جدليّة الوحدة والديمقراطية
تعني الجدليّة هنا الترابطَ بين الوحدة والديمقراطية على ما كتبتُه في مقالٍ وضعتُه بدايةَ عام ١٩٨٩. هناك فرقٌ بين ذلك الوقت والآن، لكنّ المقال يقترح أنْ تقوم الوحدة على أساس الديمقراطية. وعلى الرغم من أنّني لا أريد أن أمتدحَ نفسي، ولأنّي أمتلك الإعلام، أقول إنّني أوّلُ من اقترح الديمقراطية. أزعم ذلك، لأنّني قلتُ بوجوب أن تترافق الوحدةُ مع الديمقراطية. لكنّ الكثيرَ من المسؤولين يقولون إنّ كل واحد منهم هو الذي اقترحَ ذلك، كلٌ يدّعي وصْلاً بليلاه وليلى لا تقرُّ لهم بوصْلٍ.
هذا المقال الذي كتبتُه كان أوّل مقالٍ يتحدّث عن الديمقراطيّة وعن تلازُمها مع الوحدة. كتبتُ هذا المقال في المنزل عند زوجتي غانية علي أحمد الكهالي في عدن وهي وفّرت لي الجوّ المناسب للكتابة. وكانت تقول لي: «أنت تعمل. إيش، إيش، بتكتب؟»، قلت لها: «أنا أكتب عن الديمقراطية والوحدة». قالت: «أنت تشتي [تشتهي / تريد] تعمل لنا مصيبة جديدة. مش كافي حق التعددية [مقالك عن] وما لحق بنا من مشاكل». قلتُ لها: «هذا أمر سوف يكون عظيماً». قالت: «نعم، أنا معك إذا كان كذلك». اقترحتُ في المقال مرحلةً انتقالية مُدّتها ٤ - ٥ سنوات تتم خلالها خطوات انتقالية في الشمال والجنوب وحدّدتُ جملةً من المهامّ لا بدّ من إنجازها في الشطرين، بحيث يتراجع الجنوب إلى الوراء قليلاً في مجال التأميمات والإجراءات التي شابَها التطرّف، على أن يتقدّم الشمال إلى الأمام عن طريق القيام بالعديد من الإجراءات أهمّها فرْضُ سلطة الدولة وانتشارها في المناطق التي لم تكن موجودةً فيها وتحقيق قدْرٍ معيّنٍ من النظام والقانون، إلخ. هكذا يمكن أن يلتقي الشطران في آخر المطاف.
قرأ الناس المقال، بعضهم اهتمّ به وبعضهم لم يهتمّ. لكن في مناقشات اللجنة المركزيّة كنتُ ألحّ على أن نبدأ بتحقيق الديمقراطيّة قبل الوحدة وأنا شارح الفكرة الآن أفضل: كنتُ أريد أن يحقّق الحزبُ الديمقراطيّة في الجنوب قبل الوحدة وأن يدخل الوحدةَ وهو طرفٌ فاعلٌ وقويّ ومؤثّر في تحقيقها. أريد أن أشيرَ إلى أنده في أحد اجتماعات اللجنة المركزيّة أردتُ أن يَصدر قرارٌ بهذا الاتجاه، أي أن نبدأ الوحدةَ والديمقراطية في الجنوب. لكنْ كان هناك نوعٌ من التهيّب وكانوا يقولون: لازم نعمل خطوة خطوة. كانوا متردّدين، رغم أنّهم كانوا مقتنعين. وقد استَشهدتُ ببيتٍ لشاعرٍ عربيٍّ قديم هو الشاعر دريد بن العمّه يقولُ فيه:
«محضتُكم نصحي عند مُنعرج اللِواء / ولم تستبْينوا النصحَ إلا في ضحى الغدِ».
أردتُ من ذلك أن أقولَ إنّ النصيحة لم تُقبَل، لكنّ قضايا الإصلاح السياسيّ والاقتصاديّ والتعدّديّة أصبحتْ مطروحةً على جدول الأعمال وصار الحديث يدور حول الوقت، أي متى؟ [يجب ان تتحقّق الوحدة]
نصيحة الجنرال جياب
في ٢٠ أو ٢١ أيار / مايو من العام ١٩٩٠ وقبل إعلان قيام الدولةِ اليمنيّة الموحّدة بأربعٍ وعشرين ساعة اجتمعت اللجنة المركزيّة للحزب الاشتراكي اليمنيّ في دورتها الثّامنةَ عشرة، وتمّ إخبار النّاس من خلال بيانٍ بأّننا [الاشتراكيّين اليمنيّين] لم نكن حزبيَن في يومٍ من الأيّام وأنّ حزب الوحدة الشعبية اسم شكليّ، بل اسمٌ مستعارٌ لفرع الحزب الاشتراكيّ اليمني في شمال الوطن منذ العام ١٩٧٩، أي أنّ الحزب موحّدٌ منذ ذلك الحين و«حزب الوحدة الشعبيّة» و«الجبهة الشعبيّة» كانا من قبيل التكتيك. كذلك أعلنّا أنّ لدينا قيادةً واحدة وأنّ علي سالم البيض هو الأمين العام للحزب الاشتراكيّ اليمنيّ على مستوى اليمن، شمالِه والجنوب. أمّا جار الله عمر، الذي كان سكرتير حزب الوحدة الشعبيُة، أو يحيى الشامي أو أحمد علي السلامي أو غيرهم، فهم جميعاً أعضاء في حزبٍ واحدٍ تماماً مثلما كان جاري بالضّبط في فييتنام: في الشمال الحزبُ الشيوعيّ الفييتنامي الذي يقوده هو شي مينه، وفي الجنوب جبهة وحزبٌ لكنّ الحزب الشيوعيّ الفييتنامي هو الذي قاد العمليّة برمّتها في فييتنام كلّها.
وبمناسبة ذكرى الثورة الفييتناميّة، أذكرُ أنّه خلال الكفاح المسلّح عندما كنّا نتناقش مع الإخوان في عدن حول مسألة إيقاف الحرب في الشمال أو عدم إيقافها، قابلْنا الجنرال جياب [القائد العسكريّ للثورة الفييتنامية شمالاً وجنوباً، ووزير الدفاع حينها]. أراد الجنرال إقناعنا بأنّ الظّرف في فييتنام مختلفٌ عنه في اليمن، محذّراً من أننا في حال أردنا إسقاط صنعاء انطلاقاً من عدن فإنّ عدن ليست هانوي، وصنعاء ليست سايغون، واليمن ليست فييتنام والوضع مختلف تماماً. وتابع قائلاً: «نحن كنّا نقاتل التّدخّل الأجنبيّ ونملك تجربةً طويلةً، ولدينا غابات، أمّا الحربُ عندكم فعبارة عن صراعٍ أهليّ، ثم إنّ إمكانات هانوي أقوى من إمكانات عدن، والصّين وروسيا حليفتانا، أما أنتم فهذان البلدان غير موافقَين على كفاحكم وحربكم». ثمّ أردف قائلاً: «نحن نؤيّدكم إذا نجحتُم، لكن، أنا الجنرال جياب الذي قاد معركة ديان بيان فو والذي يقود الصراع الآن مع أميركا، أقول لكم إنّ الوضع مختلف بين فييتنام واليمن».
كم ظننتُ أنّهم سيؤيّدوننا من دون شروط وسيخبرنا جياب بأننا على حقّ. وللحقيقة، أثّر كلام الجنرال جياب والمناقشات مع المثقّفين في العالم العربي والسوفيات كثيراً على أفكاري وعلى رأيي. وبالمناسبة، أثناء الصّراع في المناطق الوسطى كان السفير السوفياتي يقابلني شهريّاً أو أسبوعيّاً في مكتبي. وكان يبذل الجهود كي نغيّر رأينا في هذه المسألة.
الحزب الاشتراكي حزب الوحدة اليمنيّة
أودّ الإشارة إلى نقطةٍ هامّة مفادُها أنّ البعض في الجنوب أقبَلَ على الوحدة بسبب ضعفه ولأنّ المعسكرَ الاشتراكيّ كان على وشك الانهيار فلم يملك سنداً آخر وظنّاً منه أن لا حلّ سوى بالاتحاد مع الشّمال وأنّ النّظام في صنعاء نظامٌ قويّ ينتمي إلى المعسكر الرّأسمالي الذي انتصر. شاعتْ هذه الأفكارُ، وما زالت حتّى الآن تتردّد بين الصحافيين وعلى لسان بعض السياسيين الذين يناصبون العداء لتجربة الحزب الاشتراكي في حكم الجنوب (١٩٦٧ - ١٩٩٠). هذا ليس صحيحاً برأيي، أقدَمَ الحزب على تحقيق الوحدة بما هي خيارٌ سياسيّ، خيارٌ لممارسة الحرية ولم يكن مدفوعاً بالضّرورة، أي بانتهاء المعسكر الاشتراكي والاتّحاد السوفياتي، بل كان مدفوعاً بالطموحات والأحلام السّابقة. ولديّ أدلّةٌ على ذلك هي الآتية:
أوّلاً: إنّ الحزب الاشتراكيّ اليمني هو في الأصل موحّدٌ في اليمن وهو وريث الحركة السياسية الجديدة والتي ولدتْ موحّدة في عدن وليس في صنعاء. والحركة الوطنية التي وُلدت من القوميّين والبعثيين والناصريّين والماركسيّين والوطنيّين، نشأت موحّدةً في عدن خلال الأربعينيات والخمسينيات وتبلورتْ جميعها وتجمّعت في الحزب الاشتراكي اليمنيّ، وكانت روافد الحزب المختلفة قد نشأت موحّدةً في الشمال والجنوب منذ البداية، لذلك فالحزب الاشتراكي اليمني اتّحادٌ طوعيّ لكل أبناء اليمن، في الشمال والجنوب، وهناك سلطة وراء ذلك.
وقد شكّل انقسام الحزب الاشتراكي بسبب الضرورة السياسية والحرب الباردة بين الشرق والغرب وتأييد الاتحاد السوفياتي للجنوب وتأييد الغرب للشمال، فترةً من الانقطاع أو الانقسام، وهي فترةٌ مفروضة وقسريّة. برز هنا فعل القوّة والسلطة. أمّا إرادة النّاس وأعضاء الحزب في الشمال والجنوب فبقيتْ موحّدة. لذلك فالحزب الاشتراكي اليمني حزبٌ متصالحٌ مع نفسه وتاريخه وإيديولوجيّته بصرف النظر عن أيّ شيء. كانت له الوحدة إيديولوجيّةً واستخدمت الأحزابُ التي أنشأت الحزبَ الاشتراكي الوحدةَ في صراعها مع الآخرين. على سبيل المثال، أسقطت الجبهة القوميّةُ في الجنوب الأحزابَ المنافسة لها كـ«رابطة أبناء الجنوب» و«جبهة تحرير الجنوب العربي المحتلّ» باسم الوحدة اليمنية. وقد رفعت الجبهة القومية شعار الجنوب اليمني وهؤلاءِ قالوا بالجنوب العربي. ثمّ في الصراع السياسي بين الشمال والجنوب كانت الوحدة سلاحَ الحزب الأساسيَّ يستخدمها في حربه مع الشمال، لكنّ سُلب منه هذا السلاحُ في حرب العام ١٩٩٤. لتلك الأسباب أراد الحزبُ بعد حرب العامِ ١٩٧٩ تحقيق الوحدة الفوريّة. بالطّبع كان الحزب يعتبر نفسه ممثّلاً للقوّة العسكرية النامية ولإيديولوجيّة المعاصِرة.
ثانياً: في الردِّ على المقولات [المناهِضة لتبنّي التعدّدية] التي تقول إنّ المعارضة في الجنوب كانت في حينها ضعيفة أما الحزب فكان قويّاً كما الحال بلدان أوروبا الشرقية، يسيطر على الجيش والأمن ولديه الآلافُ من الكوادر، كما يسيطرُاً على الشوارع. بصرف النّظر عن أيّ شيء كان الحزب سيظل مسيطراً على الشارع حتى لو أقام تعدّديةً سياسيّة، كان سيبقى قويّاً والمعارضة ضعيفة. ولم يكن متوقَّعاً أن يضعف الحزب لدى اعتماده التعدديّة لأنّه هو من صنع السّلطة، وهو ليس مخلوقاً سلطويّاً، كما هو الحال بالنسبة للمؤتمر الشعبيّ العام أو الاتّحاد الاشتراكي في مصر. وقد تواجد الحزبُ في كلّ مكان، في النقابة، في الحانوت، في مَقيل القات، في الحيّ، في القرية، في القبيلة. ولو أراد الحزب الانخراط بتعدّدية والبقاء في الجنوب فلا خطرَ عليه، لكان استطاع ألّا يهرب إلى الوحدة وأن يقيم تعّدديّةً في الجنوب من دون أن يخشى شيئاً.
النقطة الثالثة: كان الحزب يستطيع الاحتفاظَ بالسلطة في الجنوب وأن يقيم تنميةً اقتصاديّةً وألّا يخشى الوضع الاقتصاديَّ بعد إيقاف الدّعم السوفياتيّ، أي لا مشكلة كبيرة في هذا الامر.
دولة جديدة بنظامٍ سياسيّ جديد
أُعلنت الدّولة اليمنيّة في شهر أيار / مايو من العام ١٩٩٠ واستُقبلت من قبل اليمنيين بحفاوةٍ بالغة. وبطبيعة الحال، تمّ الإعلانُ أن الدولة الجديدةَ ذات نظامٍ سياسيّ جديد بناءً على مشروع الدّستور الذي أُقرّ في عهد حكومة الرئيس علي ناصر محمّد وفي ضوء الاتفاقيات السابقة [بين البلدين]. وتمّ السّماح للأحزاب بممارسة نشاطِها السياسي، سواءٌ الأحزابُ التي تعمل بشكلٍ سرّيّ أو الأحزاب الجديدة. فنشأ أكثر من خمسةٍ وعشرين حزباً، كما صدر العديد من الصحف والمجلات المستقلّة والحزبيّة، مجلات أصدرها أشخاصٌ ليسوا أعضاءَ في أحزاب. وتمّ تشكيل حكومةٍ ائتلافيّة ومجلس رئاسة من ممثّلين عن الشمال والجنوب وتمّ الاتّفاق على أن يكون علي عبد الله صالح هو رئيس مجلس الرّئاسة والقائد الأعلى للقوّات المسّلحة وأن تكون عاصمة الدّولة هي صنعاء وأن يكون علي سالم البيض نائبَ الرئيس، كما اختير أبو بكر العطّاس رئيساً للوزراء والدكتور ياسين سعيد النعمان رئيساً للبرلمان. واتّفق الطرفانِ على أن يتكوّن مجلس النواب من مجلس الشعب الأعلى في الجنوب ومجلس الشورى في الشمال.
واتّفق الطّرفان على إضافة ممثّلين للقوى السياسية التي لم تشارك في الانتخابات في الجنوب والشمال وبمصادقة البرلمان والحكومة. أمّا نحن، بحكم كوننا فرعَ الحزب الاشتراكيّ في الشمال فلم نشاركْ في الحكومة ولم نطالب بذلك، واعتبرنا الإخوة الذين جاؤوا من حكومة الجنوب ممثّلين للحزب كلّه، ولكن أضيف إلى البرلمان عضوان من فرع الحزب في الشمال هما يحيى منصور أبو إصبع وأحمد علي السلامي. كذلك اقترح الحزبُ الاشتراكي إدخال ممثّلين عن الناصريّين والبعثيّين الى البرلمان. كان ممثّل الناصريّين هو الدكتور عبد القدّوس المضواحي. كما استوعب البرلمانُ بعض الشخصيات الموالية للمؤتمر من المحافظات الجنوبيّة. هكذا بدأت الدّولة الجديدة بتأدية دورها. وبعد أن انتقلت قيادة الحزب كلّها إلى صنعاء تمّ تعييني رئيسًا للدائرة السياسية في الحزب لمرحلة ما بعد الوحدة والّتي سُمّيت بـ«المرحلة الانتقالية».
خلافات حول حرب الخليج
بعد الابتهاج بالحدث الجديد، بدأت المشاكل الواقعية تطرح نفسها على الحياة السياسية اليوميّة ومنها نشوب حرب الخليج. وكما هو معروف، أخذ اليمن موقفاً أقرب إلى العراق وقد صوّت مندوب اليمن في مجلس الأمن ضدّ القرارات المناهضة للعراق أحياناً وامتنع أو غاب أحياناً أخرى ولم يصوّت مع قرارات مجلس الأمن سوى مرّة أو مرّتين عندما تعلّق الأمر بادانة ضمّ العراق للكويت. وأذكر أنّه عندما نشبت الحرب اجتمعت القيادة السياسيّة والحزبيّة والحكوميّة وقد حضرت معظم تلك الاجتماعات وشهد الشّارع اليمنيّ في أوّل يومين تظاهراتٍ صغيرة ضدّ دخول العراق إلى الكويت، ولكن بعد تغيّر الموقف وبدء القوّات الغربيّة بالتّمركز في المنطقة وشنّ الحرب على العراق، تغيّر الموقف في الشارع اليمني واستعرَت التّظاهرات المناهضة للقوّات الغربيّة، الأميركيّة تحديداً، والمؤيّدة للعراق.
استدعينا إلى الرّئاسة مرّاتٍ عدّةً بحضور الرئيس ونائبه وتمّ تكليفي من قبل الاجتماع ممثّلاً عن الأحزاب والدّكتور أحمد الأصبحي عن حزب المؤتمر الشعبي العام كي نترأّس اللّجان الشعبيّةَ التي تدعم العراق. قبلتُ بالطّبع هذه المهمّة لكنّي عبّرتُ في اللقاءات الجانبيّة الأولى عن انتقادي دخول العراق إلى الكويت، معتبراً أنّه يمثّل خطّاً استراتيجيّاً سيؤدّي إلى تغيّر موازين القوى في المنطقة وإلى تواجد القوّات الأجنبية في المنطقة بصورةٍ دائمة، لكنّي مع ذلك كنتُ مقتنعاً تماماً بتولّي قيادة العمل الشعبيّ المتضامن مع العراق. ومن الوجهة السياسيّة اليوم أعتقد بأنّ الموقف الشّعبيّ حينها كان صحيحاً بشكل كامل، لكن الموقف الرسميّ كان موقفاً مضطرباً وعاطفيّاً ومنفعلاً بالأحداث. كان يجب الفصلُ بين الموقف الرسميّ والموقف الشعبي، وكان على الحكومة أن تميّز موقفَها عن الشّارع كي لا تتحمّل العواقبَ التي تحمّلتْها بعد ذلك. لكن الحكومة كانت تجاري أحياناً الموقفَ الشعبيّ وأحياناً أخرى تسبقه وتنافسه في التّصريحات واستقبال التّظاهرات التي تُعتبر جزءاً من الحقّ الديمقراطي للنّاس. لكنّ اليمن كان دولةً حديثة ذات وضع اقتصاديّ صعب وقد أدّى هذا الموقفُ إلى طرد العمال اليمنيين من الخليج وقد بلغ عددهم حوالي ٨٥٠ ألفاً. طُرد هؤلاء من السعودية وبعض دول الخليج، وبعودتهم إلى اليمن شكّلوا عبئاً اقتصاديّاً صعباً على الاقتصاد الوطنيّ ولم تستطع الحكومةُ أن توفّر لهم الأعمال اللازمة، كما خسرت الحكومة تحويلاتِ المغتربين من النّقد الأجنبي وقد شكّل هذا العامل واحداً من العوامل التي أّدّت إلى الأزمة السياسية فيما بعد.
أيّد المؤتمر الشعبيّ العام الموقفَ العراقيّ بالمطلق، أمّا الموقفُ داخلَ الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ فكان فيه اختلافٌ داخلَ اللجنة المركزية والمكتب السياسيّ وقد برزتْ فيهما معارضةٌ قويّة لموقف اليمن المؤيّد للعراق. اعتبر أصحاب هذا الموقف أنّ تأييد الدولة اليمنية للعراق يضرّ بمصالح اليمن لأسبابٍ عمليّة. لكن لم تمنع هذه المعارضة اتّخاذ الحزب موقفاً مشابهاً لموقف المؤتمر الشعبي العام حرصاً على وحدة القيادة السياسية بعد الوحدة. فلم يكن للجنوب علاقة قويّة مع العراق وكان الخلاف مع السعودية داخلاً في هذا الموضوع. طبعاً، ليس صحيحاً أنّ الدولة اليمنية كانت على علمٍ بالغزو وهي لم تكن متآمرةً مع العراق لكنّها تجاوبتْ معه تأثّراً بالموقف العربي بشكلٍ عام. وبالطّبع لستُ من بين الذين عارضوا في اللجنة المركزية بل كنتُ مؤيّداً للموقف الشعبي ولو أعاد التاريخ نفسَه لاتّخذتُ الموقفَ نفسه لكنّي سأطالبُ بالتّمييز بين الموقفين الحزبي والحكومي. وأودّ الإشارة هنا إلى أنّ موقف الأحزاب اليمنيّة الأخرى، كالناصريّين والبعث والإسلاميّين في حزب الإصلاح، مؤيّدٌ للّجنة الشعبيّة وهم أعضاء فيها، لكنْ تحفّظتْ ثلاثة أحزاب على الموقف وإن لم تكن تساند الكويت، من ضمنها التجمّعُ الوحدويّ اليمني بقيادة عمر الجاوي وحزب الأحرار الدّستوري بقيادة عبد الرحمن نعمان وحزب الرابطة بقيادة عبد الرحمن الجفري. حملتْ هذه الأحزاب الثلاثة، وهي صغيرة ومتوسّطة، رأياً مختلفاً، لكن هذا لا يعني أنّ علاقةً جمعتْها بالسعودية، فلم تربط عمر الجاوي أيُّ علاقة بالسعودية. لقد شكّل هذا الموقف جزءاً من موقف النّخبة اليمنيّة التي انقسمتْ، فبعض المثقّفين عارض دخول العراق إلى الكويت، لكن جميع النّقابات والمساجد وقفتْ مع العراق وعارضت التّدخّل الأميركيّ وقرارات مجلس الأمن الدولي.
بالطّبع اختلفت الأسباب. فالبعض اعتبر أنّ العراق سينتصر. لم أتوقّع هذا، فقد رأيتُ أنّ المسألة ستنتهي بهزيمة العراق. لكنّي كعادتي وكي أحدّد المواقفَ على أساس الربح والخسارة، وفي كثيرٍ من الحالات أقف إلى جانب الخاسر. ولم أندم على ذلك.
هذه هي المشكلة الأولى التي واجهت الدولة الجديدة، وهي مشكلةٌ كانت لها مترتّبات اقتصاديّة أدّت إلى توقّف المساعدات من دول الخليج.
الدستور ومعارضوه
أمّا المشكلة الثانية التي ظهرت في وجه الدّولة الجديدة فهي مسألة الدّستور والاستفتاء عليه. برز جناحٌ داخل حزب الإخوان المسلمين في اليمن، بقيادة الشيخ عبد المجيد الزنداني وبعض الفقهاء، طالب بتعديل مشروع الاستفتاء قبل الاستفتاء لأنّهم اعتبروا، وعلى رأسهم الزّنداني، أنّ مشروع الدستور علمانيّ. بالطّبع هذا الأمر ليس صحيحاً، فهو اقترح أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريعات والقوانين. في المقابل، اعتبر الحزب الاشتراكي أنّ مشروع الدّستور لا بدّ أن يتمّ الاستفتاء عليه كما هو. وكان موقفُ الرئيس وموقف المؤتمر الشعبي العام ضبابيّاً وغير محسوم، فهم من ناحيةٍ أعلنوا أهمية الاستفتاء على الدستور كما هو ولكن من ناحية أخرى أرادوا كَسبَ الإخوان المسلمين ضدّ الحزب الاشتراكي. وقد أصرّ هذا الأخير على تنفيذ اتّفاقيّة الوحدة عبر الاستفتاء على مشروع الدستور وإقراره كما هو إلّا إذا رفَضَ الشّعبُ ذلك.
نشط الطرفان، الاشتراكي والإصلاح ومؤيّدوهما، في التّرويج لوجهة نظرهما وإقناع النّاس. وانقسمت الأحزابُ السياسية الأخرى. لكنّ الناصريّين والبعثيّين وحزب الحقّ، وهو حزبٌ إسلاميّ [زيدي]، واتّحاد القوى الشّعبية، وقفوا إلى جانب الاستفتاء على الدّستور وإقراره. والغريب أنّ الحركاتِ الإسلاميّة في الوطن العربي، وتحديداً في السودان نصحت الإصلاح بالموافقة على الدستور كما هو لأنّه ينصّ على أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرّئيس للتّشريع وهذا كافٍ، وأنّ دين الدولة هو الإسلام وهو أمرٌ موجودٌ في العالم العربي بكامله والإسلامي كذلك. خلال هذه الفترةشاركتُ مع كثيرٍ من الإخوة في قيادة الحزب بمناظراتٍ تلفزيونيّة مع بعض رموز الحركة الإسلامية في اليمن وقد دُهش الشارع اليمنيّ حين رأى أنّ ممثّلي الأحزاب الاشتراكية يستوعبون الثقافة الإسلامية قدر استيعاب ممثّلي التيار الإسلامي لها. كما شاركتْ في المناظرات شخصيّاتٌ سياسية يساريّة ويمينيّة. واستمتع الشارع اليمنيّ للمرّة الأولى بالاستماع إلى وجهات نظر عبر مناظراتٍ علنيّة. وتمكّن حزب الإصلاح من حشد عشرات الآلاف من المتظاهرين المعارضين للدستور والاستفتاء بفتاوى شرعيّة. لكنّ علماء وفقهاء المذهب الزّيدي، كما المذهب الشافعيّ، تصدّوا لفتاوى حزب الإصلاح وردّوا عليها وقرّروا أنّ الدّستور إسلاميًّ وأنّه ليس ضدّ الإسلام. واتّضح فيما بعدُ أنّ التيارَ الإسلامي في حزب الإصلاح لم يكن موحّداً في وجه الدّستور لكنّهم أخفوا هذا الخلاف داخل الحزب وأيّدوا أخيراً وجهةَ نظر الجناح المتشدّد من دون قناعة. أعتقد أنّ هذا مكسب للحزب إذ أراد إحراج الحزب الاشتراكيّ وانتزاع مكاسب مستقبليّة. في المحصّلة، قاطع حزبُ الإصلاح الاستفتاءَ على الدستور، لكن كانت الأغلبيّة في النتيجة النهائيّة لصالح إقرار الدستور، واضطرّ المؤتمر الشعبيُّ العام الى أن يؤيّد الاستفتاء بعد محاولةٍ لحمل الحزب الاشتراكي على تقديم تنازلاتٍ تتعلّق بتعديل الدستور لكنّ الحزب رفضَ، ما اضطرّ حزب المؤتمر الى تأييد الدّستور.
إرث المعارضات المتبادلة
أما ثالث المشاكل التي واجهت الدولة اليمنيّة الجديدة فهي التعاملُ مع المعارضة السّابقة للنّظامين وقد أيّدا كلاهما معارضة النظام الآخر. بالطّبع غيّر وجود الحزب الاشتراكي اليمنيّ في صنعاء بدولته وجيشه موازينَ القوى وأخذت القوى السياسية التي عارضت النّظام في صنعاء بخلق اصطفافٍ عريض وعقْد مؤتمراد شعبيّة تطالب بمطالب تحديثيّة بنّاءةٍ كتطبيق القانون ومكافحة الفساد. استفزّ هذا الأمرُ قيادة المؤتمر الشعبيّ العام فشجّعت المعارضة السابقة للنّظام في الجنوب ودفعتْهم للمطالبة بتغيير القوانين السّابقة في الجنوب كقانون التأميم وبمنحهم مناصب في الوزارات والإدارات وجاهروا بمعارضتهم للحزب الاشتراكي. نحن في حزب الوحدة الشعبيّة، فرع الحزب الاشتراكي اليمني، امتلكنا آلاف المقاتلين الذين كانوا في حرب العصابات وقد تمّ استيعابهم في جيش الجنوب قبل الوحدة وحصلوا على وظائف هناك. وبعد الوحدة قرّر الرئيس علي عبد الله صالح والمؤتمر الشعبي فصْلهم جميعاً من سلك القوّات المسلّحة والأمن وحرمانهم من الرتب العسكرية، ولم يستطع الحزب الاشتراكيّ إعادتهم إلى أعمالهم السابقة. لقد شكّل هذا الأمر أزمةً داخل الحزب الاشتراكي، حيث راح المفصولون يحتجّون على الحزب معتبرين أنّه فرّط بهم وكان يجب عليه الدفاع عن حقوقهم. وبعد تأكد المؤتمر الشعبي والرئيس أنّ الحزب الاشتراكي فشل في حلّ مشكلة هؤلاء وقد خسروا ولاءهم، أخذ حزب المؤتمر يستقطبهم إليه ويحلّ مشاكلهم، وقد انسحب جزءٌ من أعضاء الجبهة الوطنية وحزب الوحدة الشعبية من الحزب الاشتراكي في الشمال وانضمّوا إلى المؤتمر الشعبي العام، وقد عمدوا إلى حلّ مشاكل هؤلاء بعد ذلك. وكان بإمكان قيادة الحزب رفضُ هذا الأسلوب المتّبع من قبل الرئيس والمؤتمر لكنّ قيادة الحزب تصرّفت بنوعٍ من المراعاة، لم تردْ إثارة خلافٍ مع الرئيس والمؤتمر لكنّ الرئيس نجح في منع حلّ مشاكلهم جماعيّاً، ليحلّها لاحقاً بشكلٍ فردي، وشكّلت هذه بداية الأزمة بين قيادة المؤتمر وقيادة الحزب الاشتراكي اليمني كما خلقت مشاكل داخل الحزب.
أما المشكلة الرابعةُ التي واجهت الدولة الجديدة فهي الاختلاف حول الإدارة الحكومية، من حيث تنظيمُ وحدات الجيش ودمج المؤسسات، وكيفيّة دمج المؤسسات المدنيّة والعسكرية خصوصاً. فالحزب يرى أنّه لا بدّ من توحيد الجيش على أساس المؤسسة والقوانين والمستويات العلمية والكفاءة كما هي الحال في الجنوب سابقاً، لكنّ المؤتمر الشعبيّ رفض أن تكون هناك قيادات عسكريّة من الجنوب في المراكز الأولى للجيش، وقد ألحّ على بقاء النظام الإداري القائم في صنعاء، وقد كان نظاماً متخلّفاً قديماً قائماً على الفوضى. وأراد الحزب نظاماً إداريّاً حديثاً، وقد راح يفاخر بأنّ النظام الإداريَّ في الجنوب أكثر حداثة لأنّه يرجع إلى النظام الإنكليزي والروسي، بينما النظام الإداريّ في الشمال موروثٌ من الأتراك، ويقوم على الفوضى والتخلّف والرشوة.
المشكلة الخامسة في التعامل مع السياسة الخارجية حيث أراد الشمالُ أن تسود السياسةُ التي كان يتبعها في السابق. بينما مال «الحزب الاشتراكي اليمني» إلى سياسةٍ أخرى أكثر عمليّة مفادُها أنّه لا بدّ من تحسين التعامل مع دول الخليج والدّول العربية الأخرى.
والمشكلة السادسة التي برزت أمام الدولة الجديدة هي مشكلة القوانين، فقد أراد جانبٌ من الشمال تغيير كلّ القوانين السابقة في الجنوب كي تصبح موافِقةً للقوانين السائدة في الجمهورية العربية اليمنية، بمعنى آخر موافقةً للنّهج السياسي في الشمال. على سبيل المثال في قضية المرأة كان هناك قانونٌ للأحوال الشخصية متحرّرٌ جدّاً وأرادوا في صنعاء أن تكون القوانين إسلاميّةً بالمطلق أو قريبة للحنبليّة، كذلك الأمر بالنسبة للقوانين الاجتماعيّة. كانت توجد خلافات على القوانين كلها. وبإمكان القارئ متابعةُ هذه المسألة وهذه القوانين في كتابٍ من تأليف محمد أحمد المخلافي بعنوان «الدولة والقانون في الأزمة اليمنية».
إضافةً إلى المشاكل آنفة الذّكر برزت مشكلةٌ إضافيّةٌ تمثّلت بنشوء حركاتٍ إسلامية سرية جهاديّة راحت تغتال أعضاء الحزب الاشتراكي اليمني، حيث تمّ اغتيال عدد كبير من أعضاء الحزب بشكلٍ سري ومهاجمة منزل رئيس الوزراء حيدر أبو بكر العطاس بالقنابل. واستمرّ هذا الحال إلى ما بعد الانتخابات. فبين الفترة الانتقالية والانتخابات ووقوع الأزمة بين الحزبين، اغتيل مائة وخمسون عضواً وكادراً من أعضاء الحزب الاشتراكي اليمنيّ إلى جانب بعض الشخصيات الأخرى ومنها عمر الجاوي. ولم تتّخذ الدولة أيَّ إجراءات ولم يتمّ القبض على أحد أو محاكمة أحد. وقد تعرّضتُ شخصياً لعدّة محاولات اغتيال، لكن كان يتمّ إبلاغي عن هذه المحاولات من قِبل عناصر تنتمي إلى المنطقة التي أنتمي إليها. كما تعرّض الأمين العام الحالي الأخ علي صالح عباد - (مقبل) لمحاولة اغتيال في محافظة أبين من قبل أحد زعماء الأفغان العرب طارق الفضلي وهو عضو اللجنة الدّائمة حاليّاً في المؤتمر الشعبي العام وكان أسامة بن لادن هو مَن موّن وموّل حملات الاغتيال. وهؤلاء لم يعاقَب أحدٌ منهم.
وعندما أبلغوني أنّ هناك محاولاتٍ لاغتيالي لم أقْدم على أيّ شيء سوى إبلاغ قيادة الحزب لأنّي رأيت أنّ هناك اغتيالاتٍ عدّة تحصل من دون أن يعاقَب عناصرُها. فاكتفى الحزب بإرسال
رسائل احتجاج الى قيادة المؤتمر الشعبيّ العام، وقد سمعتُ أيضاً أنّي سوف أتعرّض إلى محاولة اغتيالٍ عند زيارتي لأميركا. ولكن هذه محاولة سمعتُ بها بعد عودتي.
خطط تصفية عسكرية
أشرتُ فيما سبقَ إلى المعضلات التي واجهتْها الدولة الجديدة الموحّدة. تلك المعضلات التي تُعدّ موضوعيّة وواقعيّة وموجودة على أرض الواقع ولها علاقة بمصالح الناس ودرجة التطوّر والثقافة. وأشرتُ أيضاً إلى ما هو داخليّ وخارجيّ وما برز كمشكلاتٍ حقيقيّة أمام دولة الوحدة الجديدة وأدّى في النهاية إلى ما عُرف بـ«الأزمة» ثمّ الحرب.
أودّ الإشارة هنا إلى أنّه في العام ١٩٩٢ اتخذَت الحكومة بعض الإجراءات المتعلّقة برفع الأسعار. تضرّر المواطنون من هذه الإجراءات فتظاهروا احتجاجاً وقد عمّت التظاهرات معظمَ المدن الشمالية، وتركّزت معظمها في تعزّ وصنعاء وذمار، ولم تشهد المحافظاتُ الجنوبيّة أيّ تظاهرات. ردّد المتظاهرون شعاراتٍ مناهضةً للفساد ومطالبة بالديمقراطية. وتوجّهَت التظاهرات بشكلٍ أساسي ضدّ المؤتمر الشعبي العام وقيادته على اعتبار أنّها السلطة الأكثر نفوذاً، وتركّز احتجاج الناس ضدّ الفساد وضدّ بعض الشخصيات التي اعتبرت فاسدة. لم تعلن أسماءٌ ولكن بدا واضحاً أنّ المقصود شخصيّاتٌ قريبةٌ من الرئيس ومن قيادة المؤتمر الشعبي العام.
لم تشهد مدنُ الجنوب تظاهراد لأنّ النّاس لم يكونوا مستعدّين لها. لقد استفزّ ارتفاع الأسعار المواطنين في المدن الشمالية أكثر ممّا فعلَ في الجنوب. وبطبيعة الحال، اتُّهمتْ قيادة المؤتمر الشعبي العام والرّئيس الحزبَ الاشتراكي بالوقوف خلف التّظاهرات وكذلك اتُهم الناصريون. لا أعتقد أنّ أيّاً من الطرفين خطّطَ للموضوع على الإطلاق، ولا يعني هذا عدم مشاركة أعضاء في الحزب الاشتراكي في التّظاهرات، فمنهم من نزل إلى الشارع مع الناس بصفتهم مواطنين، إلا أنّه لم تكن هناك على الإطلاق تعليمات قيادية لقيام التّظاهرات. نحن موجودون في الحكومة ورئيسُها من حزبنا والأخير شريكٌ في المسؤولية، لكنّ الاحتجاجات توجّهت ضدّ إجراءات الحكومة، كما بدا أنها موجّهةٌ أيضاً ضدّ من أثْروا الثراء الكثير [على حساب المال العام]. هنا حشدتْ قيادة المؤتمر الشعبي العام حلفاءها من حزب الإصلاح وغيرهم، وللمرّة الأولى فكّروا بتنفيذ خطّة عسكرية. تبادلوا الرّأي حول مقترحِ ضرب الحزب الاشتراكي عسكريّاً لأنّ القيادة اعتبرتْه المسؤولَ عن التظاهرات في صنعاء ومحيطها. وقد تسرّبتْ إلينا في ذلك الوقت بعضُ الأخبار التي لم أصدّقها ولم تصدّقها القيادة، أخبارٌ تقول إنّ شريككم في الحكم يفكّر في حسم الموضوع عسكريّاً.
منذ عامين زرت بريطانيا، وهناك قابلتُ الدكتور عبد الملك المتوكّل، ومحمد علي أحمد والأخير عضو قياديًّ في الحزب الاشتراكي، وكان نائباً للرئيس في العام ١٩٩٢ يعتمدُ عليه حتّى أزمة ١٩٩٤، وكان اتّخذ موقفاً [إلى جانب علي ناصر محمد] ولكنه ما لبث أن عاد إلى الحزب الاشتراكي. والرّجل [محمد علي أحمد] شجاعٌ وصادق، اختلفتَ معه أو اتّفقت يبقى كذلك، ومن الواضح أنّه لا يعرف المناورة. قابلتُه في لندن وأردتُ مناقشتَه حول معلوماتٍ بحوزتي عن تفكير القيادة العسكرية والمؤتمر الشعبي باتّخاذ إجراءاتٍ عسكريّةٍ ضدّ الحزب الاشتراكي، شريكه في الحكم في العام ١٩٩٢.
أردتُ أنا والدّكتور محمد عبد الملك المتوكّل التثبّت من هذه المعلومات. وبعد الغداء كان لقاءٌ بدا فيه محمد علي لطيفاً معنا. تناقشنا حول طبيعة الأمور في العام ١٩٩٢ وسألتُه عن صحّة وجود خطّة لتصفية الحزب عسكريّاً خلال ذاك العام. أجاب مؤكّداً صحّة الأمر وبأنّه كان مكلّفًا [بتنفيذها] في الجنوب، وقال إنّه وأصحابه كان لديهم مقترحٌ بتصفية قيادة الحزب الاشتراكي القادمة من الجنوب و[المشاركة في] الحكومة في الشمال. وأضاف أنّه اتّضح له أنّ الرئيس والمحيطين به لا يريدون تصفية الحزب الاشتراكي فحسب بل يرغبون في الثّأر لهزيمة الجيش في الشمال العام ١٩٧٩ خلال مواجهته مع جيش الجنوب، هم أرادوا تدمير جيش الجنوب، وقال إنّه بعد ذلك كلّه رفض المشاركة [في تنفيذ الخطة].
كانت هذه واحدة من الخطط. أما الخطّة الثانية فهي وضْعُ نقاط تفتيش في المفترقات حيث يتمّ اعتقال قياديين في الحزب الاشتراكي وقتل من يقاوم أو يرفض الاستسلام، وكذلك اقتحام منازل القياديين والإعلان للشّعب أنّ الحزب الاشتراكيّ أراد أن يقوم بانقلابٍ فتتم تصفيتُه عسكريّاً. لم ترد هذه الخطّة الأخيرة المتعلّقة بالانقلاب في حديث محمد علي أحمد ولكن وردتنا من مصادر مختلفة. وقد أبلغَنا محمد علي أحمد أيضاً أنّ الرّأي استقرّ بعد ذلك على أنّ هذه التّظاهرات وتداعياتها لا تكفي حجّةً لإعلان الحرب ولا بدّ من التريُّث، فقرّروا تأجيل الصراع.
سارت الأمور بعد ذلك وعاد الهدوء إلى البلاد، لكن بقيتْ عوامل الأزمة موجودة وفاعلة وأدّت إلى تفاقم المشكلة وتحديداً الأزمة الاقتصادية. وبقي تأثير الضغوط المختلفة الداخلية والخارجية على هذه العمليّة. وعلى أثر التظاهرات جرت اعتقالات وأطلق سراحهم فيما بعد، كما قُتل عددٌ من المتظاهرين تحديداً في تعزّ وصنعاء. وقد أرادوا تحميل الحزب الاشتراكي والناصريين المسؤولية لكنّهم لم يجدوا حججاً حقيقيّة وأدلّة، فقد كانت المشاركات مبادرات فردية. طبعاً، انتهت المشكلة لكنْ بقيت خمائر المشكلة قائمة، وقد بقي الوضع على حاله إلى عشية انتخابات العام ١٩٩٣.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.