يسرّ «بدايات» أن تقدّم هذا العددَ الخاصّ عن مئوية لبنان. لم يُحتفَل بالحدث للأسباب المعروفة وأبرزُها كارثة انفجار المرفأ في الرابع من آب/أغسطس ٢٠٢٠. لكن ذلك لم يمنعنا من المغامرة بإحياء المناسبة عن طريق هذا العدد الذي نعدّ له منذ مطلع العام.
لم يكن سهلًا أن نختار ما الذي يمكن وضعُه بين دفّتَي مجلة فصليّة لا تتجاور صفحاتها الثلاثمائة. مع ذلك، اخترنا ثلاثة عناوين عريضة لخّصناها بـ«بدايات. شخصيّات. علاقات». ولم يكن الإعداد من دون انحياز. استلهمْنا انتفاضة ١٧ تشرين بمعنى مخصوص من حيث إعطاء الأولويّة لما أبرزتْه من تركيزٍ على الاقتصاد اللبناني.
في موضوع البدايات، ننشر مرسوم تأسيس «لبنان الكبير» الذي أصدره الجنرال هنري غورو في ٣١ آب/أغسطس ١٩٢٠ وترجمةَ خطابه في الاحتفال بالحدث مع تعقيبٍ على هذه الوثيقة التي تشكِّل عيّنة معبّرة عن الفكر الكولونيالي الفرنسي.
تسعى مقالة فواز طرابلسي عن دَور الاقتصاد والطوائف في إنشاء «لبنان الكبير» إلى إعادة الاعتبار لكونه عمليّةً استعماريّة قامت على الجدل بين الدفاع عن المصالح الاقتصاديّة الفرنسيّة في عموم سورية وتنميتها وحمايتها من المنافسة البريطانيّة وبين استخدام الأقليّات الدينيّة المسيَّسة بما هي وسائطُ لممارسة السيطرة الاستعماريّة في وجه المعارضة الشعبيّة المتنامية ضدّها.
وفي مجرى الاهتمام بملء العديد من الثغرات في التاريخ الاقتصاديّ والاقتصاد السياسي، ننشر دراسة مروان بحيري عن بيروت في الاقتصاد السياسي للانتداب الفرنسي. ويسرّنا التعريف بنتاج هذا المؤرّخ المميَّز الذي غادر باكرًا ولم تلقَ أبحاثه ومؤلفاتُه في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي كما في التاريخ الكولونيالي للمنطقة ما تستحقّه من نشرٍ ودراسةٍ واستلهام.
حاولنا تنميةَ المدارك وملء بعض الثغرات عن تلك اللحظة المفصليّة التي يشكّلها العام ١٩٢٠ بالتعريف بفاعلين أساسيّين في الكيان والاستقلال. ننشر دراسةً ثانية لمروان بحيري عن بولس نجيم، رائد الدعوة إلى لبنان الكبير؛ ويعرّف محمد سعيدي برجل الأعمال عارف النعماني، تلي ذلك نبذٌ تعريفيّة بكلٍّ من خيرالله خيرالله، الرائد في الاشتراكية؛ وجميل المعلوف، العلماني والشهيد الحيّ؛ وسليمان كنعان، الرافض للحماية الأجنبيّة للمسيحيين؛ ويوسف السودا، رجل الاستقلال التامّ والتعايش بين اللبنانيّين عن طريق الميثاق الوطني.
وفي سياق التعريف بالبدايات، ننشر دراسة جانينا سانتر عن نشأة قطاع السياحة ودوره في البناء الوطنيّ؛ ويقدّم هشام صفي الدين كتابه الصادر حديثًا باللغة الإنكليزيّة عن نشأة المصرف المركزيّ وتطوّره وتقييم دوره في حياة لبنان الماليّة. وعن خط سكة الحديد بيروت-دمشق، وقد ازداد الاهتمام بدراسته في الآونة الأخيرة، ننشر مقالة يوسف المرّ عن تحولات بلدته ريّاق بما هي محطة وصْل أساسيّة في ذلك الخط.
عن البدايات في علاقات لبنان الخارجية، ننشر بحثًا عن بداية العلاقات بالعربية السعوديّة واقتصاديّات النفط من خلال سيرة رجل الأعمال والسياسيّ حسين العويني. وفي العلاقات بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية ننشر من وثائق الخارجية الأميركيّة عن أوّل لقاءٍ اقتصاديّ بين الحكومة اللبنانية والولايات المتحدة الأميركية بُعَيد الحرب العالمية الثانية، تليه مَحاضر لقاءاتٍ لميشال شيحا وشارل مالك ورجل الأعمال فرنسيس كتّانة برسميِّين أميركيّين، في بيروتَ وواشنطن، تدور مدار مكافحة الشيوعيّة وردود الفعل تجاه قيام دولة إسرائيل والقطيعة الاقتصاديّة بين سورية ولبنان. من جهته، يعرض نايت جورج كتاب آيرين غندزير المرجعيّ عن التدخّل العسكريّ الأميركي في لبنان العام ١٩٥٨ المبنيّ على عرض وتحليل الوثائق الرسميّة الأميركيّة. وهذا على كل حال غيضٌ من فيضِ مما تحويه وثائقُ الخارجية الأميركية من مادةٍ للبحث والتحليل، ومعظمها متاحٌ للعموم ويشكل مادّةً أساسية لإنتاج معارف عن مختلف جوانب حياة لبنان والمنطقة في القرن العشرين، أقلّا، وإن يكن الشغل البحثيّ عليها لا يزال شحيحًا.
وفي موضوع الوثائق الرسميّة، يجدر التذكير أنّه سبق لنا أنْ نشرنا في العدد الأوّل من «بدايات» العام ٢٠١٢ كامل الوثائق المتوافرة عن مهمة دين براون، مبعوث الرئيس الأميركي إلى لبنان، العام ١٩٧٦. ولعلّ العودة إليها تفيد الآن في تبديد الخرافة الرائجة عن مشروعٍ منسوبٍ إلى هنري كيسنجر ودين براون لإجلاء المسيحيّين من لبنان وتوطين الفلسطينيّين مكانهم [كذا]، وقد أعاد النائب جبران باسيل إحياءَ الخرافة في الآونة الأخيرة. في المقابل، تثبت الوثائق أنّ الأساس في مهمّة دين براون كان التأكدَ من عدم قدرة الجيش اللبناني على حسم النزاع العسكريّ والعملَ على إقناع قادة «الجبهة اللبنانية» — تحديدًا سليمان فرنجية، كميل شمعون، بيار الجميّل، وشارل مالك — بالقبول بالتدخّل العسكريّ السوريّ في لبنان وتنظيم الاتفاق مع الحكومة الإسرائيليّة على «الخطوط الحمر» الشهيرة التي حدّدتْ حجم القوّات السورية من حيث العديدُ والعتادُ ورقعةُ الانتشار.
تملأ دراسة سيما فرح، المبنيّة على الأرشيف الفرنسيّ خصوصًا، ثغرةً كبيرة عن المراحل التمهيديّة لصياغة دستور الجمهورية اللبنانيّة العام ١٩٢٦، وهي تعرض لتقلّبات المفوّضين السامين، من يسار ويمين، في موقفهم من دور السكان المحليّين في صياغة القانون الأساسيّ والمؤسّسات التمثيليّة اللبنانيّة. ويعرض ميشال دويهي لبدايات الأحزاب السياسيّة العقائديّة في منطقة زغرتا وإهدن في الستينيّات من القرن الماضي ولمصائر المنافسة بينها وبين الحزبيّات العائليّة.
ومن البدايات السياسيّة إلى البدايات الاجتماعيّة مع جويل أبي راشد ودراستها الرائدة والمستفيضة عن تاريخ مستشفى الأمراض العقليّة في العصفوريّة التي أسّسها مبشّرون بروتستانتيّون، على خلفيّة تراجُع المصحّات التقليديّة وغلَبة مدارس الطب الأوروبية وتطوّر أساليب العلاج.
يحوي قسم «نون والقلم» ما تيسّرَ من مساهماتٍ مستوحاةٍ من موضوعنا الأساسيّ. في الشعر، قصيدة الشاعر المهجريّ شفيق المعلوف خلال زيارته للقدس العام ١٩٢٦، من بواكير الشعراء اللبنانيّين في رفض إعلان بلفور والدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة؛ وقصيدة عن افتتان الشاعر الإسكندريّ اليونانيّ بفتية صيدا وطرابلس، وقصيدة إتيل عدنان في الغزو الإسرائيلي للبنان التي تُنشَر لأول مرّة بالعربيّة؛ وننشر أيضًا مختاراتٍ من يوميّات لعادل نصّار عن شارع الحمرا، الحيّ البيروتي الأيقوني.
وفي قسم يا عين، تُواصل زينة معاصري أبحاثها في الثقافة البصَريّة والتصميم الغرافيكيّ والسياسة. فبعدما درستْ هذه التيمات المتشابكة في ملصقات الحرب الأهليّة، تعود إليها الآن في فترة الستينيّات وزمن حركة التحرّر الوطني.
ونختم في قسم «نهوند» بديانا عبّاني التي تقدّم ثالث دراساتها المتسلسلة عن الموسيقى والغناء بين نهاية السلطنة العثمانيّة والانتداب، ببحثها في نشأة الرفاه وحياة الليل في ظلّ الانتداب.
ف. ط.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.