أنا ريتشارد هفنر (Richard Heffner)، أقدّم لكم برنامج «ذي أوپن مايند» The Open Mind. نادرًا ما نشهدُ تحقُّقًا دراماتيكيًّا ومُنتِجًا للقاء الشرق بالغرب كما نجد في شخص ضيفنا اليوم، الطبيب الدكتور جورج حاتم، أو «دكتور ما هايدي» (Ma Haide)، الذي يعني اسمُه الصينيّ: الفضيلة الآتية من وراء البحار. وُلد في بوفالو، نيويورك، وأنهى دراسته في جامعة نورث كاليفورنيا. يعمل دكتور ما هايدي حاليًّا استشاريًّا صينيًّا كبيرًا في وزارة الصحة العامة في جمهوريّة الصين الشعبيّة. جاء دكتور «ما هايدي» إلى أميركا (هنا) بوصفه الفائز بجائزة ألبرت لاسكر للخدمة العامة (Albert Lasker Public Service) حيث مُنحت له لإسهاماته البارزة في مجال الصحة العامة، التي نجحت في خفضٍ جذريّ للأمراض التناسليّة في الصين، الأمّة الأكثر سكّانًا في العالم. وقد انضمّ، بوصفه طبيبًا تدرَّب في الغرب، إلى ماو تسي تونغ وتشو إن لاي (Zhou Enlai) في تلبية حاجات الجيش الأحمر الطبيّة الملحّة بعد «المسيرة الطويلة»، ليلتفت لاحقًا إلى إسهاماتٍ في مجال الصحّة العامّة قُورنت من حيث أهميّتُها بالقضاء على الحمّى الصفراء والطاعون الدَّبليّ. في حقيقة الأمر، لا يسع المرء إلّا التّساؤل عمّا إذا كان يمكن الاستفادة من دروس دكتور «ما هايدي» هنا، في مسعانا لاحتواء بلاء الإيدز. لا يجدر بنا نسيان أن نُقرّ ونُحيّي المساعي الأولى في التربية الصحّية حيال هذا المرض التي وصلت اليوم حتّى إلى الدوائر المحليّة. لكنّ أمّتنا كبيرة وعدد سكّانها هائل بحيث يمكن أن نستفيد من جهد دكتور «ما هايدي» الهرقليّ ومن نجاحه المذهل في استئصال وباء الأمراض التناسليّة الذي ذاع في الصين على نحوٍ أكبر من هنا.
إذًا، دكتور «ما هايدي» بعد ترحيبي بكَ هنا اليوم أتساءل عما إذا كانت هناك دروس في عملك في الصين يمكننا اتّباعها في عملنا هنا بشأن الإيدز؟
بدايةً، هذا سؤال شديد الصعوبة. مشكلة الأمراض التناسليّة، والإيدز أحد تلك الأمراض، ارتباطُها الكبير بالمجتمع وبالخلفيّات الثقافيّة الاقتصاديّة- الاجتماعيّة، لذا نُشير إليها بوصفها أمراضًا اجتماعيّة، ولا بدّ لمحاولاتنا في التعامل معها طبيًّا أو تقنيًّا من أن تكون مدعومةً بالتغيّرات والتعاطفات الاجتماعيّة التي تُسهم معًا في التصدّي لمشكلة الإيدز. هذا هو الدرس الوحيد الذي شهدناه في الصين: تحتاج إلى العلم الاجتماعيّ وإلى العلوم الطبيعيّة في آن.
هل تظنّ أنّ شبكة العلاقات الاجتماعيّة في الصين سهّلت عليك استئصال الأمراض التناسليّة، ولعلّها شبكة لا نملكها حاليًّا في هذا البلد؟
ربّما كانت لدينا هذه الميزة، كان وضعًا مهمًّا جدًّا. كان هذا إثر مرحلة التحرّر، وكانت طبقة الفلّاحين، التي تُشكّل قرابة 80% من سكّان الصين، سعيدةً جدًّا بسبب تحرّرهم من الاستغلال ومن مُلّاك الأراضي والجوع والضرائب، وبما أنّهم مُنحوا الأراضي كانوا متعاونين مع الحكومة وداعمين لها حينما منحهم النظام الجديد أراضيهم. لذا فقد تعاونوا بقوّة مع مساعينا للقضاء على الأمراض التناسليّة، إذ قلنا لهم: «لقد أرسلتْنا الحكومة لمساعدتكم. الأمراض التناسليّة أمراضٌ من العهد القديم، ولقد أطحنا بالعهد القديم، ونبني اليوم مجتمعًا جديدًا. لا ذنب لكم بشأن أمراضكم التناسليّة. إن كنتم ستبنون مجتمعًا جديدًا، إن كنتم ستدعمون الاشتراكيّة، لا يمكنكم إدخال أمراض المجتمع القديمة إلى المجتمع الجديد. لذا، ما رأيكم أن تخضعوا لفحوص الأمراض التناسليّة كي نعالجها؟» ساهمَ هذا في إدخال نكهة سياسيّة على الموضوع وفي نزع الوصمة المرتبطة بالمرض في الوقت ذاته. كان هذا جزءًا من الصورة الموجودة في الصين آنذاك. وبذا فقد كانت لدينا ميزة وجود خلفيّة اجتماعيّة انبنت على أساس عملية التحرير. وبالطبع كانت هناك مظاهر أخرى كثيرة في الصورة، مثل تحرير البغايا. كان البغاء عمليّةً ذات بُعدٍ تجاريّ كبير، كما هي الحال عليه في مجتمعات كثيرة أخرى، وله أساس اقتصاديّ قويّ. كانت النساء يُرغَمن على البغاء، وكانت معظم محاولاتهنّ لإيجاد لقمة العيش تتحوّل قسرًا إلى شكل من أشكال البغاء. كانت عائلاتهنّ تبعنهنّ كي يبقين على قيد الحياة، وما إلى ذلك. بهدف الحدّ من البغاء، كان لا بدّ من منح النساء حريّتهنّ. كان علينا منحهنّ استقلالًا اقتصاديًّا. كان علينا تعليمهنّ بحيث تُتاح لهنّ وسائل عيش أخرى. فالنساء لا يتّجهن إلى البغاء عادةً لأسباب اقتصاديّة بحتة أو بسبب حبّهنّ لهذا الأمر، بل يُرغَمن عليه بطريقةٍ أو بأخرى بفعل الضغوط الاجتماعيّة والاقتصاديّة. لكلّ مجتمع خلفيّته الثقافيّة والتاريخيّة والأخلاقيّة التي ينبغي لنا بناء مجتمعنا تبعًا لها، وهذا ينطبق على الولايات المتّحدة أو على أيّ بلد آخر.
يلفتني، برغم هذا، استخدامك لكلمة «تحرّر»، وأفهم معناها التاريخيّ في الصين. لدينا هنا كثيرون ممّن يشعرون أنّ التحرّر في ذاته — التحرّر من المعايير الأخلاقيّة القديمة — كان العامل الأساسيّ في أنماط النشاط الجنسيّ الذي تسبَّب بانتشار الإيدز. وأتساءل عما إذا كنت مدركًا للنسبة التي بات فيها أناس في هذا البلد لا يشجّعون التحرّر بل يدعمون نقيضه تمامًا من أجل احتواء انتشار الإيدز.
لا أظن أنّ بإمكانك استخدام طريقة أخرى للتعبير. إذ سيبدأ المرء بتعريف «التحرّر» ما إن يُنطَق بكلمتَي تحرّر ولاتحرّر، ومن ثمّ تصل إلى نقطةٍ يكون فيها خطٌّ فاصل. حينما يؤذي التحرّرُ شخصًا آخر فهذا يعني أنّك بالغت بتحرّرك.
هذه مقاربة سياسيّة للطبّ. هل يعني هذا أنّ الطب يُمارَس في الصين ممارسة شديدة الاختلاف بالمقارنة عندنا هنا؟
أظنّ أنّ للطب قاعدة اجتماعيّة ومجتمعيّةً في الصين أكثر ممّا يمتلكه هنا. وضعت الحكومة مسؤوليّة صحّة شعبها على عاتقها، مسؤوليّةً فعليّة. وحين تلتزم الحكومة بهذا المبدأ، فهذا يعني تأمين جميع الوسائل الضروريّة لصحة شعبها.
هل كان للضوابط الاجتماعيّة تأثير مهمّ في الحدّ من الأمراض التناسليّة؟
لم تكن الضوابط الاجتماعيّة مهمّة جدًا. أظنّ أنّ المهم، بادئ ذي بدء، هي مسألة تغيير الأساس الاقتصاديّ لحياة الناس. حين يكون الإنسان فقيرًا، وحين يصل الفقر إلى درجة الفاقة والعوز، لن يعود بإمكانه تقبُّل أيّ تثقيف يحذّره من الأخطار، فلنقل أخطار الأمراض التناسلية. إذ إنّ خطره المُحدِق هو الموت جوعًا. كانت الضوابط الاجتماعيّة التي استخدمناها ذات طبيعة تثقيفيّة، إذ لا يمكن لأيّ قوانين أو قواعد أو نواظم أن تدخل إلى غرفة النوم، وأن تكون فعّالة. ولقد حاولنا سنَّ جميع أنواع القوانين عند بداية إطلاقنا حملات الحدّ من الأمراض التناسليّة ولكنّها لم تُجْدِ نفعًا. فعلى سبيل المثال، شدّدنا على وجوب الخضوع لفحص طبيّ قبل الزواج. كان هذا أحد أشكال الضوابط. ولكن، في حال وجود 800 مليون فلّاح، أو فعليًّا 500 مليون فلّاح آنذاك في الريف، لم نكن لنجد آليّة إجراء تلك الفحوص الطبّية الكثيرة وتنفيذها. لم يكن هناك كادر بشريّ لتنفيذها. وبذا بات قانونك قانونًا عكسيًّا لأنّك كنتَ عاجزًا عن تأمين وسائل إجراء تلك الفحوص. وبالتالي، فإنّ الضوابط التي استخدمناها حقًّا، الضوابط الجوهريّة، كانت اقتصاديّة أو تثقيفيّة. هذان هما المعياران الأساسيان اللذان ظننّا أنّهما فعّالان.
لستَ غريبًا عن هذا البلد – لقد ولدتَ هنا، وعشت سنوات طويلة هنا. ما مدى ثقتنا، وقدرتنا – برأيك – على شنّ حملة تثقيفيّة مماثلة بنجاح؟
أظنّ أنّ عليكم إيجاد الطرق الأمثل. فعلى سبيل المثال، وضعنا سلسلة دلائل تساعدنا في حملاتنا للحدّ من الأمراض التناسلية. لو كان لديك أيّ عَرَض من بين الأعراض التسع أو العشرة المرتبطة بالسفلس أو السيَلان مثلًا، أو لو كان عندك شك بوجود أيٍّ من هذه الدلائل، سنطلب منك الخضوع لفحص. ولقد ثقّفنا الناس بشأن هذه الدلائل في لقاءاتنا المفتوحة، حيث كنّا نجلس ونتناقش معهم بشأن سبب تحديدنا لهذه الدلائل وبشأن معناها. أتخيّل أنّكم، لو وضعتم في لوحة الإعلانات على أحد هذه الأبنية الطابقيّة الشاهقة أنّنا سنعقد عصر يوم السبت جلسةً بشأن أعراض الأمراض التناسليّة، ونطلب من جميع سكّان هذا البناء الحضور إلى اللقاء، فلا أظنّ أنّك ستجد أناسًا كثيرين في اللقاء. عليكم إيجاد طريقة أخرى، عليكم إيجاد طريقتكم الخاصة في تنفيذ هذه الأمور. لستُ خبيرًا في مسائل تخطيط المعايير الخاصة بهذا الموضوع حقًّا. هذا مع أنّي ولدتُ هنا، فالأمر معقّد بدرجة أكبر بكثير.
من الواضح أنّني أشدّد على نقطة الضوابط، وما إذا كانت الضوابط، الضوابط المركزيّة، أي الإصرار الاجتماعيّ والسياسيّ في الصين على القضاء على السفلس، واتّخاذ جميع الخطوات للحدّ من جميع الأمراض التناسليّة الأخرى، ما إذا كان بالإمكان إحداث مسعى قوميّ موازٍ في بلدٍ يركّز اهتمامه – كما نفعل في بلدنا هنا – على الرضا الفرديّ، وعلى النشاط الفرديّ، وأتساءل عمّا إذا كانت لديك ملاحظة أخرى بشأن هذا.
المعنى، النتيجة المنطقيّة حين تتحدّث عن «الفرد» و«الحقوق» و«الخصوصيّة» وما إلى ذلك – وما من نتيجة أخرى – هي أنّك لا تؤذي أيّ شخص آخر. ولكن من النادر جدًا الالتزام بهذه القاعدة. لو قلتَ إنّك حرّ، إنّك مستقلّ، بوسعك فعل ما يحلو لك، وحين تُشيّد مجتمعًا شديد الفردانيّة، تصبح «الأنا» أكبر من أيّ علاقة جانبيّة أخرى. لن يكون لديك وقت للتفكير في الآخرين. لقد تأخَّر في السباق، تلك مشكلته. لدينا في الصين موقف مختلف بمعنى الشعور بأنّنا مسؤولون عن شعبنا كلّه، لا عن الفرد فقط. أحسسنا أنّنا حين نعتني بجميع الناس فإنّنا نعتني بالفرد أيضًا لأنّنا لا نعتقد بوجود تناقض بين حقوق الشعب وبين حقوق الفرد. ومن ثمّ ستنتقل إلى الجزء الدلاليّ من المسألة، فتسأل: ما هي حقوق الشعب؟ يُحدّد كلّ بلدٍ قوانينه الخاصة وتعريفاته الخاصة للحقوق وما إلى ذلك. على مرّ التاريخ، كانت مسائل الحقوق والفرد هذه عنصرًا مهمًّا جدًّا في تطوير تقدُّم المجتمع. حين تجمع الحقوق الجمعيّة والحقوق الفرديّة، لو وجدت مزيجًا أمثل، أظنّ أنّ بوسعك – حينئذٍ – توجيه المساعي للخير العام بفعاليّة أكبر.
هل تعتقد بأنّ الأميركيّين وجدوا مزيجًا أمثل؟ في مجال عملك، في الطب؟
في الطب، عندي شيء من التردّد حيال الأمر. لسبب بسيط هو أنّ هذا ما يقوم الطبّ الأميركيّ عليه الآن، وأنا أعمّم وليست لديّ معلومات جازمة كي أنطق بهذه التصريحات. بوصفي عالِمًا، سأنظر إلى الوراء وأقول إنّني أتحدّث تبعًا لما تجود عليه ذاكرتي. خذ على سبيل المثال مسألةً شغلت تفكيري لسنوات طويلة – مسألة الوقاية في الطب. لا يمكنك تحصيل أجرٍ من الفرد لأنّك وقيته من الإصابة بسرطان الرئة. لو تتبّعتُ حياة امرأة لخمس عشرة سنة مثلًا أو عشرين سنة خلال مرحلة خطر الإصابة بسرطان الثدي – إجراء فحوصات دوريّة، تثقيفها بشأن الفحص الذاتيّ، وما إلى ذلك – سأكون قد كرّست جهدًا، كرّست معرفة. وحين يأتي الوقت الذي أرسل فيه فاتورة وأقول لها ادفعي لي لقاء وقايتي لك من الإصابة بالسرطان، على الأرجح أنّها ستطردني من بابها. هذا يعني أنّ على الوقاية في الطب أن تُطبَّق وأن تُتابَع، وهذا ما يمكن فعله على المستوى الفرديّ. لا يمكن لطبيب في عيادة خاصة أن يتقاضى أجرًا على الطب الوقائيّ. هذه هي المشكلة التي تؤرّقني طوال الوقت. فكّرتُ فيها مرارًا، وتحدّثنا بشأنها مع زملائنا. ليست هناك شبكة أو سستم أو خدمة يمكن أن تؤمّن الطب الوقائيّ في المنظومة الطبيّة الأميركيّة.
وفي الصين؟
إنّها موجودة في الصين، لأنّك تواجه مشكلة منذ البداية تتعلّق بوجود مليار نسمة ولن تكون قادرًا على معالجتهم كلّهم. الحلّ الوحيد الذي تمتلكه هو منع المرض، وكان لهذا الأمر على الدوام أولويّة كبيرة جدًّا في تخطيطنا واستراتيجياتنا الطبّية وما إلى ذلك. لدينا شبكة كاملة تتيح لنا تطبيق المعايير الوقائيّة. وهذا، كما أعتقد، يُفسّر قدرتنا على التعامل مع شريحة سكّانيّة في الصين كان معدّل أعمارهم منذ 37 سنة يتراوح بين 35 و38 عامًا، وها قد ارتفع اليوم بعد 35 أو 37 سنة، لقد ارتفع إلى 68 عامًا وكذا فاصلة، أي أنّ العُمر قد تضاعف تقريبًا. وقد تضاعف عند النساء – من 35 إلى 70. نعتقد بأنّ ذلك تأتّى من عناصر عديدة في خدماتنا الطبيّة، ولكن ليس هذا كل شيء. وهنا – على سبيل المثال – يكون إطعام شعبك جزءًا من الطب الوقائيّ، لو كانوا يتضوّرون أو يموتون بفعل سوء التغذية أو داء البري-بري أو أيّ مرض آخر من أمراض التغذية، بحيث تكون وسيلة الوقاية الوحيدة هي منحهم شيئًا يأكلونه. وبذا يمكننا تأمين الوقاية على الصعيدين الاقتصاديّ-الاجتماعيّ والطبيّ.
ما الذي يمكن أن تقوله، مرةً أخرى بوصفك تعرف كما يعرف أيّ شخص ولد هنا، بشأن البعد السلبيّ لما تفضّلتَ بتوصيفه بالنسبة إلى العُرف الأميركيّ؟ يبدو الأمر طوباويًّا تقريبًا، ولكن ما البعد السلبيّ بالنسبة إلينا في حال وجود مثل هذا البعد؟
لم أفهم تمامًا الجزئيّة المتعلقة بـ«البعد السلبيّ».
تتحدّث عن مضاعفة متوسّط العمر المتوقَّع وعن أرقام أخرى، هل ثمّة ما يضيع بالمقابل؟ هل كان ذلك التطوُّر جزءًا من نمط سلوك يمكن أن يبدو سلبيًّا بالنسبة إلى الأميركيّين الذين يميلون إلى الفردانيّة أكثر؟ ستكون هناك ضوابط تحكم ممارسات الطب، ستكون هناك ضوابط تحكم قدرتي – بوصفي مواطنًا – على اختيار الطبيب الذي أريده، وأمور مماثلة أخرى. ما الذي يضيع مقابل مضاعفة متوسّط العُمر المتوقَّع؟
حسنًا، كان أوّل ما فكّرنا فيه، على سبيل المثال، هو إطعام الناس. وكان الأمر الثاني الحدّ من الوفيّات الولاديّة – إعادة تدريب القابلات، تقديم التدريبات القديمة للقابلات، وكلّ التثقيف المترافق معها، تثقيف الأمّهات، تثقيف القابلات، تثقيف مهنة الطب – وتأمين التسهيلات للإنجاب بظروف أفضل، إمّا الطبابة الكاملة، أو الجزئيّة، أو الإنجاب داخل بيوتهنّ. ساعدت هذه المعايير على رفع متوسّط العُمر. لو مات طفلٌ بعمر السنة وعاش العجوز إلى عمر التسعين، لن يبقى لدينا إلا 45 عامًا كمتوسّط للعمر، وهكذا تمَّ الأمر. وهذا كان جزءًا من المساعدة. ولكن أظنّ أنّ المظهر الآخر المترافق مع زيادة متوسّط العُمر، ولدينا عوامل أخرى كثيرة تتداخل هنا، بما فيها مستوى الحياة – أعني التعليم، وارتياد المدرسة، نسبة التعليم وما إلى ذلك هذا المظهر سيمنح الناس فهمًا لا يقتصر على الجانب الطبيّ، بل يمتدّ إلى تفاصيل الحياة الاعتياديّة. إن كان لديك هدف في الحياة، إن أردت تحقيق أمر، إن كانت لديك قوة الإرادة لإنجاز الأشياء، إن تلقّيتَ تشجيعًا وكان لديك نموذجٌ تتنافس معه، أظنّ أنّ هذا سيترافق مع إرادةٍ للعيش أطول، لو جاز التعبير.
هل تظنّ أنّ نمط الطبّ هذا، نمط الممارسة هذه، نمط الطب الوقائيّ ذاك، يمكن أن يُمارَس في هذا البلد حين نضع بالاعتبار أيديولوجيّته السياسيّة وبنْيته السياسيّة؟
أظنّ أنّ هناك طرقًا يمكن تقديمها لتحسين تطبيق الوقاية الطبيّة، حتى في هذا المجتمع. بما أنّ المشكلة ليست اقتصاديّة هنا، أظنّ أنّها مرتبطة بالمنظومة الكاملة التي نما فيها التعليم الطبيّ والخدمات الطبيّة.
ليس خارج البنية الاجتماعيّة، ضمن بنية اجتماعيّة محدّدة.
طيّب، فلنتحدّث قليلًا عن تاريخ السستم الطبيّ الأميركيّ كما أتذكّره. كانت هناك فترة في بداية العقد الأول من القرن العشرين حين كان التعليم الطبيّ شديد البؤس، كان تدريب الأطبّاء بائسًا، وكانوا يقدّمون العناية الطبيّة بطريقة شبه علميّة. وكان هناك الاعتراف بوجود حاجة إلى الخدمات الصحيّة العامّة – الماء، الصرف الصحيّ، ماء نظيف للشرب، حملات التلقيح، وما إلى ذلك، وملاحقة الحمّى الصفراء. في كارولاينا الشماليّة، وهي المكان الذي جئنا منه، كانت الملاريا لا تزال موجودة، ودودة الأنسيلوستوما، وكانت هناك في تلك الفترة حملات هائلة أخذت صيغة الطب الوقائيّ – معالجة المصابين بالأمراض ووقاية مَن لم يصابوا بعد. كانت لدينا تلك الفترة من التثقيف العام، في مجال الصحّة العامّة والمجال العلاجيّ على السواء. كانت مظاهر الصحّة العامة وقائيّة. قَلَبَ تقرير وِلش (The Welsh report) عن التثقيف الطبيّ الأميركيّ المنهج المتّبع كلّه والمناهج السابقة، وضخَّ قدرًا كبيرًا من الطب الوقائيّ في الطب الأميركيّ. أعتقد أنّه كانت فترة كان يمكن للمجتمع المحكوم بتلك الظروف آنذاك أن يؤمّن الطب الوقائيّ. ليس لدينا التشجيع ذاته، ولا الخطر ذاته حاليًّا، لذا فالأمر ليس واضحًا كما كان عليه من قبل. لم يكن الوضع مخيفًا إلى أن ظهر الإيدز. أعني أنّ بوسعك القول إنّ لديك 400 ألف حالة وفاة بسبب السرطان سنويًّا. لن يخيف الرقمُ أحدًا. سيخيف الفرد إن أُصيب بالسرطان، ولكن لن يشعر المجتمع بالهلع بحيث يُضطرّ لفعل شيء ما أو محاولة فعل شيء ما حياله. ويمكنك، مثلًا، منع التدخين بحيث يكتب الجرّاح العام على كل علبة تبغ أنّ التدخين يضر صحّتك. هذا فقط، هذا هو الطب الوقائيّ، ولكنّك لن تصل إلى أيّ نتيجة لو اكتفيت بهذا لأنّ عليك أن تغوص أكثر. حينها تصطدم بأنواع عديدة من الصعوبات الأخرى، الأمور الماليّة المتعلّقة بها – وهذا ما نواجهه في الصين أيضًا.
ما هي وصْفتك الطبية لهذا البلد إذًا؟
لن أعطي أيّة وصفة طبيّة لهذا البلد – لن أكون وقحًا إلى هذه الدرجة. اعتدتُ التفكير بهذا الأمر على هذا النحو. لو منحونا طرف الخيط فقط، بحيث يمكنك تخمين أرقام الميزانيّة الصحيّة ومقدار الإنفاق الماليّ على الصحّة في الولايات المتحدة. لو منحونا رأس الخيط فقط، بحيث يمكنك تخمين باقي التفاصيل – لكان يمكننا إدارة الخدمات الطبيّة الصينيّة بسهولة كبيرة.
ولكن استوقفني قولك إنّ السرطان لن يخيفنا بشدّة إنّما الإيدز يفعل. هل ترى هذا بوصفه أحد التطوّرات الطبيّة-الاجتماعيّة التي ستُحْدِث تغييرًا هائلًا في الطريقة التي ننظر إلى أنفسنا وإلى صحّتنا من خلالها؟
قد يكون، إذ تتشابك هنا بالذات مظاهر الإيدز الطبية ومظاهر الإيدز الاجتماعيّة تشابكًا وثيقًا.
هل توجد مشكلة إيدز في الصين؟
لا.
كيف تفسّر هذا؟
هناك عدد من الأسباب، تحول دون تحوّل الأمر إلى مشكلة. كانت لدينا حالة واحدة وقد جاءت من الخارج، أي أنّ إحدى المجموعات السياحيّة التي دخلت كانت تضمّ تلك الحالة التي دخلت معه، كان المصاب ضمن المجموعة وكان مصابًا بالإيدز. ربّما كان يعرف وضعه وربّما لا، لا نعلم. لكنّ والديه اللذين جاءا بعد أن استدعيناهما لأنّ حالته كانت مميتة خلال أسبوع من وصوله، حينما جاءا قالا إنّه كان يعرف أنّه مصاب بالإيدز. كان الوالدان يعرفان بأمر إصابته بالإيدز. وقد كانت إقامته قصيرة هناك، إذ فارق الحياة خلال أسبوع تقريبًا. الأمر الوحيد الآخر الذي يمكن أن يُمثّل مشكلة إيدز بالنسبة إلينا هو أنّنا استوردنا في فترة من الفترات أكياس دم من بلدان عديدة، معظمها من الولايات المتحدة، وكانت هناك زمرة دم من بين تلك الأكياس أعطيناها لـ18 شخصًا. من بين هؤلاء الأشخاص الثمانية عشر لدينا أربعة يحملون الأجسام المضادّة التي تؤشّر إلى الإصابة بالإيدز، تسمّى تلك الأجسام المضادة ARI. إذًا من بين 18 شخصًا لدينا أربع حالات فقط ونحن نراقبهم، وقد حدثت الإصابة بسبب نقل الدم.
لو انتشر الإيدز في الصين، هل ستُمكّنكم قدرتكم على ممارسة معايير الضبط التثقيفيّة والاجتماعيّة من ضبط الإيدز أفضل مما بإمكاننا هنا؟
حسنًا... لدينا فرصة جيدة جدًّا لاحتوائه. ليس بوسعي أن أستفيض بالكلام حاليًّا لغياب وسيلة علاج الإيدز الآن.
كنتُ أعني الاحتواء.
بإمكاننا احتواؤه، أظنّ أنّنا قادرون. التثقيف، التثقيف في الدرجة الأولى، إذ ما من وسيلة لفرض هذا بالقانون. بسبب الأخلاقيّات والعادات التي تميّز الشعب الصينيّ في تقاليده، لم يكونوا منفتحين بقوّة حيال الجنس كما هي الحال عليه في هذا البلد. ولذا فإنّ العادات والتقاليد ومظاهر الأشياء الغرائبيّة ليست مألوفة جدًا لمجتمعنا هناك. ولذا أظنّ أنّ التثقيف سيفيد. نعتقد أنّك حين تمنح المعرفة للناس بشأن مرض من الأمراض، لن يُفضي هذا إلى تحريرهم ولكنّه سيمنحهم على الأقلّ فرصةً لمواجهة هذا المرض.
دكتور ما هايدي، هذه فكرة تفاؤليّة ومُرحَّبٌ بها، أودّ أن أشكرك بعدها على لقائك معي اليوم. شكرًا لجمهورنا الحاضر معنا هنا أيضًا. أتمنّى أن نحظى بفرصة لقائكم في الحلقة المقبلة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.