العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

سنْدروم بيروت

اليوم سبتٌ، بين صيفٍ وخريف. رحّب بي سائق التاكسي وأطعم الترحيب بكلمتين وصلتا قبلي «إيعيْشَك» و«بَرْشَه». لمّح إلى كفاءته في نزوات بيروت وضواحيها، لعلّني أبحث عن دليلٍ إليها. عطّل صمتي عرضَه فتذمّر من سوء الأوضاع وضيق المعيشة. تحسّر على بيروت شبابه حتّى خِلت أني آتٍ إلى مدينةٍ لم تعد موجودة.

ألقى بي التعب على سريرٍ في فندقٍ بينه وبين شارع الحمرا بعضُ عشرات الأمتار. على جدران الغرفة صورٌ، في البنّي الفاتح، من بيروت القديمة: حديقةٌ سطّرها نخلٌ وزهر، مسكنٌ عثمانيّ الطراز، مبنى السراي الكبير، أرصفةٌ وأناقات تستنسخ باريسَ «السنواتِ المجنونة»، إعلانٌ عن فيلم «قطط شارع الحمرا»، وفيه الممثّلة أقربُ إلى لبؤةٍ منها إلى قطّة.

تداخلتْ هذه الصور وصورٌ أخرى جئت بها في مخيّلتي: ما رسمتْ نصوصُ الرحّالة من جمال الطبيعة، أرواح جبران، همسات ميخائيل نعيمة، حنين المهجر، صوت فيروز، وصورٌ أخرى ارتسمت في مقطعٍ رومنسيّ من العمر وثبتت، مذّاك، لم تتغيّر. لا زمن فيها محدّدًا، ولا جغرافيا. صورة بيروت أغلبُها من الشعر، من تغزّل الشعراء بها. أنّثوها. لهم شغفٌ بها وعتبٌ عليها، ولهم غضبٌ منها وخوفٌ عليها، ولا أحد منهم ادّعى أنّها أحبّته. بيروتُهم «مدينة البدايات»، «فتنةٌ محميّة»، «عُهرٌ، طُهرٌ، فجرٌ»، «ورقة توت»، «خيمةٌ أخيرة، نجمة أخيرة»، «شطرنج كلام»، «هندسة خراب»، «موتٌ لا يعرف كيف يموت»، «محرابٌ أخير»، «ستّ الدنيا، أنثى، حبيبة، معشوقة، مجنونة»، «يحترق نهداها، تُراوَد، تعاشَر، تضاجَع».

هكذا كان أوّل اللقاء صورًا قديمة. رابني ما يكون في جمال الصور من نيّة الإغراءِ بالمفقود. هكذا، في اليوم الأوّل، في غرفة فندقٍ، بدأ قلق السؤال عن علاقة الصورة بالواقع. في انتظار الواقع، ثبّتُ هُواماتي في الصورة. أراحني تثبيتها. لا مدخل إلى مدينةٍ من دون هُوامات. نمتُ معها، قرابة الساعة، ثمّ خرجت من الغرفة ونزلت.

وقفت عند باب الفندق. الشارع الضيّق، أمامي، خالٍ من المارّة وفيه بعض الظلمة. تراجعت إلى بهو الفندق ودخلتُ بارًا فيه. اعترضتْني رائحة الجعة والسكائر والسيكار. جلست، آخر القاعة، حيث خفّ الضجيج. قربي رجلٌ في السبعينيّات، أوروبّي الملامح، متأنّق، هادئ الهيئة، أمامه كأس نبيذٍ أحمر وكتابٌ عنوانه الفرنسيّ «شُرفةٌ في بيروت». كان يترّشف النبيذ ترشّف المذواق، في بطء وحركة موزونة. كفّه اليسرى على الكتاب ساكنةٌ ونظرته مستقرّةٌ في البعيد.

طال انتظار النادل يأتي بما طلبت، ولم يكن لي ما أملأ به فراغ وحدتي في مكانٍ كالذي أنا فيه. أحسستُ أنّ شيئًا من الوحدة يُهيّئ كلًّا منا إلى المحادثة. قلتُ، بقصد البدء، مشيرًا إلى الكتاب:

— لا تكفُّ بيروت عن إغراء الغرباء بالكتابة عنها. يبدو، من العنوان، أنّها رواية.

— هي رواية ولا أعرف روائيًّا فرنسيًّا استطاع أن يصف، مثل كاتبها، حميميّةَ علاقته ببيروته.

— لا يجيد هذا إلّا مَن له خيال واسع.

— ليس في الرواية حدٌّ يُسأل عنه بين المتخيَّل والواقع. تاريخ المدن نصفُه أسطوريّ، وأوسع أبواب الدخول إليها أساطيرُها. أقول هذا عن تجربة. علاقتي بهذه المدينة قديمة، وهي، منذ عرفتُها، لا تزال معشوقةً مائيّة، يعشقها الموت والحياة. لا يزال يتنافس في قتلها وحبّها أحفاد كرُونوسْ الذي يأكل أولاده وديونيزوس الذي ينشر الفرح ويعلّم النّاس صنع الخمر. حين أكون في بيروت أرتاح لأساطيرها. أحبّها موضوعَ سرد. وأنت؟ ما مدخلك إليها؟

— صورٌ، في ذهني، قديمة.

— احذر! ستضطّر يومًا إلى أن تختار بينها وبين صورتها، وسيكون ذلك امتحانًا صعبًا.

قدم النادل، متّبعًا ممرّاتٍ ملتويةٍ بين الزبائن، يرفع، عاليًا، طبقًا وما عليه. قال الرجل:

— ما الذي يجعل منه نادلًا في مقهى؟

— طبقُه. من دونه يفقد توازنه بين...

— «الكينونة والعدم»...

أضحكنا التلاقي، بهذه الصورة، في نصّ سارتر. ذكرنا من مقاهي سان جارمان ومونپارناس ما ظننّا أنّ النصّ كُتب في واحدٍ منها. الحديث عن مقاهٍ عرفناها، في باريس، خلق أُنسًا غير منتظَر. ترامى الحديث إلى مواضيع متباعدة قبل أن يحطّ، من جديد، في بيروت. سألتُه:

— هل لك، أنت أيضًا، شُرفة في بيروت؟ هل أنت عائدٌ إليها؟

— أنا سجينُها؟

— منذ متى؟

— منذ ربع قرن. أقمتُ فيها خمس عشرة سنة وتردّدتُ إليها عشرًا. جئتها، صحافيًّا، بداية الحرب الأهليّة. دافعتُ عنها من غير أن أعرف ضدَّ ماذا ومن، ومررت فيها بمحنةٍ لا أعرف، إلى اليوم، من ساقني إليها ولا من أنقذني منها.

— هذا وضعٌ كَفْكاويّ.

— الفرق بيني وبين «السيّد كا» أنّه قُتل وبقيتُ حيًّا. وللمناسبة، لم يكن قتلُه ضروريًّا. لعلّه كان لإنهاء الرواية.

— تبدو الحكاية غريبة.

ظهَرَ عليه ارتياحٌ يوحي باستعداده لروايتها، وأظنّه كان يرغب في ذلك. نادى النادل وطلب كأس نبيذٍ أحمر:

— سألخّصها لك. اسمي كلود فونتان. اختُطفتُ، خارجًا من فندق، لشراء سكائر. لا أدري من اختطفني. لم أُسأل عن اسمي إلّا بعد أن كنت في غرفةٍ فيها مسلّحون. لم يكن معي من أوراق الهويّة ما يثبت أنّي أنا وأنّي لست كلود فورياي الذي أرادوا اختطافه وذكروا لي اسمه. استنطقُوني وعذّبوني يومًا كاملًا لعدم قدرتي على الاعتراف بما فعل وما لم يفعل كلود فورياي. انتشر خبري في الصحف فسلّموا بأنّي حقًّا كلود فونتان وأنّي صحافيّ في جريدةٍ فرنسيّةٍ شهيرة. عندئذٍ، حوّلوني إلى رهينة، وطلبوا لها فِدية. هكذا أصبح لنا مطلبٌ مشترك. نزعوا العصابة عن عينيّ وسمحوا لي بالخروج من القبو للجلوس على عتبته. أطعموني كخروفٍ يُعلَف للبيع أو للذبح. استمرّ هذا سنةً وشهرين. صباح يومٍ، قالوا لي: أنت حرّ. لم يقولوا لي إن كنت فُديت، وأغلب ظنّي، حتّى الآن، أنْ لا.

— فدتْك، إذًا، بيروت.

— خطر هذا ببالي. اختطفتني في لحظة نشوةٍ أو جنون وتركتني في لحظة ملل. كان هذا نهايةً رديئة.

قال ذلك في غيظِ من لا يزال مصدومًا بحدث. أفرغ كأسه دفعةً واحدةً وصمت. تظاهرتُ بالنظر إلى التلفزيون، يعرض حوارًا مكتوم الصوت، معلَّقًا على حائطٍ بعيد. مضت دقائق قبل أن يسألني: - أليست هذه نهاية رديئة؟

— ماذا تريد الرهينة غيرَ تحريرها؟

— لم أُحرَّر. نجوتُ، تُركتُ، أهملتْني بيروت. لم أتحمّل هذه الإهانة ولذلك لم أغادر بيروت بعد إطلاق سراحي. بقيت فيها كلّ سنوات الحرب، تلك الحرب التي انتهت عبثيّتها بانتصار الجميع، من غير أن ينهزم فيها أحد. قرّرت ألّا أغادرها إلّا بعد أن أكون ملأتُ فراغات اختطافي. كيف أصف هذه الفراغات؟ منذ البدء، خطأٌ في الاختطاف سلبَني الإحساس بتمثيل شيءٍ له معنى. الخطأ يعني أنّي لم أكن أهلًا للاختطاف. ثم إنّ اكتشاف الخطأ كان مفرطًا في سرعته. لم يمنحني وقتًا أمرّ فيه إلى طقوس المختطَف. حين حوّلوني إلى رهينةٍ أبعدوا عنّي شبح الموت، وهذا حرمني تجربة البحث، لأوّل مرّةٍ في حياتي، عن إلهٍ ألتجئ إليه، فأنا لا أومن ولست ملحدًا. لم يُخضعوني إلى إذلال اللغة. فرنسيّة الحرّاس ضعيفة، لم تستوعب من الوقاحة غيرَ كلمتين أو ثلاث كلمات. كنت في حاجة إلى استفزازٍ لغويّ يثبّت، في الكلام، عبثيّةَ وضعي.

— هل حاولت ملءَ هذه الفراغات؟

— قمت، بعد إطلاق سراحي، بأفعالٍ عشوائيّة ظننتُ أنّها ستكون سببًا في اختطافي. لم يختطفني أحد.

— إنّها قصّة مخطوفٍ تعلّق بخاطفه، وأغرَبُ ما فيها أنّ الخاطف مدينة. لِنسمِّ هذا «سَندرومْ بيروت».

— سمّه ما شئت، لكن لا تبحث فيه عن مازوشيّة. كلّ ما في الأمر أنّي أردتُ أن أُكسب اختطافي معنى. لم أتحمّل اللامبالاة. اللامبالاة فراغُ معنى. أنت فيها لا تدُلّ على شيءٍ ولا شيءَ يدلّ عليك.

— غريبٌ ما فعلتْ بك بيروت. هل كتبتَ عنه؟

— بيروت هي المدينة الوحيدة التي تمنيّت أن أكتب عنها فيها. انسَ ما كتبتُ للصحافة فقد ذهب مع الأحداث. اختطافي كان فرصتي الأمثل للكتابة. كتبت نصوصًا في رأسي وردّدتها فحفظتها. أطلقوا سراحي فخاب ظنّي في ما كتبت. ما عساك تفعل إنْ تنكّرت لك معشوقةٌ وأنت تكتب بوهج العاشق قصَّتَها معك؟ تُهمل ما كتبت أم تغيّر وجهته؟ ما زلتُ لا أدري.

ردّد «لا أدري» ثم هَمهم بكلامٍ في صدره. تردّدتُ في أن أعرض عليه ما أثار في ذهني سؤالُ المعشوقة: إذا استعصى عليه أن يكتب عن اختطافٍ لم يكتمل فلْيكتبْ عن اختطافٍ يكون كما كان يريده أن يكون. لم أقل شيئًا. صمتنا. فجأة، استدار نحوي، وقال، يتلفّظ كلماته، كما لو كان يدلّني على مخارج حروفها الفرنسيّة:

— اسمع، سيّدي: بيروت مجعولةٌ للحبّ والكره، لا تعرف اعتدالًا فيهما. حبّها شغفٌ، وفي كرهها طعمُ الموت. لن تحسّ بأنّك فيها إلّا إذا أحببت أو كرهت بإفراط. بين هذا وذاك تمتصّك اللامبالاة، وهذا أقسى ما يصيبك فيها. صدّقني: عرفت مدنًا كثيرة، ولم أرَ ما رأيت في بيروت من قدرةٍ على الإفراط في كلّ شيء وعلى تحويل المفارقات إلى جنون. هل أضيف أنّ جنونها يُعدي؟ طالت قصّتي معها، إلى اليوم، خمسًا وعشرين سنة، نصفُها في حبّها ونصفُها في ترميم ذكراه. منذ انتهاء الحرب وهل انتهت؟ آتي إليها، كلّ سنةٍ، في ذكرى اختطافي. أقيم دائمًا في هذا الفندق الذي أقمت فيه بعد إطلاق سراحي. اعتدْتُ الانفراد بذكراي، كما وجدتني، لا أدعو لها أحدًا. شاءت الصدفة أن تشاركني، هذه المرّة، إحياءَها. أشكرك كثيرًا.

— لا شكرَ على صدفة.

قدّمتُ له عذر التعب وانصرفت صاعدًا إلى الغرفة.

في لحظة ترشّفٍ بطيءٍ لآخر قطرات الاسپرسّو في مقهى «ليناز»، دخلت امرأةٌ علّقت طلّتُها الفنجانَ في يدي. جلستْ في اتّجاه الباب فرأيتها جانبيًّا. أسندتْ كتفها اليسرى إلى حائطٍ في لون الخردل، مازَجه اصفرارُ النور المسلّط عليه وعليها. غمر النور شعرها المذهّبَ ورسم ظلالًا على تموّجاته وعلى وجهها وزندها وما بدا من صدرها. لم يكن معها أو بين يديها ما يشغلها عن النظر إلى غير الباب. كانت في ضواحي الثلاثين أو على عتباتها. بدت لي من نوع المرأة التي لا تقول «أنا هنا» ولكنّها توحي إليك، من دون جهد، أنّها في انتظار من هو أولى باهتمامها منك. هكذا تنجم فيك غيرةٌ مرتجلةٌ من كائنٍ محتملٍ لا تعرف عنه شيئًا. تمثّلتُ رجلًا وسيمًا، طويل القامة، مصفوف الشعر إلى الوراء، يتدلّى قميصه الأبيض تحت جاكيت زرقاء، يدخل مبتسمًا فتبتهج. لم أتمثّله زوجًا بل عاشقًا.

واصلتُ استراق النظر إليها كمن يقرأ رسالة لم توجّه إليه. لهذه المرأة حضورٌ مُربك. هي لا تصنَّف من دون خسارةٍ كبيرة. فيها معنًى فائض لا يمكن لملمتُه. اختزالها هو من ضيق الرؤية أو من سوء الذوق. وكما يفعل من يُفَكْرِن إحباطَه، في حضرة امرأةٍ لا تدرَك، افتعلتُ التصعيد: تحوّلت المرأة إلى عبارةٍ تشكيليّةٍ من خطوطٍ ونور وألوان. ثبّتُّ النظر في الشامة الخفيفة، أعلى الخدّ الأيمن، أتأمّلها كبوذيٍّ يرى كلّ شيء في حبّة فول. هل هي، حيث هي، علامة شغفٍ، كما ادّعت بعض النصوص؟

قرّبتُ المرأة وطاولَتها والحائطَ، خطوتين أو ثلاثًا. أبعدتُها خطوات. قرّبتُ، أبعدت، فلم تثبت إلّا حين تراءى لي مكانها، ومضةَ عين، «عبّاد شمسِ» فانْ غوغ. قلت: هذه هي المسافة المناسبة. لم أعد أذكر كيف تتبّعتُ سريان المعنى بين المرأة واللوحة. أذكر الأسئلة: من أيّ الحقول أتى الرسام بألوان لوحته؟ كيف أمكنه أن يركّب سرَّ صُفْرتها وأن يضيئَها؟ وكيف أمكن لهذه المرأة أن تمتصّ أنوار السماوات وأن يُشرق، هكذا، ماؤها؟

بين الركبة وحافة الفستان ذي الزخارف الرقيقة كالمنمنمات مقدارُ كفٍّ. الساقان، تحت الطاولة، يتلاعب عليهما النور والظلّ بألوان القمح. طارت بهما ذاكرتي إلى شرفةٍ:

كان المعلّم يكتب على السبورة أمثلةً في الجمع والطرح عندما رأيت امرأةً، في أواسط العمر، تجلس على كرسيّ في شرفة بنايةٍ مقابلة. كان فستانها مربّعاتٍ صغيرةً متداخلةً زاهية الألوان. بقيتُ، دقائقَ، متأرجح النظر بين المعلّم والمرأة، أرى المعلّم في ألوان الفستان وأرى المرأةَ في رعبٍ منه. كانت تلك أوّل مرة في حياتي أرى امرأةً شقراء، عارية الساقين. لا شكّ أنّها «روميّة»، من نوع ما وصفت السيَر الشعبية. لعلّها شبيهة بأخت القيصر التي سمعتُ راويًا، في ظلّ كوخٍ، يقول إنّ عنترة بن شدّاد عاد بها من حربٍ في بلاد الروم، بعد أن أسلم! تمنّيت لو مات المعلّم أو أُغمي عليه، في الأقلّ، كي لا أعود إليه، ولكنّه تمادى في الجمع والطرح.

فوجئت، في إحدى التفاتاتي، بالمرأة تسند رجليها إلى قضبان الحديد على حافّة الشرفة. أحسست بنعمةٍ تنزل من السماء. زاد في النعمة أنّ لا أحد يشاركني فيها. تناءى صوت المعلّم ثم غاب تمامًا. وضعتُ خدّي الأيمن على الكرّاس المفتوح فوق الطاولة واستسلمتُ للنظر يأخذني إلى المرأة. كانت ألوان الفستان تُزهر في عينيّ حين دوّت صفعة المعلّم بالكفّ الغليظ على خدّي الأيسر. انتفضتُ في قهقهاتٍ وعيون تحدّق فيّ. لا تزال تلك الصفعة ترنّ، إلى اليوم، في أذني.

لا، المرأة، في المقهى، لا تنتظر رجلًا. دخلَت امرأةٌ في عمرها تقريبًا فحرّكتْها الفرحةُ: قامةٌ فارعة، رأسٌ مرفوع، شعرٌ مشدود بصرامةٍ إلى الوراء، لباسٌ أسود، مع لمسةٍ حمراءَ فوق الصدر، والخطى واسعة. بدتْ آتيةً من عوالم بعيدة أو هي ذاهبةٌ إليها. الوجه دقيق الخطوط، تُغمّق سُمرتَه عينان سوداوان كبرقوقتيْن في طبيعة ميّتة. لم يكن في هيئتها ما له دلالة التزويق. هناك كِنايةٌ متقشّفةٌ عن حِدادٍ ما. ما ظهر من القميص الأحمر، فوق الصدر، أعطى وهجًا لهذه الكِناية: لعلّه العشق، منتحرًا في الصدر. لا أدري إن صحّ حدسي ولكن وقَعَ في النفس شيء من جمال الحزن أو من حزن الجمال. كلّما امتدّت حميميّة الحركات والمخالاة بين المرأتين قويتْ عندي مفارقة الجمال الذي يتجسّد نورًا فرِحًا
وحزنًا في عتمة.

نزل المطر قويًّا. قامت المرأتان على عجلٍ. غابتا، وراء نسيج الماء على الزجاج، خربشاتٍ تتموّج في رماديّة الشارع. وكمن يكتب على صورةٍ اسمَ صاحبها كي لا ينساه كتبتُ على ورقة: «عبّاد الشمس». كان هذا أوّل اسمٍ أطلقه على تلك التي علّقتْ طلّتُها فنجان القهوة في يدي.

العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.