العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

تكسّرت بيروتُ المرايا والترميم ممكن

حوار المعمار والروائي

فواز: نشرتْ «بدايات» في عددها الخامس عشر حوارًا لكما بين الرواية والعمارة زمن الحرب. نريد هنا مواصلة الحوار. كلاكما عاش في أحياء طاولها انفجارُ مرفأ بيروت، وكلاكما عاش تجربةَ الحرب الأهليّة والاجتياحَ الإسرائيليّ في بيروت. ما الجديد والمختلف في انفجار المرفأ؟

موتُ مدينة

الياس: انفجار المرفأ أمرٌ مختلفٌ كليًّا. كانت الحروبُ التي عشناها حروبَ مدٍّ وجزرٍ وصراع، وأنا شاركتُ في جزءٍ من الصراع، لذا كانت الخسائرُ بالنّسبة لي شخصيًّا خسائرَ كبيرةً لكنّها شكّلت جزءًا من الصراع، حتى الكوارثُ الفردية والجماعية التي عشناها، تعامَلْنا معها على هذا الأساس، أي أنها جزءٌ من ضريبة المقاومة والتغيير. ولكن كان لديّ شعور بأنّ ما يرحل ممكن أن يعود، وأنّ ما يرحل هو ساحة صراع. حتّى الاجتياحُ الإسرائيليُّ الذي كان اجتياحًا مدمّرًا، وبرأيي أنه كسر بيروت أساسًا، ولكن كان لديّ شعورٌ أن بيروت بالمقاومة الوطنية تستطيع أن تستعيد صورتها ووهجها. الآن لديّ شعور أني أعيش تجربةً خاصة بي لم يسبق أن عشتُها أو فكّرت أنّ من الممكن أن أعيشها، وهي تجربةُ موت المدينة.

لديّ رواية اسمها «يالو» عملتُ فيها على موت اللغة. وموتُ اللغة حدثٌ مخيفٌ في الوعي الإنسانيّ. لقد ذكرت وأشرتُ في الكثير من كتاباتي إلى موت الآلهة، فهناك آلهةٌ ماتت واختفت واستُبدلت بآلهة جديدة. هذه المرّةُ الأولى وأنا أجلس في بيروت أعيش تجربةَ موت مدينة. وموتُ المدن قاسٍ بمعنى أنه يستطيع محوَك. لقد ماتت اللغة السريانية لكنّها ذابت في اللغة العربيّة، لم تمُت بمعنًى ما، دعني أقول إنها تقمّصت، لذلك عندما عملتُ على السريانيّة وعلى علاقتها باللغة العربية اكتشفتُ اكتشافاتٍ مذهلة، اكتشفتُ كم أنّ في لغتنا المحكيّة من السريانية. والآلهة أيضًا لم تمُت، لأنها ذابت أيضًا في آلهةٍ أخرى. تقمّصت في آلهةٍ أخرى. لكنّ المدن يمكن أن تموت نهائيًّا. وموتُ المدن يعني تحويلَ الحياة إلى آثارٍ وذكريات. بالطّبع نحن نعيش في بلاد فيها آثارٌ كثيرة، في صور هناك آثار، في جبيل كذلك الأمر، لكنّي لم أفكّر ولو لمرةٍ واحدةٍ في العمق «ما معنى آثار؟»، كنت أقول دائمًا إنّ لدينا آثارًا، لدينا ماضيًا وتاريخًا، ولم أفكّر لمرة واحدة أنّ هذه ليست آثارًا فقط، إنها الشاهد الأخير على شعوب ذهبتْ ولن تعود، يعني خلص، وإذا بقيتْ تبقى كذاكرة. وتتجسّد الذاكرةُ أحيانًا بالحجر، أي كما بقي من بعلبك وصور وجبيل وغيرها، أو أجزاء من بيروت الرومانية. والذكريات معرّضة للموت، فنحن مثلاً في احتفالنا بالآثار نقول «هذا احتفالٌ بالذاكرة»، عمليًّا الآثار هي موت الذاكرة، هي تحويل الذاكرة إلى أنصاب ومواقع للنسيان.

فواز: قلتَ إنّ الحرب ممحاةٌ كبيرة، الآن تقول ما هو مختلفٌ بعض الشيء، لا تتحدثُ عن عملية محوٍ كاملة، تقول موت. هناك الجانب الماديُّ من المدينة، أنتَ تقول هناك موت تجربة، موت تاريخ، فعندما تقول الذكريات باقية، أنت تتحدّث عن أمورٍ غيرِ مادّية. ولكن هناك مدينة جُرحت أكثر من مرّة ودُمّرت أكثرَ من مرة.

عنفٌ عبثيّ!

جاد: الحرب ممحاة، لكنّ هذه الممحاة تمحو شيئًا وتستبدله بشيءٍ آخر. أعني أنّ المدن تُركَّبُ دائمًا على «كودات» أو «شيفرات». كلّنا عشنا الحرب، واضطررنا كلّ مرةٍ أن نتأقلم مع «الكودات» الجديدة. كان واحدنا يعلم أنه يعيش في هذه المنطقة، وأنّ القصف يأتي من الجهة المقابلة. تعلّمنا العناصر الجغرافيّة الجديدةَ للمدينة، أي الحدود ونقاط الاستدلال الضرورية للاسترشاد والتنقّل: الحدود بين مختلف المناطق، الشوارع المواجهة وتلك المحميّة، خطوط السير الآمنة وتلك المكشوفة للقنّاص. استوعبنا هذه العناصرَ الجديدة التي غيّرت إدراكنا لحيّز المدينة وتأقلمنا معها. كان هناك نوعٌ من الطقوس، من «الكودات»، إنها شيفرات معيّنة تَعلّمنا كيف نفكّ رموزَها لنتمكّنَ من العيش في بيروت خلال سنوات الحرب الطويلة. كان بعضُ هذه «الكودات» يتغيّر وفقًا لتقلّب الأوضاع السياسية والتحالفات بين القوى المتصارعة، لكنّنا تعلّمنا كيف نتأقلم معها.

كان هناك منطقٌ في الحرب وعقلانيّةٌ معيّنة، حتّى خلال ظروف الانفلات الكامل، كان هناك منطق. ما حصل في المرفأ عبثيٌّ ليس له أيّ تفسير، لم يفهم فيه واحدُنا شيئًا. كنتُ جالسًا هنا في منزلي في فردان، في الصالة، وقع الانفجار الأول، ظننتُ أنه وقع في الشارع تحت البيت. وقع الانفجار الثاني، تكسّر معه كلُّ الزجاج، غير معقول! هذا نوعٌ من العنف الخارج عن كلّ منطق، وعن كلّ قصْد. لا شيء، لا شيء. أتصوّر أنّ المشكلة الكبيرة التي وقعْنا فيها، نحن سكان بيروت جميعًا، أننا لم نفهم شيئًا. خلال الحرب يمكنكَ أن تفهم، وتعرف أنّ هناك قذائف آتيةً من هنا وقذائفَ من هناك، وأنك إذا اختبأتَ في هذا المكان يمكنك أن تنجو، تنزل إلى الملجأ، وإذا أردتَ المرور، تعرف من أين يجب أن تمرّ كي لا تتعرّض للخطف. هنا لا شيءَ مفهومٌ. وقع الأمرُ بغتةً وكسرَ كلَّ إمكانيّتنا لتلمّس المدينة وجغرافيا المدينة. أتصوّر أنّ هذا هو الأمر الفظيعُ في هذا الانفجار.

فواز: والأهمّ أنّ كلّ هذا تجمَّع في لحظاتٍ معدودة، دقائق معدودة.

جاد: وهذا هو الفظيع في هذا النوع من العنف الذي لا علاقة له بالعنف الحربيّ. إنّه عنفٌ فاقدٌ لأي نوعٍ من العقلانيّة. ومن الصعب أن يتمكّن الإنسان من فهم هذا النوع من العنف. حتى الهزّةُ الأرضيّة تعرف أنها هزةٌ أرضيّة، لقد أحسستُ بهزّاتٍ في السابق، ورغم الخوف والحذر، الشعورُ بالهزة شعورٌ مألوفٌ إلى حدٍّ ما. هنا، لا شيء شبيهٌ بما عرفتُه سابقًا، لا بالقصف ولا بالانفجارات التي تعايشتُ معها خلال الحرب ولا بالهزّات الأرضيّة. كلُّ واحدٍ منّا شعر أنّ شيئًا غريبًا حصل في الشارع قرب بيته. ثم انتشرت الأخبار الأولى: انفجار في «بيت الوسط»، ما هذا؟ ثم انفجار في ضبيّة أو في الدورة، هل هذا معقول؟

تكسّرت بيروت

الياس: ولكن، جاد، أنت تقول «عبث». الموتُ عبث. الأكثر عبثًا في الحياة هو الموت. الموتُ الفرديّ عبث لكننا نجد له تخريجات، فالمجتمع في الموت الفرديّ يمارس طقوسًا وعاداتٍ ومعتقدات. أمّا في موت المدينة فالأمر مختلف. عندما وقع الانفجار كنتُ في السوديكو فظننتُ أنه وقع هناك، وأنا في طريق العودة إلى البيت صرتُ أطمئنُ الأهلَ على سلامتي فتبيّن أنهم هم المصابون في المنزل، فالمنزل مكسّر أكثر من السوديكو. لذا تشعر أنّ هذا كسرٌ جماعيّ للمدينة، ولا يعني أنّ هناك خسائرَ كثيرة في الأرواح، فعمليًّا هناك حوالي ٢٠٠ قتيل. هذا ليس موتًا، إنما الموت هو موت الأشياء، ورمزها الفظيع هنا هو الزجاج. أنا جئتُ من السوديكو إلى الأشرفية وطوال الطريق أسيرُ على الزّجاج، وللحظةٍ شعرتُ أنّ الزّجاج كالمرايا، فهذه المدينة، كما نقول، مرآةُ المشرق العربيّ، وها أنّ المرآة تكسّرتْ، وصرنا في العمى الكامل.

لكن عندما أستخدمُ كلمةَ عبث فأنا لا أنفي وجودَ مسؤوليّة، فهذا جزءٌ من مسار. فنحن للأسف منذ نهاية الحرب الأهليّة، ولا أقول منذ الحرب الأهليّة، ربما الحرب الأهليّة في مراحلها الأخيرة أحدثتْ تقاليدَ جرى تبنُّيها في صفقة ما يُسمّى بالسلام، المهم: نحن، من تلك اللحظةِ ذاهبون إلى الخراب. لقد ناضلنا، جاد وأنا وآخرون، مستميتينَ كي لا تُدمّر بيروت القديمة بواسطة السلام، فدمّروها بالسلام. بدأتْ عملية التدمير منذ ذلك الوقت. ثمّ حانتْ تلك اللحظةُ، وهي لحظةٌ تنطوي على سخريةٍ تاريخيّة، أي أنها لحظة الكارثة التي تدلّكَ إلى أين يتّجه التاريخ. من هنا الشعورُ بأننا ذاهبون إلى الهاوية.

بين بيروت ودبي

فواز: بدأنا بالحرب. الحرب دمّرتْ وأعادت البناء. يعني أعادت بناءَ كائنٍ آخرَ اسمُه بيروت، أنتَ الآن تنعى هذا الكائن. وهذا ما أودّ أن يتكلّم جاد عنه.

جاد: هذا أمرٌ آخر. أعود إلى قصة الممحاة. محَت الحربُ جغرافيا بيروت لكنّها وضعتْ جغرافيا أخرى مكانها. وضعت خطوطَ تماس. حتى خلال الحرب أصبحتْ هناك خطوط تماس، جغرافيا جديدة أنتجتْها الحرب. الآن لم يعد هناك شيء، لا خطوط تماس ولا غيرها. امّحت الجغرافيا بشكل كامل، وهذا المخيفُ في الأمر، إذ لم يعد لديك أيّ علامة استدلالٍ جغرافيّة. أتناولُ الموضوعَ من الناحية الحسّيّة: شعورٌ مخيفٌ أن يفقد المرءُ كلَّ علامات الاستدلال الجغرافيّة.

تقول يا فواز إنّ الانفجارَ دمّر بيروتَ الحرب. ما دُمّر شيءٌ آخر. صحيح أنّ جزءًا من بيروت ما بعد الحرب ناتجٌ منها، لكنّ جزءًا من المدينة يحمل في طيّاته ما هو سابقٌ على الحرب وما هو لاحقٌ لها، كالحدود الطائفيّة الجديدة بين الأحياء السنّيّة والأحياء الشيعيّة مثلًا. فعندما توقّفت الحرب، أو عندما أعلنوا توقّفها، وشهدْنا عمليّة الإعمار، ولا أتحدّث عن الوسط التجاريّ فهذا موضوعٌ آخرُ نتطرّق إليه لاحقًا، تشكّلتْ في هذه الأحياء ظواهرُ أتت بفعل الحرب ولكن أيضًا أمورٌ سابقة عليها، هي بيروت ما قبل الحرب. لذا ما دُمّر اليوم واقعٌ جديد.

فواز: «امّحت» بيروت وأعيد بناؤها بالطريقة المركّبة التي يتحدّث عنها جاد، لماذا لا يحصل الشيء نفسه الآن؟

جاد: عندما وقفنا الياس وأنا وغيرُنا بوجه مشروع «سوليدير»، كان هذا المشروع ضمن مشروعٍ متكامل: سياسيّ واقتصاديّ وماليّ وثقافيّ. ولا تنسَ هنا مسألةً مهمّة، إذ لا يمكننا فهم مشروع «سوليدير» من دون ربطه بالأوهام التي تمثّلت حينها بالسلم العربي الإسرائيلي، وبواقع أنّ «اتفاقيّة أوسلو«، التي كانت قيد التحضير، آتية، كما كانت هناك حرب العراق الأولى، ومؤتمر مدريد، وأنّ السلم آتٍ وغيرها من الأمور. تمحورت الفكرة حول ضرورة أن تستعيد بيروت دورها الذي لعبته خلال الستينيّات كمركزٍ اقتصاديٍّ وماليّ وسيطٍ بين الشرق والغرب. وأذكر جيدًا، أثناء النقاش مع جماعة سوليدير، أنهم كانوا يقولون إنّ دبي تبرز الآن وعلى بيروت أن تتطوّر ويتم إعمارُها كي لا نسمح لدبي بأخذ دورها، كان هناك هذا النوع من التنافس. هذا هو التصوّر الذي سمح باستقطاب رؤوس الأموال، وهذا ما يفسّر لِم نجح مشروع «سوليدير» وقتها. لقد خسرنا لأننا لم نمتلكْ مشروعًا سياسيًّا اقتصاديًّا بديلًا. أما اليوم فلا يوجد أي شيء من هذا القبيل. لبنان اليوم في الحضيض، فاقتصادُه منهار وكذلك نظامُه المصرفيّ والماليّ، وفي الجيوبوليتيك أيضًا لا دورَ له، ما عدا ذلك، تدجيل، لا أحد مهتمٌّ بلبنان ولا دورَ له في المنطقة. لذا برأيي هذه ضربةٌ قاضية فعلًا.

أما الكلامُ الآن عن الاتفاق والتطبيع الإسرائيلي مع الخليج فنتيجته أنّ مرفأ حيفا، المنافس لبيروت خلال الأربعينيّات، هو المرفأ الذي سيربط المتوسّطَ والخليجَ وآسيا. وربما هذا أحد أهداف التطبيع.

فواز: الياس، هنا جانبٌ رمزيٌّ يُغريك. يقول جاد كان النموذج هو دبي، أو إنّ بيروت هي دبي «نمرة ٢»، أما الآن فدبي هي المسؤولة الكبرى عن مشروعٍ ينتهي بتهميش لبنان بأدواره المختلفة. سلبَتْه الدورَ الأول الذي هو المركز التجاريّ، وأخذت الدورَ الثاني الذي هو مرفأ آسيا، وهي الآن مقبلة على الدور الآخر الذي سمّيتُه أنتَ «التتبيع»، أي تهميش المحور السوري اللبناني الفلسطيني الذي يفقد صلَتَه بالشرق الأوسط الحقيقيّ وقد انزاح جهةَ النفط. ولكن ماذا خسرنا؟ هذا مسارٌ انطلق فجأة، صار مثل الانفجار. هل هذه هي المرة الأخيرة التي يُمكن فيها للبنان أن يبقى على قيد الحياة وسط تطوّرات المنطقة؟ وهل إمكانية تجديد دوره باتت معدومة؟

الياس: أوّلًا، نموذج دبي في نشأتها كان بيروت، وكما قال جاد، كان نموذج مشروع «سوليدير» دبي، أي أنّ بيروت أرادت أن تقلّد من قلّدها. الآن طبعًا خرَجنا من اللعبة، ودبي تتوسّع إلى مرفأ حيفا، فشركة الموانئ العالمية الخاصة بدبي ستدخل شريكةً في مرفأ حيفا.

فواز: والشركة الصينيّة أيضًا هي أوّل مطوّر للمرفأ. هذا مرفأ الصين على المتوسط، أما مرفأ بيروت فلم يكن في أيٍّ من الأوقات مرفأ الصين.

مرفأ أنشئت له مدينة

الياس: قبل أن أصل إلى دور لبنان، هناك ظاهرة موجودة منذ فترة، عمليًّا بدأ صعودُها بعد حرب تشرين، وهي الحقبة التي سمّاها صادق جلال العظم «الحقبة السعودية» حسب ما أذكر، وتعني هيمنةَ الخليج على السياسة والثقافة في العالم العربي.

فواز: ياسين الحافظ يسمّيها «الحقبة الشخبوطيّة»

الياس: وقد بلغتْ هذه الحقبةُ ذروتَها بالهيمنة الثقافية الكاملة. ونحن غير ملتفتين إلى ذلك، فمثلًا كلُّ الجوائز الأدبيّة في الخليج، وكذلك تمويل المهرجانات السينمائية وسائر الفنون. النقلة الكاملة وتهميش المدن الكبرى، تهميش بيروت والشام والقاهرة، بل أقول: ضرب هذه المدن لا تهميشها فقط. تتنامى هذه الظاهرةُ منذ فترة، وهذا مرتبطٌ بالتطوّر الاقتصاديّ ودور النفط وانحطاطِنا نحن، بمعنى أننا ندفع ثمن الاستبداد والطائفية المستبدّة، الطائفية بما هي نظامٌ استبداديٌّ لا الطائفية التي يقولون إنها صنو للديموقراطيّة في لبنان، إذ تكتشف أن الطائفيّة هي أحد أشكال أنظمة الاستبداد، هي استبدادٌ كأيّ استبدادٍ آخر، إننا ندفع ثمن الاستبداد وانهيار القوى الديموقراطية والعلمانية في المشرق العربي. أما الثمنُ الأكبر الذي ندفعه فهو ثمن انهيار المقاومة الفلسطينيّة، وهذا ليس تفصيلًا. صحيح أنّ خطابَ المقاومة الفلسطينية كان خطابًا كيانيًّا فلسطينيًّا، ولكنْ عمليًّا تحت هذا الخطاب يوجد خطاب عروبيٌّ تحرّري.

أدّى انهيار كل هذه الأمور دفعةً واحدةً إلى انتقال مركز الثقل إلى الخليج. وهذا الثقل وهميّ، ولأنّه كذلك فهو بحاجة إلى حماية إسرائيليّة. فعندما كانت مصر، على سبيل المثال، ذاتَ ثقل لأنها دولة، كانت، إلى جانب لبنان، إحدى ركيزتَي مشروع الحداثة المجهض، أما دولُ الخليج هذه فيستحيل أن تمثّل ثقلاً، لذا تحتاج إلى حُماة.

لقد وقعت المنطقةُ كلّها. فبرأيي ما يُسمّى بالتطبيع، وهو تتبيعٌ لإسرائيل، كارثة أخلاقية في المرتبة الأولى، بمعنى أنّه نتيجة لتناسي الدمار الأخلاقي الذي شكله المشروع الاستيطانيّ الإسرائيليّ محوّلًا الشعبَ الفلسطينيَّ إلى ضحيّةٍ لمشروعٍ استعماريٍّ عنصري فاشيّ، فإذا فقدْنا كعربٍ هذا الجانبَ الأخلاقيّ لم نعد نملك شيئًا، نصبح مجرّد تفصيلٍ في لعبة الأمم وفي لعبة المصالح.

علينا العودةُ إلى تاريخ بيروت. أوّلًا بيروت هي مرفأٌ أنشئت له مدينةٌ كما كتبتَ يا فواز في «مجلة الدراسات الفلسطينية». بيروت مدينة كان عدد سكانها ستة آلاف نسمة. وقد بدأ منذ الفتح المصريّ (١٨٣١ــــــ١٨٤٠) توسّعُ المرفأ ومعه توسّعتْ بيروت، ولم ينحصر توسعُ بيروت بتوسّع المرفأ، بل توسَّعَ بسبب كوارث المنطقة. لقد توسّعت بيروت مع كارثة جبل لبنان، ومع كارثة الشام (مجزرة ١٨٦٠). هي مدينة كوارث، المدينة التي صنعتْها كارثة المنطقة والمرفأ، هذه هي التركيبة. وهي مدينة مأسوية. كانت ولايةً من ثلاثين ألف كلم مربّع، جعلوها عاصمة جبل لبنان، أي سلخوها من الشام ولكن بقيتْ ملتبسةً لأنها بقيتْ شاميّة ولم تتلبنَن كفاية. ما نخسره برأيي هو نتيجة لبننة بيروت. أوّلًا، هناك لبننة، وقد تبيّن في الانفجار كم أننا تلَبْننّا، بمعنى كم أنّ الخطابَ الطائفيَّ مهيمنٌ علينا وعلى المدينة، لذا خسرتْ بيروت نفسَها قبل أن تخسر دورَها.

هذا ما فعله الانفجار

جاد: في اليوم الثاني لوقوع الانفجار نزلتُ إلى الشوارع. وأكثر ما يحزّ في نفسي، الشيء العظيم، عندما رأيت الشباب هناك يعملون، شيء يسلب العقل. لكنّ ما يحزّ في نفسي أنّ لا أفقَ لذلك. في بيروت هناك «الاندفاع» و«النبض»، سَمّه ما شئت، لكنّك تعرف في النهاية أنّ هذا لا شيء. كيف يمكن أن تعطي لهذا الشيء معنًى؟ وأن يصبح شيئًا؟

والشباب الذين نزلوا بُعيد الانفجار إلى الشوارع هم أنفسهم من شاركوا في حراك أو انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، سمّها ما شئت. ما حصل بُعيد الانفجار استمراريّةٌ لـ17 تشرين الأول/ أكتوبر، ولكن هؤلاء يريدون الهجرة. وهذه هي المشكلة الأساسيّة، فعندما تتكلّم معهم، تجدهم جميعًا بانتظار الرحيل لأنهم فقدوا الأمل باستمرار شيء. عددٌ ممّن أعرفهم من هؤلاء الأشخاص كانوا في الشوارع خلال 17 تشرين الأول/ أكتوبر، هذا هو الشيء الفظيع. عندما تسأل: ماذا فعل الانفجار؟ الجواب: هذا ما فعله. هؤلاء صمدوا خلال وباء كورونا، وصمدوا في وجه المَنهبة الماليّة والانهيار الماليّ، وصمدوا في وجه النّظام، وصمدوا في وجه كلّ شيء، إلا الانفجار.

فواز: وصمدوا في الشارع لمدة ستة أشهر.

جاد: صمدوا في الشارع لمدّة ستة أشهر، ثمّ أتى الانفجار. هذا هو المخيفُ في الانفجار. عندما تسألني عن الشيء الجديد، هذا هو الجديد.

فواز: إذا أكملنا بالسؤال المرتبط نصل إلى المسؤوليّة عن مقاومة الموت وعن إعادة الإعمار، أي أننا معنيّون بأشكالٍ مختلفة، وأنت معنيّ أكثر منّا جميعًا. تقول لا شيء اسمه «إعادة إعمار»، بل «ترميم»، قياسًا إلى تجربة سابقة اسمها «إعادة الإعمار»، كيف نمنع أن يُعاد الإعمار الذي شهدناه عام ١٩٩٠؟

جاد: كما قلتُ سابقًا، لن تعود هذه التجربة كما كانت بسبب عدم وجود مشروعٍ كمشروع «سوليدير». ولكن ليس ما يخيفني أن يأتيَ مشروعٌ كامل يغيّر وجه المنطقة كما فعلتْ «سوليدير»، ما يخيفني هو الاهتراء التدريجيّ وأن يبدأ الناس شيئًا فشيئًا بالهجرة، أن يرحل السكانُ، ويبرز تجّارُ بناءٍ صغار وسماسرةٌ يعملون على مشاريعَ صغيرة، ترقيعٌ من هنا وترقيع من هناك.

معضلة التّرميم

جاد: ما يخيفني أيضًا أن يتبدّل جذريًّا وجهُ هذه الأحياء التي كانت في الواجهة فأصابها الانفجار: الجمّيزة، مار مخايل، الجعيتاوي، الكرنتينا، المسلخ، إلخ. كيف تكوّنت هذه الأحياء تاريخيًّا؟ بدأتْ بسكة الحديد والمرفأ. خرجت بيروت من أسوارها بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر وامتدّت نحو طريق طرابلس فتكوّنت الجميزة مقابلَ المرفأ وامتدّتْ على طريق الشام فكانت أحياء الباشورة والناصرة، وامتدّت على طريق صيدا فكان حي البسطا. خرجت الأسَرُ الأرستقراطيّة والبرجوازية التي اغتنت بسبب علاقاتها مع العثمانيّين والقناصلة الأوروبيّين من داخل الأسوار إلى التلال المحيطة بالمدينة حيّ السراسقة وحي زقاق البلاط وأصبحت المدينةُ العليا للأرستقراطيّة والبرجوازيّة، والمدينةُ السّفلى المرتبطةُ بالمرفأ المدينةَ الشعبيّة.

هكذا تمدّدتْ بيروتُ حتى ولادةِ لبنان الكبير. لاحقًا، أتى الأرمن وسكنوا في شارع أرمينيا ومار مخايل والبدوي، ثمّ أتى عربُ المسلخ. وقد عَرفت الأحياءُ المتضرّرةُ من الانفجار نوعًا من الاختلاط الاجتماعي. كما أنّ هذه المنطقةَ حافظتْ، إلى حدٍّ ما، وعلى الرغم من الحرب، على نوعٍ من الثبات بسبب الإيجارات القديمة، وبقي أهلها فيها.

في أواخر التسعينيّات بدأت الأحياء تتغيّر. صارت تشيَّد الأبراجُ في حيّ السراسقة وعلى الواجهة البحريّة من جهة المرفأ. ما حصل أنّ نشاطاتٍ جديدةً بدأت تدخل إلى أحياء الجمّيزة ومار مخايل وشارع أرمينيا: مقاهٍ وبارات وشباب ومحلّاتٌ تجاريّة وفنّانون ومثقّفون. حصل اختلاطٌ مع السكان القدامى. أودّ التركيزَ هنا على أنّنا لسنا نتحدّث عن منطقةٍ ميتة، هذه منطقة حيّة بتناقضاتها. الخوف اليومَ أن يموت هذا النسيجُ الحيّ، وأن يُعاد بناءُ المنطقة بطريقةٍ تمحو كلّ هذا التاريخ الذي أتى مع امتدادٍ لبيروت منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى أيّامنا هذه.

لذا الأهمُّ هو عودة الناس إلى مساكنهم. وهذا صعب بسبب عدم توفّر الأموال، فكلّ شيء بالدولار، وكلّ الأموال الآتية من الخارج تتركّز على المباني التراثية. تريد «الأونيسكو» مثلًا تمويلَ مبانٍ رسمية تراثية. أما مؤسّسة «رواق» الفلسطينيّة فتعمل مع متموّلين فلسطينيّين يريدون تمويل مشروعٍ عامّ، فوجدنا لهم مشروع تأهيل محطة سكّة القطار، لأنه مشروعٌ جميل للغاية في مار مخايل. وقلت لالياس إنّي اكتشفتُ خريطةً تبيّن خطَّ سير القطار بين بيروت صيدا صور الحدود الفلسطينية ثم عكا حيفا طولكرم، وما زال الإعلان عن تلك الرحلة موجودًا هناك. أرسلنا لهم المشروع، والفكرة جميلة. لكنّ ترميم التراث لا معنى له إذا لم تتأمّن إمكانيّة عودة السكان إلى منازلهم.

اليوم، لا أموال لإعادة بناء المباني العادية، التي ليست تراثًا لكن يسكنها تسعون في المئة من الناس. هناك بعض المؤسّسات غير الحكومية التي تعمل على الأرض، ولكن ماذا يشكّل هؤلاء؟

فواز: هل الأرقامُ صحيحة؟ ثلاثون ألف شقة؟

جاد: بحسب الأرقام الصحيحة، يتراوح عددُ الشقق التي اضطرّ سكّانها إلى تركها بين خمسة عشر ألفًا وعشرين ألف شقة. وهناك الكلفة، ومسألة الدولار وقيود «الفريش موني» (الأموال الوافدة من الخارج).

الياس: صحيح، لكن هناك نسبة كبيرة يتدبّرون أمرهم ويرمّمون. وردًّا على سؤالٍ حول ماذا يترتّب علينا فعله كي نعمّر؟ أودّ القول إنّ المعركة مع «سوليدير» كانت أصعب وأسهل في الوقت نفسه. كانت أسهلَ بسبب وجود سلطة تحمل مشروعًا ونحن معترضون عليه، صحيحٌ أنّنا فشلنا في الاعتراض ونُفّذ المشروع، لكن نجحنا في خلق مناخٍ اعتراضيّ. وبرأيي كلُّ المسار الذي حصل في كلّ التحرّكات الشعبية مذ بدأنا معًا في تنظيم احتفالات ذكرى النكبة وأقمنا التظاهرة الأولى على مقبرة شهداء شاتيلا، تراكَمَ وأطلق حركة. لكن الآن لا توجد سلطة ولا مشروع، من هؤلاء الذين يحكموننا؟ هذا هو السؤال، من هؤلاء؟

برأيي لا وجود لمشروع. المشروع الذي ظهر ولا أعلم مدى دقّة الكلام أنّ السماسرة قادمون ليشتروا بأموال رأسماليّين قادمين من أفريقيا، بغطاء من سياسيّين. لكنّ المشروع الوحيدَ هو استكمال النهب، لا يوجد مشروع. على سبيل المثال، لقد طرد مشروعُ رفيق الحريري سكانَ بيروت ونهبَ ما نهب، لكنّه كان مشروعًا. يجب أن يقوم مشروع كي تستطيع مواجهَته. وإلا كيف يمكنك المواجهة؟ هل تأتي إلى صاحب منزل بلا موارد، ويريدون شراء منزله، وهو يحتاج إلى لقمة الخبز، وتطلب منه ألا يبيع المنزل؟ حينها سيجيبك: لن أبيع، ولكن ماذا أفعل؟

جاد: المخيف أنك اليوم عندما تتوجّه إلى المنطقة ليلاً، تجدها منطقة ميتة. برأيي، أهمّ ما في الأمر الآن أن نستطيع إحياء المنطقة. انطلاقًا من هنا، علينا إقامةُ أماكن مؤقّتة لهؤلاء الناس، للشباب، للفنانين، كي يسهموا في إحياء المنطقة. نعمل اليوم على تحضير مشروع معرض عن الحي وتاريخه سيقام في أحد مواقف السيارات في الجميزة، في كانون الأول/ ديسمبر، قبل الأعياد.

ما معنى أن أقول «نريد الترميم»؟ أعني ليس إعادة إعمار. أوّلًا ترميم الموجود، ولكن عليكَ أن تطرح أيضًا أفقًا للمستقبل، ولا يكون ذلك عبر إقامة «سوليدير»، بل على العكس، هناك في المنطقة طاقات لتطوير الأماكن العامّة بما يمنح المنطقة توجهًا مستقبليًّا. مثلًا، هناك شارع كان مخطّطًا له في الستينيّات أن ينطلق من مدرسة «الحكمة» نزولًا باتّجاه المرفأ. كان هذا المشروعُ يشكّل استمرارًا للجادّة التي تنطلق من الحازمية وتمرّ بمستشفى «أوتيل ديو» صعودًا نحو سوبر ماركت «سبينيس» ومدرسة «الحكمة». استملَكت البلدية كلّ العقارات في هذا الشارع، أو تسعين في المئة منها، ولم ينفَّذ المشروع. وقد تبيّن من كلّ الدراسات التي أجريتْ في السنوات الأخيرة أن هذه الجادة لن تحلّ مشكلة السير في الأشرفية، بل على العكس، ذلك أنّ كلّ الشاحنات التي تخرج من المرفأ سوف تستخدم تلك الجادة وتزيد من عرقلة السير في الأشرفية.

لذلك اقتُرحت فكرةٌ مفادها: أطلقتم عليها اسمَ «جادة فؤاد بطرس»، (سياسي ووزير خارجية سابق) واستملكتم العقارات، لماذا لا نطلق عليها تسمية «حديقة فؤاد بطرس» بحيث نوجد حديقةً عامّة تربط «مدرسة الحكمة» بالمرفأ؟ هناك مساحات خضراء مليئة بالأشجار والبساتين والأبنية القديمة المستملكة نستطيع أن نقيم فيها معارضَ أو مقاهيَ ويمكن تأجيرها، وكلفةُ هذه الحديقة لا تُذكر، أقلّ بكثير من كلفة الجادة، وهذا يعطي مدًى للمدينة.

مشروع آخر هو محطة سكة الحديد المهجورة. صحيح أنّ قسمًا منها مخصّصٌ للإدارة، ولكن يمكن تطوير هذه المساحات الباقية وتحويلها فعلًا إلى مكان عام للحيّ المختلط يوسّع مداه.

ثم هناك مسألة علاقة المرفأ بالمدينة. أنشأوا «محطة شارل حلو«، حسنًا، كان من المفترض أن تصبح مواقفَ للسيارات، لم يحصل ذلك ولن يحصل. والآن هناك خطة لإنشاء خط قطارات مدينيّة «مترو» فوق الأرض من طرابلس إلى بيروت، ينتهي في هذه المحطة. لا يحتاج «المترو» إلى مساحة المحطّة كلّها. وهناك كل المساحة الموجودة أسفل «جسر شارل الحلو» اليوم غير مستعملة وهي مليئة بالأوساخ، وعبارة عن مستودعات. وإذا نظرنا إلى كيفيّة ارتباط تلك المنطقة بحيّ الجميزة، هناك إمكانية لكي يتمّ ربط هذا الحيّ بالبحر، أي بالمرفأ.

والمرفأ نفسه يقال إنه دُمّر بالكامل، لكن في الحقيقة لم يدمّر في معظمه، وهو اليوم يعمل بتسعين في المئة من طاقاته، لأنّ المرفأ الأساسيّ هو الحوض الرابع، مرفأ الحاويات، وهو يعمل بكامله، أما المنطقة المدمَّرة فكانت منطقة المستودعات. يمكن إعادةُ دراسة المرفأ على نحوٍ شاملٍ بطريقةٍ تجعل منه مكانًا مرتبطًا بالمدينة كما حصل في برشلونة الإسبانية ومرسيليا الفرنسية وجَنَوا الإيطالية. يعاد ربط المرفأ بالمدينة والمدينة بالمرفأ كما كان في السابق. أذكر أنّنا كنا نمرّ أمام البواخر التي تفرغ بضاعتها ولم يكن هناك حواجز منيعةٌ تفصل المرفأ عن المدينة وتحوّله إلى منطقةٍ معزولة يُمنع دخولُها، وتدير ظهرها للمدينة كما هو الحال الآن.

هناك طاقاتٌ هائلة في هذه الأحياء يمكن العمل على تطويرها.

لذلك عملتُ مؤخّرًا في نقابة المهندسين، بالتعاون مع كلّيات العمارة، على مشروع إصدار وثيقة* تضع رؤيا لترميم الأحياء المدمّرة، على أن نقيم في كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١ المقبل ورشةَ عملٍ كبيرة، ندعو إليها مساهمين من الخارج من «الأونيسكو» وسواها. المهندس الإيطالي الكبير رينزو پيانو (مصمّم «مركز بومبيدو» في باريس) مهتمّ جدًّا بالموضوع. نطرح الأمور بشكل كامل، ونخرج بتصوّرٍ مستقبليٍّ حول كيف يمكن إعادة إحياء المنطقة المدمّرة، طبعًا مع المحافظة على النسيج البشريّ فيها، ولكن أيضًا مع استكشاف أفق تطوّرٍ جديدة.

الياس: ما العائق أمامه؟

فواز: وكيف يتمّ تمويله؟

جاد: يعمل الجميع الآن بشكل تطوّعي، وهناك حماس.

الياس: ما العائق الحقيقي؟

جاد: سياسيّ. عندما وقفنا في السابق ضد مشروع «سوليدير» كانت مشكلتنا أنّ معركتنا بقيت معركةً في النصوص، أصدرنا كتبًا وكتبنا مقالات ونظمنا مؤتمرات، ولكن لم نطرح إطلاقًا تصوّرًا بديلًا. اليوم، ومع عدم وجود أيّ مشروعٍ لإعمار المنطقة، أريد طرحَ تصوّر بديل. الهدف اليوم أن نضع هذا التصوّر. حتى إذا لم نستطِع الوصول إلى تنفيذه، ولكن على الأقلّ سيكون لدينا مشروعنا في وقتٍ لا يملكون فيه أيّ مشروع. خلال فترة «سوليدير» كنّا في موقعٍ دفاعيّ، كانوا هم من يهجمون لأنهم امتلكوا مشروعًا متكاملًا، وكنا نحن ندافع من دون أن نمتلك مشروعًا بديلًا. أما اليوم فنحن نريد الهجوم، نحن أصحاب المشروع ونودّ طرح هذا المشروع أمام الناس ودعوة الجميع الى العمل.

هناك عقبات سياسيّة، فالطبقة الحاكمة لن تقبل بهذا النوع من التصوّرات. يريدون تلزيم المرفأ لإحدى الشركات الأجنبية على قاعدة BOT («إنشاء، تشغيل، تحويل» إلى الدولة)، ويريدون تأجير محطة القطار بهدف جَنْي الأموال، فما حاجتهم إلى «حديقة فؤاد بطرس»؟

الياس: برأيي أنّك تفتح نافذةً هائلةً من دون أن تدرك. وإذا استطعنا تقديمها وحشْدَ الشباب لها.

فواز: حيوية ١٧ تشرين.

الياس: برأيي هذه نقطة انطلاق ليست في السياسة، لأنّ الأمر في السياسة معقّد. يمكن أن تكون هذه نقطةَ انطلاق كي نجيب عن سؤال «كيف يمكننا إحياء المدينة؟» المدينة تموت، وبالقوى السياسيّة المهيمنة لا أمل في إنقاذها لأنّ هذه القوى هي من قَتَلها، حاكمكَ قاتلَك، حارس المدينة أطلق الرصاص على المدينة. فإذا أردتَ أن تقوم من جديد بمشروعٍ كهذا وبمشاريع أخرى ربما يمكن التفكير فيها كي ندخلَ على السياسة من مكانٍ آخر.

فواز: من مدخل إعادة الإعمار؟

الياس: أي يجب التحايلُ على السياسة، لأنّ الطوائف تريد هزيمة المجتمع. دعونا الآن نكون عقلانيّين.

فواز: والمصارف؟

الياس: المصارف والطوائف، هي الشيء نفسه، وعلى القافية نفسها.

برأيي من الممكن أن يشكّل هذا بابًا ومدخلًا للتفكير. أعرف من أصحابنا والشباب الذين أعمل معهم، حشد الشباب الذي تطوّع للعمل في تنظيف الطرقات والبيوت بُعيد الانفجار، لم يمُت بعد. لكنّنا جلسنا وتناقشنا: «ماذا نفعل؟ أزلنا الزجاج، مررنا على المنازل وقدّمنا الطعام لعائلات، ماذا نفعل»؟

إذا استطعنا إقامة مشروع رؤية للمنطقة، لأربعين في المئة من بيروت وتجنيد الناس له، يمكننا مواجهة الطبقة الحاكمة بمشروع ورؤية وعملٍ نضاليّ. كيف يمكننا أن نحشد؟ مشكلتنا الكبرى، كما قال جاد، هي النّزف، النزف مرعب، أعرف هذا من بيوتنا، هناك نزف ويأس، يريد الناس الرحيل. هذا عدا أنّنا لا نأخذ بعين الاعتبار الأزمةَ الاقتصاديّة الماليّة. المشكلة أننا سنمرّ بانحدارٍ في الاقتصاد وفي حياتنا اليوميّة. فإذا كنّا نحن الطبقة الوسطى والمثقفين، الذين يمكننا أن نتدبّر أمورنا، قد بدأنا نتذمّر، فماذا عن غيرنا؟ هذا تمامًا الخطر، القتلُ الاقتصاديّ. وبرأيي لا مفرّ من القتل، لأنّ القوى المهيمنة حتى لو أرادت إنقاذ البلد اقتصاديًّا، ستقتلنا كي تتمكّن من إنقاذ ما تبقّى من النظام. المشكلة كبيرة جدًّا.

إذا استطعنا القيام بهذا المشروع وأن نحشد الناس له، سنتعرّض للضرب في الشوارع ونُزجّ في السجون. لقد رفع الشبابُ مشانقَ ولكن عمليًّا المشانق منصوبة لنا، المشانق كرمز لهذا النظام. عندما تريد إحياء المنطقة عليك إحياءُ الثقافة، يعني أنت الآن تركّز على الهامش الثقافي. إذ كيف يمكن للثقافة أن تعيش بلا ديموقراطيّة؟ كيف يمكننا أن نعمل؟ أنت في مواجهةٍ مع نظام منهارٍ ومتوحّش، هذه هي المشكلة، لست بمواجهة نظام متوحش فقط، أو منهار فقط، أنت أمام انهيارٍ ووحشيّة.

أقول إنّ هذا مدخل، فإذا أردنا إيجاد مداخل، علينا التفتيش عن كيف يمكن لروح انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر أن تستمرّ بالمعنى العميق للكلمة. علينا إيجادُ مداخلَ جديدة كي تستمرّ روح الانتفاضة في هذه اللحظة التراجيديّة الكبرى التي يعيشها لبنان. لم أقل إنّ القمع هو العقبة الكبرى، فما زال رأيي أنّ العقبة الكبرى هي الأزمة الاقتصادية، فلا يمكنكَ حشد جائعين لتقيم مركزًا ثقافيًّا. سنصل إلى مكانٍ من هذا القبيل.

الترميم الثقافيّ ممكن

فواز: كيف يُعاد إعمار بيروت روائيًّا؟

الياس: عند دراستك للشعر تكتشف أنّ بيروت لا تملك شاعرًا. للقاهرة شعراؤها وكذلك دمشق. أما بيروت فهي أوّلًا مدينة جديدة، لا تملك إغراءات المدن العريقة للأدب. في الشعر، تكتشف أنّ الشعراء كتبوا عنها في الكارثة فقط، أي نزار قباني ومحمود درويش وإيتل عدنان، هؤلاء الثلاثة الأساسيّون، ونادية تويني قليلاً، كتبوا عن بيروت، وقبل مع خليل حاوي هناك إشارات لبيروت، كتب هؤلاء عن الكارثة لا المدينة، لا توجد مدينة.

في المقابل صارت بيروتُ مدينةَ الرواية. ما قبل الحرب الأهلية شهدنا إرهاصاتٍ لذلك، ومنذ الحرب أصبحت بيروتُ أرضَ الرواية، وهذه هي المفارقة في الأدب اللبناني، وبرأيي مفارقةٌ شيّقةٌ للغاية، فبيروت هي الأرض التي نشأت عليها الرواية اللبنانية، وهذه ميزة بيروت. قد تقول لي القاهرة كذلك أيضًا، بالطبع، ولكن القاهرة هي القاهرة! ودمشق نعم، ولكن دمشق إحدى أقدم مدن العالم. أما هذه المدينة الجديدة فقد تحوّلت فجأةً إلى مدينة الرواية فعليًّا، ومدينة تُنتج الحكايات لأنها مدينة تمزج بشكل غريبٍ للغاية التراجيديا الكبرى بالخفّة. وهذا المزيج برأيي نكهةُ بيروت في الأدب. ومهما تدمّرت بيروت فإنّ هذه المفارقة باقية.

وبرأيي دخلتْ بيروتُ الأدب ككارثة مليئة بالخفّة. أذكر عندما أحضر لي المخرج الراحل مارون بغدادي مشروعَ فيلم «خارج الحياة» ورمينا السيناريو وكتبتُ سيناريو آخر، أننا كنّا نكتب ونضحك، قال لي «شو هيدا؟ أصبحت نكتة، نتحدّث عن مأساة الخطف». قلت له: «هذه بيروت، فأنتَ في وسط المأساة، تعيش كوميديا سوداء، هناك أمر مفارق، مضحك خفيف لا مثيل له في العالم.

جاد: هذا عكس لبنان، لا توجد خفّة في لبنان.

الياس: صحيح، لهذا السبب برأيي بقيتْ بيروت بنكهتها الأدبيّة والثقافية مدينةً غير لبنانية. تكلّم جاد عن مشاريع الإعمار، برأيي من الممكن ترميمُ المشروع الثقافي البيروتي بسهولة إذا عملنا عليه لأنّ بيروت لا تزال تختزن الكثير من الإمكانات. صحيحٌ أنّ الأموال في الخليج والجوائز كذلك، وأنهم هناك ينشرون الكتبَ ويترجمون، وهم يستقطبون الكثير من الكتّاب، ولكن عمليًّا إذا أردتَ نشر كتبٍ فيها اعتراضٌ ما أو نقدٌ سياسيٌّ أو دينيٌّ أو اقترابٌ من الجنس، فلا تستطيع نشرها، حتى الآن، سوى في بيروت. وهنا الأمثلة كثيرة، كمشروع «دار الجمل»، الذي بدأ في ألمانيا ثمّ استقرّ في بيروت، أو مثلا كتاب «الشخصية المحمدية» لمعروف الرصافي، الذي لا يمكن نشره في أي مكانٍ في العالم العربي، نُشر في بيروت، وحتى الآن يمكنك إيجاده في مكتباتها. ولأنّ بيروت تملك ميزة المزج بين الخفّة والتراجيديا، فترميم مشروعها الثقافي ممكن، وهذه مسألة مهمّة للغاية.

إذًا المشروع الثقافيَّ في بيروت ممكن ترميمه بأقل كلفة، لذلك عندما أتت الأمينة العامة لمنظمة «الأونيسكو» وتحدّثنا عن ترميم المشروع الثقافيّ، قلتُ لها إنّ الكلفة لا تُذكر شرطَ أن لا «تُرمّموا» من خلال وزارة الثقافة، فمتى مُنحت الأموالُ إلى وزارة الثقافة انتهى الأمر.

والمشكلة أننا لا نملك هيئات ثقافية كمجتمع، لا نملك هيئاتٍ تستطيع الإمساك بالقرار، فحتى الآن ما زال الترميم الثقافيّ عبارةً عن مشاريعَ صغيرة. منذ أن أقمنا مسرح بيروت، وقد شاركتم كلاكما فيه، وحتى الآن لا نملك هيئة. ربما آن الأوان لتشكيل مثل تلك الهيئة.

 

العدد ٢٧ - ٢٠٢٠
حوار المعمار والروائي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.