تكتشف عند الانتهاء من قراءة كتاب يوسف سمعان المرّ «العرق، بداية الشغف» (٢٠١٩) أنه ليس «ابن ساعَته» وليس نتيجة بحثٍ سريع حول مشروب العرق وأصْلِه وفَصْله، بل هو بحدّ ذاته عمليّة تخميرٍ وتقطيرٍ لأفكارٍ بدأتْ تتواردُ منذ ما قبل ثمانينيات القرن الماضي أي منذ حوالى ٤٥ عاماً.
كما نلاحظُ أنّ بعض المقابَلات تعود إلى بدايات ثمانينيات القرن الماضي. نعَم، هو نصفُ قرنٍ من الأبحاث والمقابلات والقراءات. لذا نحن بصدد عملٍ موسوعيٍّ وتَوليفيّ في الآن ذاته.
وهنا السؤال: أين تكمن أهمّيةُ قراءة هذا الكتاب؟ نقرأ هذا الكتاب ليس فقط للاطّلاع على وصفات صناعة العرَق وخَفايا هذه الحِرفة وأسرارها، ونصُّ يوسف المرّ يستفيضُ في هذا المجال، لأنه يمكن أن تجدَ هذه المعلوماتِ خلال أيّ دراسةٍ في مدارسَ من نوع المدرسة الفندقية وغيرها على شاكلَتها.
وأهميّة كتاب المرّ ليستْ فقط في الاطّلاع على أنواع العنب والعرايش وأصنافها، فتلك موجودةٌ في برامج أيّ كلّية من كليّات الزراعة المحترمة التي تؤمّن الاختصاص في هذا المنتوج الزراعي، ويوسف المرّ على معرفةٍ واسعةٍ وعميقة فيه.
وليست تقتصرُ أهمّية الكتاب على القيمة الاقتصادية لهذا الإنتاج ودَوره في ازدهار مدينة زحلة وغيرها من القرى والدساكر، فهذا جزءٌ لا يتجزّأ من التاريخ الاقتصادي الاجتماعي للمشرق منذ نهايات الحقبة العثمانيّة حتى الجزء الثاني من القرن العشرين مروراً بمراحل الانتدابات.
وفي هذا المجال، يقدّم يوسف المرّ إضافات إلى مخزون المعلومات المتراكم في المكتبة التأريخيّة ومتفرّعاتها.
خمّارة معلومات
لكل هذه الأسباب مجتمعةً نقرأ هذا الكتاب لأنّه بالنهاية «خمّارة»، خوابيها فصولُه وعصارتُها معلوماتُه. وتكون المتعة في قراءة كتاب عندما تكتشفُ أموراً لا تعلمُها أو عندما تصحّح معلوماتٍ مشوّشة نتيجة النقص أو الأفكار المسبقة:
. نعلم مثلاً، أنّ العَرَق بالأساس منتوجٌ قفقازي، ابن عمّ «الفودكا»، انتقلَ مع الجاليات الأرمنية إلى القسطنطينية ومن ثَمّ إسطنبول، وكان يخضع لتشريعاتٍ متفاوتة واستنسابيّة. يتابع الباحثُ ما يمكن تسميتَه «رحلة العَرَق» من آسيا الصغرى (إسطنبول - إزمير) إلى حلب فصيدنايا حيث كان رَعايا أبرشيّاتها يصلون إلى القرى القابعة على مقلب السلسلة الشرقية المطلّ على سهل البقاع ومنها إلى زحلة.
. لم تتعامل السلطات العثمانية مع العَرَق بشكل عقائديّ مُطبّقةً النصّ الشرعيَّ بشكل حرْفيّ وجامد. في أماكنَ كانت تمنع التصنيع والتخمير ولا تمنع الاستهلاك وأحياناً كانت تسمح بالاثنين وتُخضعُهما للضريبة. ونعلم أنّ عسكر الإنكشاريّة كان يستهلكُ العرق.
. في محاولاتها تحديثَ الجباية وتوحيدَها، أضرّتْ سلطات الانتداب الفرنسيّ، ومن ثَمّ حكومات الاستقلال، بالمزارعين وبالخمرجيّة، لأنها لم تعد تميّز بين العرَق المُصنَّع من العنب واليانسون الأصلي والعرَق المصنّع من موادَّ مستورَدة أقلّ جَودة ونوعيّة.
. نكهة العرق وطَعمُه مجالان يحاول الباحثُ استكشافَهما وترجمتَهما كلاماً وصْفيّاً. نعلم أنّ في بداياتِه كان طعمُ العرَق حادّاً وفاقداً لنكهةٍ مميّزة عدا عن نَكْهته الكحوليّة (وهذا ما جعل الباحثَ يعتبرُه «ابن عمّ الفودكا»). ومن ثَمّ جاءتْ إضافةُ اليانسون على مرحلتين: مرحلة إضافة اليانسون نيئاً ومرحلة إضافته مطبوخاً، ويبدو أنّ هذا أحد اكتشافات الخمرجية الزحالنة التي غيرّتْ بشكل حاسمٍ طَعم العرَق ونَكهته.
. يتبيّنُ أنّ المجال البيئيّ الزراعيّ الأفضلَ لزراعة الدوالي والعرائش هو التربة البيضاء الناشفةُ الموجودة على مقلب سلسلة جبل لبنان الغربية المُشرفةِ على سهل البقاع. وقد عمّرتْ هذه الزراعةُ من شمسطار (وكانت ضمن متصرفيّة جبل لبنان) نزولاً حتى مشغرة مروراً ببدنايل ونيحا والفرزل وزحلة وجديتا وقبّ الياس وصغْبين وكفْريا وخربة قنافار.
. لم تكتفِ زحلة بشيْل العرق بشكل روتينيّ وتقليديّ. فشهْرتُها تعود إلى الدورِ الذي لعبَه المبادرونَ من أبنائها الذين أبدَعوا في كل مجالاتِ زراعة العرَق وتصنيعه. هناك مَن ذهبَ إلى إيران للإتيان بأفضل نَصبات عنَب للعصْر والتخمير، ومنهم مَن عمِل على تطوير «الكركي» وتحسين «العروس» ومنهم من جَال في كلّ مناطق سوريا بحثاً عن غرساتٍ وأسواق. هؤلاء الزحالنة المبادرون على مدى جيلٍ أو جيلَين ساهموا بإعلاء شأن «العرَق الزحلاوي» ومدينتِه.
لا بدّ من الإشارة إلى القسم الأخيرِ من الكتاب بعنوان «من كل مطرح ناس وكاس». هذا القسم - من الصفحة ٢٥٣ إلى ٤٤٩ - كتابٌ بحدّ ذاته يمكن أن يندرجَ تحت عنوان «الأنتروبولوجيا الثقافية للعَرَق» وبالإمكان قراءتُه بشكل مستقلٍّ عمّا سبَقَه، كما كان من الممكن نشرُه ككتابٍ مستقلٍّ قائمٍ بذاته. يتناول هذا الفصلُ الرواياتِ الشعبيّةَ وما تُعمّمه من ثقافةٍ وتراثٍ حول عادات المائدة وفنون الطبخ والغذاء حيث يتصدّر «شرب العرق» موقعاً مرموقاً على مائدة الولائم وجلساتها.
يعرض يوسف المرّ بإسهابٍ ما يُنتجُه العرَق من ممارساتٍ ثقافية وفنّية: طرب، شعر، زجل، أمثال شعبية، إلخ. كما يدرس حيّز علاقة العرَق بالمجال المقدّس وكيف استوطنَ في رُتبة «خميس السكارى» ليجعل من هذا اليوم، خصوصاً في زحلة، يوماً احتفاليّاً شعبيّاً محورُه المبارياتُ على طاقةِ تحمّل احتساء «بطْحات» العرَق بالعشرات والفائزُ الذي يبقى صاحياً حتى الصباح. وينتقلُ بنا المُرّ من ثَم، من خميس السكارى إلى «شرحُوطة بتغرين»، فمَوعدِ صلاة عيد الميلاد، إلى عيد مار أنطونيوس، ناهيك عن علاقة رجال الدين والكهَنة بمواضيع الشرب والسُكْر.
ثم ينظّمُ لنا المؤلفُ رحلةً في القرى اللبنانية والرعايا وكنائس شفعائها من بتغرين إلى الخنشارة إلى بحمدون (عيد السيّدة)، وتكون العودةُ إلى زحلة لرواية أخبار وصَوْلات وجَولات القبضايات أمثال مخايل بوعينين، مَجيد لِيان، عنتر بو زهر، مخايل بو طاقة، وديع بالش وطنّوس بالش وغيرهم. لماذا القبضايات؟ لأنّ من خصائص القبضاي أنّه يحمل السلاحَ وله شَنَبٌ معكوفٌ ويشرب العرَق في جلساتِ سكْرٍ مع «رَبْعه». فطاقتُه على الشرب جزءٌ حيويٌّ من رجولتِه ومن أسطورتِه في حمْل السلاح وتحدّي السلطات.
هذا الكتابُ موسوعةٌ محورُها العرَق وسيرورةُ «شَيله» وهو خصوصاً بحثٌ في الثقافة الشعبيةِ الفلكلوريّة التي تغلغلتْ فيه ونتَجتْ منه لتصيرَ أفضلَ تعبيرٍ عن روحيّةِ شعب وطاقاتِه الإبداعيّة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.