عادل نصّار
«الهوية سؤال/السؤال هوية»
الدَّهْشة
أصحو قرابةَ التّاسعة صباحًا، في جوٍّ ماطرٍ وعاصف، كانت قد أنبأتْنا به مديريّة الأرصاد الجوّية. أول ما فعلتُه، أعددتُ قهوتي الصباحيّة وبدأتُ بتصفّح أخبار «الفايسبوك». انهياراتٌ في كلّ المناطق، تصدّعُ طرقاتٍ وجسور، طوفانات في أحياء الضّواحي ومخيّمات اللجوء. تعذّر السّيرُ عبر الأنفاق التي تربط شوارع العاصمة بفعل المياه التي غمرتْها. الجميع في حالة تذمّر وانزعاجٍ من حالة الاهتراء في البُنى التّحتية، بما فيها شبكةُ الكهرباء المنهارة أصلاً، والتي فضحتْها وأظهرتْها إلى العلن، وبهذه الصّورة الفجّة، عاصفةٌ صغيرة.
توقّعتُ بناءً على ما قرأت من تعليقاتٍ على الأحداث، حصولَ أمرٍ غير طبيعيّ في الخارج، فخفتُ أن أكون متأخّرًا عن مواكبته. ارتديتُ ثيابي على عجل، وخرجتُ مسرعًا إلى الشّارع، فوجدت أنّ الحياة تسير بشكلٍ طبيعيّ. قلتُ في سرّي، لربّما الأمورُ تجري في مكانٍ آخر، في المكان الذي اعتادوا فيه محاولةَ التمرّد. لكنّي قلتُ في سرّيَ أيضًا، نظرًا لحجم التّعليقات والرّدود الغاضبة على الفايسبوك، «يُفترض أن تكون الحياةُ في الخارج غير طبيعيّة وغير اعتياديّة».
شرعتُ في المسير أقطعُ شارعًا تلوَ الآخر. إلا أن لا شيءَ من عالم الفايسبوك توحي به المجرياتُ على أرض الواقع.
تمسّكتُ بأوّل شخص يحاول اجتياز الطريق، وسألته إن كان يعلم بما جرى، فلوّح بيده قائلاً، إنّها دولةٌ فاسدة، الجميع فاسدون. وقبل أن يصبح في المقلب الثاني من الشارع ندهتُ عليه بصوتٍ عالٍ: «انتبهْ! أنت تقطع الشارع وإشارةُ مرور المُشاة حمراء»! لم يعِرني اهتمامًا، وتابع سيره كأنّي لم أقلْ شيئًا، أو كأنّه لم يسمعْني. تابعتُ السّير ودخلت محلَّ بقالةٍ لأشتريَ علبة تبغ. سألتُ البائع إن كان ثمّة أمرٌ غير اعتياديّ يجري كردّ فعلٍ على ما دمّرتْه العاصفة، فأجاب بسؤال آخر: «مثل ماذا»؟، قلت: «ألا تلاحظُ أنّ الحياة تسير بشكل اعتياديٍّ مع أنّ الأمر خطيرٌ جدًّا ويكشف مدى هشاشة بنيتنا التّحتية جرّاء فساد المسؤولين؟». فنهرَني قائلاً: «خُذ تبغَكَ وارحَلْ، دعْ يومي يمرّ بسلام، لستُ بحاجةٍ إلى مجانينَ يفاقمون الأمور عليّ».
فتحتُ علبةَ التبغ وسحبتُ سيجارةً منها. ثمّ توجّهتُ إلى محلٍّ لبيع قهوة الإكسبرس. دخلتُ القهوةَ فوجدتُ الحضور منهمكًا بالحديث عن مباراة كرة قدمٍ جرت بالأمس بين فريقين أوروبيّين. حاولتُ مقاطعتهم وجرّ النّقاش إلى موضوع العاصفة وما سبّبَتْه من أضرار. صمتوا قليلاً، ثم تابعوا حديثهم وكأنّي غير موجود. «ولكن أيّها النّاس، الموضوعُ خطير، وعلينا أن نفعل شيئًا». قلتُ لهم، فأتى صاحب الإكسبرس ودفعني بعنفٍ إلى الخارج. تابعتُ سيري محاولاً من جديد الدعوةَ إلى تحرّكٍ لمعالجة الأمر، إلا أنّي أثناءَ مسيري لاحظتُ تغيّرَ ردود فعل مَن أصارحهم بالأمر. كانوا في البداية ينهرونني ويصدّونني ويعنّفونني. في ما بعد، أصبحوا يهزؤون مني، فجعلوني أضحوكة بينهم. وأنا أحاول، كلّما أمعنوا في سخريتهم، اتّخاذَ وضعيّة الصرامة والجدّ أكثر فأكثر، الأمر الذي زاد من ارتفاع أصوات ضحكاتهم. وأخذ ينضمُّ إليهم راكبو السّيارات والدراجات الناريّة، فتوقّف السير والحركة، وصرتُ فرجةً لهم.
وما إنْ همّت دوريةٌ من الشرطة بإلقاء القبض عليّ صرختُ غاضبًا: «ماذا تفعلون يا جهَلة!، يا عديمي الإحساس!، لقد متّم منذ زمن. متّم مُذ فقدتُم براءَتَكم. مذ فقدتم الدّهشةَ والقدرةَ على رفض الواقع الذي تعيشونَه، مذ اعتدتُم واقعَكم المرير، من اللّحظة التي لم يعدْ فيها غريبًا عنكم».
لم تنفعْ كلماتي في حَرْفهم عن متعةٍ هم فيها، بل ازدادوا قهقهةً عندما تمكّن منّي رجالُ الشرطة. كبّلوني واقتادوني بسيّارتهم إلى مركزهم، حيث تقرَّر، بعد اتصالهم بعائلتي وبعد استشارةٍ عاجلةٍ أجروها مع طبيبي، سَوقي إلى المصحّ.
[ شكر خاص لهشام جابر]
جادّة الصَّواب
ما زال النّهارُ في بداياته. أقصد مقهًى في أحد الشّوارع الرّئيسية للعاصمة. أطلب فنجانًا من القهوة وزجاجةَ ماء. أرتشف القهوة متأمّلاً الحاضرين. لا أتعرّف إلى أحد، رغم أني أرتاد هذا المقهى منذ زمن، فلا هُم بادروا لنتعارف، ولا أنا فعلت. يمرّ الوقت بطيئًا. أُحادث العاملين في المقهى حتّى يَحين موعد الغداء. يبدأ الازدحامُ بالمقهى فأشهد حركةً غير اعتيادية حول طاولتي. أتنازل عنها من فوري. أدفع الحساب وأنصرف إلى مقهى آخر، أعرف فيه بعض الأشخاص ولكن تقطّعت أواصر العلاقة بيننا، لاعتباراتٍ يردّونها غالبًا إلى مزاجٍ وأطوارٍ غريبة أعاني منها. قبلتُ هذه التّهم على مضَضٍ وتكيّفتُ معها. أصبحَ لديّ قناعةٌ راسخةٌ بأنّي شخصٌ مختلفٌ رغمًا عن إرادتي وجهدي ونزوعي نحو مقاومة التّهمة، عبْر بذل جهودٍ مضنيةٍ لأكون رقمًا ضمن المجموع، لكن عبثًا حاولت.
للمرة الثانية أطلب زجاجةَ ماء وفنجانًا من القهوة، لكن هذه المرّة ما تُسمّى بـ«التركيّة». عند العصر، تبدأ الحشود دخول المقهى واحتلال كلّ طاولاته. لم يبقَ أحدٌ سواي يجلس وحيدًا على الطاولة. أضيق ذرعًا من الجوّ الضاغط الذي يُشعركَ بالذنب من حجزِكَ طاولةً يمكن لصاحب المقهى أن يجني منها أرباحًا أعلى في ما لو شغلتها مجموعة، فأغادر المكان بعد دفع الحساب.
أنتظر أيَّ ردّ على رسائلي التي بعثتُ إلى أشخاصٍ أعرفهم وأتوسّم فيهم الخيرَ كي ينقذوني من عزلتي ولو للحظاتٍ معدودة، لكن عبثًا. أتناول المعجّنات وأقصد مقهًى آخر، إلى أن حانت السّهرة. يأتي الساهرون وتبدأ أسئلةُ العاملين تلحّ على مسمعي وتعكّر صفوَ جلوسي: «ماذا تريد أن تشرب سيّدي»؟
«شكرًا لكم أصدقائي، لكنّي لا أشرب».
«لماذا؟ ألأسباب دينيّة»؟
«لا، ولكني ممنوع من تناول المشروبات الروحيّة لأسباب صحّية».
«سلامتك أستاذ. إذًا، هل يمكن أن نستأذنك بالجلوس على البار وتناول ما يحلو لك وتَرْكِ الطّاولة؟ فهي محجوزة لساهرين سيأتون بعد قليل».
«حسنًا، حسنًا، أشكر لطفكم».
أقترب من البار وأطلبُ فنجانًا آخرَ من القهوة وزجاجةَ ماءٍ يأتيان بعد شيءٍ من التأخير. أصرف الوقتَ الضائعَ بالعبَث بهاتفي الخلويّ الذي لا يُبدي أيَّ حركةٍ تؤكّد لي أنه لا يشكو من شيء. يزدحم البار بالسّاهرين. كي أتلافى الإحراج، وكي أُظهر لهم أنّي أستهلك، أطلب فنجانَ قهوةٍ آخر. يتأخّر الفنجان. أحاول قطع الطّريق على المدير، فأسأله أن يستعجلوا لي به. تمرّ نصفُ ساعة ولمّا يأتِ، والمقهى إلى ازدحام. ألعن هاتفي وأصدقائي ومعارفي وأقربائي وكلَّ من يمتّ لي بصلة، صارخًا في سرّي كي يُنجدني أحدُهم عبر احتضاني والقول: «ما تراه عيناك عاريًا ليس الحقيقة، إنّه مجرد أوهامٍ وأكاذيب، تهيّؤات مرضكَ الذي تعاني منه».
أطلب فاتورةَ ما تجرّعتُ من قهوة، فأجدها تفوق طاقتي، وفيها الفنجان الذي لم أحصل عليه. أجمع كلَّ ما بجيبي، وأستعين بالعملة المعدنية التي أحملها معي باستمرار لمثل هذه الظروف. أعطيهم كلّ ما أملك، ويبقى لهم في ذمّتي مائتان وخمسون ليرة لبنانية. أعتذر منهم مرتبكًا ومُتململاً من الإحراج. أخرجُ وأنا أشعر بضيقٍ من هذه المدينة ومن ناسها. أقصد الشّارعَ الرئيسيَّ كي أجوبَه سيرًا على الأقدام نحو غرفتي. ألاحظ أنّ لا وجودَ لمتسكّعين أو متسوّلين في هذا البرد، فقط سهارى مخمورون. لا أدري من أين يأتي هؤلاء ليليًّا بكلّ هذا المال كي يبقوا مخمورين ومخدّرين.
أصل إلى غرفتي، وأنظر إلى ساعة هاتفي. ما زالت السهرة في بداياتها، إنّها العاشرة ليلاً. أشعل الغاز، وأشرعُ في تحضير ركوة قهوة على ضوءٍ خافتٍ يأتي من موقف السّيارات المُحاذي لغرفتي. وقبل أن أذهب إلى النّوم، أتذكر تعليمات طبيبي بضرورة الحرص على تناول أدويتي بشكلٍ منتظمٍ وروتينيّ، كي لا ينحرف وضعي عن جادّة الصّواب.
فوكو يقع في شراك دِريدا
ما يعلن دِريدا موتَه في كتابه «علم الكتابة» هو: الكتابة القائمة على الكلام بوصفها تمثيلاً له والذي هو بدوره تمثيلٌ لنوازع النفس. أي موت تلك الكتابة التي صنّفَت كتمثيلٍ للتمثيل. وما ترنُّحُ الكتاب (كتاب هذه الكتابة) وموتُه المضطرّد من خلال طفرة المكتبات إلا تعبيرًا صارخًا عنه والتي ارتبطت، ولوقتٍ طويلٍ لغاية حاضرنا والذي نشهد فيه ختامها كمرحلة امتدّتْ لما يزيد على الألفي عام ونيّف وكانت مرتبطة بتلك النزعة الغربيّة المركزيّة أو أساسها.
إننا نشهد مرحلةَ تقويضها، ليس لأنّ الكتابةَ بدأت تحتوي اللغة وبدأنا نشهد شيوعَ هيمنتها حديثًا فأصبحنا نتكلم عن كتابة موسيقى ورياضة وسبيرنطيقا ورسم ونحت وإلى ما هنالك، فهي ربما كانت تحتوي اللغة وأكثر من ذلك، ولكن طُمس الأمرُ ولم يكن بالإمكان تغييرَ المسار. ما يجري تقويضه الآن هو الكتابةُ الصوتيّة وارتباطها بمركزيّة اللوغوس الغربي. وقد عجز فوكو عن ملاحظة هذا الأمر، أيْ ملاحظة هذا التمييز في نوعيّة الكتابة وليس أي كتابة، المقصود في مشروع دريدا الكتابة التقويضية، فجاءت ملاحظات فوكو في كتابه «حكم الذات وحكم الآخرين» قاصرةً أو من مقاصدها التعمية، إذ يقول في الصفحة ٣١٧ «لا يتعلّق الأمر أبدًا بقدوم مركزية اللوغوس الذي يجب تحليلُ رموزه في رفض الكتابة، إنه قدومٌ لشيءٍ آخر؛ إنه قدومٌ للفلسفة، فلسفة تكون حقيقتُها الفلسفيّةُ هي ممارسةُ النفس لنفسها؛ إنه شيءٌ مثل الذات الغربيّة التي استخدمت فعليًّا هذا الرفض المتزامن والمقترن بالكتابة والخطاب».
إنّ ما يخفيه فوكو من خلال رفض مقولة «قدوم مركزيّة اللوغوس» بتصريحه إنّ ما قَدِم هو لحظة تَفلسفٍ غربيّة إذا جازت العبارة وقدومٌ لذات غربية (إلا أنه لم يُفصح لنا عن ماهيّة هذه الذات الغربية وعن مشروع تفلسفها)، سرعان ما يفضح نفسَه في الصفحات اللاحقة من الكتاب نفسه عندما يكتب فوكو جهارًا في الصفحة ٤٢٥: «أليست الفلسفة ظاهرة فريدة وخاصة بالمجتمعات الغربيّة». عندها يظهر فوكو متلبّسًا، وبكامل أناقته، بالمشروع الذي أراد دِريدا تقويضه.
بيروت وصورة بغداد المرتجاة
إننا نسير بخطًى حثيثة وثابتة باتّجاه أزمة ضَواح، جوهرها أحزمةُ بؤس يسود فيها التفلّت والخروج على القانون والسرقة والنشل، أحزمةٌ يكون دخول الغرباء عنها إليها خطرًا عليهم وعلى سلامتهم الصحية والجسدية، بحيث لا يعود بالإمكان التعايش بين مركز المدينة وهذه الأحزمة. إننا نسير، نتيجة سياساتٍ طويلةٍ من إقصاء الدولة عن تولّي مهمّاتها، إلى صوَرٍ قريبة الشبَه ببعض الضواحي المحيطة ببعض المدن الأوروبية والغرب أميركية. هناك تكون الأسباب واضحة، فالدولة تنسحب من تَولّي مهمّاتها حين يعجز المواطنون والقاطنون في هذه الضواحي عن تمويل مهمّاتها الواجب عليها القيام بها، جرّاء تخلّفهم عن دفع الضرائب، والناجم عن إقفال المعامل أو المصانع أو انتقالها إلى أمكنة أخرى. وعندما تقفل هذه المعامل والمصانع، التي كانت السبب في نشوء الضواحي، تتحوّل أماكن السكن حولها إلى غابة أو صحراء لا حياة فيها.
ما العمل ولنشوء الضواحي عندنا أسبابٌ شتّى؟ ففيها يقيم الغنيّ والفقير، ميسور الحال وفقيره، يتجاوران ويتدبّران العيش بآليّات عملٍ قائمة على سكوت الميسورين، لضيق يدٍ أو لضيق مساحة الأرض التي ينوون الانتقال للعيش فيها، أو لأنّهم يجدون الاستقرار النفسيّ والعاطفيّ في هذه الضواحي، بفعل الانتماء الطائفي لها والتوجّس من الآخر، نقيضهم في الولاء الطائفيّ والمذهبيّ والسياسي، حتى ولو كان ميسور الحال مثلهم. إنها تسوياتُ الأمر الواقع، يُنشئها الغنيّ والفقير في أحياء الضواحي، وتنفيعاتٌ بين بعضهما البعض، والشعور المتبادَل بالانتماء لمصيرٍ مشترك في بلادٍ لا تعرف الاستقرار. أما الغرباء، فممنوعٌ عليهم الدخول أو التحرّك على راحتهم، سيُفضح أمرُهم، ستفضحُهم حركاتُ أيديهم وأرجلهم، وارتباكاتُ عيونهم القلقة والمتفحّصة للأمكنة التي يودّون الاسترشاد للوصول إليها بأدلّة وعناوين زوِّدوا بها مسبقًا إذا ما قصدوها لغرض ما.
لم نصل نهارًا إلى درجة الرعب، لكن المؤكّد أننا وصلنا إليه ليلاً. لم نصل نهارًا إلى حدّ الاعتداء على الأجساد بقصد النشل، إنما في الليل الخطر قائم، اللهمّ إلاّ إذا كان الأمر يعني تلقين درسٍ لصاحب إحدى المؤسّسات التجاريّة كي يزيد قيمةَ الخوّة الواجب دفعها، أو أنه يحاول التهرّب منها، عندها تصبح الوسائل متعددةً لمضايقة الداخلين والخارجين إلى محلّه، كقيام بعض الباعة المليشياويين بفرض أنفسهم على الزبائن الوافدين أو الخارجين بحجة بيعهم مقتنيات لا نفع فيها، إذ يتقرّبون منهم لدرجة ينقطع فيها نفَس الزبون المستهدَف، ويفرضون أسعاراً تصل إلى عشرات الدولارات ثمن علاّقة مفاتيح. يرتبك الزبون فيدفع ما يأمره به المليشياويّ، لتفاجأ بعد أيّامٍ بتبخّر أولئك الباعة وحلول حارس نهاري وليلي مكانهم، وبثيابٍ أنيقة. إذًا تمّ توظيف عدد من المليشياويين كحرّاس وكـ«فاليه باركينغ»، وتم دفع خوّة مناسبة، وحلَّ الرضى إنما لأجلّ مسمّى لا ندري متى ينفجر من جديد.
إذا ما استمرّ الحال على ما نحن عليه، وفي ظلّ دولةٍ وأحزابٍ تدير ظهرها للمشكلة وتستعيض عن حلّها بلجان أحياءٍ لضبط تعدّيات الناس على بعضهم البعض، فإننا، ولا شكّ، مقبلون على أحوالٍ أسوأ، تظهر معها صورةُ بغدادَ حين دخل المحتلُّ الأميركيّ وسقط نظامُ البعث وهرب صدّام البائس مجرّدَ تفصيلٍ صغير.
فاعل خير ساكن في الحُسين
يدخل صديقي إلى المنزل منهكَ الأعصاب جرّاء عمله كمدقّق حساباتٍ في المتجر المجاور لمسكنه. تصطدم رجلُه بعربة الخضروات والفاكهة الجديدة في زاوية المدخل، فلا يعير الأمر اهتمامًا. تفاجئه زوجتُه بالسؤال «هل أعجبتك هدية جارنا؟»، فيجيبها صديقي: «المهمّ أن تحافظي عليها، وأن لا تُكثري من موادّ التنظيف فيها، فأحيانًا يُفسد الكرمُ الأمور، كما أفسدتِ الأولاد في دلالِكِ لهم، سواءٌ في المصروف أو المأكل أو الملبس».
تُكرمه على الغداء، فيشكرها على اهتمامها الفائض ويقول: «على طباعِكِ أن تكون هكذا على الدوام، تُكرمين الخيّرين معك». تدخل معه غرفةَ النوم، تنزع عنه ثيابَه وتُلبسه ملابسَ النوم ثم تغادر لتستحمّ. يدخلُ إليها، يقبّلُها في جبينها وعلامات الرضى باديةٌ في عينيه. ولشدّة تأثّره من معاملة زوجته الثانية له، يكاد ينفجر بالبكاء أو ينهار. فهو قد طلّق زوجته السابقة بسبب سمعة لحقتْ بها عن طريق الخطأ والنميمة، فلم يتحمّل الأمر برمّته. ضاجعتْه قليلاً فسرعان ما قذف. أخذتْ منديلاً مبلّلاً بالماء، مسحت منيه وغطّت في نوم عميق إلى جانبه.
في المساء قرّر النزول الى الحيّ لتناول كوب قهوةٍ مع شلّته. هبط السلالم، وكلّما وصل إلى طبقةٍ من طبقات المبنى سمع قهقهات النسوة اللواتي بادرن إلى المباركة له بعربة الخضروات الجديدة التي أحضرها جارهم. ولمّا وصل إلى الدرج الأخير، وجد الجار الذي أحضر العربة هديّةً لزوجته يُدخل لساكني الطابق الأرضيّ جرّة غاز، فشكره صديقي على روحه المُحبّة للخير، وأكدت على كلامه أرملةُ منزل الطابق الأرضي.
حوار لأجل قتل «نظيف»
سأله بلهفة الخائف من أن تعاوده رجفةُ اليد، «أتعلمُ أيَّ شيءٍ عن المدعوّ سيلان؟»، أجابه هايدغر وهو يتناول حنجورَ المهدّئ من يد تلميذه المخلص غادامير: «إنه مجرّد شاعرٍ تافهٍ لا قيمةَ له ولن يؤثّر على سمعتي في شيء ولن يزيدَها لا ضررًا ولا بهاءً، باختصار هو أقلُّ من بعوضةٍ يقتاتُ على دماء ورِفعة الآخرين».
سأله غادامير رافعًا من عقيرَته كي يتسنّى لمعلّمه أن يسمعه بعدما أصاب أذنيه طرشٌ موضعيّ: «أما زلتَ تقيم في الغابة السوداء؟»، يردّ هايدغر بصوتٍ أعلى كي يتسنّى له سماع صوته إن كان مسموعًا لتلميذه: «وأين تراني سأجد الراحة سوى في صحبة الأرض والزرع والفلاحين؟».
لترطيب الأجواء على الحوار مع المعلّم، سأله غادامير عن أخبار خليلته حنّه، التي يؤثِرُها على جميع عشيقاته اللواتي تتلمذنَ على يديه. برقت عينا هايدغر، فارتاح بالُ غادامير إلى أنّهما سيدخلان مباشرةً في صلب الموضوع الذي أتى من أجله. سأل غادامير بثقة العارف: «ماذا عن سيلان ران؟»، صمتٌ طويلٌ قطعه التلميذ الوفيّ قائلاً: أقترح قتلَه، فأنا مرتاحُ الضمير لهذا الحل».
أجاب هايدغر: «أخلاقيًّا، لا مشكلة في ذلك، فلطالما اعتبرتُ في كتبي أنّ الأخلاق تحمل الجدّ والهزل وترضى التفاوض بشأنها وهي محلّ أخذٍ وردّ في السياسة والثقافة. حسنًا اقتله، فقتلُه سهلٌ جدًّا. إجعَل له كتابًا يهينه ويجرحه في الصميم. تفّه له أشعاره. لا أحد سيقف معه، أما نحن فقد نفدنا بجلدنا سابقًا والآن لا أحد سيحاكمنا فيدانا غير ملطختين بالدماء، والأفكارُ لا يحاكَم عليها. ماذا بإمكانهم أن يفعلوا سوى الصفح والغفران لنا كما فعلوا سابقًا؟ أريدك أن تفهم يا تلميذي غادامير، ما داموا هم بحاجة لنا ولخبراتنا ولأرضنا والجغرافيا التي لنا وسط المنتصرين، فلن يمَسّوا شعرةً منا، لذا اقتُلْه وكُن خالي البال. لن يَمسّوكَ بسوء، بل على الضدّ من ذلك، سيقفون إلى جانبك تحت أيّ ذريعة حتى ولو كانت مثل عسر أشعاره. ما دام يعرقل سياسة العفو العام فلن يقفوا في صفّه. ستستمرّ الحياة ولو على حساب الذين قضينا عليهم أو قضوا عليهم. لن تهمّهم حياةُ شاعر، ولن يسألوا إذا ما ألحقناه بضحايا الأمس المقدّرين بالملايين. لا عليك، اقتله، نفِّذ ما أمرتُكَ به».
بعد برهة يسأل هايدغر تلميذَه: «بالمناسبة، أين أصبح كتابكَ العمدة الذي تعمل عليه مذ كنتَ شابًّا ولم تنجزه حتى الآن؟» رانَ صمتٌ طويلٌ استأنف بعده هايدغر تعليماته مقاطِعًا تأتأةَ تلميذه: «لا عليك، اهتمّ بشأن ما أمرتُكَ به، وأنا سأهتمُّ بشأن كتابك. من المهمّ التخلّص بسرعةٍ من المسألة وبأيدٍ نظيفة، من دون أن تترك له أي فرصة للنجاة. هيّا، غادِر الآن، ولْترافقْكَ الآلهةُ في مسعاك».
رولان بارت وحمامٌ زاجلٌ وصَباح
تحطّ يدٌ صغيرةٌ رحالها في يدي الكبيرة. أتأمّل الوضعَ الغريب، وقبل أن أنبسَ بأيّ كلمة وقبل أن يتسنّى لي التشبّث بها، تنزع الطفلةُ الصغيرةُ يدَها من يدي وتفرّ هاربة. أتبع تعليمات الورقةِ بحذافيرها، مانعًا نفسي من الكلام، فالإجبار عليه كما الإجبار على الصمت، فاشيّةٌ على حدٍّ سواء، كما ذهب في ذلك البنيويُّ على ما يُقال لنا، وهو أكبر من أن تحدّه مدرسة أو طريقة أو مذهب، المرحوم رولان بارت. متصرّفًا بعبارته كما يحلو لي، منفّذًا وصاياه حيال موت المؤلف كما أتصرف الآن حيال تعليمات الورقة التي وصلت إليّ بواسطة الصغيرة، بدل أن أقفل هاتفي النقّال وأرميَه في المنزل كي أستعمله كعادتي بعد أن أعود من مهمّاتي التي طُلب مني تنفيذها، أرميه في دلو ماء.
أسير إلى دالية الروشة عند حلول الظلام، فنحن في فصل الشتاء والليل فيه يحلّ باكرًا. بينما أسير أتفقّد الأمكنة، أتلفّت يمنةً ويسرةً لرؤية ما إن كان أحدٌ يتبعني. أصل إلى وجهتي وأنزع الغطاء عن جهاز الكشف عن أجهزة التنصّت من كاميراتٍ ومجسّاتٍ وميكروفونات مشوِّشًا عملَها. أطمئنّ إلى نجاح مهمّتي، وأنتظر مجيء محبوبتي من مجرّة الأرض. مزمجزةً تدخل مغارتنا وتجهش في البكاء. تقول إنّ أهلها زرعوا مسكَنهم بالمجسّات والكاميرات، حتى في المرحاض فعلوا ذلك. لقد بات الاستحمام أو قضاء الحاجة مراقبَين، وعليكَ أن تقوم بهما حابسًا أنفاسكَ وعاريًا أمام خلق الله أجمعين. تقترب منّي وتهمس في أذني أنه ما عاد باستطاعتها حتى الاستمناء على وقع استيهاماتها بي أو بغيري. هدّأتُ من روعها وطلبتُ منها بإلحاح كي تصلّي ركعتين إضافيتين أثناء صلاتها للبارئ إلى المرحوم رولان بارت لإدانته الصارمة لهذه الأفعال التي يأتون بها، فردّت بدلال: «ما لي ولفقيدك العزيز على قلبك والذي لم أسمع به من قبل؟ بالمناسبة هل هو صاحب طريقة أو مذهب في الحياة؟».
هززتُ رأسي من دعابتها الثقيلة على طبعي الجادّ، فغيّرَت حديثَها فورًا لتفادي وقوع الأسوأ. قالت: «لا عليك، لم نأتِ إلا لنتباحث في شأن تنظيم لقاءاتنا بسرّيّة تامة وبعيدة عن أعين وميكروفونات الكاميرات، لذا أقترح عليك اعتماد وسيلة الحمام الزاجل كما كان يفعل أجدادُنا العرب في مراسلاتهم». قلت لها: «حسنًا»، محيّيًا نباهتَها وذاكرتَها التاريخيّة وصونَها لإرث أجدادها، ومحاولتَها إعادة بعثه من جديد، ولو بفعلٍ يقتصر على الغرام.
فتحتُ جيبَ بنطالي الأماميّ بعد أن شقّيتُ سحابته معلنًا لها أني أملك أعظم حمامةٍ زاجلةٍ ذات نسلٍ عربيٍّ أصيل يعود لأجيال موغلة في القِدم. سُرّت بطبيعة الحال بعد أن شاهدت جمالها وحسن تأصيلها، مؤكدةً صدقي ومحيّيةً إيّاي. ثم قالت بصوتٍ مرتفع: «ليتَ جميعَ العرب بصدقك وأصالتك». فقلت لها يوجد كثرٌ منّا، لكنّكِ لم تصادفيهم بعد. هنا أعلنَتْ بجدّية كمن يتلو بيانًا عسكريًّا عبر التلفاز أنّ بها رغبة لمعانقة جميع الحمامات الزاجلة، وأقسمَت أنها لن تفرّقَ بين زيد أو عمر. فقلت لها إنّ المناسبة تقتضي أغنيةً أفضل من هذه الأغنية. ضحكَت وقالت «ممّ تشكو صباح؟ عفوية وصريحة ومغناج وأفضل من صاحبك رولان بارت الذي لا يملك حمامًا زاجلاً في منزله ولا يقتنيه أصلاً». ضحكتُ من الموقف الذي وضعت نفسي فيه، وعلى غبائي المتثاقف من صباح رحمات الله تنزل عليها كي تتشفّع لها.
ذئبٌ متوحّد
- – من أتى بكَ إلى هنا؟
- – أحد المعارف القدامى، الذي شخّص حالتي بأنّي أعاني من اضطرابات.
- – وعائلتك؟
- – إنّهم مشغولون.
- – مشغولون بماذا؟ ما الذي يشغلهم ويفوق أهمّيته ما أنتَ فيه؟
- – مشغولون بأنفسهم. وَهُم كالجميع، بحاجة لمن يرعاهم ويأخذ بيدهم، لكنّهم يغطّون عجزهم بالهروب، وكَيْلِ التّهم لي، وتحميلي مسؤوليّة ما جرى. إنّهم لا يختلفون في شيء عن السّواد الأعظم من الناس.
- – ولكنّهم متعلّمون كما فهمت.
- – لكنهّم لا يفقهون شيئًا.
- – حسنًا لن ندخل في جدال حول من يفقه ومن لا يفقه.
- – صمْت، وبعد هنيهةٍ يعود الاستجواب.
- – ماذا جرى معك ولمَ أنت هنا؟
- – أرادت عائلتي إلباسي قناعًا آخرَ غير القناع الذي أرتديه.
- – حسنًا وما الضّيرُ في الأمر؟ في النّهاية هو قناع.
- – هو قناع، صحيح، ولكنّي غير مقتنع به، وبالأساليب الملتوية الّتي فرضوها عليّ لارتدائه.
- – أتلمّح إلى وجود مؤامرةٍ عليك؟
- – حسنًا، في البداية شعرت أن ثمّة ما يحاك ضدّي. في ألاعيب كلامهم غير الصّريحة، والمحمّلة بالرسائل. إضافة إلى تكتيكاتهم الاجتماعية. إلّا أنّي كنت عاجزًا عن فهمها لأنّها تنتمي إلى ثقافة قناعٍ أمقته وأنفر منه.
- – هل فكّرتَ يومًا بالانتحار؟
- – في المصحّة السّابقة، وقبل سنوات، كانوا دائمي السّؤال عن هذا الموضوع الذي لم يخطر في بالي يومًا. بعد ذلك، وبسنوات، وبعد أن أعادوا النّظر في تشخيص حالتي، وشرعتُ في تناول علاج جديد يناسب الحالة الجديدة التي شخّصوها، أخذت مثلُ هذه الأفكار تراودني باستمرار. لا أدري إن كان ذلك بفعل الأدوية، أو بفعل إصرارٍ ليس فقط من العائلة هذه المرة، إنّما من كل المحيط، بارتداء قناع يلائم علاقات المحيطين بي. لكنّي ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً برغم كل محاولاتي الفاشلة لارتدائه.
- – هل جربتَ يومًا الخضوع للتّحليل النفسي؟
- – خضعتُ له مرارًا. إنّ هؤلاء، وبرغم كل ادّعاءاتهم أنّهم يعالجون ما يواجهه المرء من صعوبات، إلا أنّ معرفتهم سطحية، ولا يملكون أبعادًا عميقة، وهم غير مثقفين. باختصار، هم كالأطبّاء العقليّين، همّهم واحد، يرغبون في رؤيتكَ عضوًا متناسقًا مع المجتمع، كلٌّ حسب طريقته وما تعَلَّم. وهم لا يعيرون كلامَ من يُسمّى بالمريض أيَّ اهتمام، فبرأيهم أنّهم يملكون الحُكمَ النهّائي والقولَ السّليم في تشخيص الحالة. يعتقدون أنهم يملكون مقاييس الشّخصية السّوية في هذا العصر، وما على المريض سوى الانصياع لإرادتهم كي يعيش حياة هانئة ورضيّة.
- – ولكن ألا ترى أنّك تتحامل قليلاً عليهم؟ فكلُّ غايتهم، ألّا تتحوّل إلى ذئبٍ متوحّدٍ ناقم. يريدون لكَ أن تعيش بهناء وسط دفء المجموعة.
- – هذا بالضّبط ما أرفضه، وما أعتبره سببًا للا إنسانيّةِ المجتمع. فهم يصنّفون كلّ فردٍ خارجٍ عن إجماعهم عدوًّا وجب سَوقه إلى المصحّ لإعادة التّأهيل، أو إلى السّجن عند أيّ هفوةٍ أو جنحة. فبرأيهم، هو يشكّل خطرًا على حُسن سير نظام حياتهم، ويعكّر صفوه. إنهم لا يقبلون بالتّعايش معه ومع ذئبيّته، وتركه ليعيش بين جنباتهم، فهم يعتبرونه فيروسًا سيتكاثر وسينقل عدوى خطرة إلى النّفوس الضّعيفة، لذلك لا يأمنون جانبه فهم يعلمون أنّه لا ينحو منحى السّلمية، فطبعه التّمرد والسّعي لخلخلة ما هو قائم. باختصار، لا يأمنون العيش بجواره، وهم محقّون في ذلك تمامًا.
- – إذا كانوا برأيك محقّين، ويدافعون عن نظام حياتهم منكَ ومن أمثالك، فأين مكمن الغرابة في سلوكهم؟ لا بل أجد أنّ الغرابة في أقوالك.
- – ليس في الأمر غرابة. لمن هم في مثل أوضاعي، يرجع الأمرُ إلى تأويلين مختلفين، بل ومتناقضين، فهم يعتبرونه شرًّا وجب اتّقاؤه، أمّا أنا فأعتبره قوّة إيجابيّة كامنة فيَّ وفي أمثالي. نحن نمثّل الوعد الذي من خلاله تلقى شرارات الإنذار، للتّنبيه إلى أنّ ثمّة تبلّد قيم وعادات في المجتمع، أو انحراف في قيمه، حين لا تعود تراعي الشّرط الإنساني في الحقيقة، وفي النّظرة المدقّقة لنا. في النهاية، أنا وأمثالي قوةُ خيرٍ لا قوة شر كما يحلو للمجتمع أن يصوّرنا.
- – حسنًا، بدأت تتوضّح المسألة قليلاً في ذهني. لكنّي ألحظ فيكم عدمَ تشكّلكم في مجموعة. أنتم أفراد، يشكلّ كلٌّ منكم على حدة خطرًا ضعيفًا على المجتمع، وهو خطر فوضوي غير منظّم، فلو وحّدتُم قوتَّكم التّدميرية، وهذه الطاّقة التي تسمّيها إيجابيّة، والكامنة في كلّ منكم، لأتت النّتيجة أفضل على جميع المستويات كما أعتقد.
- – أعتقد أننا في عنق الزّجاجة، فمتى ما تحّولنا إلى مجموعة، ووحّدنا قوانا ونظّمناها، متْنا وخفّت طاقتنا، لا بل ستضمحلّ بدل أن تزداد. إنّها مسألة معقّدة، فإذا توحّدنا قُضي علينا كقوّة خلاقة، وإذا بقينا أفرادًا، كان تأثير قوّة كلّ منا هشًّا وضعيفًا. يكمن جوهر الأمر في كيف توحّد، وكيف تحتفظ بذئبيتّك في آن. إنّها معضلة شائكة، فكيف لنا أن نحافظ على التّأجّج والتّمرد وعدم انصياع كلٍّ منّا لنكون في مجموعة؟ كيف تمنع المياه الهادرة من الرّكود والتحوّل إلى مستنقعات آسنة؟ إنها المعضلة الكبرى برأيي.
- – حسنًا، أودّ آسفًا أن أخبركَ بأنّي مضطّر للتّحفظ عليك، بسبب الخطر الذي تشكّله على نفسك، لأنّ الحفاظ على ذاتك من ضمن مسؤوليّتنا كما أوصتنا العائلة، وعلى سلامة حسن سير النّظام العام للحياة الذي تشكّل أيضًا خطرًا عليه.
تحقيقٌ علنيّ عن شارع الحمرا
[مقاطع]
- – أحيانًا كثيرة أفكّر في الهجرة إلى قريتنا. لكنّي، وبسبب هجراني لها منذ الطفولة، متوجّسٌ منها. لا أدري كيف هي طبيعة أهلها، بل لديّ تصوّر بسيط عن ذلك، لذا تدور في رأسي أسئلةٌ كثيرةٌ من قبيل: هل أتقرّب منهم أم الأفضل أن أكون وحيدًا؟ أعتقد أنّ عليّ تجربة العيش معهم لفترة كي أختبر حقيقة الأمر.
- * ألهذه الدرجة أنت متعبٌ من هذا الشارع؟! لا أتخيّل أنّك، أنتَ من أدمن العيشَ في المدينة منذ يفاعتك، ذات يومٍ ستنتقل إلى القرية.
- – تعلمين أنّي أحتاج إلى الراحة، أتعبني هذا الشارع، أتعبتني علاقات من أعرفهم وأعرّف بعضَهم ببعض، وأتعبتني هذه الفوضى. لا أقصد أنّي مع التناسق، فجمال الحمرا أنّ فيها هذا الخليط من البشر الذي يعزّ في أمكنة أخرى من العاصمة، فهنا تجدين مختلف الفئات والشرائح والمهن والجنسيّات واللغات والعادات والأزياء.
- * إذًا ماذا تقصد بالفوضى؟
- لا شيء محدّدًا، هي أمور عديدة ومختلفة، وربّما لا تعبّر تسميةُ فوضى عن حقيقة ما يجول في خاطري.
- * مثلاً؟
- – إنّ ما يخطر في بالي على الفور هو منظر الأطبّاء والممرّضين والعاملين في مستشفيات هذا الشارع، هم يتنزّهون في الحمرا بثياب العمل وكأنّهم يسيرون في حرم مستشفياتهم وبكامل عدّة العمل، مثل آلة فحص المريض التي تجدينها مع أحد الأطبّاء وهو يتناول قهوته في أحد المقاهي. تُزعجني فكرة أنّ شارعَ الحمرا امتدادٌ طبيعيٌّ لهذه المستشفيات، تشعرين بالغرور يظلّلهم، ربّما هم إلى هذا الحدّ فخورون بالانتماء إلى هذه المؤسّسات، لكنّكِ قد تشتمّين منها رائحة تفوّقٍ يمارسونها على الآخرين في هذا المكان، أعتقد أنّهم مسكونون بعقدة نقص اسمها التفوّق على الآخرين.
- * لكن هذا كثير والأمر لا يحتمل هذا التأويل!! ففي دول عديدة يمارسون هذا الفعل؟
- – ربّما، لكنّني أجد الأمر على هذا النحو.
- * كيف يبدو لك هذا الخليط في المقهى؟ وهل يسرُّك؟
- – بالطبع لا يسرُّني لأنّنا لا نملك جميعًا ثقافةَ الأمكنة العامّة واحترامَ شروطها وقواعدها. إنّها كما يشبّهها صديق، مصطبة أو ساحة ضيعة حيث الأصوات والجلبة، والنتيجة تكون أن لا أحدَ يستمع إلى أحد. وما يزيد الطين بلّة، الموسيقى الصادحة في المقاهي، فمع أنّها تكون وكالة لمقهى أجنبي، إلا أنّها تُدار على الطريقة اللبنانيّة. فنوع الموسيقى يقرّره العاملون في المقهى كلٌّ وفق مزاجه، فأحيانًا، عند الصباح أو في أوقات مختلفة من اليوم، يضعون أغانيَ صاخبة من أنواع ولغات مختلفة، فلا يعود بإمكانك إجراء محادثة ولا القراءة ولا حتّى الكتابة، هذا ولم نضِف بعدُ المتحدثين عبر الهاتف، ويكونون من التجّار الجدد الذين تدفّقت عليهم النعمة حديثًا، فضلاً عن مستخدِمي خدمة «السكايب». إنّها حفلة جنون رسميّة! أمّا العاملون فيرغبون بإقامة علاقة صداقة وودّ مع الزبائن، وأنا أرغب بذلك طبعًا، لكن وبناءً على تجاربَ سابقة حصلت معي ومع آخرين، يضيّع العاملون البوصلة وتتداخل الأمور فتفقدينَ الاحترام بسبب تطاول بعضهم على اعتبار أنّنا أمسينا أصدقاء، كما تُهمل خدمتك إلى درجة مزرية. مع أنّ المرء يتعاطف معهم ويرغب بعقد صلات في أماكن تواجده، إلا أنّ الأمور ليست دومًا مبشّرة. ثمّ إنّ علاقات المسؤولين عن هذه المقاهي تخوّلهم، برأيهم، عقدَ صلاتِ ودّ فقط لأنّهم مسؤولون، مع أنّكِ غير راضية عن السلوكيّات الظالمة التي يقومون بها تجاه مَن هم أدنى مرتبة منهم، إذ إنهم يكلّفونهم بخدمات خاصّة بهم، والأعلى يكلّف الأدنى وصولاً إلى آخر السلّم الوظيفي، تمامًا كعلاقات المعلّم والصبي في المهن الحرّة. ولكِ أن تتصوّري الخدمات كافّة التي يمكن أن يطلبها المسؤول من الأدنى مرتبة منه من الطعام إلى فنجان القهوة، وربّما حاجيات المنزل، لا أدري، لكنّها واردة طبقًا لهذا المنطق من العلاقات.
- * لجميع المقاهي في الحمرا الشوائب نفسها، ألا توجد في قاموسك استثناءات؟! أنت تعمّم دومًا، ألا تلتقط شيئًا إيجابيًّا واحدًا حيث تكون؟! ألا تملك موهبة الإحساس بما هو جيّد؟ كلّ ما حولك مظلم وسلبيّ، لمَ لا تأخذ الأمور على محمل التفاؤل؟!
- – حسنًا، اجلسي مكاني وراقبي شارع الحمرا في أي وقتٍ من النّهار وأيّ فصلٍ من السنة، وأنا كفيل أنّ السلبيّة ستدخل حياتَك.
- * لكن لمَ لا تدع الأمور والنّاس وشأنها؟ كونك عاطلاً من العمل وتملك متّسعًا من الوقت لتراقب، فمن المؤكّد ستجد الكثير من السلبيّات، أمّا إذا كنت تعمل فلن يكون بإمكانك ملاحظة ما تلاحظه!
- – صحيحٌ قولك، لكن دعيني أورد لكِ بعض الأمثلة وفي أيّ ظروفٍ يحيا اللبنانيّون. ستجدين أنّي على حقّ، فلتوتّرهم ومهدّئاتهم وكمية الكحول التي يعاقرونها مصدرٌ واحدٌ هو هذا الضغط الذي يحيط بهم، من فضلك دعيني أوضّح.
- * تفضّل.
- – انظري إلى الشارع. في المشهد الأوّل أو الانطباع الأوّل اعتبري نفسكِ أمام مسرح. يمرّ الناس على أرصفة ضيّقة، وهذه الأرصفة على ضيقها تستضيف لافتات وآلات ومعدّات من أنواع مختلفة وضعتْها الدولة، فتأخذ مساحة من الرصيف الذي بالكاد يتّسع لشخصَين. ثمّ انتبهي لحركة الدراجات الناريّة على الرصيف ذهابًا وإيابًا، تلك التابعة للمكاتب في الأبنية وللمطاعم، همّها الوحيد تأدية المطلوب بسرعة فائقة. وانتبهي إلى توتّر المارّة عندما يفاجأون بهذه الدراجات سواءً كانت تتحرّك أم مركونة، هل تعتبرين الأمر طبيعيًّا؟ وهل تعتبرين أثره على غفلة المشاة قليلاً؟ ولا تنسَي الرياضيين الذين يهوون ممارسة رياضتهم على أرصفة الحمرا، فهم في عجلة من أمرهم، وهناك أيضًا سيّاح أو مواطنون يتعرّفون على الشارع لأنّها زيارتهم الأولى له، فيمشون بحركة بطيئة، وهناك مَن يرغبون بالتسوّق فيقفون كلّ دقيقة أمام واجهات المحلات. تخيّلي هذه الحالة. ثمّ هناك هواة «السكوتر» الذين يعتبرون أرصفةَ الحمرا مكانًا مناسبًا لممارسة هوايتهم.
وطبعًا هناك المتسوّلون وماسحو الأحذية الذين يستقبلهم شارع الحمرا بودّ عكس مناطق أخرى. بعض هؤلاء يعقدون صداقات مع بعض روّاد الشارع، أمّا البعض الآخر فيستفزّون الروّاد بإلحاحهم الشديد، ومن الطبيعي أن يطرح عليكِ هذا الأمر سؤالاً أخلاقيًّا ملحًّا إذا كنتِ من روّاد الشارع: أنتِ عاجزة عن مساعدتهم وتداومين في شارع الحمرا يوميًّا مثلهم، فما العمل؟ يجد البعض حلًّا في الصراخ بهم، والبعض الآخر يزجرهم وآخرون يردّون بالكلمة الطيّبة، وهناك من يساعدهم. إنّ في الأمر مأساة حقيقيّة لأنّها مهنة يعتاشون منها. وكما نعلم، بعضهم مأجورٌ عند أشخاصٍ يؤمّنون لهم المأوى والحماية في الشارع ولدى الجهات المختصّة بهذا الشأن. هذا ولم نأتِ بعد على ذكر علاقات المتسوّلين بعضهم ببعض، إذ يفرض القويّ الخوّة على الضعيف. بالإضافة إلى المشاكل والشجارات التي تقع بينهم وقد تتطوّر إلى استعمال السكاكين، ما يضطرّ بعض المارّة إلى توصيل المصاب منهم إلى المستشفى ودفع تكاليف معالجته. هي مأساة حقيقيّة ولا أحد يدري ما العمل.
هذا ولم نأتِ بعد على ذكر زحمة السير. سياراتٌ بأحجامٍ مختلفةٍ منها الشاحنات الكبيرة. سائق سيارة أجرة يصطاد الزبائن حتّى ولو كانوا مارّةً على الرصيف فيطلق لصوته ولبوق سيارته العنان. تاكسي آخر يترجّل منه راكبٌ تعب من الزحمة. شخصٌ ينتظر داخل سيارته كي يقلّ أحدًا لا يكلّف نفسه عناء الانتظار خارجًا، فتقبع السيارة طويلاً في شارعٍ لا يتّسع لأكثر من سيارتين. آخر يبحث عن مكانٍ لركن سيارته في شارعٍ مليءٍ بالسيارات المركونة والسيّارة، فينتظر أحيانًا كي تخرج سيارة من الصف أو يوقف صديقه في مكانٍ خالٍ يتّسع لسيارته ريثما يتحرّك السير فيمسي بإمكانه ركنها، وقد ينشب خلافٌ لأنّ السيّارة التي أمامه تبحث عن موقف، عندها يصبح المشهد جميلاً ومبهجًا وإيجابيًّا يُتوّجّه ظهور سيارة إسعاف ببوقها الذي يقطع الأنفاس والمحادثات، منتظرة تحرّك السير كي تمرّ. ولا ننسى مواكب المسؤولين الذين لا يتوانون عن قطع الطرقات فيحبسون المواطنين داخل سيّاراتهم كي يمرّوا.
- * أهكذا تجد شارع الحمرا؟
- – بل أكثر من ذلك. أجده عنصريًّا تجاه من لا يُتقن اللغة الإنكليزيّة. إذا كنتِ كذلك، فأنتِ، بطريقة غير مباشرة، غير مرحّب بكِ في الأماكن العامة، فلائحة المأكولات والمشروبات في المقاهي والمطاعم مكتوبة باللغة الانكليزيّة، وإذا ما أردتِ الاستفسار تلقَين معاملةً استفزاريّة، تشعرين معها بالدونيّة. وإذا ما تكرّم أحد العاملين بالإصغاء إليكِ فلن تصِلي إلى نتيجة لأنّه يجهل ترجمة المحتويات إلى مصطلحات عربيّة. يلزمكِ دومًا مرشد من أصدقائك في الزيارات الأولى وإلا ستُبقين، ولفترةٍ طويلة، على صنف واحد. حتّى في الجلسات مع الأصدقاء تكون المحادثة مختلطة بين لغات عدّة يكون فيها حظّ اللغة العربيّة قليلاً. على كلّ حال، لقد نمَتْ أجيال في لبنان وما عادوا ينطقون باللسان العربيّ، إنّها مشكلة أواجهها أينما كنت، وهي غير مقتصرة على شارع الحمرا، أقول هذا للإنصاف فقط.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.