أخيراً، أبصرتْ النور مخطوطة «تاريخ البقاع وسورية المجوّفة» للمؤرّخ عيسى إسكندر المعلوف، مخطوطة تَردّد اسمُها على ألسنةِ العديد من المؤرّخين والمهتمّين بتاريخ البقاع ردحاً من الزمن. وكنّا، لشدّة شغَفنا بمعرفة ما تتضمّنه من معلومات، على حدِّ ما تَناهى إلى مَسامعنا، نتساءلُ دائماً، لماذا لا تُنشرُ وتصبح في متناول الطلاب والمؤرّخين والباحثين.
أخيراً، قُدّر لهذا العمل أنْ يَشقّ طريقه إلى عقول المهتمّين بتاريخ البقاع ولبنان وأقلامهم. يعود الفضْل في ذلك إلى الدكتور فواز طرابلسي، الباحث دائماً عن الحقيقة، الذي أدركَ أهمّيّة المخطوطة، وما يمكن أن تشكّله من دعامةٍ معرفيّة في إعادةِ إنتاج تاريخ البقاع وتالياً تاريخ لبنان الحديث.
أنقذَ المخطوطةَ وأبعدَ عنها العبَثَ الذي لعب بلبنان خلال ما يُسمّى بالحرب الأهليّة. لم يقتصر هَمُّ الدكتور طرابلسي على حماية المخطوطة وصيانتها، بل زادَ إلى هذا الهَمِّ همّاً آخرَ هو العملُ على تحقيقها وطباعتها ونشرها للاستفادة منها.
إنّ تحقيق المخطوطات ليس بالعمل السهل أو اليسير، بل دُونَه عقباتٌ ومصاعبُ كثيرة. ولا يمكن لأيّ أحدٍ القيام بهذه المهمّة الشاقة، إلّا إذا كان مؤرّخاً يتمتّع بالحسِّ النقديّ ولديه خبراتٌ بالعمل البحثيّ ويمتلكُ مهاراتٍ بمنهجيّة الكتابة التاريخيّة وعنده الإلمامُ الكافي بالمدارس التاريخيّة الكبرى، وعلى معرفةٍ بالحيّز الجغرافيّ الذي رسمتْه المخطوطة، ومُطّلعاً على ظروف السكان في هذا الحيّزِ وسلوكهم وعاداتِهم وتقاليدهم.
توافرتْ هذه الصفاتُ بالدكتور زهير هوّاري الذي قَبِلَ بهذه المهمّة وهذا الهَمّ. إلّا أنّ هذه الصفاتِ العلميةَ التي يتمتّع بها الدكتور زهير لم تكن وحدَها الكفيلةَ بإخراج هذا العمل إلى النور، بل تساوتْ مع صفاتٍ شخصيّةٍ طاغيةٍ على حياته وعلى مسيرتِه العلميّة الطويلة. فهو الموضوعيّ، والدقيق، والصَّبور الجَلودُ، والصادق الأمينُ على نقل المعرفة. إنّ امتحانَ الدكتور زهير للصحافة مدّةً من الزمن وشغفَه بالناس وبأفعالهم وأفكارهم انطلاقاً من الفكر العلميّ الذي مارسَه معظمَ حياته، قد أسهَما في إتمام هذا العمل.
لا ننسى أيضاً دَورَ الدكتور فارس اشتي، مايسترو الثقافة في المجلس الثقافي للبقاع الغربيّ وراشيا، ودور رئيس المجلس وأعضائه وأعضاء مجلس زحلة الثقافيّ في دعم التوجُّه الذي أفضى إلى إنجاز هذا الكتاب.
المنهج العلميّ
اعتمد المحقّقُ منهجاً علميّاً مناسباً في تحقيقه للمخطوطة. فدرَسَ أوّلاً مَسار حياة المؤرّخِ التعليميّة والمهنيّة، وأعطى فكرةً واضحةً عن كل التحوّلات التي شهدتْها حياتُه والتي أدّتْ إلى بلورة شخصيّته العلميّة والثقافيّة. لا شكّ في أنّ الاطّلاع على حياة المؤرّخ ومَسارِها، ومعرفةَ الظروف الذاتية والموضوعيّة للبيئات التي عاش فيها، يشيران إلى العمق المعرفيّ والثقافيّ الذي اكتسبه خلال مشواره الطويل. إنّ شغَفَ عيسى المعلوف بالمطالعة، وإجادتَه لثماني لُغات، والعملَ في مهنة التدريس ثمّ في الصحافة محرّراً وكاتباً ورئيسَ تحرير، واهتمامَه بالآثار والتاريخ حيث عمل مشرفاً على آثار بعلبكّ، والتحاقّه بالثورة العربية وتَولّيه وظيفةَ شعبة الترجمة والتأليف التي تحوّلت لاحقاً إلى مجلس المعارف، وتأسيسَه مع عددٍ من الأدباء المجْمع العلميّ اللبناني، وتنقّلاتِه بين بيروت ودمشق والقاهرة والتي مكّنتْه من الاطِّلاع على خزائن الكتبِ والمخطوطات، وتواصُلَه الدائم مع النخَب العربية المثقّفة، كلّ ذلك مكّنه من البحث في التاريخ والأدب والآثار والحضارات والعادات والتقاليد واللغات واللهجات وغيرها من العلوم.
أوّل تاريخٍ حديثٍ عن البقاع
لم يتّفق المؤرّخون والباحثون والمهتمّون على تعريفٍ واحد لأهمّيّة البحث التاريخي العلمي. لكنّ أبْسطَ هذه التعريفات وأكثرَها موضوعيّةً هو إظهار الحقيقة بما هو متوافرٌ من دلالات. بمعنى أدقّ هو إنتاجُ معارف جديدة لم تكن معروفةً أو إعادة إنتاج معارف وفقاً لمعطياتٍ جديدة تُسهم في إرساء حقائقَ مشوّشة أو غيرِ ثابتة، بهذا المعنى يمكن المساهمة في تقييم هذا الكتاب من النواحي التالية:
أوّلاً: ليس على حَدّ علم الدكتور طرابلسي فقط، بل على حَدّ علمي الشخصي أيضاً، أنّه لا يوجدُ حتى الآن كتابٌ في التاريخ الحديث يتناول البقاع عبر الأزمنة. لقد ورَدَ اسم البقاع، أو تسمياتُ البقاع، في الكثير من الوثائق والمصادر والمراجع التاريخيّة. لكنّ هذا الأمرَ كان يتمّ في معرض نقاشٍ أو معالجَة أو بحثِ قضيّةٍ أو ظاهرةٍ أو تاريخ عامّ. لم يكن البقاع يشكّل القضيّةَ المركزيّةَ للبحث كما هو الحال في «تاريخ البقاع وسورية المجوّفة» لعيسى إسكندر المعلوف، ولأنّ البقاعَ يفتقرُ إلى دراسةٍ تاريخيّةٍ أكاديميّة، عمدْنا منذ فترة إلى تكليف طلاب الماستر بإعداد رسائلَ تتناول جوانبَ مهمّة من تاريخه. كما بدأ عددٌ من الأساتذة، وأنا منهم، بكتابة تاريخ البقاع بين الولاية والإمارة، استناداً إلى الوثائق العثمانيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، وسيبصرُ الكتابُ النورَ في العام المقبل. إنّ هذه المخطوطة تشكّل مصدراً معرفياً هامّاً للطّلاب والمؤرّخين والباحثين في تاريخ البقاع وتاريخ لبنان.
ثانياً: لقد اعتمد المؤرّخ على مروحةٍ واسعة من المخطوطات والمصادر والمراجع التي كان الحصولُ عليها في ذلك الوقت أمراً صعباً. فوثّقَ المعلوماتِ ونقَلَ منها ما يخدمُ تاريخَه بأمانةٍ علميّةٍ. إنّ عدداً من المخطوطات والمصادر المستعمَلة في المخطوطة لم يكنْ معروفاً أو متداوَلاً، فكشْفُ النقابِ عنها يُعدّ بحَدّ ذاته عملاً جليلاً لأنه سيُعطي الباحثينَ مادّةً معرفيّة حين العودةِ إليها كأصولٍ تاريخيّة.
تعدُّدُ الحقول البحثيّة
ثالثاً: ليس على حَدّ علمي أنّ أحداً من المؤرّخين نحا منحى المعلوف في دراسة أسماء القرى والمدن والأماكن بهذا العُمق وبمنهجيّةٍ مختلفةٍ عن كل المنهجيّات المعروفة. فهو يَعتبرُ أنّ تحليل الأسماء ورَدَّها إلى أصولها يؤدّي إلى استنتاجاتٍ مهمّة في ما يتعلّق بتطوّر شؤون البلاد. وقد استعمل لهذه الغاية مسألتين مهمّتين، الأولى، معرفتُه بثماني لغات، والثانية معرفتُه وعملُه في الآثار. يمكن القولُ إنّ المعلوف هو السبّاقُ في استعمال هذه المنهجيّة المهمّة التي دخلتْ إلى الحقل البحثيّ الأوروبيّ منذ ثمانينيّات القرن الماضي عبر ما يُعرف بفتح المسارات التعليميّة والبحثيّة على بعضها البعض، ولا شكّ في أنّ هذه المنهجيّة التي تستعملُ أكثرَ من حقلٍ بحثيٍّ تؤدّي إلى إغناء البحث وتحصينه بالمعارف المختلفة.
رابعاً: صحيحٌ أنّ المعلوفَ أخذَ بعين الاعتبار ما وردَ في الأساطير من معلومات، خصوصاً في ما يتعلّق بأسماء القرى والأماكن ورَدّ معظمها إلى أسماء الآلهة التي كانت تُعبَد في ذلك الزمن، إلّا أنّه تعاطى مع الأمر بجِدّيّة وبتحليلٍ منطقيٍّ بدَتْ وكأنّها حقائقُ تاريخيّة.
خامساً: لم يقبل المؤرّخُ المعلوماتِ التي استَقاها من المخطوطات والمصادر والمَراجع كما هي، بل تدخّلَ في معظم الأحيان محلّلاً وغيرَ متوافقٍ مع بعضها، بل استعمل معلوماتٍ أخرى لإعطاء وجهة نظرٍ مُغايرة. وهذا يدلّ على حِرفيّة عالية في التأريخ.
سادساً: لقد استعمل المعلوفُ أكثرَ من منهج تأريخيّ. لكنّ ما لفتَني هو استعمالُه للمنهج الكلّيّ القائم على توسيع الحيّز الجغرافيّ واعتباره وحدَةً مترابطةً في التاريخ والجغرافيا، لذلك يمكن فَهمُ إضافة «سورية المجوّفة» إلى عنوان تاريخ البقاع.
سابعاً: تناولَت المخطوطةُ بعضَ العادات والتقاليد التي استمرّتْ عشرات السنين ثُمّ اختفتْ بفعل ظروفٍ معيّنةٍ كخميس الدوسة (المعروفُ في قرى البقاع الغربي بخميس الدعسة). الحقيقة أنّ هناك الكثيرَ من العادات والتقاليد التي مارسَها سكانُ المنطقة فترةً طويلة من الزمن اختفتْ ولم تطاولها الأقلام إلّا لماماً. إنّ لِمعرفتها أهميّةً قصوى في دراسة أوضاع الناس الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
ثامناً: المتمعّنُ في مضمون المخطوطة يدرك أنّ المؤرّخ طرَحَ العديد من المسائل الإشكاليّة والأفكارِ الجديدة التي تفتح الطريقَ أمام الباحثين والمؤرّخينَ للقيام بأبحاثٍ حَولها وتقصّي الحقائق. إنّ تَوصّلَ المؤرّخ إلى استنتاجاتٍ جديدة وطَرْحَ قضايا لم تكن معروفةً أو لم تصِلْ إلى المهتمّين لَهُو أمٌر صحّيّ في مجال البحث العلمي.
تاسعاً: لقد أفردَت المخطوطةُ مساحةً واسعة للحديث عن الثقافة وعلماء وأدباء البقاع وسورية المجوّفة. أكاد أجزمُ أنّ أحداً من المؤرّخين لم يتوصّلْ إلى ما توصّلَ إليه المعلوف من معلوماتٍ حول هذا الأمر.
عاشراً: لا شكّ في أنّ المعلوف كتَبَ بلغةٍ عربيّةٍ صحيحة. فالواضحُ أنّه كان شغوفاً باللغة العربية.
على الرغم من المعلومات القيّمة والمهمّة جدّاً والمنهجيّات المختلفة التي استعملَها المؤرّخُ في مخطوطاته، إلّا أنّ هناك بعضَ الثغرات التي شابَتْ هذا العمل.
أوّلاً: الواضحُ أنّ المخطوطةَ لم تُكتَبْ في سياقٍ تاريخيّ واحدٍ، بل كُتبتْ على مراحل، وربّما يعود هذا إلى تَمرحُل وفرة المعلومات. فجاء السياق التاريخيُّ غيرَ متماسكٍ لناحية الموضوعات المطروحة للنقاش ولسنوات حدوثها.
ثانياً: تكرارُ المعلومات واضحٌ في أماكن مختلفة من المخطوطة، ربما كان على المحقّق الانتباهُ لهذا الأمر.
ثالثاً: أكثرُ ما لفتَني في هذه المخطوطة قضيّةُ التملّك والتطويب والمساحة. من ص ٦١٢ إلى ص ٦١٤.
ثغرات في مسألة انتقال الملكيّة
على الرغم من أنّ المؤرّخَ قد عايَشَ تلك الفترةَ التي حصل فيها (التملّك) كما جاء في المخطوطة، إلّا أنّ المعلومات التي وردتْ بحاجةٍ إلى تدقيقٍ أكثرَ وإلى نقاشٍ أوسعَ وإلى مزيدٍ من التقصّي للوصول إلى الحقيقة. أقول هذا، لأن مشكلة تملّك الأراضي بين عنجر وجبّ جنين ما زالت قائمةً حتى اليوم خصوصاً في قرية حوش الحريمة أو فيما سُمّي «أراضي الجفتلك».
دَلّت الوثائق التي حصلتُ عليها من دمشقَ في مركز الوثائق التاريخية (وهي الآن في مكتبة الأسد، ونسخةٌ منها موجودة في الأزهر، وثَمّة نسخةٌ أخرى بحوزتي) أنّ الأراضي الممتدّة من عنجر إلى جب جنين هي أراضٍ وقفيّة. وما زالت بعض الأراضي حتى اليوم معروفةً بأرض الوقف. حتى أنّ تسمية حوش الحريمة ورَدَ في الوثائق أنّها «حوش الحرمَين».
أشيرُ إلى أنّ هذه الأراضي قد اقتُطعتْ للوقْف عند دخول المسلمين إلى المنطقة، وبقي ريعُها يذهبُ إلى الحرمَين، مكّة والمدينة، حتى أواخر العهد العثماني حين أصبح الولاةُ أباطرةً في ولاياتهم ولم يعُدْ للإدارة المركزيّة في الأستانة أيُّ دَور رقابيّ على أعمالهم والأفعال. تملْك درويش باشا الجفتلك، وتملّكتْ اُسرٌ شاميّة (النعماني، البيطار وغيرهما) أراضي أخرى.
إن معظم المعلومات التي وردَتْ في المخطوطة في هذا الجانب بحاجة إلى إعادة النظر، بخاصّة تلك المتعلّقة بانتقال الملكيّة زمنَ الانتداب الفرنسيّ. فالمخطوطة لم تخبرْنا عن كيفيّة الانتقال وآليّاته. وما زالت المحاكمُ منذ عشرات السنين تنظر حتى الآن بأمر جزءٍ من الجفتلك المتنازَع عليه خصوصاً الأراضي التي بُنيتْ عليها حوشُ الحريمة.
أنهي بالقول إنّ هذه المخطوطة أصبحت الآن بين أيدي المؤرّخين والباحثين والمهتمّين. ولا شكّ في أنّها إحدى مصادر تاريخ البقاع الهامّة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.