منذ انتفاضة ١٧ تشرين/ أكتوبر ٢٠١٩ قررنا في «بدايات» إيلاء أهمية خاصة لقضايا الاقتصاد والنقد الاقتصادي نظرًا لما أثارته الأزمة الماليّة من اهتمامٍ بتركيب الاقتصاد اللبناني وقضاياه ولم تكن في رأس اهتمامات قوى التغيير.
خصصنا العدد ٣٠ للتعريف بالنيوليبرالية، من حيث هي تاريخ وأيديولوجيا وسياسات. وبدأنا بنشر نُبَذٍ من «القاموس النقدي لمصطلحات النيوليبرالية» الذي يوثّق ولادة عناصر لغة جديدة في الحياة العامة مواكبة للحقبة الجديدة من تطوّر الرأسمالية. وقد أصدرنا ملفّين (في العددين ٣٢ و٣٣) للتعريف بظاهرة اقتصادية - اجتماعية - ثقافية تعاظم انتشارُها وزادت أهمّيتها في اقتصاديات بلادنا خلال العقود الأربعة الأخيرة هي «مجتمع الاستهلاك». تناولنا جوانب عديدة من هذه الظاهرة في مجالات السكن المسوّر، وثقافة السيارات الخاصة، والمجمّعات التجارية «المولات» والجراحة التجميلية، والإعلان، وغيرها. وفي مواكبةٍ للنقاش الذي تثيره المؤسسات المالية والإنمائية الدولية حول الاقتصاد الريعي/ الاقتصاد الإنتاجي، نشرنا في العدد ٣٣ حوارًا يسأل «هل الاقتصاديات العربية ريعية؟» ويعالج حالتَي مصر ولبنان. إلى هذا، أوْلينا أهميةً خاصةً في عدد مئوية لبنان (٢٨-٢٩) للإضاءة على العوامل الاقتصادية في إنشاء لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي (محورية مرفأ بيروت واقتصاد الحرير في جبل لبنان).
نواصل في هذا العدد الجهد المذكور أعلاه عن طريق ملفّ يوثّق للمرحلة التأسيسية للأوليغارشية اللبنانية في عهد الاستقلال الأول. ننشر وثيقتين من أرشيف الخارجية الأميركية، الأولى تقرير بعنوان «السلطة السياسية للطبقة التجارية وتقدير لثروتها» الصادر مطلع العام ١٩٥٢، الموثّق والمبني على مقابلات وشهادات. والوثيقة الثانية هي نصّ محاضرة لنعيم أميوني، مساعد مدير وزارة الاقتصاد عن أحوال الاقتصاد اللبناني مرفق بتعليقات لكاتب التقرير الأميركي عليها.
يقدّر واضعُ التقرير الأميركي عددَ الطبقة التجارية بما بين ٢٠٠ و٢٥٠ فردًا يسيطرون على مفاصل الاقتصاد الأساسية في المال والتجارة والوكالات الخارجية وتتراوح ثروة الواحد بين ٥٠٠ ألف ومليون ليرة. مصادر الثروات متنوّعة: الاغتراب (المكسيك والعربية السعودية)، أرباح الحرب، التجارة الاستيرادية (بما فيها تجارة السلاح)، وكالات الشركات الأجنبية، العقارات، المقاولات، المضاربة على الذهب، ملكية المصارف وشركات التأمين وشركات الطيران، بالإضافة إلى عدد محدود من الصناعيين. وتشكّل سبعُ أسرٍ الحلقةَ الأضيق والأوسع نفوذًا من أبناء أسرة رئيس الجمهورية بشارة الخوري، وأنسبائه ومصاهريه، وهي المجموعة التي أطلق عليها الصحافي إسكندر الرياشي تسمية «الكونسورسيوم».
تجدر ملاحظة ثلاثة أمور في تلك الوثيقة.
الأولى، مدى استمرار تبعيّة الاقتصاد اللبناني للاقتصاد الكولونيالي الفرنسي من خلال شركات الامتياز الفرنسية، ومصرف الإصدار، والسيطرة على التجارة الخارجية السورية اللبنانية والسيطرة بواسطة مدير عام «مصرف سورية ولبنان»، الفرنسي رينيه بوسون. ولا يخفى على القارئ اهتمام المفوضية الأميركية في بيروت بالمصالح الفرنسية من منظار القوة الاقتصادية الأميركية الوافدة حديثًا إلى شرق المتوسط وقد بدأت تغزوه بالمصنوعات خصوصًا في وسائط النقل والسيارات الخاصة والآلات الزراعية والأدوات الكهربائية والمنزلية.
الملاحظة الثانية، هي أنّ تغليب قطاعات المال والترانزيت والتجارة الاستيرادية على الاقتصاد بدفعٍ من مصالح الأوليغارشية المسيطرة، لم يكن فقط ابن أفكار ميشال شيحا، أيديولوجي الاقتصاد الحر والنظام الطائفي، وشقيق زوجة الرئيس، فقد تولّى تنفيذها الوزير حسين العويني، ممثل المصالح السعودية في لبنان، وأغنى أغنياء الأوليغارشية، من خلال الحكومات التي ترأسها رياض الصلح.
الملاحظة الثالثة، تضمّ الوثيقة عيّنة من حالة مخصوصة من الفساد تتعلق بالمصالح المستفيدة من مشروع إنشاء مطار بيروت. وهي الدليل، لمن يحتاج إلى أدلّة، على أنّ الفساد - أي الانتفاع من المال العامّ وسوء استخدام النفوذ السياسي لأغراض التكسّب الشخصي، بالمستوى الذي ينتج فيه من أرباح كالتي نتجت من مشروع بهذا الحجم - يستدعي الشراكة وتبادل المصالح بين رجال المال ورجال السلطة. وليس يقتصر على الموظف المرتشي أو على السياسي الذي «يسرق» العقود والامتيازات من نصيب القطاع الخاص.
والمعلوم أنّ فضائح عهد الاستقلال الأول، واستمرار تبعيّته للمصالح الفرنسية، غذّت الغضب الشعبي الذي عبّر عن نفسه بإضرابات عارمة ضد شركات الكهرباء والماء والترامواي، وتُوّجت بالإضراب السياسي الذي ألزم بشارة الخوري على التنحّي في أيلول/سبتمبر ١٩٥٢.
الوثيقة الثانية من أرشيف الخارجية الأميركية هي نص لمحاضرة ألقاها عام ١٩٤٦ نعيم أميوني، نائب مدير وزارة الاقتصاد، يدافع فيها عن ضرورة اعتماد لبنان المستقل على موارده الزراعية والصناعية وتنميتها. ويساجل أميوني ضدّ الاستيراد العشوائي الذي يستنزف الموارد المالية، ويخلّ بالميزان التجاري، ويتسبّب بغلاء المعيشة وبإفقار السكان في الأرياف. ويحذّر من مخاطرة الاتكال على المداخيل غير المنظورة، بما فيها عائدات المغتربين، لسدّ العجز في الميزان التجاري. وفي حديثه عن إهمال الزراعة يلاحظ الخبير الاقتصادي أنّ لبنان لا ينتج أكثر من ثلث الحبوب التي يحتاجها، وينعى تراجع زراعة الحمضيات في الساحل حيث كان إنتاجه يوازي إنتاج فلسطين، قبل الحرب، وقد تطوّر الإنتاج الفلسطيني بفضل اعتماد الوسائل الحديثة وتفوَّق على الإنتاج اللبناني بعدة أضعاف. وفي معرض دفاعه عن التصنيع، يذكّر المحاضر بأن الذين يتغنّون بأنّ لبنان هو «سويسرا الشرق» يتناسون أنّ الاقتصاد السويسري قائم على الصناعة لا على السياحة. وفي نقده لغلَبة قطاع الاستيراد، يذكّر أميوني بأنّ التجارة هي وسيط الاقتصاد وليست هي الاقتصاد كلّه. وينتقد إثراء المستوردين قياسًا إلى سائر اللبنانيين وسيطرتهم على الخيارات والقرارات الاقتصادية في البلد.
المادة الرئيسة في القسم النظري هي دراسة عن أحلام وخيبات الطبقة الوسطى العالمية لغوران ثربورن. بين من يبشّر بعالم جديد ارتقى معظم سكانه إلى مصاف الطبقات الوسطى ومن ينعى اختفاء الطبقات الوسطى بالجملة، يعمل ثربورن على تعريف الظاهرة الجديدة ودورها في تضخيم التحرّر من الفقر من جهة، والترويج للطبقة الوسطى بما هي حاضنة مجتمع الاستهلاك من جهة أخرى.
«إعجاز أحمد: ماركسي من عصرنا»، عنوان مقال ثائر ديب في وداع مفكّر تجرّأ على الدفاع الخلّاق عن الماركسية من موقعه في الأطراف، وأن يستكشف معالم العصر الإمبريالي الجديد وهو يقدّم في الآن نفسه مساهمات ثمينة في النظرية النقدية، وفي تحليل ظواهر الطائفية واليمين الفاشي الجديد، من خلال التجربة الهندية.
* * *
يحتوي القسم الأدبي والمرئي موادَ غنية ومبتكرة ومتنوعة. ننشر لأول مرة باللغة العربية ترجمة لأجزاء من المسرحية الوحيدة لإرنست هِمِنغواي، كتبها خلال الحرب الأهلية الإسبانية (١٩٣٦- ١٩٣٩) وهي الحرب التي ألهمته عددًا من أبرز وأنجح رواياته وقصصه القصيرة. ويقدّم ماهر جرّار دراسة شاملة ومعمّقة عن روايات إلياس خوري. وتقرأ رنا عيسى في رسائل أحمد فارس الشدياق من منظار الاقتصاد السياسي لكاتب نهضوي بات «عاملاً ثقافيًّا» يؤلف ويترجم بناءً على طلب هيئات أهلية أو سلطات أو ينتج مباشرةً للسوق. ويكتب رؤوف مسعد عن زميله في الشيوعية والسجن عبد الحكيم قاسم فيعرّف عن حياة وأدب قاصٍّ موهوبٍ غادرنا باكرًا ولم يحظَ بما يستحقه من تقدير. من جهتها، تكتب الباحثة مارو پابون تعريفًا بالشاعر والفنّان الكوبي من أصل لبناني فيّاض خميس. يليها نص بمناسبة وفاة الشاعر مظفر النوّاب يحاول فيه محمد ناصر الدين الإحاطة بملابسات شعرية الشاعر العراقي بين الفصحى والعامية. ونختم بترجمة لقصيدتين لإتيل عدنان عن ماياكوفسكي وبابلو نيرودا. وبقصة مصورة للأطفال من تأليف أنطونيو غرامشي.
في قسم الذاكرة، يواصل بول أشقر بحثه عن هجرة أبناء المشرق العربي في أميركا اللاتينية الذي يركّز فيه على العاملين في السياسة والثقافة. ونختم في زاوية نهوند بمقال لسمر سلمان عن الملحّن اللبناني عفيف رضوان.
ف.ط.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.