جيلبير النقّاش، الذي وافته المنيّة في يوم 26 كانون الأوّل/ ديسمبر 2020 عن عمر ناهز 81 عامًا، كان بمثابة حلقة الوصل بين القضايا والرهانات المتعددة التي ميّزت تونس منذ أوائل الستينيات. وهو ربما الأخير في سُلالة معيّنة من المثقفين العموميين من يهود الأراضي العربية الذين رفضوا حقّ المولِد الإسرائيلي الغارق في العنصرية والاستعمار ومُصادرة الأرض، منادين بحقّهم في الانتماء الكامل إلى أراضي مولدهم. كما تكتسب مواقفه وقعًا خاصًّا في ظل اجتياح موجة التطبيع مع إسرائيل العالم العربي. ومع تحوّل السياسة العربية والمجتمع إلى اليمين، يتعيّن علينا التفكير في حياةٍ قضاها النقّاش مع اليسار في معارضة الدكتاتورية والطائفية المحلّية. وبينما نتأمل مليًّا الذكرى العاشرة للثورة التونسية وموجة التمرّد التي أحدثتها في جميع أنحاء المنطقة، يبدو من واجبنا أن نتذكّر أحدَ الذين مهّدوا الطريق إلى ذلك. كما أن علينا استدعاء النقّاش الكاتب الذي لا يمكن أن يستهان بدوره.
استكمال الاستقلال بالاشتراكية
كان النقّاش رمزًا من رموز حركة «آفاق» («برسبكتيف»)، بل في اليسار التونسي وفي حركة المقاومة ككُل. كان شيوعيًّا وسجينًا سياسيًّا من عام 1968 إلى 1979. عام 1974 كتب كتابَه الأيقونة «كريستال» أثناء وجوده في السجن على الأغلفة الورقية لعلب سجائر تحمل الاسم نفسه، وذلك بقلم رصاص شُحذَ بواسطة غطاء علبة سردين. كما خطّ أيضًا الرواية والتعليقات السياسية والشعر والأسطورة، وكذلك كتب الخيال العلمي. ومن خلال مساره الطويل وكتاباته، يُتيح النقّاش رؤيةً طويلة المدى لمعنى أن يكون الإنسان مناضلاً، وناجيًا من القمع والتعذيب، وكاتبًا تحت ظلّ الحكم الاستبدادي. والواقع أنّ جيله من سجناء الرأي قد وضعوا معاييرَ جديدةً للمقاومة وأدخلوا تقاليدَ مبتكرةً على السلوك النضالي داخل السجون، من ضمنها الأنشطة الثقافية ووسائل نضالٍ أخرى، مثل الإضراب عن الطعام. ففي كتاباته، يتصوّر النقّاش، استباقيًّا، حالة انتقالية بواسطة التفكير في قضايا تخصّ الذاكرة والمصالحة والعفو.
من بين كتاباته الأخرى باللغة الفرنسية: «ماذا فعلت بشبابك؟ مسار معارض لنظام بورقيبة» (1954–1979) تليه «سردية سجن» (تونس وباريس: دار كلمات عابرة، 2009)، الذي يحتوي على وصف مفصّل للحياة في السجن، بما في ذلك تأملات حول الكتابة والتعذيب والرياضة ودينامية المجموعة، وكتاب «السماء فوق السطح: قصص وحكايات وأشعار» (باريس: منشورات سرف، 2005) الذي يجمع كتاباته الإبداعية في السجن، باستثناء «كريستال»، الذي نُشر سابقًا، و«السجن والحرية: مسار معارض من اليسار في تونس المستقلة» (دار كلمات عابرة، 2014). كما كتب عن الثورة منذ عودته إلى تونس في 2011 ، لا سيّما في «كان الفهم يبدو لي دائمًا أساسيًّا: حوارات مع محمد الشرقي» (2015). وعام 2019، تمّت ترجمة كتابه «كريستال» إلى العربية.
لِفهم فكر النقّاش لا بُدّ من العودة إلى النقد الأساسي الذي وجّهته مجموعتُه ضد الدولة التونسية المستقلّة، إذ طالبوا بحقّهم في المواطنة الكاملة، معتبرين أنّ مشروع الدولة وقتئذٍ لم يكن مكتملاً بأيّ شكل من الأشكال. حينها تمحور دورهم حول متابعة الضغط على الدولة من أجل استكمال الاستقلال وإقامة حكم اشتراكي ديموقراطي. ومن هنا أسّست مجموعةٌ من الطلاب، بمن فيهم النقّاش، حركةَ «آفاق» «برسبكتيف»، والمعروفة باسم مجلّتها «آفاق تونسية من أجل حياة أفضل»، التي صدرت من آب/ أغسطس 1963 إلى تشرين الأوّل/ أكتوبر 1971 ونشرت 63 عددًا. بدأت الحركة كمشروع للدراسة والتفكير الشبابي في أوائل الستينيات، وقد عُرِفَتْ باسم Groupe d'Etudes et d'Action Socialistes Tunisien «مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس»، واستمرّت بشكل أو بآخر خلال السبعينيات. في دراسته عن الحركة، يقول المؤرخ عبد الجليل التميمي: «كانت مجموعة برسبكتيف هي صوت النخبة التونسية التي وضعت مخططًا شاملاً لإدخال البلاد في رهانات الحداثة الحقيقية، إلا أنها عجزت عن إيصال رسالتها السياسية والفكرية بحكم منطق الإقصاء والقضاء على كل رموزها وقيادتها». وهذا، حسب قوله، قد حرَم البلد ككلّ من مواهبهم ومن فرصة تأسيس سياسة ذات رؤية قائمة على التعددية.
والواقع أنّ مُنظّري حركة «آفاق» يبدون كمثقفين ومناضلين وإنسانيين في آنٍ واحد وذلك من خلال التمثيل الذاتي وكذلك في الوعي العام. فقد حدّدوا معنى أن يكون الإنسان سجينًا سياسيًّا، خصوصًا من أصبحوا مرتبطين بالسجون سيئة السمعة، كمثل سجني «برج الرومي» والموروث الذي أحاط به من أغانٍ وشعر ووعي جماعي. كذلك أصبح أعضاء المجموعة رموزًا للمقاومة والشجاعة، خاصةً لدى اليسار السياسي والحركة الطلابية في سبعينيات القرن المنصرم، وثمانينينياته، وكان من بينهم أسماء لامعة منهم: جيلبير النقّاش ونوري بوزيد وحمة الهمامي ومحمد بن جنات ونور الدين بن خذر وفتحي بلحاج يحيى ومحمد الشرفي وأحمد بن عثمان ومحمد صالح فليس والهاشمي بن فرج وعشرات غيرهم. ونساء شهيرات، كان من بينهنّ: زينب بن سعيد الشارني وأمال بن عبا وأخريات. ومن رحم المجموعة ستخرج الحركات اليسارية الأكثر نفوذًا على الساحة التونسية، مثل: «العامل التونسي» و«الشعلة» و«حزب العمّال الشيوعي التونسي» و«حركة الوطنيين الديموقراطيين». بطريقة أو بأخرى، وباستثناء «الحزب الشيوعي»، أنجبت حركةُ «برسبكتيف» اليسارَ التونسي برُمّته كما نعرفه بصورته الحالية.
الذاكرة والخيال في الكتابة
تجمع كتابات النقّاش بمجملها بين الشهادة والتحليل والتعليق على تجربته، بما في ذلك التفكّر في الكتابة عمومًا وفي وظيفتها. فبدوره وعبر كتابته، أقام النقّاش علاقة تَطابقٍ وظيفيّة بين الذاكرة والخيال. كلاهما بالنسبة إليه مُجرّد طرائق لتجاوز جدران السجن. وعليه وفي موضوع كتاباته، يوضح النقّاش ما يلي: «في البَدء، كانت لديّ تطلعات تعليمية في الكتابة: كان هذا الكتاب في نهاية المطاف إحدى طرائق ممارسة السياسة، وتقديم تفكيري للآخرين بشكل مختلف هذه المرة، وعلى مستوى فردي أكثر». وعليه، فإنّ نشأة الكتاب، وكذلك الكتابة عملاً، هما نتاج مباشر لتجربة السجن، ترشده ثيمات العلاج والعفو والشهادة.
وفعلاً ثمّة نوع خاص من العفو في تأمّلات النقّاش، عفو ذو نزعة تحرريّة، بمعزل عن عمليات العدالة الانتقالية، أو العدالة العامة. رفض النقّاش بشدة طلب العفو من «أبو الأمة»، الرئيس الحبيب بورقيبة، كما أنّه رفض التعويض في سياق ترتيبات العدالة الانتقالية بعد الثورة. نظر إلى الرواية التي خطّها في السجن على أنها «عمل تأمّلي يقوم على التفاهم والتعاطف مع الآخرين، رغم كل شيء، من أجل اعادة تكوين الذات» (ماذا فعلت بشبابك؟، 275). فبمجرد الانتهاء من إعادة التكوين تلك، «لم يعُد المرء كما هو، يكاد يكون مستعدًّا لمغادرة [السجن] والانخراط مع الآخرين بدون كراهية، بدون ضغائن وحتى بدون لوم. ويصبح المرء أيضًا جاهزًا للكتابة بشكل مختلف» (ماذا فعلت بشبابك؟ 275).
ومع ذلك، فإنّ ما كتبه النقّاش كان مفاجئًا ولا يتطابق مع ما كان متوقعًا من أناسٍ في ظروف مماثلة. كتب روايةً تدور أحداثُها في الطبقة الوسطى في تونس مستقرّة. إنه يدرك حداثة المهمة، حيث يكتب السجناء عادةً تحليلات أو مقالات رأي ومذكرات ورسائل. وفعلاً كتب هو وزملاؤه منشورات سياسية عندما سُمح لهم بالقلم والورق. كما أنهم قرأوا بنَهم وناقشوا قراءاتهم التي انطوت على العمل السياسي والنظري وأيضًا الأدب (ماذا فعلت بشبابك؟ ٢٧٢).
يتحدث النقّاش عن لحظة الكتابة كشكل من أشكال العلاج (274). وفي ذلك، يبقى النقّاش فريدًا. إنه لا يأخذ تجربةَ السجن ويتعامل معها من خلال الكتابة فحسب، بل يتخيّل أيضًا عالمَ ما بعد السجن ويتأقلم معه عبر الوسيلة نفسها، أي الكتابة. وبالفعل، فإنّ العالم الذي تخيّله في البداية كوسيلة للهرب من السجن والتعويض عن فقدان الحرية ينتهي به إلى أن يكون بمثابة مخطّط مسبق.
على الرغم من كل ذلك، فإنّ العمل الأدبي يَفي بوظيفته الأصلية: «عمل تأمّل، وفهم، كما أنّه يشي بتعاطف مع الآخرين وإعادة تكوين الذات بصرف النظر عن الظروف» (275) أي إعادة تكوين الذات التي تعرّضت للاعتداء والظلم والهجوم والمعرّضة دومًا لخطر الانكسار. ويوضح الكاتب: «كل الوقت الذي أمضيته في الكتابة كان بالنسبة لي ابتهاجًا خالصًا» (15). وهذا ما تعنيه عبارتُه «لم أدخل السجن لكوني كنتُ كاتبًا بل صرت كاتبًا بسبب دخولي السجن». يبدو الأمر كما لو أنّه كان هناك نوعان من الذات: «هذه الذات المهووسة بالكتابة، وهي قريبة جدًّا ومختلفة تمامًا عن الذات العادية» (280).
يثير النقّاش مخاطر الانتظار مدركًا أثر هذا الأخير الكبير في «إضعاف» الذاكرة وفقدان الشاهد، متيقّنًا بضرورة أن يبلي بلاءً حسنًا في ما يتعلّق بمصداقية التذكّر، يذكر النقاش كيف أنّه ارتأى استشارة زملائه السابقين في السجن في ضوء ندرة السرديات المكتوبة. ويعترف بأنه من خلال كتابته كان يأمل في حضّ الآخرين على فعل الشيء نفسه، ليس فقط من أجل التحدّث والتعبير بل أيضًا للرد على سوء وصف تلك الفترة وذلك الصراع (205). «ليس لديّ الطموح لتغيير العالم بالكتابة. ومع ذلك، فإن الإدلاء بشهادتي أضحى حاجة حيوية. الكتابة هي الوسيلة لتلك الشهادة، أو على أي حال، الوسيلة الوحيدة التي أعرف» (كريستال، 340).
«تونسيٌّ مَرّةً واحدةً
تونسيٌّ دُفعةً واحدةً.. أو لا أكونْ»
(الصغير أولاد أحمد)
اليهودي الشيوعي الثوري
يعطي النقّاش مساحة كافية لمناقشة رهانات وديناميات ما يسمّيه «اليهودي الثوري»، متّخذًا من القائد اليساري نور الدين بن خذر كمعادل من حيث العلاقة بالجذور والاختيارات في الحياة. يمكن وصف أفق الوجود لدى النقّاش بأنه الفعل السياسي والتوْنسية (132). وفي موازاة مع شرح ذلك، يقدّم النقّاش للقارئ رؤية جيّدة عن أحوال الجالية اليهودية في سياقها التونسي، محلّلاً قضاياها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وخاصةً اللغوية منها. فقد قُتل والده في الحرب العالمية الثانية عندما كان عمره أربع سنوات فقط، ونشأ في أسرة من النساء. كانوا توانسة وليسوا الغْرانا (grana)، أي يهودًا فقراء لا مهاجرين من ليفورنو أو رجال أعمال. لكن الفرنسية كانت لغته التعليمية، وفي النهاية كانت لغة المنزل، بينما تعلّم اللهجة التونسية عن طريق المحادثة. لم تكن اللغة العربية تدرّس في تلك المدارس، ولا حتى كلغة أجنبية. وعندما قرّرت عائلته الهجرة إلى فرنسا، كما فعل الكثير من اليهود، اختار ألا يحذو حذوهم. وفعلاً عاد إلى تونس عام 1962 بعد أن أنهى دراسته الجامعية في مجال الزراعة، وهو اختيار غير عاديّ ولكنه صائب لمجالٍ اختاره خصيصًا لخدمة بلده، كما يخبرنا.
عارض النقّاش القومية بشقّها اليهودي المتجسّد في الصهيونية والشقّ العربي وتقاربه مع الإسلام. كلاهما، كما يقول، ليسا قائمين على المساواة بل يقومان على التمييز على أسس عرقية ودينية. فقد بحث المجتمع اليهودي عن الحماية كمجتمع، سواء عبر الفرنسيين أو من خلال الصهيونية، بينما سعى هو إلى الاندماج في المجتمع التونسي ككلّ بدلاً من الانغلاق في شرط الهوية اليهودية، فكانت الشيوعية طريقه إلى هذا الهدف.
لقد زوّده العمل السياسي في إطار تونس المستقلّة بنظرة مستقبلية: «كنت شيوعيًّا تونسيًّا. لذلك كان كفاحي هو كفاح التونسيين الآخرين، الذين اعتبروا تونس فضاءً لحيواتهم. اعتقدت أنني يجب أن أقاتل لكي يتم الاعتراف بي كمواطن كامل: لم أرغب في الاستقرار في مكان آخر، حتى في فرنسا، بينما أصدقائي، قلبي، إحساسي، حتى بشرتي، تشدني إلى هذا البلد الذي لم أرغب في التخلي عنه». (كريستال ، 160). وجد النقّاش، في مساره هذا، أصدقاءً من أصل عربي. «لم يثقلني أي ندم لعدم وجود روابط تجمعني بالمجتمع اليهودي، أو لعدم تجذّري في جسده الاجتماعي. لقد شعرت، وما زلت أشعر بعمقٍ بهذا البلد، بأرضه، وشمسه، وبحره، وروح الدعابة فيه، وقدريته الظاهرة، وموسيقاه، وروائحه… وقد عشتُ نوعًا من التصوّر المسبق لما سيؤول إليه المجتمع مستقبلاً، وهو مستقبل كان يساوي أكثر من كل الجذور» (كريستال، 160). يلاحظ النقّاش أهمية حقيقة أنّ مجتمعه المتمثّل بعائلته لم يعاقبه أو يجرّمه بسبب رفضه لأصوله (كريستال، 182).
بعد ستّ سنوات قضاها في السجن، وتغييرات في علاقته بالجماعة السياسية، بما فيها الشيوعية، قرر النقّاش البقاء في تونس، وعن ذلك يقول: «لقد بقيتُ (في تونس) لأنّه، ومن بين أمور أخرى، كل ما يجب أن أقوله، ومهما كانت الشهادة التي أشعر أنه كان من المفترض أن أدلي بها، ما زلت مقتنعًا بأنه يجب أن أتحدّث هنا». في النهاية غادر إلى المنفى الفرنسي، لكنه عاد إلى تونس عام 2011 حيث شارك بفعاليّة في النقاش العامّ والعمل في البلد المحرّر. إنّ تونس التي طالما ارتبط بها النقّاش تكافح الآن لتبقى جامعة ومتنوعة وتتطلّع إلى المستقبل مع احتفالها بمرور عشر سنوات على ثورتها وسط الانتكاسات والأخطار الوشيكة التي تهدّدها وتشتّت اليسار داخل البلاد.
لقد لقيت رغبةُ جيلبير في أن يُدفَن في تونس ترحيبًا شعبيًّا ورسميًّا واسعًا. وهذه المرّة من المقرّر أن ينال بعضًا من التكريم والتقدير الذي لطالما استحقّه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.