاصةٍ وقذيفة، بين غارةٍ عمياء ومدفع، بين موتٍ يترصّدهم في طرقات البلاد التي ما عادت لهم والعدو بحثًا عن نجاةٍ في يومٍ آخر، يعيشون داخل الحرب | السور التي حجبت حيواتهم، وباتت الآن أضيق من ثقب إبرة، معتمة وقاسية. لا يعرفون كيف ستمضي حياتهم على مقاصل الموت والمجاعة، هل سيتمكّنون من النجاة، أم يسقطون في ماراثون الموت الطويل، كالأبرياء الذين اختفوا من سطح الحياة؛ لكن وأنا ألوّح لكم الآن من داخل الحرب| السور، من بُعد سنين ضوئية من الحياة التي كانت لنا، سأكتب لكم عن ما فعلته الحربُ بنا، وكيف هي الحياة الآن داخل الحرب| السور، التي تقتل اليمنيّين وتنهك أرواحهم ولا تبقي في دمارها إلا فيضًا من الوجع. سأزيح الأصوات في رأسي قليلاً، الأصوات التي تخيفني، وتطحن رأسي منذ سنوات وتمنعني من النوم. سأجلس الآن على كرسيّي الجلديّ الأسود الذي أهدتْه إلي صديقتي في بداية الحرب، قبل أن يأخذها شتاتُ الحرب إلى بلدٍ آخر، كما طوت أصدقاء في مدن الشتات والمنافي التي ضاقت بأحلامهم. سأدور دورتين بكرسيّي في مكتبي الصغير الذي يطلّ على نهار شارعٍ هائل، لألتقط أنفاسي وأفتح جدران الحيوات هنا، على العالقين واللامرئيين، والبلاد الحزينة.
تصعد الآن من نهار المدينة الشاحب «زواملُ» الحرب1، حامضة، مؤذية، كحرائق الجبهات البعيدة، إذ يتغنّى شبابٌ مراهقون، لم تعد لهم حياةٌ خارج الحرب، بالقتل الذي سيحصد شبابًا آخرين، مثلهم، في جبهات لم تكتفِ من الدماء. هناك حيث تضيق قوافل الجثث بقبورها، فيما تنام جثثٌ أخرى في العراء، مرميّة في قمم الجبال ووهاد الأودية، هناك حيث تمتدّ حقولُ الموت بلا نهاية، موحشة وبلا معنى، لكن في فصول الدمِ التي روت هذه الأرض لا شيء أسهل من الموت الذي لا يعرف كيف يهرب اليمنيّون منه، إذ يأتي في دويّ الغارات التي تقوّض منازلَ بنسائها وأطفالها، وبقذائف تترصد رؤوس الأطفال في زقاقٍ ما، بلغمٍ ينفجر بجسد راعيةٍ كانت تلاحق أغنامها، في وجوه ملثّمين غاضبين يزدهرون في أزقة المدن كالفطر، يقتحمون البيوت الآمنة، يقتلون أصحابها، ويصادرون منازلهم، في صناديق الجثامين التي تسافر في ليل القرى، لتزف موتًا لآباء لا يعرفون أنّ أبناءهم وأطفالهم قُتلوا، في انحناءات الجرحى وهم يدارون خجلهم، بهمهمات مبتوري الأعضاء والمشوّهين الذين يفترشون نهاراتهم بلا غد، فيما يبقى بكاءُ الأمهات والزوجات والأرامل يدوّي في بيوتٍ موصدةٍ على أحزانها.
في داخل الحرب | السور، يعلو صوت الجوع الذي يقرص بطون الملايين، كنواحٍ حزينٍ يتردّد صداه في نوافذ البيوت المطمورة بجوعها، في سقوف سقطت على ساكنيها الذين باتوا في العراء، في تثاؤب الأمهات المهمومات من بكاء أطفالهنّ حول مواقد بلا نار، في حزن وجوه الآلاف من العمّال الذين يفترشون «الجولات»2 بحثًا عن عمل، وهم يرتقون أيامهم بالصبر، في وجوه النساء المتعبات وهنّ يقفن في طوابير أمام أبواب منظمات الإغاثة، ولا يجدن في الوجوم العالي لموظفين أمميين متأنقين إلا التنهدات، في سحنة أطفالٍ نسوا مدارسهم وهناءة أحلامهم بعد أن أحنى حِملُ الحجارة أكتافَهم، في أيادِ رجالٍ ضامرين، دمّرت الحرب منازلهم في جبهات الساحل الغربي، وهم يجرجرون الآن كرامتهم في شوارع «حدة»، بحيث بدت تلك الأيادي الممدودة كعيونٍ هلِعة، في أسر تنام في العراء في شوارع المدينة، إلى جوار المئات من المشرّدين، في الإغفاءة الأخيرة لأكاديميين محترمين ماتوا في منازلهم دون أن يجدوا ثمن العلاج، في دكاكين بلا نوافذ باتت الآن مأوًى للآلاف المعوزين في شوارع المدن وأزقّتها، في أسر تعيش الآن في المقابر مع الأموات، في مخيمات لا يحدّها أفقٌ تنتشر في مداخل المدن وأريافها، تظلّلها أحزان ملايين الأسر التي هربت من خطوط النار، إذ مشت لأيام حتى تقرّحت أقدامها هربًا من الموت، لكنها لم تعرف أن الموت جوعًا ينتظرها، فهناك في مخيمات النزوح ستودّع أمهاتٌ شاباتٌ أطفالهنّ الرضّع الهزيلين الناحلين، بعد أن انطفأت أعينهم على حلمٍ بعيد.
في دمارها الأعمى، أخذت الحرب كلّ شيء، الحياة التي كانت لنا، والبلاد التي ما عادت لنا، إذ يتضاءل الوطن–المتاريس–الوطن–الكانتونات–الوطن–الثكنة في عيون أبنائه، حيث تنهض نقاط التفتيش المنتشرة في طرقات المدن كجدران السجون، ومن خلفها، ترفرف أعلام الجماعات والمليشيات والفصائل، وأعلام بلاد أخرى، ويغيب علمُ البلاد الموحّد. وفي تلك النقاط، سيختفي شبابٌ في أقبيةٍ لا تطلّ عليها الشمس، بحيث تغدو الحياة الآن في داخل الحرب| السور كموتٍ ممتد، لكن في الثقب الصغير الذي سيحفره اليمنيون في أسوار الحرب وجدرانها بإزميل صبرهم وأملهم، سيرون يومًا ما ضوءَ الشمس وهو يجلو ظلام حياتهم، سيفكّرون بذلك الضوء الآتي كحلمٍ طال انتظاره، وسيحلمون بالحياة التي ستأتي، حينها سيرمّمون أحزانهم، وسيزرعون وردًا في قبور موتاهم، وسيعانقون الشمس التي لا بدّ أن تشرق على هذه الأرض الحزينة.
صنعاء
28 كانون الثاني/ يناير 2021
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.