في العام ١٩٩٢، سُئل ميلتون فريدمان، العالم الاقتصادي في «مدرسة شيكاغو»، عن الهدف الأصلي من «جمعية مون بيلرين» التي تأسست في العام ١٩٤٧، فأجاب: «لا شك في أن هدفها الأصلي كان الترويج لفلسفة كلاسيكية ليبرالية، أي اقتصاد حر، ومجمتع حر، اجتماعيًّا ومدنيًّا وفي مجال حقوق الإنسان». يبدو هذا الطرح لحقوق الإنسان خارج السياق وهو الصادر عن مفكّر وصف نظامَ الجنرال بينوشيه الاستبدادي في تشيلي على أنه معجزة اقتصادية وسياسية. فالرأي الغالب أنّ التأكيد النيوليبرالي على الأسواق المتنافسة وعلى التقشّف يتعارض بداهةً مع حقوق الإنسان.
على الرغم من ذلك، فإن كتابي الجديد «أخلاقيات السوق: حقوق الإنسان وصعود النيوليبرالية» يقدّم الحجة على أن موقف فريدمان يستحق أن يؤخذ على محمل الجد. يتتبّع الكتاب موقع حقوق الإنسان، المُتغافَل عنه، في الجهود النيوليبرالية لتحدّي الاشتراكية والديموقراطية الاجتماعية والتحرر من الاستعمار ابتداءً من أواسط القرن العشرين، ويسعى لتفسير لماذا صارت حقوق الإنسان الأيديولوجية المسيطرة في حقبةٍ اتّسمت بانهيار الطوباويات الثورية وسيادة الاعتقاد بأنه «لا يوجد بديل»، وفق عبارة مارغريت ثاتشر المقتضبة.
في محاولةٍ لفهم لماذا تبيَّن أنّ النيوليبرالية وحقوق الإنسان متوافقتان واحدتهما مع الأخرى إلى أبعد حدّ، لا بد من تحدّي النظرة الشائعة التي تقول إن النيوليبرالية مذهب عقلاني اقتصادي محض وحيادي أخلاقيًّا. أخذتُ عنوان كتاب «أخلاقيات السوق» عن النيوليبرالي النمساوي فريدريش هايك، مؤسس «جمعية مون بيلرين» وهو الذي حاجج بأنّ نظام السوق التنافسية يتطلّب إطارًا أخلاقيًّا يكرّس تراكم الثروة واللامساواة، ويروّج للمسؤولية الفردية والعائلية، ويضمن الخضوع للنتائج الموضوعية لمسار السوق على حساب السعي المتعمّد إلى أهدافٍ محددة جماعيًّا.
نهل هايك من النظرية الاجتماعية للمفكرَين الإسكتلنديَّين آدم سميث وآدم فورغسون، اللذين افترضا أن التاريخ الإنساني يمرّ بمراحل متعاقبة – من الصيّاد إلى الراعي إلى المُزارع إلى التاجر – فحاجج بأن تطوّر المجتمعات السوقية يتطلّب التخلّي عن مشاعر الولاء الشخصي والالتزامات المساواتية الأكثر ملاءمة للوجود القبَلي. في سردية هايك ذات المنطلق العنصري، تشكل المطالبات بإعادة التوزيع انتكاسات حضارية تهدد الأسس الأخلاقية للسوق التنافسي.
إن واحدة من حججي الرئيسة على امتداد الكتاب هي أن النيوليبرالية مذهب أخلاقي وسياسي بذاتها وليست مجرد مذهب اقتصادي. وقد نسب الليبراليون الأوائل إلى السوق سلسلة من الفضائل المعادية للسياسة: التصدي للسلطة وتبديد قواها، تيسير التعاون المجتمعي، تسوية النزاعات سلميًّا، وتأمين الحرية الفردية والحقوق الفردية. وصوّروا المجتمع التجاري أو «المجتمع المدني» على أنه فضاء من العلاقات الطوعية تتوخّى المنفعة المتبادلة في مواجهة العنف والقسر والنزاع وهي في محاجتهم من أمراض السياسة، والسياسة الجماهيرية خصوصًا. وإذا تمكن المفكرون النيوليبراليون وناشطو حقوق الإنسان من أن يجدوا قضية مشتركة تجمعهم، كما أعتقد أن هذا هو الحال، فأبرز سبب لذلك هو أنّ نيوليبراليي القرن العشرين كانوا أقلّ انشغالاً بالنطاق الاقتصادي الضيّق مما توحي به الكتاباتُ الحالية عنهم.
حقوق الإنسان والسوق الحرة
وإني أبيّن على امتداد الكتاب أن المفكرين النيوليبراليين يتّهمون المحاولات التي بُذلت في القرن العشرين لتأمين حقوق راسخة في الرفاه الاجتماعي وتقرير المصير الوطني بأنها تهديدات لنظام السوق ولـ«الحضارة» ذاتها. ثم أبيّن أيضًا أن النيوليبراليين قد طوّروا روايتهم الخاصة عن حقوق الإنسان على اعتبارها دعائم أخلاقية وقانونية لنظام السوق الحرة.
فقد رأى النيوليبراليون إلى حقوق الإنسان وإلى الأسواق التنافسية على أنها تتشارك في بنية واحدة. في كتابه السجالي واسع الانتشار «الطريق الى العبودية»، حاجج هايك بأن «أفكار العام ١٧٨٩- الحرية، المساواة، الأخوّة – إن هي إلا مُثُلٌ تجارية بامتياز لا غرض لها غير تأمين بعض المنافع لأفراد». ويعتقد النيوليبراليون بأن السوق التنافسية سمحت بوجود الحقوق الفردية، لكنّ اشتغال السوق يعتمد أيضًا على حكم القانون والاعتراف بحقوق الإنسان. وحقوق الإنسان، بالنسبة للنيوليبراليين، موجودة لا لحماية الفرد وإنما للحفاظ على نظام السوق وعلى تراتب الهويات الموروثة في وجه التحدي السياسي.
وقد تجلّت النظرة النيوليبرالية إلى حقوق الإنسان في أنقى أشكالها فترة صعود النيوليبرالية، في إنكار مارغريت ثاتشر أنّ «خدمات الدولة حق مطلق» المتزامن مع مناصرتها «الحق في اللامساواة»، وفي دفاع رونالد ريغان عن «الكرامة الإنسانية» بما هي «المثال الذي يتوّج الحضارة الغربية».
ومع ذلك، لم يقتصر إرث حقوق الإنسان الليبرالي على شخصيات من اليمين. إني أتقدم بحجة تقول إن الخلفية النيوليبرالية قد تلقي الضوء على ما يبدو أنه لغز سياسات حقوق الانسان في أواخر القرن العشرين، في استخدامها المميّز للمناصرة الدولية من أجل الحد من سلطة الدولة، وسلطة الدولة بعد الكولونيالية خصوصًا، وهو اللغز الذي يبدو أنه «ظهَر من لا مكان» حسب تعبير صموئيل موين في «الطوبى الأخيرة» The Last Utopia. وقد أبنتُ أنّ منظمات من مثل «منظمة العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش» و«أطباء بلا حدود» قد استلهموا صيغة عن الحقوق طوّرها النيوليبراليون منذ الأربعينيات. وبالنسبة «للمنظمات غير الحكومية» (الأنجيووز) أيضًا، ولّد التحرر من الاستعمار حاجةً إلى مقاييس جديدة لردع وضبط الدول بعد الكولونيالية.
وعلى الرغم من أنّ الأنجيووز العاملة في مجال حقوق الإنسان برزت في إطار اقتلاع حمايات الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة، فتلك المشاغل نادرًا ما دخلت في إطار مناصرتها السابقة. وإني أحاجج أنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية والأنجيووز الإنسانية قد تبنّت الثنائية النيوليبرالية المركزية بين المجتمع التجاري أو «المجتمع المدني» - المفهوم على أنه نطاق الحرية، والتفاعل الطوعي والسلطة الخاصة الموزعة التي تحدّ من سلطة الدولة المركزية – من جهة والسياسة – المفهومة بما هي عنف وقسر ونزاع، من جهة أخرى. وقد دافعت تلك المنظمات عن فضائل العداء للسياسة التي ينسبها النيوليبراليون إلى السوق: لجم السلطة السياسية، ترويض العنف وتيسير نشوء هامش من الحرية الفردية.
إن هذا التوجه جعل من الأنجيووز العاملة في مجال حقوق الإنسان منظمات متردّدة وغير مؤهلة لتحدي الآثار البنيوية والموضوعية لآليات السوق. ومع أنه يفترض بكبريات الأنجيووز العاملة في حقل حقوق الإنسان أن تتحاشى اللجوء إلى القسر، فقد كانت على استعداد تامّ لاستدعاء الجبروت العسكرية لأعتى الدول كي تتدخّل، باسم تأمين حقوق الإنسان، من أجل فرض أخلاقيات السوق على امتداد الكرة الأرضية.
ما أسمّيه «حقوق الإنسان النيوليبرالية» ليس الشكلَ الوحيدَ لحقوق الإنسان الذي عرفه التاريخ. ومع ذلك، أزعم أنّ مساهمة النيوليبرالية في حقوق الإنسان أوسع نفوذًا بكثير مما يودّ أنصارها المعاصرون الاعتراف به، وهذا لا يقتصر على أوساط اليمين السياسي أو على الذين في أروقة السلطة.
في غياب التعاطي مع هذا النفوذ، فإن الحركات والنضالات الاجتماعية التي تستخدم لغة حقوق الإنسان من أجل مقاومة النيوليبرالية قد تجد نفسها في وضع تعزّز فيه قبضةَ النيوليبرالية بدل العكس.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.