صدرت رواية «ليلة أولى ليلة ثانية» عام 1974 في طهران، وقد مُنعت، بعد الثورة الإسلاميّة، من الطباعة والتوزيع في إيران، لسنواتٍ عدّة، ولم يظهر لها أثر إلى أن عَثر أحد باعة الكتب القديمة والسرّيّة على عددٍ كبير من نُسخها (500 نسخة) في أحد المستودعات في طهران، لتجدَ بعد ذلك طريقها إلى الأسواق السرّية لبيع الكتب في إيران.
تُروى القصّةُ على لسان عاشقٍ يُدعى (زافِش إيزَدان)، عائدٍ إلى رسائل حبيبته السابقة (بِي بِي كاكائي)، فتتشكّل الرواية من الرسائل وأحداثها. بي بي ابنةُ عائلة ثريّة، درستْ تصميم الأزياء والماكياج في أوروبا، وقد صمّمت ثوبًا للمومسات هناك سمّته «ليلة أولى ليلة ثانية». تعود إلى إيران، فتدخل وسَط المثقّفين والفنّانين، وتتعرّف إلى زافِش وترتبط به. ثمّ تغادر إيران، وتتزوّج في أوروبا، وتستمرّ في تبادل الرسائل مع زافِش، كما أنها تعود إلى حضنه كلّما زارت إيران.
يقرأ زافِش كلّ رسالة ثمّ يحرقها، من دون أن يكون تواصُلٌ وترتيبٌ زمنيّ بين كلّ رسالة والتالية:
«أحرق رسائلك الآن لأنّني طالما كرهتُ أن يكون لديّ شيء أخفيه. ودائمًا ما تقبّلتُ البوحَ رغم ما يترتّب عليه من مساوئ. إن كنّا نحبّ الماضي، فتعالَي نعيده في المستقبل».
يتغيّر خطاب الراوي خلال الرواية، كما أنّ هناك انقلابًا منذ بداية السرد، فهو يقرأ الرّسائل، لكنّه لا ينقلها مباشرة بل يحوّل الخطاب من كاتبة الرواية إلى لسانه هو نفسِه.
وإلى جانب نقل المشاعر والأحداث التي تنبعثُ من الرسائل وتكون بين علامتَي تنصيص « «، هناك سردٌ آخرُ يسير بمحاذاة ذلك، وهو ما يرويه زافِش نفسُه.
الرواية عبارة عن مقاطع غير متّصلة من حياة روحٍ مضطربة، يبدو في البداية أنّ السبب في ذلك هو نكسة الراوي العاطفيّة في الحبّ، غير أنّها، وإلى جانب ذلك، تحكي حياةَ شخص مضطربٍ على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ، في إطار عمليّةٍ ذهنيّة، سواءٌ على مستوى الأفكار والخواطر، أو ترتيب الأزمنة والأحداث. ويبدأ كثيرٌ من فصول الرواية بتاريخٍ محدَّد، ولكن لا تسلسلَ زمنيًّا في ذلك.
مؤلّف الرواية، بَهمَن فُرْسي، وُلد عام 1933 في مدينة تبريز، وغادر إيران عام 1977 ليقيمَ في لندن. يُعتبر فُرسي من المسرحيّين البارزين قبل الثورة في إيران، وقد أصدر وأخرج آنذاك مسرحيّاتٍ عدّةً في إيران، ونشر مجاميع قصصيّة، إلّا أنّ روايتَه هذه تعتبر قمّة إبداعه في الكتابة، وقد سجّلت له دورًا رياديًّا في أسلوب الكتابة الروائيّة في إيران، فيسير السردُ فيها على خيطٍ يقع بين الرواية والمسرحيّة، ويجتاز الاثنين، وقد قيل كثيرًا عن هذه الرواية بأنّها قد سبقتْ زمنَها بأشواط.
«واحد وعشرون/ واحد/ سبعة وستّون
• أي ألف وثماني مئة وثمانية وثمانين. من أنتِ في هذا التاريخ؟ تلك الإنسانةُ التي طالما كنتِ؟ أذلك الجسدُ الرفيع الذي أتذكّره عاريًا أكثر من كونه مغطّى؟ أتلك النظرةُ الخضراء الراغبة دائمًا؟ أذلك الشَّعرُ الأسود المنسدل؟ أتلك الرَّشاقة والنّحت الجميل واليسير على العين أن تراه؟ أذلك النّسيج العسيرُ على العين؟ أتلك الحركات المنغلقة الفتيّة التي تظهرك أصغرَ من عمرِكِ الحقيقيّ؟
«حادي عشر/ واحد/ ثمانية وثمانون
• وصلتْني هذه الرّسالة كما لو أنّها ينبوع. ينبوعٌ عزيز وبارد ولذيذ. إليّ، أنا البعيد الذي كان يحترق في هيَجان غيابك، «أنت، وحيدة، في شارع الخريف. بالقرب من غرفة شاهين الضيّقة والساخنة، والتي لم نتركْ كثيرًا من عصاري الفصليْن الساخنيْن أن تمرّ سهلة وفارغةً فيها،
«تمرّ طائرة من سماء شارع الخريف. أنت تظنّين أنّني فيها، ذاهبٌ باتّجاه أميركا. أنتِ الآن في طهران. خلافًا لكلّ وقت: كنتِ أنت تذهبين وأنا أبقى. لم تكوني وكنت. أنا غائبٌ الآن وأنت حاضرة،
• جميلة هذه الصورة. جميلةٌ في لحظتها. صورة وهمٍ ما. أنا أعرف هذا التعلّقَ في الفراق. أنا لستُ في تلك الطائرة. في تلك اللحظة أنا في لندن. في غرفتي التي تبلغ مساحتُها مترًا ونصفًا في مترين ونصف، في فندق وينستون، في حيّ إيرلز كورت. وحيد. دونكِ، دون أيّ أحد، مطمئنٌّ ومضطرب،
«باردةٌ لندن. بردٌ سيّئ. كانت آزينُ مريضة. دائمًا ما تعاني آزينُ من شيءٍ ما. كنتِ ذهبتِ إليها. وقد عدتِ منذ يومين،
• آزين، أختُكِ، فتاةٌ أصغر منكِ سنًّا، ولكنها تبدو أكبرَ منك. فتاةٌ بوجهٍ كرويٍّ وزاخرٍ باللَّحم. بعظامٍ ذكوريّة ضخمة، وبشرةٍ مشبعة بالحَبّ والنّمش والبُقع. وبابتسامةٍ دائمةٍ تلتمس أن يتجاهلوا بشاعتها،
آزين، الفتاة التي تقلبُ في ما بعد مهنةَ الأبِ رأسًا على عقب، بقطعةِ ورقٍ من باريس. ورقة تصيبُ طهرانَ بحمّى خُبزِ آزين. تقول هذه الورقة الباريسيّة إنّ حاملتَها قد تعلّمت الخبازةَ في باريس، وتستطيع أن تستفيد من ميزاتِها في طهران. وهذا يكفي أن تصاب طهرانُ بحمّى الخبز أيضًا. جنبًا إلى جنب مع حمّى العقارات، وحمّى البنوك، وحمّى بيْكان1، وغدًا حمّى الشقق السكنيّة.
(مصنعُ أبيك. لا يمكن إطلاق المخبز على هذا. خبزٌ وخبزٌ وخبز: مملّح، خالٍ من الملح، بالقمح، بالشعير، بالذّرة، طريّ، يابس، ولكن كلّه حديث، كلّه متحضّر، الخبز المتحضّر، الخبز الحديث، وكلّه غربيّ.
(جيشٌ من الفتيات العاملات. غالبيتهنّ مدعبلاتٌ، مثل آزين نفسِها. هذه البنتُ عرفتْ قبل أيّ أحد آخر أنّ هناك شيئًا ما، بيني وبينكِ. ولابدّ أنّ جميع الفتيات كنّ سيعرفن غدًا، غير أنّ نظرة هذه البنتِ وحدها كانت تقول دائمًا بأنّها تعرف. النظرات الأخرى لم تقلْ شيئًا. ولكن، هل كنّا نريد ألّا يعرفَ أحد؟ لم أفهم قطّ هذا المرضَ الذي يصيب الإنسانَ ويجعله يريد دومًا أن يكون له شيءٌ سرّيّ وغيرُ مباح، ولكنّني أعرف سببًا قاطعًا جدًّا. نحن نخفي الأشياء عن بعضنا بعضًا لكي نستطيع أن نبقى معًا، لأنّنا نريد أن نبقى معًا.
(وخاني، المحاسبُ في محلّ أبيك، الذي كان يخطّط لترويضكِ أنتِ أو آزين. أو ربّما كان من الممكن أن يتزوّج من إحداكما. لكنّني ظهرتُ وتبدّدت الخطّةُ. واكتفى هو بأن يسرقَ شيئًا من المبيع اليوميّ. ثمّ انكشف أمرُه بعد سنة، وطُرد، وذلك اليوم، قبل أن يكون شيءٌ بيني وبينك، حين أتيتُ إلى مصنع أبيك، برفقة بعضٍ من موظّفي الإذاعة، بصفتي مراسلًا. سألتُ أباك:
• هل تعرف ما هي مشكلة خُبز «سنكَك2» يا سيّد كاكائي؟
شُدِه أبوك في الوهلة الأولى، لكنّه ردّ بعد ذلك بإجابةٍ كانت نفسُها سؤالًا. قال:
• ما هي برأيك؟
رددتُ سريعًا:
• حجمُه الكبير! خبز «سنكَك» كبيرٌ. وإلّا فهو أفضلُ خبز في العالم دون منازع.
ثمّ مددتُ كفّي أمامه، وقلت:
• بهذا الحجم فقط! «سنكك» بحجمِ الكفّ. فكّرْ به. تستطيعون حتى أن تصدّروه.
ورغم أنّ هذا الحديث بدا ضربًا من المزاحِ لكلّ السامعين، إلّا أنّ نظرةَ أبيك بدتْ متأمّلةً في البداية، ثمّ التفتَ نحو آزين التي كانت تركض هنا وهناك بخفّةٍ واقتدار، وتقوم بالإدارة مستعينةً بابتسامة متجمّدة على وجهها.
• نعم، آزينُ تدبّ بين هذه النشازات كلّها، وتدير مصنع الأب بحنان وكبرياء، لكنّها في صميم قلبها، تشعر بالغيرة تجاهك، أنتِ التي لستِ «أرتيست»، ولكنْ لا شكّ في أنّك «أرتيستيك»، لأنّك أصبحتِ مرتاحة البال وأرتيست، وهي متورّطة وخبّازة.
«الحادي عشر/أربعة/ ثمانية وثمانون
نعم، آزين كانت مريضة. وكنتِ قد ذهبت إليها، في تلك المدينة الباردة، المدينة المغلقة الخالية من الحركة، بشوارعها الرماديّة والمُعتمة. تحاليل وتحاليل وتحاليل، وفي النهاية اكتشفوا أخيرًا أنّ مرض آزين عصبيّ ونفسيّ. وأنتِ تلقين اللّومَ كلّه على عدم وجود رجلٍ ما، والتنفّس في تلك المدينة الباردة الرماديّة.
• لو كان الأمر عائدًا إليّ، لاكتشفتُ الشيءَ نفسَه دون إجراء أيّ تحاليل، وبمجرّد سماع صوتِ المريضة. مرضُكِ نفسيٌّ يا سيّدتي العزيزة. ولكنّه لا يمتّ بصلةٍ إلى اللون الرّماديّ لهذه المدينة أبدًا، أو كما تعتقد أختُكِ، إلى عدم وجود أيّ رجلٍ في حياتِك.
اكتسبتْ مهنةُ العائلة رونقًا فائقًا. كلّ الذين كان باستطاعتهم أن يأكلوا خبزًا من يدِ آزين ويقولوا: يا له من خبز شهيّ، أكلوا وقالوا. لم يعُد الخبزُ في قائمة الصيحات الحديثة. حتى أبوك لم يعد يشغله هَوَسُ الخبز. وآكلو الخبز، يشترون الآن خبزَ آزين، شاؤوا أم أبَوا. أبوك قد اتّجه نحو البناء والعقار. تمّ فتح نصفٍ من هضبات «كُلابْدَرِّه» و«حِصارَك»، وتداولتْها الأيدي. وقد تمكّنت العائلةُ شيئًا فشيئًا من التسرّب إلى فضلات طهران القاجاريّة3. في خضمّ هذه التحرّكات والعلاقات، لا تستطيع آزين أن تكون راضيةً وسليمةً ومتّزنةً، فلا بدّ من أن تصبح مصابةً بمرضٍ بارز يليق بمكانة العائلة: مرض نفسيّ.
بيتي في شارع فَردا. لا أعرف في أيّ وقت من الماضي. قد صعدتِ درجاتِ الطوابق الأربع للعمارة مرتبكةً كعادتك. وبقلبٍ يخفق بليغًا وحرًّا من الشوق والخوف، ترتمين في حضني وراء الباب. ثمّ لم يعد بِيَدكِ التحكمُ بجسدك النحيل. كلّ هذا الحجم اللطيف والبريء متشبّث بي الآن. لا أعرف إلى متى نبقى ممتزجيْن بعضنا ببعض هناك خلف الباب. لماذا علينا أن نتمكّن من حسابِ الوقت؟ ما هي ضرورة إتقان الحساب؟ الزّمنُ فينا. ونحن في الزّمن. لا ينبغي تلويثُ هذا الجلالِ بالعدّ. في هذا السّكون الفارغ من الزّمن، أسمع صوتَ خفقانِ قلبٍ ما وهبوبِ صدرٍ من جسديْنِ واقفيْن. والسّكونُ لا ينكسر إلا بالأمواج الصامتة للقُبلات والقبلات والقبلات.
في غرفةِ نومي. غرفة ثلاثيّة الأضلاع، وأحدُ الأضلاع مائل. الجدار المائلُ للغرفة عبارةٌ عن نافذةٍ واحدة. الستارةُ مفتوحةٌ الآن، والغرفةُ مليئةٌ بالشّمس. وبالشّمس مفعمٌ السريرُ. وأنا وأنت عاريانِ فوقَه. مرّةً أخرى وجهُكِ يشغل المسافةَ من كتفي إلى عنقي. ودمعُكِ يروي صدري.
• آزينُ تعرف كلَّ شيء.
ولذلك تضايقك. تراقب قدميكِ كلّ لحظة لتعرفَ إلى أين تأخذانك. وقد تخلّصتِ من أبيكِ أيضًا بعد كثيرٍ من العناء. يقولون لك:
• لم تعودي اليومَ لوحدِك، فتاة وحيدة وحرّة يمكنها فعل ما تشاء.
حين أسمع ذلك، عليّ أن أسألك عن شيءٍ ما. وعن أشياء. ولكنّني لا أسألك أيّ سؤال. لا أفكّر أبدًا بما يمكن أن تقولي لي بعد هذا الحديث. أنا أسمع فقط. وأشعر بجسمِكِ المنتشِر بوزنِه البسيط والعذْب على جسدي.
• آزين تعيسةٌ ومحرومة، وغيورة. ولم تكن قطّ مع رجُل كما ينبغي، ربّما لم تنمْ حتى الآن مع أيّ رجل، وربّما تكون قد نامت فقط.
أزيحُ دموعَك. تقبّلين يدي وتشدّينها إلى صدرك.
«في الأيام الأولى من الشهر اللاحق، أنتِ وابنُك.
• وأخيرًا قد وُلد طفل. وأصبح ابنَك. متى وُلد؟ وأين؟ في أيّ ساعةٍ من النّهار أو الليل؟ لم أسألْ. لم تقولي. لا أعرف.
في بيتي. في شارع فَرْدا 4. في الغرفة الأخرى الوحيدة لبيتي. في الغرفة المستطيلة. الفضاء الذي كان عبارةً عن غرفتين مربّعتين عندما استأجرتُ البيت، وبعد أن رفعتُ الحاجز بينهما، أصبحتا غرفة واحدة ومستطيلة. إنّه الشتاء. نحن في المستطيل. أنتِ مستلقية على الأريكة الخشبيّة السوداء، جنبَ المدفأة. أنا جالسٌ على الأرض جنبَ الأريكة، وألهو ببطنِكِ النافر بخفَرٍ وتجلُّد. أمرّر يدي بما يمكن من حزمٍ تحت ثوبِك وعلى بطنك.
• كيف تراه؟
• لا أحبّ أن أكون هكذا معكِ. ببطنٍ مليء بأحدٍ آخر.
• أنت الذي شئتَ هذا.
• أنا طلبتُ منكِ في البداية.
• انسَ الموضوع. إنها الطبيعة البحتة أن تكون معي الآن. إنه الواقع البحت، وحتى الحقيقة البحتة.
وفي لحظة ما أقول لنفسي «هذا البطنُ ليس مليئًا بأحد آخر إطلاقًا. وليس مليئًا بي. إنه مليء بكِ. بكِ أنت فقط».
وأسأل:
• أصحيحٌ ما تقولين؟
• ما هو الصحيح؟
• بأن هذا البطن مليء بأحدٍ آخر؟
• ماذا تريد أن تقول؟
• لا شيء. أنسج أفكارًا فقط.
وتلتقي نظراتنا. ويتحرّك الطفلُ في بطنِك، تحت يدي،
«في الأيام الأولى من الشّهر اللاحق، تذهبون إلى طهران، أنتِ وطفلُك وآنيتا،
• آنيتا، الفتاة البيضاء الطويلة، صديقتك، شرّيبة الفودكا البارعة. كنتُ أحبّ طريقة مشيِها ووقوفها. جفناها الأخضران وشفتاها المتّصلتان الحمراوان تُضفي عليها مسحة من الدّعارة. هل كانت نفسُها عليمةً بذلك؟ أم لم تكن؟ نظرتُها مفعمة بالحزمِ والحسابات. ضحكتُها لا تجعلها تبدو ودودةً ومحبَّبة.
عيناكِ أنت وشفتاك: طبيعة متناسقةٌ وضحيّة دائمةٌ لصناعةٍ غيرِ لائقة. لا أستطيع أن أتصالحَ مع هذه الألوان التي تغطّي عينيك وشفتيك. ولكنّني لا أبوح لك بهذا أبدًا. هذه الألوانُ ليستْ على عينيْ وشفتيْ بُوبَك. بُوبَك متبلورة في أحاديثها وسلوكِها وأفكارها. بوبَك: امرأةُ حياتي الأخرى. الحُمّى الجميلةُ الأخرى في حياتي.
• في غرفة نومي، في ذلك المثلّث المشمس، ساعة بعد العُري، عندما كان بريقُ الصناعة كلُّه يسقطُ عن عينيك وشفتيك، ويهربُ، ويُنسى، عندما لم يبق هناك إلا الطبيعةُ، في تلك اللحظة كان لابدّ من أن تأتيَ عيناكِ وتنظرا إلى نفسهما. ليتَ الأرضَ والزّمن كانا يتحوّلان إلى مرآة في تلك اللحظة لتريْ ذلك الحيوانَ الآسِرَ والجميلَ الذي كان على سريري عاريًا وزلالًا وبدويًّا، لتهربي بعد ذلك من الألوان إلى الأبد، وتُطلقي سراحَ عينيك وشفتيك.
• آنيتا أصبحت تسأمُ كلَّ شيء، خُذْها إلى فرجةٍ في يوم من هذه الأيّام.
يا لها من حيوانيّةٍ عظيمة وعزيزة: أنتِ قدّمتِ آنيتا لي. وطبعًا قدّمتِني إلى آنيتا. إن كانت آنيتا عرفتْ بالأمر، فينبغي أن تكون شاكرةً لك. رغم أنّني رفضتُ هذا الطّبَق. ولم أفهمْ قطّ معناه بالتحديد. لكنّني عرفت معناكِ بشكلٍ أفضل. ومعنى الطبيعة الجارية بيني وبينك.
«ليس لديك الكثيرُ عن آنيتا لكي تكتبيه لي. هي وحيدة. ومرّة أخرى ترافقك في سفرِك.
• ربّما تجدين لها هذه المرّة رجلًا رسميًّا في طهران. كما وجدتِ أخيرًا واحدًا لكِ في لندن، غير لندنيّ. ولم يتغيّر أيّ شيء. هذه هي المرأةُ: هائمةٌ في دوّامة بين الرّجُل الرسميّ والرّجل المحبّب. وليس في الأمر أبدًا أيُّ اكتفاءٍ وشعورٍ بالرضى حتى إن كان اسم الرّجل الرسميّ «جيرار»، وجسمه قد صُنع في زوريخ.
«تعرفين أنّ لا عنوانَ لديّ. ستأخذين عنواني في ما بعد من حافظ. وأنا أكتب لكِ رسالةً عن طريق حافظ. تعتقدين أنّ الغربَ، رغم كلّ مساوئه، أفضلُ لي من إيران، ومن المحتمل أن يكون كاسرًا لوحدتي وليس معزّزًا لها. هوم، قد كبر الآن ونضج، ويقوم بكثير من الشّقاء. ابنكِ: هوم،
بين الأحجار الأثريّة، في اليونان. أحضن هومَ وأتحدّث معه:
• هوم، أنت ابنُ من يا صبيّ؟ أمّكَ هذه قد كدّستْ كثيرًا من الأفكار الخطيرة في رأسها. تقول إنّ أوروبا أفضل لي من إيران. لكنني أفضّل لها ألّا تفكّرَ أصلًا. قل لها أن تعطيني الدواءَ بدل الوصفة إن تستطيع. هوم5، هل تعرف كم هو صعب اسمُك؟ أنت شرابٌ في طقوسِ شعبٍ كان يعيش قبل مجيءِ العرب في بلدٍ لم تعد أمّك تنتمي إليه بشكلٍ كامل. أنا شاكرٌ لأمّك لأنّها سمّتْك هوم. ولكنّني أفكّر بأن أفْراسْياب الذي سوف تقتله في المستقبل، كم يستحقّ القتل.
• لم يفهم الطفلُ كلمةً من كلامي. أضع هومَ على الأرض، فيأخذ يصولُ بين الأحجار الأثريّة المتباهية نحو جهةٍ لا يعرفها،
• لم يعد شيء في هذه الرسالة. أهبُها للنّار.
• • • • • • • • • • • • • •
«آزين مريضة. أنتِ معها. في المدينة التي هي فيها. لا تعرفين أين أنا. لابدّ أن أكون في نيويورك. تأملين أن أكون سعيدًا برحلتي،
• حبيبي، في أعلى الرسالة. وأفديك، في أسفلها. وأمَلُ السّلام لي.
جالسٌ في مقهى في لوزان، أنظر في النّقوش في قاع فنجان قهوتي. وسعيدٌ لأنّني لا أستطيع أن أقرأ فنجاني. فارغ أنا وخفيف وهادئ. الظّرف الذي أرسله حافظ على الطاولة ورسالتُك فيه. الوغدُ لم يرسل حتى قطعةَ مَحرَمة ورقيّة من نفسِه. وضع فقط ظرفَك في ظرفٍ آخر وأرسله عبر البريد.
«أحاول أن أكون هادئة. ألّا أتشكّى. وأفديك، بِي بِي.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.