العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

في حبّ فتية صيدا وبيروت

قسطنطين كفافي شاعر مصري–يوناني نظَم باليونانيّة. وُلد في مدينة الإسكندريّة عام ١٨٦٣ وعاش وترعرع وسط جاليةٍ يونانيّةٍ كبيرةٍ وحيويّة. تمتاز قصائده بكثافة إحالاتها إلى رموز وشخصيّات من عالم الإغريق القدامى وآدابه وأساطيره، كما تمتاز بإيروتيكيّتها الصارخة في التغزّل بجسد العشيق الذكر. يعتقد الكثيرُ بأنّ كفافي من أوائل الحداثويّين في الشرق الأوسط، وأنّ تجربتَه دليلٌ على أنّ الحداثة كظاهرةٍ ومشروعٍ أدبيّ، لم تنحصر في أوروبا الغربية في يومٍ من الأيّام. وربّما لهذا السبب تُشكّل قصائدُه مصدرَ إلهامٍ لشعراء العربيّة المعاصرين، بالرّغم من غرابة موضوعاتها الظاهريّة وبالرغم من أنّ قراءتها بلغتها الأصليّة لم تكن متاحةً لأغلبهم. ومع ذلك، صدرت ثلاثُ مجموعاتٍ لقصائده بالعربيّة كلٌّ على حدة. ترجمتان من الثلاث تمّتا عبر لغةٍ وسيطة (سعدي يوسف عن الإنكليزيّة، وبشير السباعي عن الفرنسيّة) وترجمةٌ واحدةٌ أنجزها مباشرةً عن اليونانيّة نعيم عطية، المصري من أصل يوناني، بأسلوبٍ يتّسم بالنثريّة. توفّي كفافي في مدينته الإسكندريّة في نفس يوم ميلاده عام ١٩٣٣.

عادةً، لا تُحبَّذ ترجمةُ الأدب عن لغةٍ وسيطة، وأنا لا أعرف كلمةً واحدةً من اليونانيّة التي كتب بها كفافي قصائدَه، ولا أدّعي بأيّ شكلٍ من الأشكال أنّي خبيرةٌ أو متخصّصةٌ في أشعار كفافي. إلا أنّ هذه القصائد ظلّت تدغدغ مخيّلتي وأنا أقابلها بمشاهد الانتفاضة في لبنان ومشاهد الحياة في صيدا وبيروت.1

كيف سيتلقّى شبابُ صيدا وبيروت اليوم هذه القصائد لو قرئت عليهم؟ كيف سيستقبلون أجدادَهم من الفتية الذين يصفهم شاعرُنا في قصائده هذه، بكثافة إحالاتها إلى عالم الإغريق القديم وإلى أحداث وأسماء وأجواء ثقافيّة قد تبدو غريبةً عنهم تمامًا، لكنّها وقعتْ وسادت على الأرض ذاتها التي يقفون عليها اليوم؟ تروح وتجيء الثقافات واللغاتُ والشعوب بآدابها ودياناتها وأبطالها تاركةً آثارَها في المكان. تتبّدل أسماءُ المكان وتبهت آثارُه وتأخذ في التلاشي، إلا أنّ المكان كالطرس وكل ما نزل فيه وعليه يبقى.

مسرح صيدا (عام ٤٠٠ م)

أنا ابنٌ لأحدِ الوجهاء
والأهمّ أنّي فتًى من فتيةِ المسرح، وسيمٌ،
وأنيس من عدّة نواحٍ،

أنْظم أحيانًا أبياتًا في غايةِ الجرأة
وأوزّعها خلسةً بالطبع.

أيّتها الآلهة، ليتَ أولئك الطُهرانيّين
الذين يثرثرون عن الأخلاق الحميدة
يُحرَمون من مطالعة تلك الأبيات
التي تتكلّم عن متعةٍ جنسيّةٍ فريدةٍ من نوعها
متعة تفضي إلى حبٍّ مُدانٍ، حبّ عاقر.

فتية صيدا (عام ٤٠٠ م)

وألقى الممثّلُ الذي
أتَوا به لترفيههم
بضعَ حِكَمٍ لاذعةٍ أيضًا.

كانت الصالةُ تطلّ على الجُنينة
فخالط شذى الزهور
ما فاحَ من عبير
الصيداويّين الخمسة المتعطّرين.

كانوا يقرؤون من حِكَم ميلياغروس وكريناغوراس وريانوس
ولكن حين أنشدَ الممثّل:
«هنا يرقد اسخيليوس الأثيني، ابن إيفوريون»
(مشدّدًا، ربما، أكثر ممّا ينبغي
على «بسالته الشهيرة» وعلى «بستان ماراثون المقدّس»)
عندئذ، هبّ أحدُ الفتية المليء بالحيويّة،
وقد كان مولعًا بالأدب وقاطعه قائلاً:
«لم تعجبني هذه الرباعيّةُ قَطّ
يبدو لي أنّ العواطفَ فيها ركيكة.

أرى أن تصوّبَ كلَّ جهودِكَ لعملك
وَلْيكن شغلك الشاغل. ولا تنسَ عملَك
حتى في الشدائد أو عندما تشارف على أجلك.
هذا ما أتوقّعه منك، هذا ما أطالبكَ به
–لا أريدكَ أن تزيلَ عن ذهنك نهائيًّا
فن تراجيديّاتك البديع–
مسرحيّة أغاممنون،
مسرحية برومثيوس المدهشة،
عروضك لأورستيس وكساندرا
و«سبعة ضد طيبة»–
– بل أريدكَ أن تنقشَ على ضريحك
أنّك أيضًا قاتلتَ ضدّ داتيا وأرتافَرنا،
– رغم كونكَ مجرّد جنديّ عاديّ،
وواحدًا من القطيع.

في الحانات

أنغمسُ في حاناتِ بيروتَ ومواخيرِها
لم أحبّذِ البقاءَ في الإسكندريّة. لقد هجرَني تاميذيس
ليصاحبَ نجلَ الوالي، كي يحظى
بفيلّا على ضفافِ النيل وقصرٍ في المدينة.
لم يجدرْ بي البقاء في الإسكندريّة
أنغمسُ في حاناتِ بيروتَ ومواخيرِها
أعيش عيشة منحطّة مكرّسة للتهتّك الرخيص.
خلاصي الوحيد،
كعطرٍ لا ينفكّ يتشبّث بمساماتي
كالجمال الذي لا يَحُول، هو
تاميذيس هذا،
أروع الفتيان جمالاً
وقد حظيت به، طيلة عامَينْ. كان لي،
ولم يكن ذلك طمعًا في منزلٍ أو فيلّا على ضفافِ النيل.

ضريح النّحَوي ليسياس

في مكتبة بيروت
على اليمين من مدخلها مباشرةً،
دفنّا ليسياس النحَويَّ والحكيم
وأحسنّا تحديدَ الموقعِ أيّما إحسان
إذ وضعناه قربَ أغراضِه تلك
التي لربّما يستذكرها حتى وهو هناك:
نصوص وتفاسير، كُتب نحو، روايات أخرى،
دراسات مستفيضة عن مصطلحات إغريقيّة،
وبعدُ، فبهذه الطريقة نتعرّف إلى مثواه ونكرّمه
ونحن نشقّ طريقَنا إلى الكتب.

سفسطائيّ مغادرًا سورية

الآن، وأنت تغادر سورية، أيها السفسطائيّ المرموق
حاملاً مشروعك لتأليف كتاب عن أنطاكيا،
جديرٌ بكَ أن تذكرَ ميفيس،
ميفيس الشهير، الوسيم والمعشوق بلا منازع
بين سائر فتية أنطاكية. يعيش عيشة لا تتاح
لسواه، ولا أحد يتقاضى ما يتقاضاه.
كي يحظوا بميفيس
ليومين أو ثلاثة أيام فقط،
قد يدفع أحدهم ما يصل إلى مائة ستاتر2 قلتُها وأنا في أنطاكية،
وقلتها في الاسكندريّة أيضًا، وحتى في روما: صدّقوني
لن تعثروا على فتى بجاذبيّة ميفيس.

  • 1. شكر خاص للوليدين — صالح وضو — على تدقيقهما الترجمة (سونيلا)
  • 2. الستاتر stater، عملة نقديّة فضّية كانت متداولة في اليونان القديمة
العدد ٢٨-٢٩ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.