العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

مجلس التعاون الخليجيّ وسقوط البيت العربيّ

تعيش دول الجزيرة العربيّة في عصر مجلس التعاون الخليجيّ جملة هواجس أمنية أخذت تتحوّل مع الزمن إلى مجموعة كوابيسَ حقيقية، فكان لا بدّ للدكتور خلدون حسن النقيب، المفكّر والكاتب الجامعيّ الراحل، من أن يؤكد أنّ كتابه «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية» كتابٌ من منظورٍ مختلف* وأن يُفاجَأ بأنه قد دخل السجن في بلاده الكويت بعد شهر من صدور الكتاب بتهمة «التحريض على قلب نظام الحكم».

إذًا، لا بدّ من أن يكون الكتاب «من منظور مختلف»، وإلّا لما وجدت السلطات في الكويت ما يدعوها إلى زجّ أستاذ علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ في جامعة الكويت منذ عام ١٩٧٦، وعميد كليّة الآداب في جامعة الكويت في الوقت نفسه، في السجن بتهمةٍ بمثل هذه الخطورة. ولعلّ المؤلفَ في مقدّمته للكتاب، قد تَحسّب لهذا الأمر عندما أعلن تخوّفه من حساسيّة أنظمة الحكم الخليجيّة، إذ قال:

«من الأمور التي تتعلّق بأنظمة الحكم أيًّا كانت هذه الأنظمة أنّها تكتسب طابعًا حسّاسًا، نظرًا للرقابة التي تفرضها الأنظمةُ على نفسها وعلى الآخرين. لكنّ الأنظمة الحاكمةَ في منطقة الجزيرة العربية عُرفت تاريخيًّا بالخوف المفرط من النقد المتأتّي من البحث الموضوعيّ، وكثيرًا ما يختلط هذا النقد بأشكال النقد ذات الطابع الصحافيّ المثير».

البداية من «سايكس- بيكو» الخليجيّة

ولعلّ الحديث عن سقوط البيت العربي وتأسيس مجلس التعاون الخليجيّ يجب أن يبدأ مع مطلع القرن الثامن عشر عندما بدأت بريطانيا تُحكم سيطرتَها على الخليج والجزيرة العربيّة، بإضعاف قدراتهما التجاريّة والاقتصاديّة، وإخضاعهما نهائيًّا للإدارة الاستعماريّة التي اتخذتْ من الهند مركزًا لها. واستطاعتْ بريطانيا فرض السلام في المنطقة بعد توقيع معاهدة «الصلح الأبديّ» عام ١٨٥٣ مع إمارات الساحل العربيّة، التي كانت تمثّل النهاية الفعليّة للمقاومة المحليّة للنفوذ الأجنبي، ممثَّلاً ببريطانيا، وأكثر بنودها إذلالاً تلك التي تُجبر الأطراف الموقّعةَ على عدم ردّ أي اعتداء يمكن أن يقع عليها في البحر، والاكتفاء بتقديم شكوى إلى السلطات البريطانيّة. وبين عامَي ١٨٦١ و ١٨٩٩، كانت بريطانيا قد وقّعتْ معاهدة حمايةٍ مع كلٍّ من البحرين ومسقط والكويت.

أدّت هذه المعاهداتُ إلى تحوّل الثقل السياسيّ في المنطقة من الموانئ التجاريّة إلى الداخل القبَليّ، وظهور التركيبة الاجتماعيّة الطائفيّة القبلية التي صاحبتْ ظهور الدول الحديثة بعد الحرب العالميّة الأولى وتقسيم الشرق العربي على أساسها.

كانت بريطانيا تنظر إلى الخليج والجزيرة العربية على أنّها منطقة نفوذ ثابتة لها، منفصلة كليًّا عن الدولة العثمانيّة، وتشرف عليها حكومة الهند حتى نشوب الحرب العالميّة الأولى. لكنّ هذه السياسةَ الإمبرياليّة البريطانيّة لم تكتملْ ملامحها النهائيّةُ إلا خلال الحرب العالميّة الأولى والسنوات التي أعقبتْها مباشرةً، وعلى وجه التحديد بين عامَي ١٩١٤ــــــ١٩٢٠، وهذه السياسة كانت تَعني الحقَّ بوراثة الدولة العثمانيّة عندما بدأ التنافس الأوروبي على تقسيم تركتها.

إن الحلقاتِ الأساسيّة لاتفاقيّة «سايكس بيكو» هي إذًا: معاهدة «دارين» مع ابن سعود عام ١٩١٥، ومعاهدة «السيب» عام ١٩٢٠ التي رسمتْ تقسيم عُمان إلى سلطنة وإمامة، وتجزئة اليمن إلى شماليٍّ وجنوبيّ بعد الانسحاب التركيّ من المنطقة عام ١٩١٨، وأحداث عام ١٩٢٠، ووضْع العراق تحت الانتداب، وتسليم سورية ولبنان للفرنسيّين، ثم وضْع فلسطين تحت الانتداب. وتأتي الحلقة الكبرى والقمّة العظمى المتمثّلة بمؤتمر «العقير» عام ١٩٢٢ لتُحكم الطوق وتبشّر بعهد جديد، ذلك لأنّ الاتفاق الذي خرج به «مؤتمر العقير» كان يقضي بترسيم الحدود على الأرض بين العراق والكويت ونجد، بما لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ المنطقة. لماذا؟ لأنّ اتفاقيّة «العقير» أدخلتْ على الأرض ترسيم الحدود، وربطتْه بمفهوم السيادة الوطنيّة، وهذه قضيّةٌ لم لم تكن معروفةً قبل ذلك في المشرق العربي والجزيرة طوال تاريخها.

تثبيت سلطة الأسَر الحاكمة وشرعيّتها

إن خصوصيّة مفهوم الولاء السياسيّ في مجتمع الخليج والجزيرة العربيّة ترتبط بالبشر، لا بالإطار الجغرافيّ. وتأتي هذه الاتفاقيّة لتكمل نهائيًّا ما بدأتْه معاهدة الصلح الأبديّ عام ١٨٥٣، من تجميدها لدور التجمّعات القبليّة. فترسيم الحدود بين البلدان الثلاثة (العراق، الكويت، نجد) كان القصد منه أساسًا منع القبائل أو باقي الأطراف من التنقّل بين هذه البلدان بحرّيّة نسبيّة، والالتجاء إلى حاكمٍ هربًا من ظلم حاكمٍ آخر، وذلك كما نصّ أحد القيدين المقيِّدين للسلطة وممارساتها في النظام السياسيّ التقليديّ. لذلك، إن هذه الاتفاقيّة، بما قامت به من تحديدٍ لحريّة الحركة السياسيّة، لا لحركة الرعي والتنقّل، كانت مِعولًا استُخدم لتقويض النظام التقليديّ.

لكنّ العنصر الأهمَّ الذي يفوق العنصر السابق في قوّته التدميريّة، أنّ أيًّا من هذه البلدان الثلاثة لم يكن في يومٍ من الأيّام طوال تاريخه سوى إقليمٍ، ولم يمثّل أيٌّ منها أمّةً مستقلّة بحدِّ ذاتها، حسب المفهوم الحديث للأمّة والدولة الوطنيّة التي بُنيتْ عليها. كذلك إنّ حدود أيٍّ من هذه الأقاليم لم تُرسَم في أيٍّ من الأيّام على الأرض، لأنّه لم تكن هناك ضرورة لذلك، إضافةً إلى أنّه ليست هناك أسس إثنيّة أو جغرافيّة أو تاريخيّة لغويّة لهذه الحدود.

لم تقتصر مفاعيل معاهدة «الصلح الأبديّ» عام ١٨٥٣ والنفوذ الأجنبيّ على «حفظ السلام» بين المشايخ والأمراء والسلاطين، بل أدّتْ إلى تثبيت سلطتهم والاعتراف بشرعيّة سيادتهم على مناطقهم وشعوبهم كأُسَرٍ حاكمة. فلم يعُد ظهور الحكّام أو الأسَر الحاكمة واختفاؤهم مرتبطًا بالدورة السلاليّة التي تكلّم عنها ابن خلدون، أو بانتعاش التجارة والحال الاقتصاديّة أو انحسارها، بل بات رهنًا بما وفّرتْه هذه المعاهدةُ لهم ولأسَرهم الحاكمة من الحماية الكاملة من شعوبهم ومنافسيهم من الحكّام الآخرين.

ولا ينحصر جوهر المسألة في حقيقةِ أنّ النفوذ الإمبرياليَّ ومعاهداتِ الحماية قد «جمّدت» القيادات القبليّة أو الحكم في أيدي مَن وقّع على المعاهدة فحسب، بل تعدّاه إلى أمرٍ آخرَ بالغِ الخطورة، هو توسيع سلطة الحاكم نفسِه ومن جاء بعده من الحكّام في تلك الأسرة الحاكمة، إذ إنّ سلطة الحاكم أو الشيخ في ظلّ الحالة الطبيعيّة كانت محدودةً بسبب المعنى الخاصّ للولاء السياسيّ في هذه البيئة.

كثيرٌ من كتّابنا، وفي الخليج العربي تحديدًا، يرَون أنّ مجلس التعاون الخليجيّ أُنشئ على أثر أزماتٍ حدثتْ في المنطقة، وأبرزُها ثورة إيران الإسلاميّة عام ١٩٧٩، والحربُ العراقيّة الإيرانيّة عام ١٩٨٠ التي استمرّت ثمانيَ سنوات. وقد مرّ مجلس التعاون الخليجيّ بمرحلتين هما: مرحلة التأسيس، خلال الفترة التي أعقبت الحرب العراقيّة الإيرانيّة، والمرحلة الثانية خلال الفترة التي أعقبت حرب الخليج الثانية و«عاصفة الصحراء». وضَعَ التناقضُ في هاتين المرحلتين مجلسَ التعاون في مفترقٍ خطير. عندما تأسّس مجلس التعاون رسميًّا في أيار/مايو عام ١٩٨١ في أبو ظبي، سبقتْه مفاوضاتٌ تزامنتْ مع نشوب الحرب العراقيّة الإيرانيّة والخوفِ من تصدير الثورة الإسلاميّة إلى شواطئ الخليج. وفكرة المجلس، إنصافًا للتاريخ، فكرةٌ كويتيّة، حيث طرحَها الشيخ صباح الأحمد (توفي في 29 أيلول/سبتمبر 2020) تحديدًا، وهو الذي استطاع أن يسوّقها في حينه بعد الحرب لكل المعنيّين بالموضوع، وقبِلها العراق على مضض، إذ إنّ طموحه كان معاكسًا لتلك الفكرة.

مجلس التعاون نادٍ مغلق

قبِل العراق بقيام مجلس التعاون الخليجي، لأنه كان يحتاج إلى دول الخليج لمساعدته في حربه مع إيران. تمثّل مأزق دول الخليج بأنّها لم تستطِع إلّا تأييدَ العراق في حربه مع إيران، على اعتبار أنّ النظام العراقيَّ كان في حينه السدَّ المنيع في وجه انتشار مفاهيم الثورة الإسلاميّة. في الوقت نفسه، كانت الدول الخليجيّة تخاف انتصار العراق. ووقعت الدول بين هذين المأزقين. وبعد نهاية سنوات الحرب الثماني، غزا العراقُ الكويتَ، وقد كشف الغزوُ عجزَ مجلس التعاون وعقْمه، ومثّل ذلك أهمَّ وأفدح كارثةٍ في التاريخ الحديث للجزيرة العربيّة. فهناك مجلسٌ قائم على دول أعضاء لها نظمٌ ومصالح متشابهةٌ وخلفيّات تاريخيّة مشتركة، ومع ذلك مرّتْ خمسة أيّام كاملة دون أن تُعلن إدانة الغزو في حينه إلّا دولتان، هما قطر وعُمان. تستطيع دول مجلس التعاون أن تلتئم حول فكرةٍ دفاعيّة واحدة، لكنّ الآراء اختلفت في هذا المجال، وبقي المجلس تحت مظلّة من التغطية الإعلاميّة البرّاقة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع. لقد فشل مجلس التعاون في التجربة التاريخيّة هذه، وهي غزو العراق للكويت والتداعيات التي حدثتْ بعدها.

قبل ظهور فكرة إنشاء مجلس التعاون، كان لشاه إيران دورٌ في أمن الخليج، وكان قد اشترط أن تجتمع كلُّ دول الخليج، بمن فيها اليمن، لكن رُفض ذلك، لأنّ العراق لم يكن ضمن المدعوّين. ثمّ قدّم العراق بقيادة الرئيس أحمد حسن البكر اقتراحًا حول أمن الخليج، وشَطَبَ من إطاره إيران وأدخل فيه اليمن الجنوبيّ، فرُفضت هذه الفكرة. ثم جاءتْ فكرةٌ أخرى، هي تأسيس وكالة أنباء لدول مجلس التعاون الخليجيّ، وكان مقرُّها البحرين في ذلك الوقت، فاحتجّتْ إيران ورفضتْ كلمة «الخليج العربيّ». ثم بدأنا نتراجع ونقول «دول الخليج»، وبعضنا يقول «دول الخليج العربي»، والبعض الآخر يقول «مجلس التعاون الخليجيّ». ومرّت «عاصفة الصحراء» بخيرها على البعض، وشرّها على البعض الآخر.

يعود موضوع التعاون الخليجي إلى مؤتمر مسقط الذي عُقد عام ١٩٧٦، وحضرتْه كل دول الخليج وإيران الشاه والعراق، وهو أوّل وآخر مؤتمر تحضره كل دول الخليج بشقّيه الإيراني والعربي، وقد أقرّ مبدأ التعاون الخليجي. ثم حدث ما حدث في إيران، وسقط الشاه، وبدأت الحرب العراقيّة الإيرانيّة. تتجسّد مشكلة مجلس التعاون في أنّه لم يكن منظّمة إقليميّة مفتوحةَ الأبواب، إذ قام كنادٍ مغلق له عضويّةٌ محدَّدة تحديدًا دقيقًا، وأعضاؤه دولٌ ذات أنظمةٍ عشائريّة وراثيّة متشابهة في الخلفيّات والجوانب الاقتصاديّة، وأغلبها نشأ واستقلّ في نهاية الستينيّات ومطلع السبعينيّات بعد زوال الحماية البريطانيّة. ولا يدخل هذا الناديَ إلا الأعضاءُ الستّة.

وللمقارنة، نرى أنّ جامعة الدول العربيّة منظمةٌ إقليميّة انضمّتْ إليها جزر القمر بعدما أسّستْها سورية ولبنان ومصر والسعوديّة عام ١٩٤٥. ليست هذه القضيّة. إنّ مجلس التعاون الخليجيّ فتح باب الشرذمة الإقليميّة العربيّة، وهو أوّل مسمارٍ في نعش جامعة الدول العربيّة، وكان الردُّ عليه إنشاءَ مجلس التعاون العربيّ الذي لم يِعشْ طويلاً، وكان يضمّ مصر والأردن واليمن والعراق، ثم مجلس التعاون المغاربيّ. ثم عدنا إلى التقسيمات الجغرافيّة الإقليميّة. فبدلًا من أن تكون الجزيرة العربيّة قسمًا واحدًا، أصبحت قسمين، وكذلك أصبحتْ مصر وشمال أفريقيا قسمين بدلًا من أن تكونا قسمًا واحدًا. وجامعة الدول العربيّة ما زالت منبرًا خطابيًّا وسقفًا يجتمع تحته العربُ ليقولوا لا شيء، وليتّفقوا على ما هو أقلّ. هذا بالنسبة إلى المفهوم العربي.

أمام مجلس التعاون تحدّياتٌ صعبة، فماذا حقّق هذا المجلس لمواطنيه، بالمفهوم الإقليميّ الضيّق، وليس بالمفهوم العربيّ؟ ماذا سيحدث في هذه الجزيرة العربيّة التي نشبتْ فيها خلال خمس سنوات أكبر حربين، هما «عاصفة الصحراء» وحرب الانفصال والوحدة في اليمن؟ ووقعتْ أحداث القرن الأفريقي، الذي يقع على بُعد خطواتٍ من البحر الأحمر أو باب المندب، وكان أيضًا الاحتلالُ السوفياتيّ لأفغانستان، وهي ليست ببعيدةٍ عن الجزيرة العربية. وبالنسبة إلى دول الجوار الإقليميّ، هناك انعكاسات الصراع العربيّ الإسرائيليّ، وموضوع السلام والسوق الشرق أوسطيّة.

تعزيز المفهوم القطْري

كان تأسيس مجلس التعاون أوّلَ عمليّة إضعافٍ للبيت العربي الواحد، أي الجامعة العربيّة، وساهم في الشرذمة. الشرذمةُ لها أسبابُها العربية غير الخليجيّة. وبالنسبة إلى جيلنا الذي تربّى وتعلّم ضمن إطار المفهوم الوحدويّ، ومفهوم «بلاد العرب أوطاني»، أصبح الأمر معه نشازًا، فهو يسمع كلمة «أنا خليجي... أنا خليجي». هذا الخليج الذي يمكن أن يستقبل العربَ ويفتح لهم أبوابَه ويُدخلهم إلى بيوته، يعامل العربيَّ كمواطنٍ من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال. ويحتاج المواطن العربيّ إلى صبر أيوبَ لكي يجتاز أسوار العمالة والمعاملات في أيّ بلدٍ خليجي، بينما أبوابُ الخليج مفتوحةٌ ومباحة للآسيويّين تحديدًا، وللأجانب من غير العرب. لقد وقفتْ دول الخليج مع القضايا العربيّة التي كانت تُعَدّ قضايا أساسيّةً كبرى عندما كانت هناك زعاماتٌ عربيّة قادرة على استقطاب الخليجيّين. ما حدث من فراغٍ في الربع الأخير من القرن العشرين عائدٌ إلى أن ليس هناك بطلٌ عربي. من حرّر الكويت لم يكن بطلاً عربيًّا. الأبطال هم جورج بوش ونورمان شوارتزكوف. عندما احتفلنا بتحرير الكويت، رحّبنا بجورج بوش واستقبلْناه استقبال الفاتحين. ليس هناك بطل عربيّ. الخليج ليس مسؤولًا عن الشرذمة العربيّة. الخليج كان عاملًا مساعدًا على الشرذمة، المسؤوليّة تقع على أهل المشرق، على أصحاب القضيّة.

عزّز الخليجيّون المفهومَ القُطْري الذي أصبح بكلّ أسفٍ مفهومًا سائدًا. وبحكم ثروتهم، يمكن أن يتحمّلوا مسؤوليّةً معيّنة. لكن هناك من يقول إنّه لم يكن هناك في حرب الخليج الثانية تكاتفٌ بين المملكة العربيّة السعوديّة ومصر وسورية، فتغيّرت الصورة كليًّا، واستطاع بوش وكيسنجر وتاتشر أن يتصرّفوا وحدهم. هؤلاءِ هم في الحقيقة، وفي الواقع، المحرّرون للكويت. صحيحٌ أنّ القوى الأجنبيّة جاءت من الخارج، ذلك لأنّ قوّة العراق كانت أكبر من الدول العربية المذكورة مجتمعةً. نعود إلى أمن الخليج الذي يبحث عن تشكيل قوّةٍ ذاتيّة ويبحث عن مرجعيّةٍ عربيّة. اتُّهمتْ دول الخليج بأنّها لم تؤدِّ دورًا، وأنّها لم تُعطِ شيئًا، واتُّهم الآخرون بأنّهم تراكضوا من تلقاء أنفسهم دون أن يأخذوا رأي الآخرين.

لم يكن هناك بطلٌ عربيّ في حرب تحرير الكويت، لأنّ الحلّ العربيّ رُفض ولم تُعطَ له فرصة. إنّ أيَّ مواطنٍ عربيٍّ ضدّ احتلال بلدٍ عربيٍّ لبلدٍ عربيٍّ آخر، مهما كانت المبرِّرات، ومهما كانت الأسباب. ليس هناك مبرّرٌ قوميٌّ ولا وحدويّ. كل هذا غيرُ مقبول. كانتْ حرب تحرير الكويت أو «عاصفة الصحراء» موضوعًا أميركيًّا فُرض على العرب فرضًا. لم يُعطَ العربُ فرصةً للقيام بدور، وقد مكّنتْ هذه الحربُ من عودة الاستعمار. هذه حقيقةٌ واقعة على الأرض، الاستعمار الذي خرج من الخليج رسميًّا عام ١٩٧١، عاد رسميًّا بغطاءٍ آخَرَ في أعوام ١٩٩١ و١٩٩٢ و١٩٩٣. إنّ الاتفاقيّات الموقَّعة بين دول الخليج وأميركا والدول الكبرى ستتوالى. وأرى أنّ المشكلة النفسيّةَ، في موضوع حرب تحرير الكويت، تتمثّل بالوجود الأجنبيّ ومنع إعطاء العرب فرصةً لإيجاد حلّ. إنّ الحربَ العربيّةَ العربيّةَ مستمرّة منذ منتصف القرن العشرين بين الأنظمة، منذ أيّام الاستقلال السوري إلى نظام عبد الناصر، كانتْ هناك الحرب الباردة والحرب الساخنة.

«أميركا ليست هي الحلّ»

الحروب العربيّة العربيّة ما هي إلّا حروبٌ حول قضايا، كالوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة والنظام الاجتماعيّ والنظام الجمهوريّ. كل هذه العناوينَ سقطتْ بالممارسة. نحن العربَ ميّالون إلى النظريّة التآمريّة في السياسة الخليجيّة. لا شيء يحدث بصورةٍ عفويّة، كل شيء مدبَّرٌ ومخطَّط له، ونحن مجرّدُ أحجار شطرنجٍ في لعبةٍ أكبرَ منّا. قد نكون لاعبين صغارًا. نحن لسنا بأحجار شطرنج إذا أردنا ألّا نكون أحجارَ شطرنج، هذا هو الموقفُ الأوّل. أمّا الموقفُ الثاني، بالنسبة إلى موضوع أمن الخليج في بُعده العربيّ الذي يتجاوز الجزيرةَ العربيّة، فله ثلاثُ ركائزَ هي: الأمن السياسيّ، ثم الأمنُ الاقتصاديّ الاجتماعيّ، ثم الأمنُ العسكريّ. وهذا يتسلسلُ حسب الأهمّيّة.

ما هو مفهوم الأمن السياسيّ؟ هو أن يكون للخليج علاقاتٌ طيّبة بدول الجوار ودول حزام الفقر. ويمكن توظيفُ هذه العلاقات الجيّدة عندما يحيط خطرٌ بدول الخليج. ما هو مفهوم الأمن الاقتصاديّ الاجتماعي؟ أنّ دولَ الخليج محاطةٌ بجيران فقراء، وهي موضع حسدٍ وريبة، وتركيبتها السكانيّة هشّة. تحسدكَ باكستانُ والصومال مثلًا، ولكي تتفادى حزامَ الفقر، عليكَ أن تقدّمَ وتعطيَ مساعداتٍ اقتصاديّةً منظّمة لهذه الدول كي تدفعَ خطرَها، لأنّ أمنك القوميّ مهدَّد.

أميركا مثلًا، تساعد روسيا اقتصاديًّا اليومَ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. هل يحدث ذلك حبًّا بالروس أو بالنظام الروسي؟ لا. إذا لم تساعد الولاياتُ المتحدةُ روسيا، فإنّ الوضعَ الروسيَّ سينفجر سياسيًّا وعسكريًّا، بحيث يؤثّر في الأمن العالميّ. على دول الخليج أن تعامل دولَ حزام الفقر بهذا النوع من التفكير.

الأمرُ الثالث، وهو في رأيي أقلُّ أهميّةً، موضوعُ الأمن العسكري، وله أكثرُ من تفسير. المتداوَلُ في الخليج، تشكيلُ قوّةٍ ضاربة تبلغ نحو مئةِ ألف جنديٍّ من خارج القوّات المسلّحة، وتدريبُها تدريبًا جيّدًا، لتكون مهمّتُها ردَّ العدوان لأوّل وهلة على الأقلّ، أو صدَّه إلى أن يُستعان بالمدد من الخارج. بعد سنواتٍ من تجربة حرب الخليج، لا بدّ من إسقاط شعار «أميركا هي الحلّ». أميركا ليست هي الحلّ. حتى الأميرُ خالد بن سلطان، الجنرال العربيّ السعوديّ الذي قاد الجانبَ العربيَّ من قوّات التحالف مع شوارتزكوف، قال في محاضرةٍ له عام ١٩٩٢ في معهد الدراسات العسكريّة الملكيّ في بريطانيا:

«لا تتّكلوا على أميركا... أميركا لن تأتيَ لتساعدَنا مرّةً ثانية في أيّ حربٍ مقبلة، ولن تستطيعَ أن تشكّل تحالفًا مرّةً ثالثة. ثمّ أنتم دفعتم ثمنًا ماليًّا باهظًا لا تستطيعون أن تدفعوا مثله مرّةً ثانية، هذا إذا لم يعلَن إفلاسُكم سلفًا. فأميركا ليس بيدها الحلّ، الحلُّ هو التصميم على أمنٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ يحميكم، مع رادعٍ عسكريٍّ عربيٍّ يكون في مستوى قدراتكم».

أمّا المساعداتُ، فقد استُخدمت استخداماتٍ غير سليمة. ذهبت المساعداتُ إلى قياداتٍ، ولم تذهب لبناء مؤسّساتٍ ومفاهيم. لقد فُقدت الثقة في القيادات نفسِها، أو فَشلَ القادةُ في إيجاد التناغم أو التفاهم في ما بينهم، الأمرُ الذي انعكس على شعوبهم، وعلى الرفاه والتنمية والاستقرار في المجتمعات. أمّا شعارُ أميركا هي الحلّ، فهو شعارٌ لم تصدرْه دولُ الخليج. أوّل دولةٍ صدّرتْه هي مصرُ السادات، التي قالت إنّ تسعةً وتسعين بالمئة من الأوراق لدى أميركا، ثمّ جاء زعيمٌ آخَرُ وقال إنّ مئةً وعشرةً بالمئة من الأوراق أو الحلّ بيد أميركا. ثم جاء زعماءُ آخرون وقالوا: لا ليس أميركا، بل إسرائيل هي الحلّ، وهي المفتاحُ لكلّ قضايا المنطقة. إنّ إسقاط هذا الشعار لا يتحقّق تنظيرًا عبر وسائل الإعلام.

أعتقد أنّنا الآن نواجه مأزقًا من الخليج إلى المحيط. ليس هناك عربيٌّ يُنكر أنّ المساعداتِ سُرقتْ أو أهدرتْ، فهذا أمرٌ ليس بموضوع نقاش. لكنْ في موضوع الأمن تحديدًا، تريد دولُ الخليج أن تعطيَ جزءًا من الثروة إلى الدول الفقيرة، لتدرأ الخطرَ عنها، أقصدُ بذلك الهندَ وباكستان وبنغلادش وسريلانكا التي يعمل رعاياها في الخليج، إذ يجب أن تتبعَ سياسةً اقتصاديّة كسياسة دول الاتحاد الأوروبيّ التي تساعد أوروبا الشرقيّةَ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وسياسة أميركا التي تساعد الاقتصاد الروسيّ، وذلك لحماية أمنها. تعني المواطَنةُ الخليجيّةُ أنّ هذه الأرضَ أرضُك، يجب أن تدافعَ عنها وتحميَها، وليس الغرب الذي يدافعُ عنها ويحميها. بعد حرب الخليج، يجب أنْ يعاد النظر في كل المفاهيم التربويّة التي بُنيَ على أساسها الاستقلالُ منذ ٢٥ عامًا. اليوم لم يعدْ هناك عذرٌ للمواطن الخليجيّ. بعد 45 عامًا من الاستقلال، يوجد في الخليج مدارسُ ومتخرّجون أكثر من أيّ مكانٍ في العالم العربيّ، وكفاءات كثيرة، فمن بين كلّ عشرة متخرّجين، هناك أربعةٌ أو خمسةٌ تخرَّجوا من معاهد أميركا وأوروبا، وهم يعرفون الغرب، ويجب أن يكونوا القوّةَ الدافعةَ للتفكير الجديد في الخليج.

العمالة الوافدة

أمّا موضوع العمالة الأجنبيّة فليس مستوعَبًا تمامًا، ولا أحدَ يشعر بخطره على الجزيرة العربيّة. لماذا لا تكون دولُ الخليج أميركا العرب؟ أميركا كانت قارّةً غنيّةً، لجأ إليها الأوروبيون بالدرجة الأولى، وصارت العالَمَ الجديدَ للفلسطينيّين تحديدًا. للمقارنة، جاء الفلسطيّنيون إلى الكويت في عقد الأربعينيّات حين كانت الكويتُ تحت الحماية البريطانيّة، وكانت فلسطينُ تحت الانتداب البريطانيّ أيضًا، واستقدم البريطانيّون مدرّسين فلسطينيّين. عندما انتعشتْ دول الخليج باستخراج النفط واستقلّتْ، لم تفتح أبوابَها للعرب، سواءٌ للعمالة أو الاستيطان. كان في الكويت أربعمئةُ ألف فلسطينيٍّ، بالإضافة إلى مئة ألفٍ من فئة البدون، لو مُنحَ هؤلاءِ وكلُّهم عربٌ يتكلّمون العربيّة ومسلمون المواطنةَ الكويتيّة بالتجنيس، وليس بالتأسيس، لكان بعضُهم في الجيش. هل كان صدّام حسين سيجرؤُ على غزو الكويت؟ لو دخل صدّامُ وهؤلاء الذين يعيشون من خيرات الكويت يحسون بأنها وطنُهم، لاستبسلوا ودافعوا عن الكويت. إنّ الأميركيّ المتحدّرَ من أصلٍ أيرلنديٍّ أو إيطاليٍّ، هو اليومَ أميركيٌّ حارَبَ في الحرب العالميّة الثانية ودافع عن أميركا وعن مصالحها.

دخل الآسيويّون إلى الخليج بتشجيعٍ من الإنكليز كعمالة، وتحوّل قسمٌ منهم من العمالة اليدويّة إلى العمالة الإداريّة. وغالبيّةُ هؤلاء غيرُ مسلمين يتكلّمون لغة الخليج، وأُلقيتْ على عاتقهم تربيةُ الأولاد وإدارةُ المكاتب وقيادةُ السيّارات. اليومَ تطالب المنظّماتُ العالميّةُ ومنظّماتُ العمل الدوليّة دولَ الخليج رسميًّا بمراعاة حقّ هذه العمالة الآسيويّة في التنظيم النقابيّ والسياسيّ والثقافيّ. وقد أقرّ مؤتمرُ وزراء الداخليّة العرب، الذي عُقد في الطائف عام ١٩٨٠ بذلك للمرّة الأولى، ولم يتكرّر هذا الإقرار. هناك خطرٌ ثقافيّ داهمٌ على دول الخليج من العمالة الأجنبيّة. يفيد إحصاءٌ صادرٌ عن معهد الدراسات الاستراتيجيّة في لندن عام ١٩٨٢ بأنّ نسبةَ السكّان غيرِ المواطنين في كل دولةٍ خليجيّةٍ كانت كالآتي: الكويت قبل الحرب أربعون في المئة، الإمارات ثمانون في المئة، قطر ثلاثون في المئة، البحرين خمسة وعشرون في المئة، عُمان خمسة عشرة في المئة، السعوديّة خمسة وثلاثون في المئة. أعتقدُ أنّ هذه الأرقامَ تغيّرت، وهي أرقامٌ مرعبة، والخطر واضح. ولو أنّ دولةً خليجيّةً قرّرتْ أن ترحِّل مئة ألف عاملٍ أو خمسين ألف عامل من العمّال الهنود لسببٍ ما، وأعطتْهم تعويضاتِهم (وحبّة مسك فوقها) وأصعدتْهم في طائرات (درجة أولى) ونقلتْهم إلى الهند، لربّما قامت الهند، وهي دولةٌ كبرى، بإنزالٍ جوّيٍّ وبرّيٍّ في الدولة الخليجيّة التي طردت العمالةَ دفاعًا عن مصالحها. هل ستدافعُ أميركا أو الغربُ عن مصالح تلك الدولة الخليجيّة التي طَردتْ هذه العمالة الآسيويّة لسببٍ ما؟ إنّ العمالةَ الآسيويّةَ ليست خطرًا حضاريًّا وثقافيًّا فقط، بل هي خطرٌ استراتيجيٌّ وعسكريّ.

من أسوأ ما حدث في تاريخ الثقافة العربيّة أن تقول: أنا خليجيّ، أنا كويتيّ، أنا سعوديّ. تلك إهانة لأيّ شعبٍ من الشعوب العربيّة. أمّا الأمرُ الآخر، فهو أنّ الخليجَ يحتاج إلى سكّان، وهو يشكّل منطقةً قائمةً على التسامح. كل المنظّمات الإقليميّة العربيّة موصومةٌ دائمًا بأنّها من صنع يدٍ غربيّة. جامعة الدول العربيّة اتُّهمتْ بأنّها فكرةٌ بريطانيّة، ومجلسُ التعاون الخليجيّ متَّهمٌ بأنّ الولاياتِ المتّحدة الأميركيّة هي التي أنشأتْه لمواجهة إيران. لماذا تُتَّهم هذه الأمّةُ بأنّها أداةٌ غيرُ شرعيّةٍ ولا مكانَ لها؟ هذا سؤالٌ يُعيدنا إلى موضوع النظريّة التآمريّة. فإذا كان الإنكليزُ وراء تأسيس الجامعة العربيّة، فلا بأس في ذلك، لأنّ الفكرةَ عظيمة، لكنّنا نحن الذين أسأنا استخدامَها وعطّلْناها. وإذا كان مجلسُ التعاون الخليجيّ فكرةً أميركيّةً مثلًا، أو فكرةً كويتيّة، لا فكرةً سعوديّة، فلا بأس أيضًا. المشكلةُ أنّ مجلسَ التعاون لم يُوظَّف التوظيفَ الحسن. تتمثّل المسألةُ في أنّه لا يوجد لدينا فكرٌ وقّاد، ونحن نسعى ببطءٍ شديد. لقد أنشأتْ أوروبا مؤسّساتٍ فعّالةً، ووصلتْ خلال ٥٤ عامًا إلى الاتحاد الأوروبيّ، لأنّها شعرتْ بأنّ هناك حاجةً إلى هذه المؤسّسات، وليس لأنّها حلم. نحن ننشئُ المؤسّسة، وبعد ذلك نقرّر إذا كنّا بحاجةٍ إليها أم لا. كلُّ منظّماتنا هكذا، وآخرُها مشروع «بنك الشرق الأوسط». كلّ العرب، أو ثلاثةُ أرباعهم، لا يريدونَه، وهنا يرجع الفشلُ إلى الفكر السياسيّ الذي يضيّق مساحةَ الحرّيّات. لقد أوصلَنا غيابُ الحرّيّات في الأنظمة السياسيّة إلى هذا العقم. هناك عقمٌ عربيٌّ، شئنا أم أبينا.

كان تحريفُ مفهوم الولاء السياسيّ التقليديّ المرتبط بالبشر ومحاولةُ ربْطه بالحدود الثابتة على الأرض، أحدَ أهداف السياسة الاستعماريّة البريطانيّة التي وُضعتْ موضعَ التنفيذ بعد الحرب العالميّة الأولى. وقد حمَلَ نتائجَ سلبيّةً مدمِّرةً على مجتمع الخليج والجزيرة من زاويتين: الخلاف العبثيّ على الحدود التي ليس لها أساسٌ تاريخيٌّ، والجدالُ الذي لا يمكن حسمُه في قضيّة المواطنة وشروطها، في كياناتٍ لا يَفصل بينها فاصلٌ قوميٌّ أو عرقيٌّ أو حضاريّ. وبين منتصف القرن التاسع عشر ونهايته، وضعت الأسس المادّيّة لتمزيق مجتمع الخليج والجزيرة العربيّة، لا بجيوش الاحتلال الأجنبيّ، بل بسلاح الاستقلال الوطنيّ.

العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.