العدد ٣٠ - ٢٠٢١

مُبيدو الكوكب

ترجمه وقدّم له أسامة إسبر

يجمع إدواردو غاليانو في تناغمٍ نادرٍ بين الدقة التوثيقية والخيال الأدبي الرفيع، حتى أنه يمكن القول إنّ لغته الأدبية مجبولة بالتاريخ، فهو في كتبه كلها ينطلق من أساس توثيقي صلب نحو آفاق التعبير الأدبي المفتوحة، شاحنًا لغته بروح شعرية قلّ مثيلها في الأدب المعاصر.

تصبّ روافدُ أخرى كثيرةٌ لتغذية أهمية غاليانو، منها موقفه اليساري النبيل في الوجود، فقد أعلن مرةً مازحًا أنه من مؤسّسي الماركسية السحرية. وبرغم أنها مزحة إلا أنها تشي بما يضيء تجربتَه في الكتابة، ومواقفَه في الحياة، فكتاباته تحتفي دومًا بالمهمّشين والمنسيين والغفل والفقراء والفلاحين والعمّال والمشردين وأبناء الشوارع والعاهرات والسجناء والمنفيين والمظلومين والنساء المسحوقات وكلّ من يعيش على هامش الحياة المعاصرة، والذين هم هناك بسبب الاستيلاء على الثروة من قِبل قلّةٍ تتكرّر في كلّ البلدان، تنهب كل شيء وتدمّر كل شيء في طريقها، حتى المستقبل البشري.

من جهةٍ أخرى، يروي غاليانو قصص هؤلاء بأسلوب أدبي فريد خاص به تغيب فيه الحدودُ بين الأجناس الأدبية وتُنسج في نصّ جامع شامل. يجمع النص بين الفكرة والاستعارة، بين المعلومات الإحصائية والجمل القصصية السردية، بين الأرقام والصور الشعرية، وبين السرد القصصي والحوارات المسرحية، وكلها متآلفة ومتناسجة وتوحي بالحرية وبالعمق وبالقدرة على التعبير عن واقعٍ هاربٍ ومفكّكٍ ومظلمٍ ويظلّ بحاجة إلى الاستقصاء.

وفي هذه النصوص التي اخترناها هنا يتحدث غاليانو كيف أنّ القلّة من الأغنياء، أصحاب الشركات الكبرى وخدمها من السياسيين الفاسدين، تدمّر كوكبنا وتسمّم هواءه وتتحالف مع الحكومات وقابضي أثمان الدمار، وكيف يحوّل الشمالُ الجنوبَ إلى مكبّ لنفاياته.

توفي إدواردو غاليانو عام 2015 تاركًا خلفه كتبًا لن يتوقف القرّاء عن العودة إليها على الدوام، لأنها تمتلك قوة قول الحقيقة وبكل جرأة، كما أنها تتمرّد على القيود والحدود الأدبية التي وضعها «ضباطُ جمارك الأدب» كما سمّاهم، والذين هم امتداد للسلطة التي تعرقل الحياة الحرة في الواقع.

جرائم ضد البشر والطبيعة

تُرتكب الجرائمُ ضد البشر وضد الطبيعة. وكما يتمتع أسياد الحرب بالحصانة، يتمتع بها أيضًا توائمهم، الأسياد الشرهون للصناعة، الذين يفترسون الطبيعة على الأرض وفي السماء ينهشون طبقة الأوزون.

إن الشركات الأكثر نجاحًا في العالم هي الشركات التي تُسهم أكثر في هلاكه، والدول التي تقرّر مصير الكوكب هي التي تسهم أكثر في تدميره.

كوكب اللاعودة

تغمر العالمَ والهواءَ الذي نتنفّسه طوفاناتٌ وافرةٌ وغزيرةٌ من التلوث وسيولٌ من الكلمات: تقارير الخبراء
والخطب والتصريحات الحكومية
والمعاهدات الدولية الوقورة التي لا يلتزم بها أحد، وتعبيراتٌ أخرى عن القلق الرسمي على البيئة. وتقوم لغةُ القوة بإبعاد اللوم عن المجتمع الاستهلاكي وعمّن يفرضون النزعة الاستهلاكية باسم التطوّر.

وتستطيع الشركات العملاقة، التي تُمْرض الكوكب باسم الحرية ثم تبيع له الدواء والعزاء، أن تفعل ما تشاء، بينما يغلّف خبراءُ البيئة، الذين يتكاثرون كالأرانب، جميعَ المشكلات في بلاستيك الوسائد الهوائية للغموض. إن الحالة الصحية للعالم مقرفة، وثمّة لغة رسمية تُستخدم للتبرئة، وعبارة «نحن جميعًا مسؤولون» كذبة يروّج لها التكنوقراطيون ويكررها السياسيون، وتعني أن لا أحد مسؤول. ويطلق الكلامُ المداهن تحذيراته: «إنها تضحية يقوم بها الجميع»، لكن هذا يعني «نيكوا» أولئك الذين «يُناكون» دومًا.

تدفعُ البشرية كلها ثمن دمار الكوكب الأرضي وتلويث جوّه وتسميم مياهه واضطراب مناخه، وتدهور سلعه الأرضية التي تهبُها لنا الطبيعة. وتحت مساحيق الكلمات تعترف الإحصاءاتُ المخبّأة بالحقيقة وتشير الأرقام القليلة إليها: إن ربع البشرية يرتكب ثلاثة أرباع الجرائم ضد الطبيعة، ذلك أنّ كل مواطن في الشمال يستهلك أكثر بعشر مرات من الطاقة، وأكثر بتسع عشرة مرة من الألمنيوم وأكثر بأربع عشرة مرة من الورق، وأكثر بثلاث عشرة مرة من الحديد والفولاذ ممّا يستهلكه مواطن في الجنوب. وكمية الكربون التي يبعثها مواطن أميركي شمالي في الجو أعلى باثنتين وعشرين مرة من الكمية التي يبعثها الهندي، وأعلى بثلاث عشرة مرة من التي يبعثها البرازيلي. يمكن أن ندعو هذا «انتحارًا عالميًّا»، لكن من يرتكبون هذا الجرم اليومي هم الأفراد المزدهرون ذاتهم من أبناء البشر، الذين يعيشون في بلدان غنية أو يتخيلون هذا، ومواطنو بلدان وأبناء طبقات اجتماعية يعثرون على هويتهم في التباهي والنفايات.

يواجه التبنّي واسع الانتشار لنماذج كهذه من الاستهلاك عائقًا بسيطًا: يحتاج الأمر إلى عشرة كواكب بحجم كوكبنا للبلدان الفقيرة كي تستهلك بقدر ما تستهلك الغنية، كما أفاد تقرير دقيق يحتوي على الكثير من الوثائق، بعنوان «تقرير برونتلاند» الذي قُدم إلى اللجنة العالمية للبيئة والتنمية عام ١٩٨٧.

تحبّ شركات النفط العملاقة وشركات معاوني الساحر للطاقة النووية والتكنولوجيا الحيوية، والشركات الكبرى التي تصنّع الأسلحة وشركات الفولاذ والألمنيوم وشركات صناعة السيارات والمبيدات والمواد البلاستيكية وألف منتج آخر، أن تذرفَ دموع التماسيح على معاناة الطبيعة. وتَظهر هذه الشركات، الأكثر إلحاقًا للدمار بالكوكب، بين تلك ذات الأرباح المرتفعة.

 


لغة الخبراء الدوليين
في تقييم الإسهامات التي تمّت من خلال إعادة صياغة المشاريع القائمة حاليًّا، سنركّز تحليلنا على ثلاثة أسئلة جوهرية: الأول والثاني والثالث.
وكما يمكن الاستنتاج من تجربة تلك البلدان النامية حيث اتُّخذت بعض الإجراءات التي هي موضوع دراستنا ووُضعت قيد التنفيذ، يتطابق السؤال الأول في عدة نقاط مع السؤال الثالث، وواحدة أو أخرى من هذه النقاط تبدو وكأنها جوهريًّا متصلة بالسؤال الثاني، بحيث يمكننا القول بثقة إنّ الأسئلة الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض.
الأول…


 

تُنفق هذه الشركات أيضًا أكثرَ من غيرها على إعلانات تُحوّل التلوث، سحريًّا، إلى فعل خير وأعمال معروف مبدئية لسياسيين يقررون مصائر البلدان أو العالم. وحين شرح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش [الأب]لماذا رفضت الولايات المتحدة توقيع اتفاقية التنوّع البيولوجي في قمة ريو عام ١٩٩٢، كان في غاية الوضوح: «من المهم أن نحمي حقوقنا، وحقوق أعمالنا». وسواء وقّع أم لم يوقّع فالأمر سيّان، لأنّ معاهدات دولية كهذه أقل قيمة من شيك بلا رصيد.

كان الهدف من انعقاد قمة ريو إنقاذ الكوكب من الهلاك، ولكن لم تلتزم أيّ من القوى العظمى باستثناء ألمانيا (التي فعلت ذلك بفتور) بالاتفاقيات الموقّعة، خوفًا من أن تفقد شركاتُها قدرتَها التنافسية، ومن ألا يفوز سياسيوها الحاكمون بالانتخابات. وكانت القوى الكبرى التي أبدت التزامًا أقلّ هي الأقوى، والتي فضح اعترافُ بوش أهدافَها الجوهرية بجلاء. ودفعتْ الشركات العملاقة للصناعات الكيميائية وصناعة النفط والسيارات (والتي كانت الموضوع المحوري لقمة ريو) جزءًا كبيرًا من تكاليف المؤتمر. تستطيع قول ما تشاء عن آل كابوني لكنّك لا تستطيع إنكار أنه كان سيدًا: كان العجوز الطيب آل يرسل دومًا أكاليل ورود إلى جنازات ضحاياه.

بعد خمس سنوات، دعت الأممُ المتحدة إلى عقد اجتماع آخر لتقييم نتائج قمة ريو. وفي تلك السنوات الخمس القصيرة جُرّد الجلدُ الأخضر للكوكب من نباتاته الاستوائية في منطقةٍ أكبر بمرتين ونصف من إيطاليا، وأمحلت أراضٍ خصبة بحجم ألمانيا وانقرض ما يقارب مئتين وخمسين ألف نوع من الحيوانات،

 


مورغان
ليس لهم أطراف صناعية ولا يضعون عصائب على أعينهم، لكن القراصنة البيولوجيين يتجوّلون في أدغال الأمازون وأراضٍ استوائية أخرى شاقّين طريقهم بالسفن والطائرات والسيارات، يسرقون البذور، يضعون عليها براءات اختراع، ويحوّلونها بنجاح إلى منتجات تجارية.
دانت أربعمئة قرية للسكان الأصليين في الأمازون مؤخرًا الاستيلاءَ على نبتة مقدسة تُدْعى الأياهواسكا، التي قالوا عنها إنها:«المكافئ لدينا لخبز القربان المسيحي».
في المكتب الأميركي لتسجيل الاختراعات وضعت شركةُ النباتات الطبية الدولية براءةَ اختراعها على الأياهواسكا لصناعة دواء نفسي ولمعالجة أمراض القلب. منذ ذلك الوقت فصاعدًا صارت الأياهواسكا ملكية خاصة.


 

وازداد تلوّث الهواء، وصار ١،٣ بليون إنسان من دون سكن ملائم أو طعام، فيما يموت يوميًّا خمسة وعشرون ألف شخص بسبب تلوث مياه الشرب بسموم كيميائية أو نفايات صناعية. ومنذ فترة قصيرة أعلن ٢٥٠٠ عالم من بلدان مختلفة (دعتهم أيضًا الأممُ المتحدة إلى اجتماع) أن الكوكب الأرضي سيواجه في المستقبل القريب أكبر تغيرات مناخية سبق أن حدثت في العشرة آلاف سنة الأخيرة، أما الذين سيعانون من هذا العقاب أكثر من غيرهم فهم كالمعتاد الفقراء، لأنه محكوم على الفقراء والبلدان الفقيرة بأن يكفّروا عن ذنوب الآخرين. شهد عالمُ الاقتصاد لورنس سمُرز على هذه الحقيقة في نهاية ١٩٩١. اقترح سمُرز، الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة «هارفارد» والذي يحتل منصبًا رفيعًا في إدارة البنك الدولي، في وثيقة داخلية سُرّبت بالخطأ، أن يشجّع البنك الدولي على هجرة الصناعات التي تسبّب تلوثًا والنفايات السامة «إلى بلدان أقل تطورًا»، لأسباب اقتصادية منطقية تتعلق بـ«المزايا النسبية» التي تتمتع بها هذه البلدان. وتبيّنَ أن هذه المزايا ثلاث: أجور تافهة، ومساحات شاسعة حيث لا يزال يوجد مجال للتلوث، ونسبة أمراض سرطانية منخفضة بين الفقراء الذين يمتلكون ميزة الموت باكرًا لأسباب أخرى. أدى نشر الوثيقة إلى فضيحة مدوّية: إن أمورًا كهذه يجب أن تُفعل لا أن تُقال. خطَّ سمُرز بوقاحة على الورق ما كان يفعله العالم عمليًّا لوقت طويل. ذلك أنّ الجنوب يعمل كسلة قمامة للشمال، والمصانع الاكثر تلويثا للبيئة تهاجر إلى الجنوب، والجنوب هو المكب حيث يصبّ معظم الخراء الصناعي والنووي الذي يتبرّزه الشمال.

أفتى القديس أمبروز، الكاهن وطبيب الكنيسة، منذ ستة عشر قرنًا، بمنع الربا بين المسيحيين لكنه أجازه ضد البرابرة. يحدث الأمر نفسه الآن مع كل التلوث المهلك. ما هو سيئ في الشمال جيد في الجنوب، وما يُعتبر مخالفًا للقانون في الشمال مُرحّب به في الجنوب. وفي الجنوب تقع مملكة الحصانة الشاسعة، ولا يوجد ضوابط أو عراقيل قانونية، وإذا ما وُجدت فليس من الصعب أبدًا معرفة ثمنها. كما أن تواطؤ الحكومات المحلية نادرًا ما يحصل مجانًا، ثم هناك تكاليف القيام بحملات إعلانية ضدّ المدافعين عن الطبيعة والكرامة البشرية، وتصويرهم كمدافعين عن التخلّف يعملون على إخافة المستثمرين الأجانب وتخريب التنمية الاقتصادية.

في نهاية عام ١٩٨٤ تسرّب أربعون طنًّا من الغاز القاتل من معمل للمبيدات تديره الشركة الكيميائية «يونيون كاربيد» في مدينة بهوبال في الهند. انتَشر الغاز في أحياء الصفيح وقتل ستة آلاف وستمئة شخص وألحق الأذى بسبعين ألفًا توفي كثيرون منهم بعد وقت قصير أو شُوِّهوا طيلة حياتهم. لم تتقيّد «يونيون كاربيد» بأي من القواعد الأمنية ولم تطبّق معايير السلامة التي تطبّقها في الولايات المتحدة. وفي أميركا اللاتينية، تبيع شركة «يونيون كاربيد» و«دو كيميكال»، مثلها مثل الشركات الأخرى العملاقة للصناعات الكيميائية العالمية، كثيرًا من المنتجات التي تُعتبر مخالفة للقانون في بلادها. وفي غواتيمالا، مثلاً، يرشّ الطيران مزارع القطن بالمبيدات التي لا يمكن بيعها في الولايات المتحدة أو أوروبا. ترشح هذه السموم عبر السلسلة الغذائية إلى كل شيء، من العسل إلى الأسماك حتى تصل إلى أفواه الأطفال الرضّع. وفي مطلع عام ١٩٧٤ كشفت دراسة أجرتها مؤسسة الغذاء الأميركية اللاتينية أنّ حليب كثير من الأمهات الغواتيماليات يحتوي على نسبة من المبيدات أعلى بمئتي مرة من الحدّ الذي يُعتبر خطيرًا. وكانت شركة «باير»، ثاني أكبر منتج في العالم للمبيدات الزراعية، تتمتّع بالحصانة منذ الأيام التي انضمّت فيها إلى كونسورتيوم «آي. جي. فاربن» واستخدمت عمالاً من دون راتب من معسكر الاعتقال النازي في « أوشفيتز».

 


خرائط
إن الخريطة البيئية في الولايات المتحدة خريطة عنصرية أيضًا، ذلك أن المصانع الأكثر تلويثًا والمكبات الأكثر خطرًا تتموضع في جيوب الفقر حيث يعيش السود والسكان الأصليون والأميركيون اللاتينيون. وتعيش الجماعة السوداء في «كينيدي هايتس» في هيوستن بولاية تكساس على أرض دمّرتها نفايات شركة «غلف أويل». إنّ سكّان كونفينت، وهي بلدة في لويزيانا حيث تعمل أربعة من أكثر المصانع تلوثًا في البلاد، كلهم سود تقريبًا. وكان معظم الذين تم إدخالهم إلى غرفة العناية المشددة في العام ١٩٩٣ من السود، بعد أن أمطرت شركة «جينرال كيميكال» الحمض على الجزء الشمالي من ريتشموند في خليج سان فرانسيسكو. وأكدت دراسة أجرتها كنيسة المسيح المتحدة في العام ١٩٨٧ أنّ غالبية السكان الذين يعيشون قرب مكبّات نفايات خطيرة هم أميركيون سود أو أميركيون لاتينيون.
تستقبل محميات السكان الأصليين النفايات النووية مقابل النقود والوعد بالوظائف.


 

مطلع عام ١٩٩٤ صار ناشط بيئي من الأوروغواي صاحبَ أسهمٍ في شركة «باير» ليومٍ واحد. تمكّن خورخي باريرو بفضل تضامن الأصدقاء الألمان من رفع صوته في اجتماع سنوي لأصحاب الأسهم أنعم عليه بالبيرة والسجق والخردل والأسبرين. سأل باريرو لماذا باعت الشركة موادّ كيميائيّةً سامّةً في الأوروغواي حُظرت في ألمانيا واعتبرت «منظمةُ الصحة العالمية» ثلاثًا منها «خطيرةً جدًّا» وخمسًا أخرى «عالية الخطورة». جاء الرد المعتاد. في كل مرة يثير فيها أحدٌ مسألة بيع سموم في الجنوب محظورة في الشمال، يقدّم المدراء التنفيذيون في «باير» وشركات كيميائية عالمية أخرى الجوابَ نفسه: إن شركاتهم لا تخالف أيّ قوانين في البلدان التي تعمل فيها. وربما كان هذا صحيحًا على المستوى التقني، وبالإضافة إلى ذلك، يقولون إن منتجاتهم ليست خطيرة. بيد أنهم لا يفسرون أبدًا لغز لماذا لا يمكن أن يستمتع أبناء بلدهم ببلاسم الطبيعة هذه. كان الإنتاج يصل إلى حدّه الأعلى بأدنى التكاليف وله أسواق مفتوحة تؤمّن أرباحًا عالية. وما تبقّى غير مهم. وفتح كثيرٌ من الصناعات الأميركية حوانيت َفي الجانب المكسيكي من الحدود قبل وقت طويل من توقيع البلدين لاتفاقية تجارة حرّة. وحوّلت هذه الصناعات المنطقةَ الحدودية إلى حظيرة خنازير كبيرة. وكان كلّ ما فعلته الاتفاقية أنها سهّلت الاستفادة من أجور العمالة المكسيكية المتدنية جدًّا وأطلقت حرية تسميم مياه المكسيك وأرضها وهوائها. وكي نعبّر عن الأمر بلغة شعراء الواقعية الرأسمالية: أتاحت الاتفاقية المزيد من الفرص لاستخدام موارد لها ميزة نسبية. وقبل أربع سنوات من الاتفاقية، كانت المياه قرب مصنع «فورد» في نويفو لاريدو ومصنع «جنرال موتورز» في ماتاموروس تحتوي على موادّ درجةُ سمّيتها أعلى بألف مرة من الحد الأعلى المسموح به في الجانب الآخر من الحدود. وفي جوار مصنع «دو بونت»، أيضًا في مانتاموروس، بلغ التلوث حدًّا اقتضى إجلاء السكان بسببه.

ينتشر التقدم عبر العالم. ولم يعُد الألمنيوم الياباني يُصنع في اليابان بل في أستراليا وروسيا والبرازيل حيث الطاقة والعمالة رخيصتان ومعاناة البيئة تحصل في صمت. ولتقديم الكهرباء لصناعة الألمنيوم، غَمرت البرازيلُ مساحات واسعةً من الغابة الاستوائية بالمياه. وليس هناك إحصائيات تستطيع تحديد الكلفة البيئية لتلك التضحية. في النهاية، هذا عادي: عانت النباتات والأزهار الاستوائية من تضحيات كثيرة، وكانت تُشوّه يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، في خدمة شركات الأخشاب والماشية والتعدين. إن دمارًا منظمًا كهذا يجعل

 


تطوّر
جسرٌ دون نهر.
واجهةٌ طويلةٌ دون بناء.
مرشاشٌ على مرجٍ بلاستيكي.
مصعدٌ إلى لا مكان.
طريقٌ سريعٌ إلى الأمكنة التي دمّرها الطريق السريع.
صورةٌ على شاشة التلفزيون لتلفزيون يُظْهر تلفزيونًا آخر فيه أيضًا تلفزيون آخر.


 

«رئتي الأرض» أكثر تعرّضًا للخطر بكثير. ولم تكن النار الهائلة التي نشبت عام 1998 ودمّرت غابات هنود اليانومامي في روريما البرازيليّة العملَ الشيطاني لإل نينو فحسب. إن الوفيات تغذّي الحصانة، وترغمنا الوفيات على قبول أيّ أوامر يُمْليها التقسيم العالمي للعمل، كالشخص الذي قفز من الطابق العاشر كي يطيع قانون الجاذبية.

تزرع كولومبيا أزهارَ الزنبق لهولندا والورود لألمانيا. ترسل الشركات الهولندية بصل الزنبق فيما ترسل الشركات الألمانية شتول الورد إلى مزارع كبيرة في سهول السافانا في بوغوتا. حين تصبح الأزهار جاهزة تأخذ هولندا الزنابق وألمانيا الورود وتحصل كولومبيا على أجور منخفضة وأراض مخرّبة ومياه مسمّمة. وبفضل هذه الترتيبات الخاصة بالأزهار للحقبة الصناعية، تجفّ أعشاب السافانا وتغور، بينما يُقْصف العمال، ومعظمهم من النساء والأطفال، بالمبيدات الزراعية والسماد الكيميائية.

تتعاون البلدان الغنية الأعضاء في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» على تطوير الجنوب اقتصاديًّا بإرسال نفاياتها الإشعاعية وتعبيرات أخرى سامّة عن اللطف. إنّ هذه البلدان نفسها التي تحظر استيراد المواد الملوّثة تغدقها بكرم على البلدان الفقيرة. وكما تصدّر المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب الممنوعة في الوطن، تصدّر أيضًا النفايات الخطيرة إلى الجنوب تحت مسمّيات أخرى. حظر «ميثاقُ بازل» شحناتٍ كهذه في العام ١٩٩٢، لكنّ الشحنات اليوم أكبر مما كانت عليه من قبل وتأتي تحت قناع «مساعدات إنسانية» أو «إسهامات في مشاريع تنمية»، كما اكتشفت منظمةُ «السلام الأخضر» في عدة مناسبات، أو تأتي كمواد مهرّبة مخبّأة داخل جبال من النفايات الصناعية القانونية. يحظر القانون الأرجنتيني دخول النفايات الخطيرة، لكن لحلّ هذه المشكلة الصغيرة كل ما تحتاج إليه هو شهادة تثبت أنها غير مؤذية صادرة في البلاد التي تريد التخلص من النفايات. في نهاية العام ١٩٩٦،

 


تعليم
زرتُ جامعة صغيرة تقع قرب جامعة ستانفورد تعلّم الطاعة. كان الطلاب كلابًا من كل السلالات والألوان والأحجام يتمّ تعليمها التوقف عن كونها كلابًا. حين تنبح الكلاب، تعاقبها المدرّسةُ عاصرةً خطومها بيدها وضاغطةً على أطواقها المصنوعة من رؤوس مدبّبة من الفولاذ الحاد حتى تتألم. لكن حين تظل هادئة، تُكافئ الأستاذةُ صمتَ الكلاب بالطعام. هكذا تُعَلّم الكلاب كيف تنسى النباح.


 

نجح علماء البيئة البرازيليون في منع استيراد بطاريات السيارات المستعملة من الولايات المتحدة التي تدفّقت إلى البلاد لسنوات باسم «مادة قابلة للتدوير». كانت الولايات المتحدة تصدر البطاريات المستعملة والبرازيل تدفع للحصول عليها.

مدفوعين بدمار أراضيهم وتسميم أنهارهم وبحيراتهم، يتجوّل ٢٥ مليون شخص باحثين عن مكان لهم في العالم. فبحسب التنبؤات الأكثر مصداقية، سيصبح التدهور البيئي في الأعوام المقبلة العامل الرئيسي الذي يسبّب النزوح من بلدان الجنوب. وتظنّ البلدان التي تبتسم بشكل ظريف أمام الكاميرا (الأبطال السعداء لمعجزة اقتصادية واحدة أو أخرى) أنها دفعت الضريبة، وعبرت القطب وتمر في حقبة نجاح غير أنها تدفع مسبقًا ثمن قفزتها العظيمة إلى التحديث: ففي تايوان ثلث محصول الأرزّ غير صالح للاستهلاك لأنه مسموم بالزئبق والزرنيخ والكامديوم، وفي كوريا الجنوبية ثلث مياه الأنهار فقط صالح للشرب. ولم يعُد هناك أسماك صالحة للأكل في نصف أنهار الصين. في رسالة كتبها طفل من تشيلي وهو يرسم صورة بلاده: «السفن تغادر محمّلة بالأشجار، السفن تعود محملة بالسيارات».

 


إطلالة على الغسق في نهاية القرن
إنّ الأرض التي تدفننا أو تردعنا مسمومة.
لا يوجد هواء، ليس هناك إلا اليأس.
لا يوجد نسيم، ليس هناك إلا الروائح النتنة.
لا مطر سوى المطر الحمضي.
لا يوجد حدائق، هناك مرائب فقط.
ليس هناك شركاء، لا يوجد إلا شراكات.
هناك شركات بدلاً من الأوطان
وهناك مستهلكون بدلاً من المواطنين
وهناك تكتّلات بدلاً من المدن.
لا يوجد بشر، هناك جماهير فقط.
لا يوجد علاقات إلا العلاقات العامة.
لا يوجد رؤى، هناك تلفزيونات فقط.
إذا أردتَ مديح زهرة قل: «تبدو بلاستيكية».


 

أصبحت تشيلي اليوم طريقًا سريعةً طويلةً تحفُّ بها المولات والأراضي القاحلة والغابات الصناعية حيث لا يغرّد أي طير، وتبدو الأشجار كالجنود في صف نظامي وفي حالة انتباه، وهي تسير إلى السوق العالمي.

أنهى القرن العشرون، الفنّان المنهك، أيامَه برسم حيواتٍ ساكنة. إنّ إبادة الكوكب لا تستثني أحدًا، وحتى الشمال المنتصر، الذي يسهم بالقسم الأكبر من الكارثة، يصفر وينظر إلى الجهة الأخرى في ساعة الحقيقة. وبالسرعة التي نمضي بها، لن يمرّ وقت طويل قبل أن نعلّق جميعًا لافتات في أقسام التوليد في الولايات المتحدة: انتبهوا أيها الأطفال: نحذّركم هنا من أنّ فرصة إصابتكم بالسرطان أعلى بمرتين من أجدادكم. وتقوم الشركة اليابانية «ديدو هوكوسان» مسبقًا ببيع الهواء في علب، وسعر دقيقتين من الأوكسجين عشرة دولارات، وتؤكد الكتابة المرفقة: هذا هو المولّد الكهربائي الذي يعيد شحن الكائنات البشرية.

 


برّيّة زرقاء
لا تغيّم السماء هنا أبدًا، ولا يتساقط المطر. وفي هذا البحر لا يَغرق أحدٌ، ولا تحدث سرقات على شاطئه. لا يوجد قناديل بحر تلسع ولا قنافذ شوكية ولا بعوض مزعج. يخضع الهواء والماء لمناخ لا تتنوع فيه درجة الحرارة أبدًا، ولهذا يبقيان نزلات البرد والأنفلونزا بعيدة. تحسد الأعماقُ القذرة للمرفأ مياهَنا الشفافة، ويسخر هواؤنا النظيف من السمّ الذي يتنفّسه سكان المدن.
أسعارنا ليست عالية. كلفة البطاقة ثلاثون دولارًا للشخص الواحد، لكن يجب أن تدفع مبلغًا إضافيًّا للكراسي والمظلات. يقول الإعلان على الإنترنت: «سيكرهك أولادك إذا لم تأخذهم…»
إن البرّيّة الزرقاء (وايلد بلو)، شاطئ يوكوهاما المحاط بالزجاج، هو فخر الصناعة اليابانية، حيث الأمواج بعلوّ المحركات التي تصنعها، وتشرق الشمس الإلكترونية وتغرب حين تشاء الشركات، ويُقدم للزبائن شروقات شمس استوائية مدهشة وغروبات وردية خلف أشجار نخيل متمايلة.
قال أحد الزوار: «إنه اصطناعي، لهذا نحبه».


أنباء
على ساحل لاغونا، في جنوب كاليفورنيا، خرج ظبيٌ من الغابة في ١٩٩٤ وعدا في الشارع، فصدمته سيارة. قفز فوق سياج، وكسر نافذة مطبخ ودخل منها، ثم كسر نافذة أخرى وخرج إلى شرفة طابق ثاني ورمى نفسه منها، واندفع داخلاً إلى فندق وكطلقة ملطخة بلون الدم الأحمر انطلق عابرًا المالكين المندهشين لمطاعم واجهة الشاطئ، قبل أن يرمي نفسه في البحر. اصطاده رجال الشرطة في الماء ورفعوه إلى الشاطئ، حيث نفق وهو ينزف بغزارة.
قال رجال الشرطة: «كان مجنونًا».
بعد سنة في سان دييغو (في جنوب كاليفورنيا أيضًا) سرقَ محاربٌ قديمٌ دبّابة من ترسانة وسحق وهو يقودها أربعين سيارة، وألحق الضرر بعدة جسور، وفيما كانت تطارده سيارات الشرطة سحق في طريقه كلَّ ما عبره. حين علقَ في منحدر شاهق تسلّق رجال الشرطة الدبّابة وفتحوا الباب وجندلوا الجندي السابق بالرصاص. تابع مشاهدو التلفزيون الحادثة كلها في بث حي ومباشر.
قال رجال الشرطة: «كان مجنونًا».


 

العدد ٣٠ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.