لقد اعتمدنا على التراث اللامادي في محاولة معرفة الحياة الدينية والثقافية في ظفار قبل الإسلام. ولئن كانت هذه المادّة لا تُعدّ بديلاً عن البحوث العلمية المعتمدة على الشواهد المادية البحتة، مثل الحفريات الأثرية ودراسة النقوش والكتابات القديمة المرسومة في الكهوف، إلا أنها محاولةٌ للفت أنظار الباحثين في حقل الإنثروبولوجيا الثقافية للتعمّق وإجراء حفرياتٍ معرفيةٍ في منطقةٍ حافظت عزلتُها على مكوّناتها اللغوية والثقافية.
كانت الحياة الدينية في ظفار قبل الإسلام مشابهةً لما كانت عليه الديانات غير السماوية، عندما عبد الإنسان بعضًا من مظاهر الطبيعة، وعلى رأسها الأجرامُ السماويّة كالشمس والقمر والنجوم والكواكب. في هذه المظاهر رأى الإنسانُ الخيرَ والشرّ معًا، فحاول التقرّب منها واسترضاءها بالدماء والطقوس والتعبّد، وحملها معه في أشعاره ومعتقداته، ورسمها على جدران الكهوف التي شكّلت بيوتَ عبادةٍ ومأوًى يلجأ إليه من تقلّبات الطبيعة.
يُعدّ القمرُ والشمسُ والزهرةُ أبرزَ الأجرام السماوية التي عبدها إنسانُ ظفار القديم. وعلى الرغم من أنّ إلهَ القمر استحوذ على الاهتمام الأكبر، إلا أنّ ما عُثر عليه في كهوف ظفار من نقوشٍ ورسوم، يعطينا صورًا لبقيّة الآلهة. وبالإضافة إلى الصور المادية، حفظ الإنسانُ في ظفار آلهتَه في الأدب الشفاهي، في الأشعار والأمثال والحكَم، وحافظ عليها حتى بعد اعتناقه الإسلام.
تنفرد الرسومات والنقوش دون غيرها من علم الآثار بتقديم كمٍّ هائلٍ من المعلومات عن المجتمعات الإنسانيّة القديمة1. وتُعَدّ النقوش المكتشفة في ظفار من أهمّ مصادر المعلومات عن الحياة في المحافظة قبل مئات السنين. وقد عُثر على رسوماتٍ ونقوشٍ لمختلف الحيوانات مثل الإبل والبقر والغنم والنمور والخيول، بالإضافة إلى صور الأشجار والنجوم والأشكال الهندسية المختلفة. وما يهمّنا في هذه الرسوم والنقوش تكرارُ رسم قرون الثيران، التي ترمز إلى القمر، والنجمةِ الثمانية التي ترمز إلى نجمة الزهرة، إضافةً إلى صورٍ للخيل إذ كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل الخيل تقرّبًا إلى الآلهة (ذت بعدن)، أي البعيدة وهي الشمس التي يُعبّر عنها بالفرَس، وهي من الحيوانات التي قدّسها قدماء الساميّين»2.
من هنا يتّضح أنّ المحاذير والمواعظ التي تُلقى علينا عن السماء من كبار السنّ في ظفار تحمل بُعدًا دينيًّا ومدلولاً قدسيًّا تأكّدَ لنا أيضًا من خلال بحثنا هذا. فتقديم الذبائح لكسوف القمر، وضرب الحجارة حتى يعود إلى حالته الطبيعية، لم يكن وليد طقسٍ شعبيّ فحسب، بل هو يعني كذلك رسوخ عبادة القمر لدى إنسان الجنوب العربي وفي ظفار خصوصًا، وقد عثرنا على ذلك من خلال العديد من المصادر والمراجع التاريخية.
«سين» إله القمر
يُعتبر «سين» من أهمّ الآلهة التي عُبدت في ظفار، فهو يُربط بدعوات الشفاء من الأمراض والحماية. وكثيرًا ما تبدأ الأشعار بترديد لفظة «سين» في مقاطع أشعار «النانا» و«الدبرارت»، المنطوقة باللغة الشحرية، فيقال «يا سين لك أحمد» أو «سين لسالم سين». ويوظَّفُ «سين» بقصد الحماية من الشرّ، أو إذا تعثّر إنسانٌ بشيءٍ ما فيقال «سين لك»، أي سين يحفظك. ولا يزال لفظ «سين» يتردّد في أشعار ظفار من دون أن يكون له مدلولٌ قدسي، بل يوظّفُ للحفاظ على الإيقاع واتّزان المفردات عند التّرديد.
كما وُظّف الإلهُ «سن، سين» في الأمثال الظفارية، فقيل «واسليه ساليه، والحجب حجب عليه»3، وتقال هذه العبارة في أفراح الزواج أثناء رقصة الهبوت عند الاقتراب من بيت العريس أو العروس. ويُقصد بـ«واسليه» و«سانلي» الإلهُ «سين»، لكن هناك من وصفهما بـ«ربَّي الخصب والحياة (واسنلي) و(سانلي)، هذين الإلهين الظفاريّين الوثنيّين اللّذين خلدا في الذاكرة الشعبية بالرغم من تعاقب الأديان والأزمنة»4.
وقيل أيضًا «واسنبُلانا سبيلانه»5 عند حمل الأشياء الثقيلة أو في المناسبات للترويح عن النفس، ويتّضح «سن» في الكلمة الأولى «واسنبُلانا». وقد ورد مثلٌ آخر يقول: «(يا سين عليك)، ويقصد بها سورة يا يس، وعليك، أي حجابًا لك من الشرّ أو المرض»6، لكننا نرى أنّ المقصود بـ«يا سن أو يا سين» إنّما يرجع إلى الإله (سن، سين)، وظلّت الكلمة في الذاكرة منزوعةً من قدسيّتها القمرية القديمة إلى مدلولها الديني الإسلامي.
ويرى البعض أنّ «يس» المذكور في القرآن قُصد به القمر {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) } [يس: 1 - 2]، إذ اختلف المفسّرون في كلمة «يس»، فذكر في «تفسير الطّبَري» بأنه يعني «يا إنسان» بالحبشية7، وفي «تفسير الماتريدي» عن ابن عَبَّاسٍ قال: يا إنسان، يعني: يا مُحَمَّد أقسم به: يا مُحَمَّد، إنّ هذا القرآن من عند اللَّه نزل، وهو بلسان الحبشة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: وهو بلسان طيئ، وقتادة يقول: قسم، أقسم بالقرآن: إنّكَ لمِنَ المرسَلين، ويقول: كلّ هجاءٍ في القرآن فهو اسمٌ من أسماء القرآن، وقالَ بَعْضُهُمْ: هو من فواتح السورة، وقالَ بَعْضُهُمْ: اسمٌ من أسماء الرب8. ونرى أنّ «يس» اسمٌ من أسماء القمر، وقد أقسم الله بالقمر في سورتَي الشّمس، والانشقاق، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 1، 2]، {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} [الانشقاق: 18، 19]، كما يتّضح أيضًا قَسَمُ الربّ بالشمس، هذا إضافةً إلى وجود سورٍ قرآنيةٍ حملت أسماء الكواكب والنجوم والأنواء، مثل النجم والرعد، والقمر والشمس.
عُرف الإله «سين» أيضًا عند البابليين، وحمل أسماءً عدة لدى الممالك والشعوب في الجنوب العربي، هو إله «ود» عند المعينيين، و«المقه» عند السبئيين و«عم» عند القتبانيين9.
«سين» عند عرب الجنوب
أوّل مَن عبد القمر هم قوم عاد، الذين لم يعبدوا الأوثان بل عبدوا القمر، «ملك عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح الّذي تنْسب إِلَيْهِ الْقَبِيلَة كَانَ رجلاً خيارًا شَدِيد الْخلق يعبد الْقَمَر»10. وبما أنّ المصادر التاريخية تؤكد أنّ مساكن بلاد عاد هي في الأحقاف أو في بلاد الشحر، وهي بلاد ظفار الحاليّة، فإننا نجد التفسير المقنع لتعلّق الإنسان القديم في ظفار بعبادة الإله «سن، سين». وقد انتشرت عبادتُه عند العرب الجنوبيين وفي الحبشة وفي بلاد ما بين النهرين، حيث اعتُبر مسؤولاً عن الخيرات التي ينتفع بها الإنسان.
وقد وَصف لنا القرآن على لسان النبي إبراهيم اعتقادَ الإنسان بألوهيّة الأجرام السماوية، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)} [الأنعام: 76 - 78] ومن المرجّح، كما تذكر المصادر التاريخية، أن منطقة أور موطنَ إبراهيم الخليل، تقع في بلاد ما بين النهرين أو الرافدين وهي العراق الحالية.
كانت عبادة النجوم والكواكب السيّارة منتشرةً في حاضر الإنسان البدائي، وقد أشار القرآن إلى ذلك في سورة فُصِّلَتْ {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فُصِّلَتْ: آية 37]، وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام الظاهرة التي بَهرت نظر الإنسان، لا سيّما الشمس والقمر والزهرة. واعتَبر الجاهليّون القمرَ أبًا لهذا الثالوث، والإلهَ المقدّم فيه، وكبيرَ الآلهة، له منزلةٌ خاصّةٌ لدى العرب الجنوبيين، وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين11.
يقول جواد علي، «هذا المركز الذي يحتلّه القمر في ديانة العرب الجنوبية، لا نجده في أديان الساميين الشماليين كما عند الساميين الجنوبيين، كما يصحّ اعتبار تذكير «الزهرة» أو «عثتر» عند العرب الجنوبيين من جملة الفروق التي نراها بين ديانة سكان العربية الجنوبية وديانات الساكنين في شمال العرب الجنوبية، فإن «الزهرة» هي أنثى عندهم12.
نُعِت إله «سن» أو «سين» بنعوت عدّة منها «ذ علم»، أي «ذو العلم» بمعنى العالِم13. ويرى بعض العلماء من العصر الحديث، وعلى رأسهم المستكشف فيلبي، أنّ أقسام المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب ومن ضمنها اليمن هي الوطن الأم للشعوب السامية، وحينما هاجروا من الجنوب إلى الشمال بسبب الجفاف، حملوا معهم ثقافتهم وأشياءهم الثمينة وآلهتهم وأهمّها الإله القمر «سين»14. وقد عدّهُ بعضُ الكتّاب من أهمّ الآلهة لدى شعب حضرموت، فقيل إنّ الحضارمة وثنيون عبدوا آلهةً عديدةً مثل «عثتر» و«حول» و«حويل». غير أنّ الاحترام الكبير كان للإله «سين»، الإله القومي لحضرموت15، يجري التقرّب منه بالنذور لمنح الخير في المال والبدن والبركة في الضرْع والزرع.
عثرت بعثةٌ أميركيّةٌ عام «1961- 1962» على نقوش قرية «سنا» حيث يقوم معبدٌ للإله «سين»، ونقوشُ «العقلة» التي تتضمّن أسماء ملوك حضرموت وسبأ، مع أنّ معظمها كان قد صوّره المستكشف فيلبي من قَبل، وكتب عنه16. وقد عبّر الحضرميون عن معبودهم الأكبر الذي تخيّلوه يهيمن على القمر باسم «سين» وهو الذي عبّر عنه جيرانُهم من الجنوبيين بأسماء «عم ود» والـ«مقه»، فقد عُرف القمر بـ«ود» عند المعينيين وبـ«المقه» عند السبئيين وبـ«سين» في حضرموت17.
وقيل إن اسم «سين» سبق أن أطلقه الأكديّون والبابليّون في بلاد الرافدين على معبودهم الذي تخيّلوه معنيًّا بالقمر أيضًا، ما يعني أنه اسمٌ ساميٌّ قديم وواسع الانتشار. ويُعتقد أنّ سيناء مأخوذة من الإله «سين»18، لأنّ البدو الآراميين والعرب كانوا يعبدون إله القمر، الذي ينير لهم الطريق أثناء سيرهم ليلاً.
وقد أقيمت للإله «سين» معابدُ في مدن بعينها في جنوب الجزيرة العربية، ومنها «مذب» أو «مذاب» في موقعٍ معروفٍ يسمَّى «الحريضة». وقد ذكر العديد من الكتّاب والمؤرّخين هذا الموقع، إذ عَثرت عملياتُ التنقيب عام 1937 في حضرموت، التي قام بها ج. كاتون طومسون و أ. غاردنر وف. شترك، على معبد «سين» في وادي عمد19، كما عُثر على نقوش ورموز تشير إلى الإله، مثل قرن الثور والخيول، في العديد من المواقع الأثريّة في جنوب الجزيرة العربية، ويَردُ ذكرُ هذا الإله على حجر تيماء، وهي واحة في شمال الحجاز، التي ترجع كتابتها إلى القرن الخامس ق. م.20.
في اللوح النحاسي المحفوظ في المتحف البريطاني اسمُ ملكٍ من ملوك حضرموت هو «صدق ذخر برن» أو «صدق ذخر بران»، ووالده «الشرح»، وقد ذكر فيه أن هذا الملك قدّم نذورًا إلى الآلهة «سين» و«علم» و«عثتر» لخيره ولخير «شبوة» ولخير أولاده وأفراد أسرته21. وإذا كان الإله «سين» هو ربّ القمر، والإله «عثتر» هو ربّ الزهرة، و«علم» يشير إلى القمر، فالآلهة الثلاثة عادةً ما تُذكر جنبًا إلى جنب.
والاسم الشائع للقمر بين الساميّين هو «ورخ» و«سن» و«سين»، و«شهر»، والأخيرُ هو الاسم الشائع للقمر في الكتابات الجاهليّة التي عُثر عليها في العربية الجنوبية وفي الحبشة والشمال الغربي من جزيرة العرب. ويلاحَظ أنّ الصور التي ترمز إلى القمر في تلك النصوص متشابهة تقريبًا، ومتقاربة في الشكل، ما يدلّ على أنّ الأسطورة الدينية في مَخيل عَبَدة القمر كانت متشابهةً ومتقاربةً ومن أصلٍ واحد. أما كلمة «قمر» فلم تَرِد في النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا حتى الآن، ما حمل بعضَ المستشرقين إلى القول إنّ هذه التسمية متأخّرة.
ويلاحَظ أنّ النصوص العربية الجنوبية لا تسمّي القمر باسمه دائمًا، إنما تشير إليه بكنياته وصفاته في الغالب. ويظهر أنّ ذلك هو من باب التأدّب والتجمّل أمام ربّ الأرباب. ويرِدُ نعتُ القمر بـ«كهلن»، أي «الكهل» في نصوص المسند وفي نصوصٍ عُثر عليها في الأقسام الشمالية من العربية الغربية. وتعني لفظةُ «كهلن» القدير والمقتدر والعزيز، وهي من نعوت هذا الإله22، وتطلَق لفظةُ «كهن» في اللغة الشحرية على المتبحّر في المعرفة، فيقال امرؤٌ «قد كهن» أو «بر كهن» بمعنى أنه قادرٌ على معرفة كلّ شيء.
كما سُمّي القمر بأسماء أخرى منها أسماءٌ في اللغة الشحرية، فكلمة «أورخ» تعني شهر، «وشهر» تعني الهلال، فإذا هلّ الهلال، نقول «شهر شهر» وأحيانًا نقول «شهر أورخ». و«روخ» و«شهر» و«عم» هو إله شعب قتبان، كما أنّ «ود» إله مَعين الكبير، ورد ذكره في نصوصٍ عُثر عليها في أعالي الحجاز، و«المقه» إله سبأ الكبير، و«سين، سن» إله حضرموت الكبير، وهي كلّها في معنًى واحد، قُصد بها الإله القمر23.
وإنّ المعبودات الرئيسة في الجنوب العربي والحبشة ثلاث، «سين» القمر، و«ذت حميم، أو ذت بعدن» الشمس، و«عثتر» الزهرة، وهو ما يُعرف بالثالوث السماوي المقدّس. وقد رُمز له بعدّة رموز ونقوش، منها الهلال، ويُشير إلى بداية الشهر القمري، كما أشير إليه برأس ثورٍ ذي قرنين. أما الشمس فقد صُوّرت على شكل قرصٍ أو دائرة، أو كتلةٍ أو هالة. وأما الزهرة، فرُمز إليها بصورة نجمة في النقوش العربية الجنوبية وبثمانية خيوطٍ إشعاعيةٍ في النصوص البابلية، وهي ذَكر ووَلَد عند العرب الجنوبيين24.
لقد عثرنا على رابطٍ ثقافي بين الآلهة المعبودة في بلاد الرافدين وبين فنٍّ شعبي لا يزال يُغنّى في ظفار، وهو فنّ النّانا المؤدّى باللغة الشحرية. يتكوّن شعرُ النانا من مقطعين موزونَين، وأحيانًا من ثلاثة مقاطع وتُسمّى (مثلثت). ويقال هذا الشعر في الحِكم وفي الغزل والعاطفة وفي الحوار بين الشعراء عند تناول قضية اجتماعية معيّنة. وكان أداء النانا مقتصرًا على النساء، لكنّ الرجال شاركوهنّ أخيرًا في أدائه، وعادةً ما يؤدّى في الليل.
أما علاقة إله القمر بالممالك والدول التي قامت في بلاد الرافدين، والتي اتّخذت من الإله «سين، سن» معبودًا وربًّا، وهو الإله ذاته المعبود في الجنوب العربي ومنها ظفار، فتكمن في «إنانا» وهي ربّة أكد، التي بلغت أوجّها في عهد «نرام سين»25. ونرى أن النّانا المغنّاة في ظفار هي للتعبير عن إله القمر، لأنّ هذا الفن لا يؤدّى إلا في الليل وأغلبه في الليالي القمرية.
وقد أصبح القمر بمنزلة الأب لكونه إلهًا ذَكَرًا، فدُعي بـ«أبم»، أي «أب»، ونُعت بالمُحبّ فقيل له «دم»، و«ود»؛ لأنه يحبّ عبيده ويشفق عليهم. ولا يزال يُغنّى فنٌّ في ظفار يسمّى «ويد ويد». ومن أسماء القمر أيضًا «حكم»، أي الحاكم والحكيم، و«سمعم»، أي السامع والسميع، وهذا أيضًا فنٌّ منتشر بكثرة في ظفار خاصةً في اللغة المهرية فيُقال «سامعين وسامعين سامعين اعومر بيس».
أما القمر، فلا نجد لاسمه الخاصّ ذِكرًا يتناسب مع مقامه، نعم ذُكر بـ«شهر» و«سين» في النصوص العربية الجنوبية، و«شهر» القمر في العربيات الجنوبية، وما زال الناس يسمّونه بهذه التسمية في جنوبي جزيرة العرب. ونجد أسماءه المأخوذة من النعوت، أي من صفاته التي تطغى عليه، فهو «ود» في الغالب في النصوص المعينيّة. ويظنّ من لا عِلْمَ عميقًا له بالعربيات الجنوبية، أنه اسم إلهٍ خاصّ، بينما هو اسمٌ من أسماء عديدة للإله القمر عند شعبٍ معيّن، وهو «المقه»، أي المنير والنور عند السبئيين، أي صفة للقمر. وهكذا قُلْ عن باقي أسمائه، فهي صفاتٌ له في الغالب، لا اسمَ علَمٍ خاصّ به كما في حالة الشمس26.
«سين» عند عرب الشمال
لم تنحصر عبادة الإله «سن، سين» في جنوب الجزيرة العربية، بل انتشرت في شمالها أيضًا بعد قدوم المهاجرين الساميّين من الجنوب بفعل الجفاف والظروف الجوية، والذين حملوا معهم الآلهة المعبودة العربية. هناك عَبَد الناسُ القمر، وهو ذاك الإله البابليّ القديم الذي اعتبَر أتباعُه بقيّةَ الأربابِ الكبارِ مجرّدَ صور لقدراته، وقالوا يمجّدونه: «سين قدسيتك، وآنو نصيحتك، وداجان قيادتك، وإنليل ملكيتك، وأداد قدرتك، وإيا حكمتك». «وكان الآشوريون قد نسبوا مثل هذه الصفات أيضًا إلى ربّهم (نينورتا) في عصرهم الوسيط، وإلى معبودهم الأكبر (آشور) في عصرهم الحديث27، و«آنو» إله السلطة، و«إنليل» إله القوة. والمقصود بـ«أداد قدرتك» ربما الإله «ذو دادات»، وهو من آلهة ثمود وربما سبأ، وقد ورد اسمُه في نقشٍ ثمودي طَلب فيه صاحبُ الدعاء أن تبارك الآلهة «عطار سماوي» الإلهَ «حَوْل»، وختم صاحبُ الدعاء قائلاً «أسمِعوا أصواتَكم إلى ذي دادات»28. ويبدو من التمجيد ذكر عدة آلهةٍ كانت تُعبد في بلاد ما بين النهرين، حيث انتشرت عبادة آلهةٍ في مختلف المدن والقرى، ومن هؤلاء على سبيل المثال إلهُ القمر «نانا» شفيعُ مدينة أور وحارسها، وكان إله الشمس «أوتو» ابنًا لإله القمر، وجسّدت الإلهةُ «إينانا» الحبَّ الجسدي، وارتبطت بكوكب الزهراء، وهي نفسها الإلهة عشتار عند الأكاديين29.
ربط الإنسان القديم اسمَه باسم معبوده ليحقّق له أمانيه وينصره على الأعداء. ونجد مثالاً على ذلك عند القائد الأكادي «نرام سن»، حفيد الملك سرجون الذي ربط اسمه بالإله سين، فقيل إنّ «نرام» -ربما بمعنى حبيب سين- الذي أكمل آماله بعزيمةٍ راسخة، وتوفّر له عهدُ حكمٍ طويلٍ استمرّ نحو 36 عامًا30. هذا في العهد الأكادي (2371- 2230 ق.م)، أما في فترة حكم البابليين (1792- 1750 ق.م)، فقد صَوّرت الأساطيرُ الإلهَ «سين» ربّ القمر البابلي، يعشق إحدى بقراته فينقلب ثورًا وينكحها سرًّا31. كما عُرف «سين» عند الأشوريين وكانت مدينة حران مركزًا له، وسماه الأشوريون أيضًا «سهر»32، ونرى أنّ «سهر» هو تصحيفٌ لكلمة «شهر».
وإذا سُمّي «نرام سن» باسم الإله سن، فإنّ آخر ملوك أور السومرية قد سُمّي «أبي- سين»، وهو الذي بنى سدًّا لصد هجوم الأموريين، الشعوب السامية التي عاشت في منطقة ماري في حوض الفرات الأوسط واستفحل خطرها33.
وتورد المراجع التاريخية دليلاً آخر على عبادة عرب الشمال للإله «سين»، فتذكر أنّ بعض «طيئ» عبدوا «الثريا» وبعض قبائل ربيعة عبدوا «المرزم» وأنّ كنانة عبدت «القمر»34. وهناك وثيقةٌ تذكر أنّ مالكها استأجر بها عاملاً يُدعى «سين إشمائي»، أي «سين اسمعني»، حولاً كاملاً35، وكلمةُ «إشمائي» قريبة من لفظة «شمعني» باللغة الشحرية وتعني أيضًا، اسمعني، ويعلِّل هذا تقاربَ اللغات العروبية القديمة في جنوب الجزيرة وشمالها.
والقمر مرتبطٌ بالبقرة في العديد من ديانات الشعوب، ومنها الديانات العربية قبل الإسلام، إذ اتُّخذ الثورُ رمزًا للقمر، ولذلك عُدّ الثورُ من الحيوانات المقدّسة التي ترمز إلى الآلهة وقد نُصّ على اسمه في الكتابات، إذ قيل له «ثور». وقد ذكر الألوسي: أنّ عبَدة القمر اتخذوا له صنمًا على شكل عجل وبيد الصنم جوهر36، وهذه الصور من الرموز الدالة على الإله القمر عند قدماء الساميين. وقد صور العبرانيون «يهوه» على هيئة عجل37.
عبادات الشمس «ذات حميم»
تُسمّى الشمس في اللغة الشحرية «إيوم»، لكنها إذا طلعت وبلغت منتصف السماء يقال لها «حيوت يوم». ويقال للشخص الذي يعمل تحت الشمس «كاهت اد حمين». وقريبًا من هذه الكلمة يرد اسمُ الفحم فيُسمّى في الشحرية «حوم أو حيم»، ويُسمّى الفعل من دفن الجمر لاستخراج الفحم «إد حمين».
توجد في ظفار عادةٌ تُعرف باستخراج السمّ من جسم الإنسان الملدوغ، يجتمع فيها حوله ثلاثةٌ إلى أربعة رجالٍ وينشدون «وآحم راهاب» فتساعدهم حماسة المرددين على شفط السمّ من موقع اللدغة. وكما هو واضح في عبارة «وآحم راهاب»، يُقصد بـ«حم» هنا إله الشمس «ذات حميم». كما يرِدُ اسمُ «حم» في عبارة «وآحمبيه، ودعكيه، وآسن ليه» يرددها الناس الخارجون من احتفالات الهبوت، ومن العبارة السابقة نجد أسماءَ عدة آلهة هي «حم، ود، عك، سن أو سين».
وهناك اعتقاد سائد في ظفار برمي الملح في النار لإيقاف المطر، ويقال «بالبره تنهوش بالشوم» أي «تطلع الشمس لتجلي المطر والضباب». وقد عثرنا على اسم الشمس قريبًا من (البره) «عند السومريين الذين يطلقون على الشمس (ببر Babbar) وهي تشرق»38، ومن أسماء طلوع الشمس والاستطلاع باللغة الشحرية «إبري»، أي صعد وطلع، «إديبرر»، أي يستطلع، ولهذا فإننا نرى أنّ «بر» هو اسمٌ آخر للشمس.
تسمّى المنطقة الشرقية من ظفار بـ«صَلوت» وتعني الصلاة، وهي أول منطقة تُشرق عليها الشمس، «ويمتدّ سهل (صَلوت) من مرباط في الغرب إلى قرية حدبين في الشرق بطول يقدّر بحوالي 80 كلم ويتفاوت عرضه من بضعة كيلومترات إلى 10 كلم»39، ويحيط بالسهل من الجهة الشمالية جبلٌ يُسمّى بالشحرية «دهق أصَلوت»، ويسمّى بالعربية «جبل سمحان»، ويُطلق على هذه المنطقة أيضًا اسمُ «شرق»، وتُجمع أحيانًا فتُسمّى «شرقن».
وقد ورد اسم «شرقن» في عددٍ كبيرٍ من نصوص المسند على هذا النحو: «عثتر شرقن»، و«عثتر» هو أحد الآلهة التي سنتحدث عنها لاحقًا. أما كلمة «شرقن» فهي بمعنى الشارق، وقد ذكر أهلُ الأخبار أنّ «الشارق» صنمٌ كان في الجاهلية وبه سمّوا «عبد الشارق»، مثل «عبد الشارق بن عبد العزى» الجهني وهو شاعرٌ من شعراء الحماسة، فلفظة «شرقن» إذن نعتٌ لـ«عثتر»، معناه «الشارق». وتنفرد منطقة «صَلوت»، أي منطقة «شرقن» عن غيرها من مناطق ظفار، بوجود عدة أنواعٍ من القبور التي لم تُجرِ حفرياتٍ أثريةٍ عليها بعد، ومن أهمها40:
1. قبور الأقدمين «حاديتا أو عاديتا».
2. القبور الهرمية أو البركانية.
3. القبور «الملجوفة»41.
4. القبور الدائرية.
5. القبور الرفوفية.
6. القبور المستطيلة.
إنّ وجود هذه القبور في منطقة «صَلُوت»، أول مكان تشرق عليه الشمس، يسمح لنا بالحكم بأن كلمة «شرقن» ربما أتت من «عثتر شرقن»، وهو الإله الحارس لهذه المقابر والمعابد ربما التي يُصلّى ويُدعى أن تصل الهبات إليها، وإليه توسّل المتوسّلون لحفظ قبورهم من عبث العابثين بها، المعيرين لأحجارها، الطامعين في كنوزها.
وفي ظفار معتقدٌ يرتبط بالشمس، وهو منتشر لدى العديد من الشعوب، أنه «إذا سقطت الأسنان اللبانيّة لطفل، يُطلب منه الاحتفاظ بها إلى الصباح حين تشرق الشمس، وعندها يدير ظهره للشمس فيرمي بالسن خلفه باتجاه الشمس قائلاً: «يا شمس أبدليني بسن من ذهب وأخرى ذات أخاديد»42. وهذه العادة موجودة في العديد من الثقافات وتسمّى عادة «استبدال السن»، وقد سمّاها بعضُ المصادر التراثية «رميَ السن»، وخلاصتها أنّ الغلام في الجاهلية كان إذا سقطت سنّه، أخذها ووضعها بين السبابة والإبهام واستقبل الشمس، وقذف بالسنّ نحوها قائلاً «أبدليني بسنٍّ أحسن منها»43.
ويقول أحد الشعراء في ذلك:
شادِنٌ يحلو إذا ما ابتسمت
عن أقاح كأقاحِ الرمل غر
بدّلته الشمس من منبته
بُردًا أبيض مصقولَ الأثر44.
لقد عبَدَ الإنسان القديم الشمسَ إلى جانب الأجرام السماوية الأخرى. يخبرنا القرآن أنّ إبراهيم الخليل حين رأى الشمس قال «هذا ربي» {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)} [الأنعام (78)]. وهذا يدلّ على أنّ عبادة الشمس كانت معروفة قبل نزول الأديان السماوية نظرًا لتأثيرها المباشر على حياة الإنسان والزراعة، ولما لها من قوة أفزعت المخلوق الذي ينظر إلى الكتلة النارية المتوهجة في السماء. ولم يكن مستغرَبًا تقديمُ القرابين لها والأضاحي لاتقاء شرّها وغضبها.
وقد عبد العرب الشمس كبقية الشعوب، وتَسمّى بها أشخاصٌ فعُرفوا بـ«عبد شمس». وكانوا يستقبلون الشمس ضحًى، وذكر «الأسقع» الليثي أنه خرج إلى والده فوجده جالسًا مستقبل الشمس. والشمسُ في العربيّة أنثى، فهي إلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكَّرة، لذلك هي إلهٌ ذكَر عند التدمريين، ويرى «فِلهاوزن» Wellhousen أن ذلك حَدَث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعةً بين التدمريين، وقد وردت في الكتابات التي عُثر عليها في حوران أسماءُ أشخاصٍ مركبةٌ من شمس وكلمة أخرى، ويدلّ على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر «سترابو» أنّ Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط، لكنّ الكتابات النبطية لا تؤيّد هذا الرأي، فالإله الأكبر فيها هو «اللات»، فلعلّ «سترابو» قصد بـHelios اللات، وإذا كان هذا صحيحًا، فتكون اللات هي الشمس45.
وقد عُبّر عن الإلهة «الشمس» بـ«ذت حمم»، أي «ذات حميم»، «ذات حمم»، «ذات الحميم» أي ذات الحرارة الشديدة والأشعة المتوهّجة التي تشبه الحميم من شدّة الحر. وهذا المعنى قريب من «أثل حمون» El - Hamon و«بعل حمون» Ba'al Hammon في العبرانية، ويُراد بها الشمس. و«حمت» و«حمه» Hamma في العبرانية هي الشمس. وورد في بعض النصوص التدمرية اسم الإله «حمن» Hamman، وورد هذا الاسم في بعض النصوص النبطية التي عُثر عليها في حوران. وهذا الإله هو الشمس. وقد كُنّي عنها بالأشعة الحارة المحرقة التي ترسلها خاصةً في أيام الصيف.
وهناك من فسّر «ذت حمم» بـ«ذات حمى» و«ذات الحمى»، والحِمى الموضع الذي يحمي، ويخصّص بالإله أو المعبد أو الملك أو سيد قبيلة، والمكان الذي يحيط بالمعبد. فيكون حرمًا آمنًا لا يجوز لأحدٍ انتهاك حرمته. وفي جزيرة العرب جملة مواضع يقال لها «حمى» ذكر أسماءها الأخباريون46. ولهذه المسمّيات مثيلاتها في ظفار، والتي ذكرنا منها سابقًا مثل «وآحمبيه» و«وأحمر اهياب».
الزهرة «عثتر»
«العشر» حيث الشين تُنطق بين الشدقين في اللغة الشحرية، تأتي بمعنى الصاحب «عشر» والزوج «عشر»، ويخاطب الآباءُ أبناءهم بـ«ها عشري». ونرى أنّ «عشر» في الشحرية هي «عثتر»، وثمّة مفردة شبه «عتثر»، هي «شِتر» و«أشتر»، أي «عشتار» و«عثتر» عند العرب الجنوبيين»47. والشِتر عادة اجتماعية لا تزال قائمة في ظفار تقضي بدفع مالٍ نقدي أو عيني من الفرد إلى العشيرة أو القبيلة، لمساعدة فرد أو قبيلة أخرى في دفع الديّة، أو لمساعدة مريض على تلقّي العلاج، أو إيفاء ديونه. وربما عادة «الشتر» وجمعُها «شتور» كانت مفروضة على الأفراد في القِدم لتقديمها إلى الإله «عثتر».
وهناك كلمة «عفُر» في الشحرية، وتعني «السحاب الذي يحمل المطر والخير». وفي المعجم «العثرُ» ما سقتْه السماء من الشجر والزرع، وفي الشحرية أيضًا يطلَق على المطر النازل بقوة «ثعر» ومن صفات الإله «عثتر» إغداق النِّعَم، إذ إنّ السبئيين كانوا ينظرون إلى «أم عثتر»، نظرة البابليين إلى عشتار على أنها إلهة الخصب48. وما يجعلنا نورد ذلك، هو عثور المنقب «جلاسر» على عشرة نقوش على صخورها يقول أحدها «وسقى خرف ودثا سبأ وجوم شبعم»، أي «وسقى الرب خريفًا وربيعًا سبأ وجومًا سقاية مشبعة»49، والكلمتان «خرف» و«دثا» مفردتان من تقويم الفصول الأربعة في ظفار، فـ«الخرف» هو الخريف الذي يبدأ فلكيًّا في ظفار في ٢١ حزيران/ يونيو وينتهي في ٢١ أيلول/ سبتمبر، يتبعه فصل الربيع ويُسمّى «الصرب»، وتتساقط فيه أمطار تُسمّى «الدثا».
وقد وردت مفردة «أم عثتر» و«أبم عثتر» في بعض النصوص، وقُصد بالأولى «أم عثتر»، وبالثانية «أب عثتر». وقد استنتج دتلف نلسن من ذلك أنّ «عثتر» بمثابة الإله الرئيس، فهو أبٌ وأمٌّ للآلهة يليه القمر في الترتيب ثم الشمس، وذهب في بحث آخر له عن ديانة العرب إلى أنّ المراد بـ«أم عثتر» الشمس، باعتدادها أنثى إلهة وأمًّا50.
ويُعدّ كوكب الزهرة «عثتر» من الثالوث المقدّس عند العرب الجنوبيين، وهو ابن الشمس والقمر، ويأتي اسم «عثتر» بمعنى «شرق» و«إشراق»، وأضيف إلى نهاية الكلمة حرف التأنيث، لأنّ الشمس مؤنثة، كما فعل في «عثتر» إذ عُدّ مؤنثًا عند الساميين الشماليين، فصار «عثترت»، «عشترت»، و«عشتروت» أي أنثى51. وقريبًا من هذا النطق كلمة «صاحبتي» في الشحرية، هي «عشرتِ».
والجدير بالملاحظة هنا أنّ «عثتر» العربي الجنوبي إلهٌ مذكر، بينما نظائره في جميع الأديان السماوية مؤنثة.
عشتار
في تفسير مُجَاهِدٍ للآية الأولى من سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، أنّ النجم يعني: «الثُّرَيَّا، إِذَا سَقَطَ مَعَ الفَجْرِ»52، ويذكر بعضُ المراجع التاريخية أنّ العرب تسمّي الثريّا نجمًا، وأن النجم هو الزهرة، لأنه كان يُعبد عند بعض القبائل العربية.
وكان «عشتر» معروفًا عند المعينيين والسبئيين وعند قتبان وأهل حضرموت والأوسانيين53، بما أنّ ظفار متاخمة لحضرموت، فنرى أنه قَدِم إلى ظفار من هناك. ويذكر بعض المؤرخين أن المراد من «عثتر أبم» و «عثتر أب»، أنّ «عثتر» هو بمنزلة الأب للمتعبّدين له، يشفق عليهم ويحبّهم، ويمنحهم الخير والصحة والبركة. وقد جاء في نص سبئي وُجد في مدينة «صرواح» أنّ صاحبة النص قدّمت إلى الإلهة «أم عثتر» أربعةَ تماثيل من ذهب لأنها وهبت لها أربعة أطفال، كلهم أحياء يرزقون54.
وورد اسم «عثتر» في عبارات تحمل صفاته، منها «عثتر شرقن» و«عثتر ذ قبضم» و«عثتر ذ يهرق» و«عثتر ذ يهر». وقد ذكر جواد علي «أنّ معنى جملة (عثتر شرقن) و(عثتر الشارق) و(عثتر ذ قبضم) بمعنى القابض أو الجالس أو اسم موضع يقال له قبض»55، وقد تحدثنا عن معنى الشارق وشرقن في ذكر إله الشمس. أما عبارة «ذي قبضم» فنرى أنها تعني «عثتر القابض»، أي الذي يمسك الأرواح، أو بمعنى الراعي لشعبه وعُبّاده، فلفظة «قبض» في الشحرية تعني «رعي»، واللغة الشحرية من اللغات العروبية القديمة، والتي تنتسب مع اللغات العربية الجنوبية إلى شجرة واحدة.
أما في عبارة «عثتر ذ يهرق» فنرى أنّ كلمة «يهرق» قريبةٌ من كلمة «يهرج» بالشحرية، والتي تعني يتحدث. وقياسًا على ذلك، تكون عبارة «عثتر ذ يهرق» عثتر المتكلم أو المتحدث.
الإله أرحمون
من أسماء الله التي لا تزال تُنطق في ظفار حتى الآن كما هي «أرحمون»، وتعني الرحمن. وحين يرفع الإنسان يديه للدعاء يقول باللغة الشحرية «أووعش أرحمون آعلي» وتعني «الله يا رحيم يا سيدي»56، وهذا يدل على أن عقيدة التوحيد كانت متواجدة في ظفار، في ظلّ وجود معطيات تاريخية عن وجود قوم عاد في بلاد الشحر وبعث النبي هود إليهم، إضافةً إلى وجود أضرحةٍ يُقال أنها، لنبيَّيْن، أيوب وهود، اللذين دعوَا قومَهما إلى عبادة الله الواحد الأحد.
وتشير المراجع التاريخية إلى وجود اسم «الإله (رحمنن) أي الرحمن في النصوص العربية الجنوبية، ويُرجعها بعض الدراسين إلى دخول اليهودية في الجنوب وانتشارها هناك، وهذا الإله هو الإله «رحمنه» Rahman-a «رحمنا» في نصوص تدمر»57. لكنّ ظهور بعض الدراسات التي تقول إنّ التوراة خرجت من الجزيرة العربية، «وأن البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية بمحاذاة البحر الأحمر، وتحديدًا في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن58، يعني أن ديانة التوحيد وعبادة الإله رب السماء، كانت معروفة في جنوب الجزيرة العربية، والتي أثّرت في بقية المناطق الواقعة شرق اليمن، مثل حضرموت وبلاد الشحر.
الثالوث المقدّس
ذكرنا أنّ النجوم الثلاثة التي حظيت بمكانة التقديس والعبادة في جنوب الجزيرة العربية، هي (سين «القمر»، والشمس «ذت حميم»، وعثتر «الزهرة»)، وهو ما يسمّى بالثالوث المقدس. أما بقيّة الأسماء التي سنتحدث عنها لاحقًا، فما هي إلا صفات للآلهة الثلاث السابقة، أو أسماء من أسمائها قياسًا على أسماء الله الحسنى. ونجد أن القمر «سين، سن» استحوذ على الاهتمام الأكبر، كونه الإله المذكّر الذي اقترن بالشمس «ذت حميم» فأنجب الزهرة «عثتر». ويعلّل بعض الدرّاسين تقديمَ العرب الجنوبيين القمرَ على الشمس إلى اختلاف المناخ، وطبيعة الأقاليم والثقافة المرتبطة بظهور القمر، الذي ينير الدروب للقوافل التجارية في البر، وللبحارة في البحر، إضافةً إلى أنّ ظهور القمر ليلاً يؤنس الناس ويشجعهم على الغناء والمرح. كما أنّ الشمس تلهب بحرارتها العالية المناطق شبه الجافة الواقعة في جنوب الجزيرة، فيهرب من لهيبها الإنسان، ولذلك سُمّيت الشمس «بذت حميم»، نظرًا إلى أشعّتها الحارقة.
لقد أشرنا إلى أنّ بعض الآلهة في جنوب الجزيرة العربية يحمل صفات القمر، أي أنها آلهة لا تخرج عن الثالوث المقدس. ومن خلال الحفريات في اللغة الشحرية وجدنا أسماءً قريبةً من أسماء الآلهة المعروفة لدى الممالك والدول التي قامت في جنوب الجزيرة العربية، ومن هذه الآلهة:
الإله المقة
الموقاة «المقة» هو إله سبأ، ويعني المنير والنور عند السبئيين ويرمز إلى القمر. وتوجد في اللغة الشحرية كلمة «مُقُهر»، وتأتي في محل استنكار الحديث أو القول غير المفهوم، وهي تحل محل «الاستنجاد بالإله المقه».59 كما تقال «مقهر» للتأكيد على الشيء، ونرى أنها تأتي في منزلة لفظة الجلالة «يا الله» للجزم بالشيء وتأكيده.
ويطلق اسمُ «موقت» على منحوتات حجرية على شكل إبل، ويتّخذها الأطفال كألعاب، وهي عبارة عن حجارة مسطحة ومنحوتة بحيث يظهر سنام الناقة. ولعلّ تعبير «الموقت» يعبَّر به عن النذور والأضاحي التي تُقدّم للإله «المقه»، خاصةً عند الجماعات التي لا تملك الأبقار، إذ وُجد أنّ الثور من أكثر الحيوانات التي قُدّمت ذبائحَ إلى الإله «المقه» وقد «استنتج دتلف نلسن من هاتين الملاحظتين وما تسمِّي أشخاصًا وأسرًا وعشائر وقبائل باسم (ثور)، أن الثور رمز يراد به هذا الإله (المقه)، أي القمر»60. وفي ظفار منطقةٌ تسمّى «آت غضب»، و«الغضب» هو الثور في اللغة الشحرية.
وفي ظفار أيضًا يُسلخ جلد العجل الميت، ويُحشى بالقش ويُقدّم إلى أمه لتدرّ الحليب، ويسمّى الجلدُ المحشوّ بالقش «صيلام»، والصلم تأتي بمعنى الصنم. وكانت «أهمّ الأوثان والصور «صلمن» التي كانت تُقدم إلى معابد «المقه» وفاءً لنذور نذورها لها، هي عبارة عن صور ثيران»61، وهذا ما يمنحنا القول بأنّ إله «المقه» يُعدّ من آلهة ظفار القديمة.
وكما أسلفنا، «المقه» هو إله السبئيين، ويحظى بمنزلة أكبر عند (المكربون)، «كما تعبّد له أهل الحبشة وله معبد (نجا) أو (يها)، بعد أن نقله إليهم السبئيون»62، الذين تحكموا باليمن ومنطقة باب المندب والساحل الأفريقي المقابل لليمن، ويظهر أثر ذلك في الخط الحبشي حتى اليوم.
قيل إنّ «المقه» و«يلمقه» يأتي بمعنى الزهرة في لغة «حِمْيَر». وقد بقي بناءُ «يَلمَقه» إلى أن دمّره الأحباش إبان غزوهم لليمن لعدة أسبابٍ، منها أن الأحباش نصارى وأرادوا تدمير الأوثان، والسبب الثاني يعود إلى رغبة الأحباش في الاستفادة من أحجار معبد «يَلمَقه» لبناء كنائسهم، «وقد كان ذلك المعبد قد خصص لعبادة (المقه) إله سبأ الكبير، فعرف بـ(المقه)، و(يلمقه) عند سواد الناس»63 ، ومنهم من قال «إن (المقه) أتت من (مقهو) بمعنى القوي، وقد ورد في اسم الإله (إيل مقهو) أي ( إيل القوي)» 64.
أما بعض المستشرقين فيرون أنّ «المقه» من أصل كلمة «لمق»، بمعنى لمع، ومنه اللمعان، الذي فسّره البعض من الكتّاب أنه بمعنى «الثاقب» و«اللامع»، «وكان الجاهليون يُقسِمون بالنجوم الثاقبة أي التي يتوقّد ضياؤها ويتوهج»65.
هِدد
«الهِيد» في اللغة الشحرية هو الرعد66، ويقال «إت هِدد» بمعنى السماء ترعد، ويُنهى الأطفال عن الصفير، لأنّ الصفير يَمنع تكوّن السُحُب والرعد. وإذا أمطرت السماء، يجري الأطفال تحت المطر قائلين بالشحرية «يثرا طيطاي من ثعر ذو موسي» أي «يبتلّ رأسي من زخّات المطر»، فالمطر في الشحرية يسمى (مُسئْ)، و«موسى تعنى المأخوذ من الماء»67 لأن النبي موسى انتُشل من قناة الماء حين رمته أمه في الماء.
وإله «هدد» معروف لدى العديد من الشعوب السامية، وتعبّد له العربُ في جنوب الجزيرة مثل بني إرم، وفي شمال الجزيرة، كذلك فعل الأشوريون. ويمثّل الإلهُ «هدد»، إضافةً إلى الرعد، الهواءَ والعواصفَ، ويوجد في متحف دمشق تمثالٌ لـ«هدد» بهيئة ثور 68. وكما ذكرنا في حديثنا عن الإله «سين، سن» فإنه يرمز للقمر بالهلال أو قرن البقر.
وتورد معاجمُ اللغة العربية لفظةَ «الهَادّة» وتعني الرَّعدُ. ويقال أيضًا صوتُ الرعد. «وفي حديث الاستسقاء: ثم هدّت ودرّت، الهدةُ صوت ما يقع من السماء»69.
لقد عظّم الآراميون الإله «حدد»، إله الزوابع والرعد، وهو نفسه الإله «هدد» ويُسمّى أيضًا «أدو»، و«من ألقابه (ريمون) الراعد، وقد يطلق عليه الاسمان معًا (حدد ريمون)، وكان أهم معبد للإله (حدد) في هيرابولس (منبج) أي المدينة المقدسة»70. ومن الطبيعي أن يُقدَّسَ الإلهُ «هدد» في البيئات التي تعرف نشاطًا زراعيًّا لدرجة أن الزراعة التي تعتمد على الأمطار هي «الزراعة التي سقاها الربّ». ويقال إنّ معبود مدينة بعلبك «جوبتر هليوبولينانس» معادلٌ للإله «حدد»، أي «هدد».
أما عند الأشوريّين فقد ذُكر الإلهُ «حدد» أو «هدد» باسمٍ آخر هو «غيل وير»، والغيل باللغة الشحرية هو نجمُ الإكليل، يبدأ فلكيًّا في 19 أيار/ مايو وينتهي في 30 منه، وعند ظهور هذا النجم تشهد ظفار أمطارًا غزيرةً مصحوبةً بالرعد والبرق. ويتجنّب روّاد البحر السفرَ في هذا الوقت من العام، كما يحاول الرعاةُ السكنَ قرب الكهوف الآمنة حتى ينجلي الإكليل.
وورد «حدد» في كتابةٍ تَذكُر ملكَ حماة يرفع يديه لـ«بعل شمين»، سيّد السماوات. و«الشُتم» في الشحرية هي السماء71. ويتّضح أنّ «بعل شمين» هو «حدد» وهو «غيل وير». ويحظى «ادد» بمكانة رفيعة في مجمع الآلهة ويحظى بلقب ابن «آنو»72، و«النأ» و«النو» في اللغة الشحرية هو تراكم السحب المنذرة بهطول المطر73.
هُبَل
من العبارات الشحرية التي يقولها الناس أثناء العمل الجماعي الذي يحتاج إلى حماسة: «يا هوبهيلا يا هُبل». ويُعَدّ الإله «هُبل» من أقدم الأصنام التي عبدها العرب وأعظمها، و«يعود ذِكرُه إلى قوم ثمود، ثمّ نُصِب على البئر في بطن الكعبة»74. وكان أول من نصبه خُزيمةُ بن مدركه بن اليأس بن مضر، وكان يقال له «هُبل خزيمة»75، لتأثر أهل ظفار بمعبودات العرب في مكة بسبب التواصل الثقافي والتجاري.
ويوجد دليلٌ آخر على التواصل بين بلاد الشحر وبين مكة ورد في «المفصّل»: «فقد ذَكر أهلُ الأخبار بعضَ رجالٍ مهرة وفدوا على الرسول، منهم مَهْري بن الأبيض، وقد كتب له الرسولُ كتابًا، وزهير بن قِرْضم ابن العُجيل بن قباث بن قمومي، وقد أسلم، وكتب له الرسولُ كتابًا حين همَّ بالانصراف إلى قومه»76، ويوجد في مدينة مرباط ضريحٌ يقال له ضريح زهير بن قرضم.
هوبيس
يقال للشيء السريع في ظفار «هوبيس، هوبيس». و«هوبس»، «هبس»، اسمُ إله سبأ. ورد في نصوصهم، وكانت تقدَّم له التقدمات. وقد ذُكر اسمُه في نصوص عدة مكتشَفة منها: (هو فعثت) و(لحى عثت) من قبيلة (مقنعم) قدّما وثنا (صلمن) إلى الإله (هبس، هوبس)»77. وورد في النصوص السبئية اسمُ إله هو «هوبس» «هبس» منفردًا، وورد مع الإله «المقه» وقد قُصد به الإله القمر78.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.