العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

فصل في الموسيقى لأحمد فارس الشدياق

يليه الإقامة الموجزة في فيء اللحظة المعجزة

اعتمدنا إثبات النص الوارد في كتابه «الرحلة الموسومة بالواسطة إلى معرفة أحوال مالطة» وأضفنا (بين قوسين) الصياغات المختلفة أو العبارات المزيدة التي أوردها في نصه المنشور في صحيفة الجوائب (التي ابتدأ نشرها في 1861) والمثبت في «كنز الرغائب في منتخبات الجوائب» (1871). والمرجّح أنّ الشدياق أنهى كتابه في وصف مالطة حوالي العام 1840، ونشره في تونس في 1863 مع كتاب رحلته الآخر «كشف المخبا عن فنون أوروبا» (يراجَع كتاب رضوى عاشور «الحداثة الممكنة».)

1— فصل في الموسيقى
أحمد فارس الشدياق

قبل الدخول في هذا الباب الحرِج ينبغي أن أستأذن أصحاب أهل الفنّ في التطفّل على هذا النحو، وإن كنتُ لا أُعَدُّ من جملتهم غير أنّي علمتُ منه ما يمكّنني أن أعرف المستقيم منه من غير المستقيم، (فاعلم) فأقول: (إنّ لفظة الموسيقى يونانية، منسوبة إلى موسى إحدى الآلهات التسع التي تُنسب إليها الفنون الظريفة كالعَروض والشعر والغناء والرسم والتصوير ومرادفُها في العربية التلحين، من اللحن. وعرّفه صاحب القاموس بأنّه من الأصوات المصوغة الموضوعة. وحقيقة معناه إمالة الصوت على وجه الترجيع والتطريب، وجميع مشتقّات هذه المادّة تدلّ على الميل، ومنه اللحن في الكلام، وحاصله ميل عن جهة الصواب. وجاء هذا المعنى أيضًا من لفت وعصد. وأصلهما الليّ ومن لخ. وأصله الميل في الحفر ومن لغز، وأصله الميل بالشيء عن جهته. وكذلك اللحن الذي هو كالتعريض والكناية، قال الشاعر:

ولقد لحّنت لكم لكيما تفهموا واللحن يعرفه ذوو الألباب

فكان المراد به الميل عن جهة التصريح والإيضاح. ثم قيل منه لحنت القول، أي فهمته. ويرادفهما أيضًا الإيقاع. وكان المراد به إيقاع الصوت على النغم ثم حذف المفعول).

قال بعض (العلماء) الفلاسفة: إنّ فنّ الموسيقى فضلة من المنطق أخرجها العقل بالصوت لمّا لم يمكن إخراجها بالقياس، (فعلى تأويل المنطق بالمعنى الاصطلاحي يكون المراد منه). فمن أوّل المنطق بالاصطلاحي قال معناه إنّ أركان هذا الفنّ ذهنية، بناءً على أنّ المتقدّمين كانوا يتعاطونه بالسماع و(يتلقّونه ب) الذوق، فيرسم السامع ما يسمعه من الأصوات في مخيّلته وذاكرته (من دون مشاهدة علامات ورسوم تدلّ عليه)، من دون مشاهدته لدلائله. وهكذا يتلقّاه التلميذ عن معلّمه بالترسّم عن ظهر القلب والاتّباع مع الملَكة التي ترسخ في مخيّلته تلك الترجيعات. ولهذا كان المعوّل عليه في تحصيل هذا الفن ملكة الذوق. أما الإفرنج فقد جعلوا الآن ترجيع الصوت وإيقاعه داخلًا تحت حسّ المشاهدة، فدلّوا عليه بنقوشٍ ورسومٍ معلومة كما دلّت الحروف على المعاني، فلم يكن تحصيله متوقّفًا على ذاكرةٍ وعظيم معاناةٍ كما في السابق، (وكاد يتساوى فيه الذكي والغيّ) فمن كان منهم عارفًا بخارج النغم ورأى تلك العلامات أمكن له أن يخرج عليها أيّ صوتٍ كان من دون أن تتقدّم له سابقة فيه، وإذا اجتمع منهم عشرون رجلًا وكانت أمامهم تلك النقوش رأيت منهم متابعة واحدة، ويُردّ على هذا التأويل أنّه لو كانت الموسيقى فضلة من المنطق لكانت واحدة الاستعمال كما أنّ المنطق واحد الضوابط، على أنّ الناس (متباينون في هذه الفضلة مثل تباينهم في لغاتهم وعباراتهم) متغايرون فيها تغايرًا شديدًا، فإنّ ألحان العرب لا تطرب غيرهم، بل هؤلاء أيضًا مختلفون، فإنّ أهل مصر لا يطربون لألحان أهل الشام (وغيرهم)، وألحان الإفرنج لا تطرب أحدًا (منهم) من هؤلاء.

وعلى تأويل المنطق بالمعنى اللغوي وهو المراد هنا، فقد جاء في شرح رسالة ابن زيدون لسلطان المتأدّبين ابن نباتة ما نصّه: النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على إخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلمّا ظهر عشِقَته النفس وحنّ إليه القلب. والمراد بالترجيع لا التقطيع (هو) أن يكون الصوت ممتدًّا ينحى به (ويمال) لا متقطّعًا كأصواتِ الهجاء، فإذا كان فنّ الموسيقى والحالة هذه فضلة من المنطق على هذا التأويل، لزم أن نقول إنّ لكلّ جيلٍ من الناس محاسن في الغناء مقصورة عليهم فقط، (كما أنّ) فإنّ لكلّ لغةٍ محاسن وعبارة لا توجد في غيرها، والواقع بخلاف ذلك فإنّ لغتَي الصين والهند مثلًا تشتملان على محسّنات لا توجد في غيرهما إلّا أنّ أنغامهم خالية من ذلك.

أمّا ألحان الإفرنج فلا يطرب لها منّا إلا من ألفَها، وهي عندهم على أربعة أنواع، الأوّل: وهو أحسنها، ما يتغنّى به في الملاهي، مثل الموشّحات عندنا، مع مدّ الصوت وترجيعه وخفضه ورفعه وترقيقه وتفخيمه وترجيفه، وفيه تدخل (نبرات تدل على الحماسة والتحريض والتذمير) حماسة وتحريض وتذمير. والثاني: وهو يشبه ما يرتَّل به في الكنائس، ولا يكاد يكون به ترجيف. والثالث: ما يغنّى به في المحزنات والبث، وفي هذا النوع يستعملون غناءً رقيقًا (رخيمًا) أشبه بالنجوى، فمن يسمعه يلحّن ما المراد به، وإن يكن جاهلًا باللغة، كما إذا رأيت شخصًا مجهشًا للبكاء فإنك تعلم إجهاشه بالبديهة وإن لم تعرف سببه. والرابع: ما يتغنّى به في المضحكات والمحاورات، وهذا يقلّ فيه الترجيع ويكثر فيه النبر، وتطريبه إنّما هو من حيث إنّهم (يوقعون عليه ألفاظًا غريبة و) يصِلونه (بحركاتٍ مضحكةٍ ومحاكياتٍ مختلفةٍ) بأشياء كثيرة وحركات مضحكة، فيضحكون فيه ويقهقهون ويبكون ويتثاءبون ويعطسون، ويحاكون به قيق (الدجاجة) الدجاج (وزقزقة العصفور) وصداح العصافير وغيرها، وفي كلٍّ من هذه الأنواع يستعملون المساجلة وهي مطربة جدًّا، وأكثرها في النوع الأخير، ويوفقون عليه ألفاظًا مولدة غريبة، وكما أنّ لهم غناء مضحكًا كذلك لهم رقص (مضحك ينسي الثكلى حزنها) يحمل الثكلى على القهقهة. أما العرب فإنهم يقولون إنّ الرصد يشجي، والسيكاه يفرح، والصبا والبيات يحزنان، والحجازي ينعش وينغش ... وهلمّ جرا.

والفرق بين الفريقين من عدة وجوه، أحدها: إنّ الإفرنج ليس لهم صوتٌ مطلقٌ للإنشاد من دون تقييدٍ بتلك النقوش، فلو اقترحتَ على أحدهم مثلًا أن يغنّي بيتين ارتجالًا كما يفعل عندنا في القصائد والمواليات لما (جاء بشيء) قدِرَ، وهو غريبٌ بالنسبة إلى براعتهم في هذا الفن؛ لأنّ الإنشاد على هذا النوع طبيعيّ، وقد كان عندهم من قبل أن تكون النقوش والعلامات، فيا ليتَ شعري كيف كانوا ينشدون قبل أن نبغ (غيدو تارزو) غويدو داريتسو (الطلياني الذي رسم العلامات وهو حديث العهد) في إيطاليا.

الثاني: إنه إذا اجتمع منهم عشرة مغنّين وأرادوا إخراج موشّحٍ، أخذ بعضهم في بعض أركانه من مقام، وبعض في البعض الآخر من مقام غيره، فإن كانت الأغنية مثلًا من الرصد غنّى واحد جزءًا من هذا المقام بصوتٍ جهير، وآخر جزءًا من النوى بصوتٍ رقيق، وآخر جزءًا من الجواب بصوتٍ عالٍ فيسمعه السامع من عدّة مقامات، ويسمّى ذلك عندهم هرموني (ومعناه التآلف) ؛ أي إنّ الأصوات تتآلف على الغناء من مقاماتٍ شتّى، وفي هذه الطريقة فوائد ومخاسر؛ أما الفوائد فلأنّ السامع يسمع في وقتٍ واحد (نغمات مختلفة بأصوات مؤتلفة) موشحًا واحدًا من عدة مقامات بأصوات مختلفة، فهو كمن يسمع قصيدة واحدة من جميع بحور العروض (على روي واحد)، وأما المخاسر فلأن السمعَ لا يتمكّن كل التمكّن من إدراك جميع مخارج تلك الأصوات المتغايرة، وعندي أنّ هذه الطريقة على الآلات أحسن منها على الأصوات.

الثالث: إنّ غناء الإفرنج هو مثل (قرآتهم) قراءتهم في أنّه لا يخلو من حماسةٍ وتهييجٍ فضلًا عن (التصبية) التشويق والتطريب والترقيص، فغناء الحماسة والتهييج هو الذي يكون به ذكر القتال، وأخذ الثأر والذب عن (العرض وحماية) الحقيقة، فإذا سمعه الجبان ولا سيما من الآلات العسكرية هانت عليه روحه، أمّا (غناء العرب) الغناء العربي فكلّه تشويق وغرامي (وتصببة)، وأجدر به أن يكون جامعًا لمعنيَي الطرب، وهو خفّةٌ تصيب الإنسان من فرحٍ أو حزن، فإذا سمع أحدٌ منّا صوتًا أو آلةً، شغف قلبه الغرام فبدت صبابته وحنّت نفسه، كما يحنّ الإلف إلى إلفه حتى يصير عنده آخر الفرح ترحًا، ولا غرو إن صعّد منه الزفرات وأذرف العبرات، فإنّ السرور إذا تفاقم أمره (وطما بحره) وتكامل بدره دبّ فيه محاق الشجن، واختلط به الحزن حتى يستغرق صاحبه في بحرٍ من الوجد، ويشتعل بنارٍ من الهيام، وعلى ذلك (جاء) ورد قولهم: طربه وشجاه من الأضداد.

الرابع: إنّ الإفرنج لا قرار لأصواتهم إلا على الرصد. نعم، إنّ جميع الأنغام يوجد لها مقامات في آلاتهم، بل توجد أنصافها وأرباعها إلا مقامين منها لا أنصاف لهما إلا أنهم لا يقرون إلا على المقام الأول، وقد سمعت منهم الرهاوي والبوسليك والأصفهاني (والأصفهان)، أمّا غيرها فلم أسمعه قط، بل قد سمعت منهم بعض أغانٍ (نقلوها عن) من أغانينا أوقعوها على آلاتهم، فكانت كلها رصدًا، (مع أنّ العساكر السلطانية هنا يخرجون على آلاتهم جميع الأصوات إخراجًا متمحضًا متخلصًا لا يشوبه شيء وإذا أخرجوا من الألحان التركية شيّا كان أيضًا متمحضًا عن غيره فكيف هذا) وقد والله طالما وقفت السمع على أن أسمع منهم أنغامنا فخبت حتى اعترتني الحيرة، فإني من جهة كنت أرى آلاتهم بديعة الصنعة على كثرتها، وأفكّر في أنّ العلوم انتهت إليهم والفنون قصرت عليهم، وإنّ عندهم في هذا الفن (بخصوصه) بدائع كثيرة (قد) فاتتنا على ما سبق ذكره، ومن جهة أخرى (رأيت) أرى أنّ براعتهم كلها إنما هي من مقام الرصد، نعم إنّ هذا المقام هو أول المقامات، وأنّه يُغنّى منه في مصر وتونس أكثر ممّا يغنّى من غيره إلا أنّ فضل (غيره) الصبا والبيات والحجازي لا يُنكر أيضًا، ثم (أفكر في أنّ ناينا الذي هو مجرّد قصبة خالية في الظاهر عن بديع الصنعة الظاهرة في آلاتهم يخرج منه من النغم ما لا يخرج من آلاتهم الكثيرة المتنوعة ولا سيّما هذه الآلة المسماة بيانو التي يبلغ ثمنها خمسين ليرة فأكثر) أعود فأقول: لا غرو أن يكون قد فاتهم أيضًا (محاسن ودقائق) بدائع في هذا الفنّ كما فاتهم في غيره أشياء أخرى، وذلك ككثرة بحور العروض عندنا، وكبعض محسنات الكلام، وكالسجع في الكلام المنثور؛ إذ ليس عندهم سوى المنظوم، وهو في الإنشاء كالصوت المطلق في الغناء، (وكلاهما فاتهم) فإنّ السجع مقدّم على النظم، وكعجزهم أيضًا عن (النطق ب) لفظ الأحرف الحلقية (مع استطاعتهم أن يطيروا في الجو)، وقد سألت مرة أحد (أرباب) أهل الفن منهم فقلت: إنّ (مقامات النغم) المقامات موجودة عندكم وعندنا على حدّ سواء، وكذا أنصافها فبقي الكلام على استعمالها، فإنّا لو استعملنا مثلًا نصفًا من الأنصاف مع (مقام) مقامه وأنتم تستعملونه مع مقامٍ آخر بحيث يظهر لنا أنّه خروج فمن أين تعلم الحقيقة، فما كان منه إلا أن قال: إن هذا الفن قد وُضع عندنا على أصولٍ هندسية لا يمكن (مخالفتها) خرمها، فلا يصحّ أن يُستعمل (فرع إلا مع أصل) مقام إلا مع مقام آخر، على أني كثيرًا ما سمعت منهم خروجًا فاحشًا على شغفي (بفنهم) بألحانهم، وقد شاقني يومًا وصف المادحين إلى سماع قينةٍ بلغ من صيتها أنها غنت في مجلس قيصر الروس، فلما سمعتها طربت لرخامة صوتها (الأنثوي) وطول نفسها في الغناء، إلا أني (أنكرت) سمعت منها (نبرات فاحشة و) خروجًا (مكروهًا) بحسب ما وصل إليه إدراكي، ولو تيقّن أن ألحان الروم التي يرتّلون بها اليوم في كنائسهم هي (عين ألحان) كما كان يتغنى به في أيام الفلاسفة اليونانيين لكان ذلك دليلًا آخر على قصور ألحان الإفرنج، فإنّ (ألحان) أنغام الروم مقاربة (لألحان العرب) لأنغامنا.

الخامس: إنّ أكثر أصحاب الآلات (من الإفرنج) عندهم لا يحسنون إخراج أنصاف النغم وأرباعها ما لم تكن مرسومة لهم (في الآلة) إلا صاحب (الرباب أو) الكمنجة، فأمّا الناي ففيه خروقٌ شتّى غير السبعة (الأصول) لكل اثنين منهما (سدادة تنطبق على واحد منهما) طباقة إذا سدّ منها منخرٌ جاش منخر، غير أنّ الصنعة في إحكام سدها واستعمالها تقارب صنعة تغيير نقل الأصابع عندنا، وهذه الأنصاف والأرباع في النغم مثل الروم والإشمام في (الحركات) النحو، وفي الجملة فإنّ للإفرنج حركات في هذا الفنّ خارجة عن ذوقنا، وأخرى لا يمكن محاكاتهم بها، ومما مرّ تفصيله تعلم أنّ إنشادهم في الحماسة والفخريات غير معروف عندنا، وأنّ مطلق الصوت عندنا غير معروف عندهم.

ومن الغريب أنّه مع كثرة ما عندهم من الآلات والأدوات فقد فاتهم العود على محاسنه والناي من القصب، فإنّ نايهم هو (كالزمّر ليس له صوتٌ رخيم) بمنزلة الزمّر عندنا، على أنّ أكثر (المؤرخين) العلماء قرروا أنّ أصل الموسيقى مأخوذ عن صوت الريح في القصب، وقال بعض: إنه عن صداح الطير، وغيره إنه عن خرير الماء، وآخرون إنه عن أصوات مطارق طوبال قين، وأول من ضبط أصول هذا الفن يوبال، وذلك في سنة 1800 قبل الميلاد، وكان اختراع الناي في سنة (506 قبل الميلاد) 1506 ونسب إلى هيجنيس. وعلى ذكر مطارق القين، فقد ورد في شرح مقامات الحريري في ترجمة الخليل، أنّ أول من استخرج العروض وحصر أشعار العرب به الخليل بن أحمد أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي، وكان سببه أنه مرّ بالبصرة في سوق القصارين فسمع الكدنيق أي المطرقة بأصواتٍ مختلفة؛ سمع من دار «دق» وسمع من أخرى «دق دق» وسمع من أخرى «دقق دقق» فأعجبه ذلك، فقال: والله لأضعن على هذا المعنى علمًا غامضًا، فوضع العروض على حدود الشعر ... إلخ، و(عندي أنّ) أشجى آلة من الآلات الإفرنجية هي (المسماة بالكنشرتينو) «الكنشرتينة» وهي فرعٌ من فروع الأرغن، ونحو من المنفخ يفتح ويطبق (لها صوت يحاكي صوت أنثى)، وهي من مخترعات (وتسطون) وينسطون، ومن المعلوم أنه كلما رقّت طباع الناس ولطفت أخلاقهم كانوا إلى المحاضرة في مضمار الطرب أسبق (وخواطرهم إليه أبسق)، ولشذا عبيره أنشق، فإنّ المولع بغرّ المعاني ونكات الكلام لا يسمع الألحان إلا ويتصوّر معها من الحسن ما يهيم به وجدًا، قبل أن يشعر الغبي بمجرّد معرفة كونها غناء، ولا سيما إذا كان الإنشاد معربًا والوقت معجبًا. وقد جاء في شرح لاميّة العجم للعلامة الصفدي: «من لم يحرّكه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، فهو فاسد المزاج بعيد العلاج». وقال أفلاطون: «من حَزن فليسمع الأصوات الطيبة، فإنّ النفس إذا حزنت خمد نورها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرّها اشتعل منها ما خمد». وقال إسحق بن إبراهيم الموصلي: شر الغناء والشعر الوسط؛ لأنّ الأعلى منها يطرب والدني يضحك ويعجب، والوسط فلا يطرب ولا يضحك.

ومن الغلط البيّن أن يقول أحدٌ إني لم أطرب لهذه الألحان لجهلي باللغة، فإنّ أصل الطرب إنما يكون عن الصوت (أصالة) لا عن (الألفاظ) الكلام المتغنّى به (ومتى اجتمع الأمران كان الحظ أوفر). أمّا أهل مالطة فإنهم في الغناء مذبذبون كما في غيره أيضًا، فلا هم كالإفرنج ولا كالعرب، فأهل القرى منهم ليس لهم إلا أغاني قليلة، وإذا غنوا مطّوا أصواتهم مطًّا فاحشًا تنفر المسامع منه. فمضاهاتهم للإفرنج هي في اقتصارهم على الرصد، وللعرب في أنهم إذا اجتمع منهم طائفة للغناء لم يخرجوا أصواتهم إلا من مقامٍ واحد، ويقوم أحدهم ينشد ويرد عليه الباقي، أمّا الأعيان منهم فإنهم يتعلّمون الألحان الطليانية، وأكثر العميان بمالطة صنعتهم العزف بالآلات، فمتى قدم أحدٌ من سفرٍ أو ولد له ولدٌ أو تزوج أو عمّد ولده أو ترقّى إلى رتبةٍ أو كسب مكسبًا جزيلًا، بادروا إلى تهنئته، ولا يخفى عنهم شيء مما يحدث في بلدهم، ويُقال إنّ إحدى بنات الأعيان فجرت مرة، وكتمت حبلها عن أهلها، ثم غابت أيامًا حتى وضعت ولدها، فلما رجعت إلى بيتها أقبلت زمرة منهم يعزفون أمام الدار، فسألهم أبوها: ما سبب ذلك؟ فأخبروه بوضع ابنته ففطن حينئذ لغيابها.

والذي يظهر لي أنّ الأنغام التي كان يتغنّى بها في أيام الخلفاء كانت أشبه بغناء المغاربة الآن منها بغناء المشارقة (والفرق بينهما أنّ غناء المشارقة فيه مد وتطويل وغناء المغاربة فيه درج ونبر)، واللازمة التي تستعملها المغاربة في غنائهم هي دي دي، كقول أهل مصر والشام يا ليل وكقول الترك أمان، وفي القاموس: «ما كان للناس حداء، وضرب أعرابي غلامه وعض أصابعه فمشى وهو يقول (دي) دي دي، أراد يا يدي، فسارت الإبل على صوته، فقال له: الزمه وخلع عليه، فهذا أصل الحداء»، (وفيه دليل على أنّ البهائم تطرب للتلحين). وأسماء الأنغام عند المغاربة مخالفة لأسمائها عندنا، وهم (يدّعون ب) يزعمون أنهم نقلوا هذا الفن عن أهل الأندلس، وأهل تونس أكثر ترسّلًا منهم (فهم واسطة بين المغاربة والمشارقة)، (أما المواليات فمن خصوص) والظاهر أنّ الموالي من خصوصيات أهل مصر والشام، وكذلك الناي والقانون.

والغالب في من غنّى صوتًا وأجاد أن يظنّ أن لم يبقَ ذو أذن واعية إلا وسمعه. وإذا لم يُجد، ألفى لنفسه عذرًا، وذلك بأن يتنحنح أو يسعل فيحيل القصور على شيءٍ طرأ عليه، هذا إذا كان المغني غير متخذٍ الغناء له صنعة. فأمّا من درب فيه فقَلّ أن يعرض له خروج، لأنّ الصوت كالآلة كلما زاد استعمالًا زاد جلاء. وكما أنّ غناء أهل مصر أطرب وأعلى من غناء جميع العرب كذلك كان غناء الطليانيين أعلى من غناء سائر الإفرنج، وذلك لكثرة ما في لغتهم من الحركات، فهي مثل لغتنا صالحة للغناء والعروض، ولكون أصواتهم (أيضًا) صادرة عن صدورهم. أمّا لغة الإنكليز فلكثرة السواكن فيها لا تطاوع على الغناء الذي فيه مدّ وترجيع، إلا بتحويل الألفاظ عن وجهها وخرم قواعد النطق بها، (وإنما هي لغة أمر وزجر) وإنما يحسن بها الأغاني المضحكة، وأصواتهم كلها من أزوارهم، وكأنّ المغني منهم يغني وقد غص بلقمة، (ولغة الفرنسيس وغناؤهم بين بين).

وجميع الإفرنج يقولون إنّ غناء العرب من خياشيمهم، وعلى فرض تسليم ذلك فما يكون منافيًا للإشجاء والتطريب، فإنّ اللغة الفرنساوية لا يتكلّم بها إلا مع الغنة، وهي مع ذلك أشجى لغات الإفرنج جميعًا، وربما طرب لها من سمعها أول مرة من عمره. (والظاهر أنّ العرب لا تأنف من الغنة في الغناء وحسبك أنّ أصل تغنى تغنن نحو تمطى وتصدى) وقد رأيتُ من الإفرنج من كان يطرب للأنغام المصرية، ولكن غب طول مكثٍ بمصر، وكان في أول أمره يأنف منها، ويقول إنها محزنة، ولا يخفى أنّ للعادة تأثيرًا في جميع الأحوال وخصوصًا في المنطق والألحان. وناهيك أنّ الأطفال عندنا وعند الإفرنج ترقد على الغناء فتعتاد عليه مذ الصبا، (وقد قيل العادة طبيعة خامسة) فإذا امتزج بأمزجتها كان سماع غيره ضد المألوف. وأهل مالطة يرقدون أطفالَهم على ما هو أشبه بنواح الندابات في بلادنا، ولولا العادة لما عجزت الإفرنج مع حكمتها عن النطق بأحرف الحلق، وهي التي وفت حق نسائهم جزافًا وبخست نساءَنا حقهنّ.

2— تلخيص، وحاشية عليه
أو الإقامة الموجزة في فيء اللحظة المعجزة

يفتتح شيخي الشدياق حديثه بالاعتذار، والتواضع من شيم الكبار، ويزعم أنه بالتطفّل موصوف، على أنّ ضربه بالطنبور معروف. ثم يسعى بالعبارة عن اللغة الشريفة، إلى فهم هذا الفن من الفنون الظريفة، ومنها الرسم وهو غير التصوير، والعروض وهو غير الشعر بخلاف ما هو شهير، وينير أبصارنا في دجى الليل، فيرى أنّ الأصل في اللحن هو الميل، إمالة الصوت في التغني والإطراب، وإمالة الكلام عن الصواب.

وقد أضيف أنّ التلحين صناعة ربما تتطلب المعنيين جميعًا. وسنعود في إشارة لاحقة إلى الفهم اللغوي للعالم كما يعرضه الشدياق، متابعًا في ذلك أبا العلاء المعري.

ثم يرجع إلى الأصل اليوناني للفظة الموسيقى فيعرضها، ويورد الصيغة المشهورة ويستعرضها: «الموسيقى فضلة من المنطق»، فهل لهذا في المنطق مصدّق؟
فإما أنّ المنطق على المعنى الاصطلاحي والفلسفيّ، فيلزم أن تكون الموسيقى واحدة كما أن العقل واحد صفيّ، وخطأ هذا واضح جليّ لكل سامع وموسيقيّ.
أو أن المنطق على المعنى اللغوي في المعنى، وهو كما ذكر المصنف «المراد هنا»، فيكون تباين الموسيقات من تباين اللغات، ويكون لكل طائفة من الناس فيها محسنات لا توجد في غيرها من الجنسيات مثلما اشتملت كل لغة من اللغات على محاسن عليها مقصورات.

وقد أضيف أنّ الشدياق لم يقبل إلا بالبحث عن اعتراضٍ عن الخيار الآخر، مشيرًا إلى لغات الهند والصين واشتمالها على محاسن مع خلوّ موسيقاهما منها. والحق إننا نلتمس للشدياق في ذلك العذر، إذ لم تكن موسيقى البلدين المذكورين مشتهرة آنذاك في عالمه الذي هيمن عليه منشأه العربي العثماني ورحلته الأوروبية.

ولئن تابعنا هذه الفكرة، وربطناها بمباحث الشدياق اللاحقة عن صلاح اللغة الإيطالية للغناء وفساد الإنكليزية (فهي لغة أمر وزجر) إلا في المضحكات، لتبيّن لنا أنّ الشدياق يبحث في الأصل الصوتي للموسيقى، من حيث إنّ موسيقى كل شعب تعبّر عمّا لا يسع لسانُه أن يطلقه، في ظل قواعده النحوية المستقرة ومخارج حروفه. فالموسيقى استكمالٌ لما غاب في منطق اللغة (حرفيًّا)، وإظهارٌ لما تبطّن في أصواتها من إمكانيات، وعلى هذا ترتبط الموسيقى عميقًا باللغة، لا لجهة المفهوم والمعنى، بل لجهة إصدار الصوت واستكمال ذلك الفضل المتبقّي منه الذي عجز عنه اللسان، على قول ابن نباتة، «فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلمّا ظهر عشقته النفس وحنّ إليه القلب». ولعلّ في استبدال الفضل بالفضلة في الاستشهاد الثاني دليلٌ على التفضيل والتكريم الذي يضفيه الشدياق على فنّ الموسيقى.

ولا يرى شيخنا أنّ فضيلة الطرب مقصورة على العرب، بل يربط الإطراب بالإلفة وزوال الاستغراب، ويفصل موسيقى الإفرنج إلى أصناف أربع، تحوي كل ما يسمع، فالأول في الملاهي شبه الموشحات، والثاني في الكنائس ليس به ترجيفات، والثالث يضم النجوى والبث في المحزنات، والرابع يجمع المضحكات والمحاورات والمحاكيات لأنواع المخلوقات كالعصافير والدجاجات. وينتقل إلى العرب وفهمهم للموسيقات، فينقل أنهم يقولون بارتباط تأثير الموسيقى بأنواع المقامات، فالرصد للشجو والسيكاه للفرح أما الحزن فله الصبا والبيات.

وقد أضيف إنّ التقابل الذي يعرضه الشدياق لافت، فتقسيمه لموسيقى أوروبا يشمل أماكنها (الملاهي والكنائس)، وطرائق إصدار الصوت في كل نوع منها (المد والترجيع والخفض والرفع والترقيق والتفخيم في النوع الأول، وغياب الترجيف في الثاني، ونجوى الثالث ونبر الرابع ومحاكاته لأصوات العصافير والحركات المضحكة التي تشوبه)، في حين يقتصر الجانب العربي على التأثير المرجو للموسيقى وارتباطه بأنواع المقامات.

ولئن كان الشدياق سيعرض لاحقًا وجوهًا أخرى للمقابلة، يظل هذا المفتتح دالًّا على ما يراه مصادر التنوع في موسيقى العرب وفي موسيقى الإفرنج. فهو سيعود تكرارًا إلى موضوع ندرة الأنغام أو المقامات (واستخدام العرب لهاتين اللفظتين في القرن التاسع عشر ملتبس، فتارة تعنيان الدرجات دو وري ومي الخ وتارة تسلسلها في سياق مخصوص) لدى الغربيين واقتصارها تقريبًا على الرصد (والمقصود على ما نرى المقام الكبير، أي الماجور، وربما كان ذلك لأنه يسمع في المقام الصغير، المينور، مجرد اختلاف في مبتدأ السير ولكن على درجات السابق نفسها) وتعويض ذلك بالتنويع في المحاكيات وفي أنواع الموسيقى وأماكنها، توصلًا إلى تنويع التأثيرات التي ينقل عن العرب وجودها أصلًا في المقامات وتنوعها، وإن كان اختياره للألفاظ في الحديث عن التأثيرات لافتًا أيضًا، إذ يعلم الشدياق ويشير في موضع آخر من مقالته إنّ الطرب يجمع معنيَي الحزن والفرح (السيكاه والصبا والبيّات إذًا)، وهو والشجو (والمفروض أنّ الرصد يثيره) من الأضداد أي الكلمات التي تحمل معاني متعارضة في آن، فأيّ شجوٍ هو ذاك الذي يثيره الرصد الملتبس؟

وليس من المستبعد أن يكون الشدياق قد سمع ذلك من المشايخ والقراء، ومن بينهم الشيخ شهاب الدين صاحب «سفينة الملك ونفيسة الفلك» الذي يروى أنّ الشدياق كان مقرّبًا منه، أو قد يكون سمع بمجايله اللبناني ميخائيل مشاقة (ولد مشاقة في 1800، قبل أربع سنوات من الشدياق، وتوفي بعده بعام في 1888) ودعواه في شأن تقسيم المقامات إلى أرباع كما يذكر لاحقًا (وإن يكن كتاب مشاقة «الرسالة الشهابية» قد نشر بعد كتاب الشدياق في وصف مالطة). غير أنه يحتفظ بمسافة عن تلك المقولة فلا يبدي تبنيًا لها، ولا سيما أنّ دعوى مشايخ القراء بالتعبير عن معاني القرآن بالمقامات ترهيبًا وترغيبًا وأمرًا وقصًا لا تثبت بالتحليل الدقيق لتسجيلاتهم.

ثم يجلو الشدياق غوامض الفوارق بين الفريقين، فيذكر خمسًا واضحة للعين، غياب الصوت المطلق لدى الإفرنج والعجز عن الارتجال، والهارموني وتآلف الأصوات ما بين منخفضٍ وعال، وتنوع الأغراض لدى الإفرنج والتزام غناء العرب بحال الوجد دون أي حال، وقرار غناء الإفرنج على الرصد وما شابهه كالبوسليك على براعتهم، وفوات دقائق الأصوات وأرباعها في آلاتهم على إتقان صناعتهم، وعلى كثرة ما عندهم من آلات الطرب فقد فاتهم العود وناي القصب.

وقد أضيف إنّ هذه الموازنة تختصر موقفًا كاملًا من الحداثة لدى الشدياق، يتجلى في مظاهر كثيرة في كتاباته وتصانيفه، ومنها «الساق على الساق في ما هو الفارياق» الذي أفردت له د. رضوى عاشور كتابًا. هو موقف التوازن الحسابي العاقل حد البرود. فيجري الشدياق حسابًا دقيقًا لكل موسيقى وما لها وما عليها، وما يؤخذ منها أو يردّ. فلدى الإفرنج تنوع واكتمال في الصناعة وبراعة وهارموني، على أنهم عاجزون عن الارتجال وعن إصدار المسافات الصوتية الدقيقة كالأرباع التي قد تصدرها قصبة ناي عربية، وعاجزون عن الخروج على الإسار الهندسي لموسيقاهم المعدّلة، غير أنّ العرب في المقابل لا يخرجون عن الصبابة والتشويق.

بل إنّ الشدياق يجري أيضًا حساب المحاسن والمخاسر داخل ما قد يكون ميزة من الميزات، كتآلف الأصوات في الهارموني، ويخلص إلى أنه يرى ذلك أحسن في الآلات منه في الأصوات. من دون شك، تقبع في أصل هذا الموقف الأخير، علاقة الشدياق الأديب باللغة ورأيه في أنّ الأصوات التي تتغنى بالكلام لا ينبغي أن تقطع لذته في ذاته، على ما عاب على بعض أهل مصر في «الساق على الساق» حين يزيدون في التغني بلفظة واحدة «مرارًا متعدّدة حتى يفقد السامع لذة معنى الكلام» وهو الذي يرى أنّ أوفر الحظ ينشأ عن اجتماع حسن الصوت مع لذة الألفاظ.

ينطلق الشدياق من إعجاب عميق بكثير من منجزات الحضارة الأوروبية، ولا يقتصر في ذلك على الجانب المادي، بل إنّ حقوق المرأة وحريتها أيضًا من ضمن المنجزات التي لفتت اهتمامه وحازت التزامه، على ما سنرى في ختام المقالة. على أنّه لا يصدر في ذلك عن انبهار أو بهت، والبهر انقطاع الأنفاس والبهت التحيّر وانقطاع الفكر، فليس في اعتداده بنفسه واعتزازه بكرامته وقومه ما يسمح بأي انسحاق أمام الغرب. يبدي الشدياق في غير موضع إعجابه بإنجازات الغرب لكنه لا يخفي عجبه من قصوره أيضًا عن نواحٍ أخرى. وهو أيضًا لا يصدر عن نزعة قومية متعصبة أو متصلبة، ولا يرى في اعتزازه سببًا للتشاوف على الغير أو إنكار فضائلهم.

تلك لحظة الحداثة المعجزة (لا «الحداثة الممكنة» بحسب د. عاشور)، حيث لا يكون الشدياق على ضفة أي من فريقَي المشايخ أو الأفندية، ليس بالداعية إلى إطاحة الرؤوس التي يعلوها الطربوش ولا بداعية الأخذ من الغرب بأسباب القوة المادية حصرًا وإهمال الجوانب غير التقنية من حضارته. هذه اللحظة المستحيلة، لحظة التوازن المطلق الذي حققه الشدياق، هي ما ينبغي أن نوقف الزمن عندها، لأنها توضح أنّ كل ما تلاها كان لحظة الكارثة، لحظة الإقامة الثقيلة في التعارض الدائم الذي علقت فيه مجتمعاتنا ما بين التحديث الديكتاتوري وأحلام الخلافة ذات التفسير الديني القاطع والحاسم مسنودًا بقوة تقنية عسكرية.

في الوقت عينه يربط الشدياق الموسيقى عميقًا باللغة، وهي معيارٌ رئيس للهويات في زمنه، ويرفض الانغلاق على الهوية فيها بل يبحث في حساب المخاسر والفوائد عن مواردها واختلافاتها، في ما يشابه ما سيدعو إليه، بعد أكثر من قرن ونصف، الفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان القائل بأن لا هوية ثقافية للشعوب أو الحضارات، بل هنالك موارد حضارية ينبغي الدفاع عنها من خلال تفعيلها واستخدامها وتفاعلها مع موارد الحضارات المختلفة.

ولا يبعد الشدياق في تعلقه باللغة كثيرًا عن المعرّي. وإذ يرى عبد الله العلايلي أبا العلاء المعرّي قد تصوّر الكون «كلًّا لغويًّا»، فكأنّ المخلوقات ألفاظ الزمان وكأنّ قواعد اللغة هي مفتاح حل ألغازه. فلا ينظر المعري إلى الكون إلا من خلال اللغة، يقوم الشدياق بذلك أيضًا في تعامله مع الموسيقى، فهي «فضل من المنطق» أي اللفظ (وهو المراد)، واللحن هو «كالتعريض والكناية» والطرب «من الأضداد» لأنه كذا في اللغة، وسماع الهرموني هو كسماع «قصيدة واحدة من جميع بحور العروض على روي واحد». وقد فات الارتجال الإفرنج مثلما فاتهم «السجع ومحسنات الكلام»، وصلاح الغناء مرتبط بنوع اللغة وكثرة ما فيها «من حركات»، قارنًا الغناء إلى العروض، ودليل قدم غناء المغاربة لديه دليل لغوي هو استخدام لازمة الحداء «دي دي» والمقامات بأنصافها وأرباعها «كالإشمام والروم في الحركات» (والإشمام والروم من مباحث علم القراءات القرآنية وأصول اللفظ)، والغنة لا تفسد الإطراب لأن التغنّي من التغنّن، وغير ذلك كثير.

يردّ الشدياق أثر ذلك على الجهالة، فالطرب إنما يكون عن الصوت أصالة، وليس في الطرب مع الجهل باللغة استحالة. ثم يجري المقابلة الفارقة، بين غناء المغاربة والمشارقة، وأهل تونس وسطهم، مثلما يرى غناء الإيطاليين أعلى من الإنكليز وسائر الأوروبيين، وأهل فرنسا بينهم. ويعجبه غناء أهل مصر، فيما لا يرى في مالطة إلا النكر.

لا يربط الشدياق الموسيقى بالمعنى، رغم ربطه إياها باللغة. هو إذن يتعامل مع لغة صوتية تتكامل مع الموسيقى. وبحكم نشأته الأدبية فإن لذة المعاني هي أيضًا من ضمن شواغله، إلا أنه، في موقف التوازن الدائم الذي يحمله، لا يضع المعنى شرطًا للطرب. فالطرب مرتبط بالصوت، غير أنّ إضافة لذة الكلام ومعناه إليها تجعل «الحظ أوفر» وتزيد إلى الطرب لذة تبدو من خارجه. وعلى الرغم من مآخذه على غناء بعض أهل مصر (في الساق على الساق) لقطعهم بالتكرار لذة الكلام، إلا أنه يقول أنّ أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الغناء، بل إنه يشهد أنّ «غناءهم أشجى ما يكون». ولمّا كانت إقامته بمصر سبقت بكثير عهد عبده الحمولي ومحمد عثمان، فإنّ شهادته تعضد ما ورد مثلًا في كتاب «وصف مصر» عن تطور الغناء والمشهد الموسيقي في مصر قبل ذلك العهد الموسوم بالنهضة، مع إشارة مخصوصة إلى أنّ لأهل مصر في ضرب العود «طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات»، بل إنّ «آلاتهم تكاد تنطق عن العازف» في إشارة مبكرة ربما إلى بعض نواحي ما قد يسمى بالتعبيرية في الموسيقى المصرية.

في الساق على الساق، كما في هذه المقالة، يشير الشدياق أيضًا إلى غناء المغاربة وارتباطه بالأندلس، ويقابله بالمشارقة الذين يمدون ويطيلون في حين إنّ في غناء المغاربة نبرًا ودرجًا أي سرعة، يشبهها بالترتيل في عدم التكرار. ومن الطبيعي آنذاك أن تكون تونس، التي تتوسط المسافة بين مصر والمغرب، أيضًا وسطًا في الغناء ما بينهما.

غير أنّ هذا التحليل هو أيضًا مقابلة مع تحليله للموسيقى التي عرفها في أوروبا أي موسيقى الإيطاليين، الأعلى، لأنّ لغتهم تشبه لغتنا في كثرة الحركات، وغناء الانكليز الذي أفضل ما يكون في المضحكات لأنّ لغتهم كثيرة السواكن وهي لغة أمر وزجر. أما الفرنسيين، فهم شأن التوانسة، بين بين، وربما كانت موسيقى الفرنسيين أدنى بقليل لأنّ لغتهم في ذاتها أشجى لغات الإفرنج، على حد قوله «فربما طرب لها من سمعها أول مرة من عمره»، رغم أنه لا يتكلم بها إلا مع الغنة. فلما كانت لغة شجية، قلّت الفضلة المتبقية عنها وكانت أدنى في الشجو.

لافت في هذا الإطار غياب الإشارة إلى موسيقى الألمان رغم سيطرتهم العارمة في مجال الموسيقى في فترة إقامة الشدياق الأوروبية، فهل ذلك عائد إلى أنه كان أكثر اهتمامًا بالأوبرا والأوبريتات المحلية في باريس ولندن، أم أنّ وضعه لم يسمح له بالاطلاع على الموسيقات السيمفونية المعقدة لكبار الموسيقيين الجرمانيين.

في مقالة الشدياق إذًا خواطر إثنوموسيقية سريعة وانطباعية، غير أنها متقابلة وغير منحازة، ولا يطلب القارئ من أديب مثله في أواسط القرن التاسع عشر أكثر من ذلك، يمزجها مع أدلّة لغوية (لازمة «دي دي» دليلًا على قدم الغناء المغاربي وارتباطه بالحداء العربي التاريخي الأقرب إلى الخلافة) واعتراضات على نسبة أوروبا إلى اليونانيين والروم من خلال الإشارة إلى اقتراب موسيقى الروم (البيزنطيين) في المقامات والأنغام من موسيقانا فنحن إلى الفلاسفة اليونانيين إذن أقرب.

إلا أنّ إشاراته كلّها تشير إلى صحة زعمه بأنه قد عرف من فن الموسيقى شيئًا يمكّنه من معرفة المستقيم منه من غير المستقيم، وتشير إلى أنّ تواضعه لم يكن إلا معرفةً لقدره واعترافًا بما غاب عنه.

يُبرز الشدياق دور الألفة، في طرب الحزن والخفة، ولا تفوته الإشارة، في آخر العبارة، إلى تربية أطفالنا وأطفالهم وإلى تأثير العادة، التي بخست نساءنا حقهنّ وجعلت نساءهم في سعادة.

يقول مولانا الشدياق في «الساق على الساق» عن غناء أهل مصر أنّ من ألفه لا يطرب لسواه. وفي غير موضعٍ يشير إلى أنّ أهل مصر لا يطربون لألحان أهل الشام، وألحان الإفرنج لا تُطرب أحدًا منهم، ولا يتّخذ الشدياق نفسُه موقفًا مطلقًا فلا يحكم بصواب أيّ من المواقف، كأنه رائد من روّاد النسبية الثقافية. ويورد أيضًا أنّ من الإفرنج من يطرب للأنغام المصرية بعد طول مكث في مصر. غير أنّ علاقة الألفة بالطرب غير مقتصرة على مصر وحدها، فهو يقول إنّ للعادة تأثيرًا في جميع الأحوال، رابطًا المنطق بالألحان، فكأن تعلم الطرب لموسيقى شعبٍ ما مرادفة لتعلم لغته (وإن تكن اللغة في ذاتها ليست شرطًا للطرب) في الجهد والحاجة إلى الوقت والتعرف، ولا تخفى عليه الإشارة إلى دور التربية منذ الطفولة في تكوين الذوق واعتياد الغناء.

غير أنّ الشدياق يخلص من كل ذلك، على أهميته، إلى شأنٍ آخر غير متعلق بالموسيقى والطرب على وجه الإطلاق، إلا أنه شأن عظيم بالنسبة للشدياق في ما يبدو. إذ ينتقل من تأثير العادة في تكوين الذائقة والسماح بالطرب إلى كون العادة قد بخست نساءنا حقهن في حين وفت حق نساء الإفرنج. في عبارة واحدة ختامية، يفتح الشدياق معركةً أخرى، تتجاوز المقابلات بين أنواع الموسيقى ومفاهيم الطرب وتواريخه، إلى الرد بحسم على من يربط وضع النساء في الشرق بأحكام الدين أو بضرورات الأخلاق ومحاذيرها. وفي شأن علاقة الشدياق بالمرأة، تشير د. عاشور (في دراستها ص. 55 وما يليها) إلى أنّ الشدياق، قبل أكثر من نصف قرن على دعوى قاسم أمين، كان قد طالب بحقوق النساء في الندّية والتعليم والعمل والاختلاط والزواج والطلاق بل والمتعة الجسدية، وحتى إنه قبل أكثر من قرن على الحركات النسوية في الغرب كان قد انتقد ذكورية اللغة نفسها وتغييب صوت المرأة وذكورية التراث.

غرابة الانتقال في ختام فصلٍ في الموسيقى إلى حقوق النساء تشير إلى أنّ هذا الأمر كان هاجسًا حقيقيًّا بالنسبة إلى الشدياق، مخترقًا سائر تضاعيف أفكاره، وأنّ الشدياق في تعامله الندّيّ مع أوروبا لم يكن يتخذ موقف السائلين «لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟» ولا موقف القائلين بالأخذ بأسباب القوة المادية، أي التقنية والأساليب العسكرية حصرًا، مع موقفٍ شديد التحفظ في شأن النساء وفي شأن التقاليد والمسائل الأخلاقية، أي مع عزل القوة هذه عن أسبابها الاجتماعية وحقوق أفراد المجتمع. إنّ موقف الشدياق هو في آنٍ واحد موقف مناهض للخصوصية الثقافية والدينية التي تُتخذ ذريعة لمنع التلاقح الثقافي والتطور الحقوقي والاجتماعي، وموقف معتدّ بنواحٍ شرقية كثيرة في الكرم واللغة والموسيقى وسواها، فولاؤه القيمي العميق إنما هو للحرية والمعرفة والمساواة والنبل.

في فيء الشدياق وفي دفئه، نمطّ تلك اللحظة المعجزة، ونلوذ بأكنافها، رفضًا للحظات الكارثة هذه المدمرة والمحيقة بنا طوال الوقت. في السير بطيئًا مع مقالته، نمدّ الوقت ونطوي النص طيّات متعددة كي يتسنّى لنا الإقامة في جنباته والبحث فيها عن طمأنينة التوازن المطلق، في عالم من انعدامٍ تام للتوازن وللمنطق في معنيَيه.
 

تمّ نشر هذا النص بتكليفٍ من «مؤسسة الشارقة للفنون» في العام ٢٠١٧، ضمن منصّة النشر الإلكترونية «تماوج» التي نظّمتها القيّمة كريستين طعمة كجزءٍ من «بينالي الشارقة ١٣».

العدد ٢٧ - ٢٠٢٠
يليه الإقامة الموجزة في فيء اللحظة المعجزة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.