أنتظر. أنتظر الإلهام والوحيَ الإلهيّ حتى طعنتُ الإبداعَ وهضمتُ البدءَ وقرّرتُ المصير. في البدء كانت الكلمةُ وعضالٌ يستهلك حتى النّفَسَ الأخير.
كيف أبدأ؟
أنهيتُ الجزء الثالث من هذه القصص التي لا تنتهي، من سلسلة «الميرم» حتى خانتْني مرآةُ كلماتي، وخانتْني أيضاً يومَها نرجسيّتي. وقرأتُ ما كتبت، وكتبتُ عمّا قرأت، فألغيتُ العدد الثالث وانتظرت. انتظرتُ الإلهام. انتظرتُ الخلقَ حتّى الاستفراغ الأخير.
هل أكتبُ من جديد أم أعيدُ إرسال ما كتبْت! لا تعجبُني فيّ هذه الـ«نفسيّة» المنقرفةُ والسلبيّة البشعة!
إذا كنتَ تقرأني الآن فأرجوك تجنّبْ مضايقاتي ومضايقاتِ كلماتي. إذا كنتَ مدخّناً فلتدخّنْ سيجارةً أو اطلبْ قهوةً أو أيّ عصيرٍ أو أيّ شيء.
عفواً، حصرتُ قارئي على أنّه في مطعم. إذا كنتَ في البيت، فافعلْ أيَّ شيءٍ تريد ولكن ابتعدْ عن سطوري. ولأتأكّدَ أنك ستعود نظيفاً من طاقتي السلبية، سأتوقّفُ عن الكتابة هنا وأمهلك وقتاً، خذْ وقتَك فالصفحةُ بيضاء. أمهلُك إلى أن تعودَ مبتسماً منطلقاً!
صفحةٌ جديدةٌ لأنّني أريد أن أتجدّد معها وأتماهى ببياضها وألوّثَها أفكاراً:
الحقيقة لم أتوقّعْ أنّني سأباشرُ بكتابة الفصل الثّالث بهذه السرعة مع أنّني أخذتُ الكثيرَ من الوقت، لا بل ماطلتُ في المباشرة. على الرّغم من ذلك، أدركُ أنّ الوقتَ مرّ بسرعة وأنّني اليوم في عامي الواحد والثلاثين، بمعدّل ٢١ عاماً من عمر البلوغ، ٢٥٢ دورةً شهريّة، ١٥١٢ يوماً من النجاسة حسب بعض الأعراف ومن الخصوبة حسب البعض الآخر.
كيف يمرّ بهذه السّرعة ولا ألاحظُه؟ سأعتمدُ المساءلةَ الـ«المتفذْلكةَ». هل هي التكنولوجيا ووقوفُنا لساعاتٍ أمام الشاشات؟ هل هو العملُ والدوام والرغبة فقط في التوقّف والتنفّس؟ هل هو الخوفُ من التوقّف وبالتالي اتّخاذ قرار متابعةِ العمل إذا قبلنا بأن نكون نحن المكنةَ والمكننة؟ هل هو داءُ الاستهلاك الذي أصابَنا؟ أم أنّها محاولةٌ منّا أن نسهى عمّا يحدثُ حولنا من موتٍ فموتٍ وموتٍ وموتٍ حتّى الموت الأخير؟
كيف اغتال الإنسانُ الأرض؟ كيف صمّم على اغتيالها وبدلَ أن يعبدَها باشرَ بقتلها بدمٍ بارد، ونصّب نفسَه ربّاً عليها واعتبر كلّ مخلوقاتها عبيداً له؟ فالماء عبد المكننة والنفطُ عبد المكننة والخشب والحجر والشجر والبشر، مكننة!
صدى الصّمت يجتاح المكننة!
عندما أتأمّل الآن بحالي منذ العدد السّابق من «بدايات»، وما قد سأكون عليه بعد قليلٍ من الزمن الفاني الأبديّ! فقط عندما أتأمّل، أرى فرقاً كبيراً بيني أمس واليوم والغد. يتجلّى تطوّرٌ سريعٌ وشفّاف بأحلى حالاته في السّرد والاعتراف المونودراميّ هنا.
عندي رغبةٌ قبل البدء بسرد «الميرم» بالاعتراف أنّني أخاف من نفسي، من قدرتي العالية على مشاركة القارئ بكلّ عواطفي ومواقفي وخوفي وهواجسي وأحلامي وتوقّعاتي ولا سيّما وَجَعي.
استوقفني أحدُ العابرين في سبيلي يوماً وعبّر عن إعجابه بقصصي، لكنّه رمقني بنظرة استغرابٍ أقرب إلى الاشمئزاز: «كيف فيكِ تقولي كل شي. كل شي . ولو! منعرف كل شي ..ما تركتِ إلك ولا شي؟».
كان معه كلّ الحقّ! لا! لا يملك أيّ حقّ! تبّاً! ألن أجدَ زوجاً لي يقبل بكلّ هذه الطلاقة؟ أم سأصل إلى الطلاق بعد الطلاقة؟ لا يهمّني أبداً. أنا كلّ الذين تعتقدوني أنني أناه، لا يهمّني أن يهمّني من أناي فيكم! هل تعتقدون أنّكم تعرفونني، أنا؟
الفرضيّة الأفضل: أنا من تتحدّث معكم أعلاه. أنا هي. مريم. مريم كانت طفلةً وما زالت في داخلها.
ولدتُ داخل غرفة الجلوس في منزل عائلتنا في عكار العتيقة. أخرجتْني من بطن أمي دايةُ ضيعتنا. و«الدّاية» امرأةٌ تنجب الأطفال في كلّ منازل الحارات. كان وزني كيلو غراماً ونصفاً فقط، أي ما لا يُشبع أيّ رجلٍ جائعٍ جالسٍ على مائدة لحمٍ طازج.
في ذكرى مكانِ ولادتي، وضعَ أهلي تحفتَهم الملوّنةَ المشعّةَ حضاراتٍ وثقافات، صاحب العرش، الواحد الأحد في عكّار، الذي يصمت له الكل ويكاد يأخذ معه صورةً، نبْع المعرفة والتّسلية والبرمجة والكسل ومنبع أسماء الأولاد والأحفاد حسب ما يمليه علينا مُعدّو البرامج والمسلسلات، لا سيما المكسيكية منها والتركيّة. إنّه التلفاز!
ففففففففف. لا تعجبني هذه المقدّمة! لقد أوصلتْني الى مكانٍ مسدود.
ها أنا التي لا تصمتُ عن الترّهات وكأنّي أريد إيصالَ فكرةٍ ما وأنا لا أملكُ أيَّ فكرة أساساً وأسوّق لنفسي كمنظّرةٍ بلهاء.
لا بدّ من المحاولة مجدّداً:
من تتحدّث معكم أعلاه فتاةٌ ولدتْ كالبطّة السوداء من عائلةٍ قريبةٍ وبعيدةٍ من بعضها البعض نوعاً ما. حملَت أسئلةً كثيرةً، وكانت أمّها تتركُها مع أختها التي تكبرها بـ١٣عاماً ما سمح لها بتشرّب أمراض أختها بأسرعَ من أيّ طفلٍ آخر. على الأقلّ، وجدَت من يسمعُ أسئلتها. كانتْ أختُها إذ تعاقبُها تطلبُ منها الوقوفَ على أصابع قدميها، تقف الفتاةُ فيتحوّلُ العقاب إلى متعةٍ فرغبةٍ فموهبةٍ فشغفٍ فتمكّنٍ فرقص.
لعبتْ هذه الفتاةُ منذ الصغر بين الصّبية، وما زالتْ. تريد أن تكبر فقط وتردّدَ على نفسها ذلك: أنا صغيرةٌ كي أكبر. لا بأس سأكبر قريباً. وكلّما كبرتُ وجدتُني صغيرةً وأريد أن أكبر قريباً.
طفلةٌ تريد أن تكبر كي تغادرَ إلى العاصمة. لم تتمنَّ أنْ تصبح معلّمةً أو طبيبة «دكتورة» كما ينتقي الكثير من الأطفال عندما تسألهم معلّماتهم عمّا يريدون أن يصيروا في المستقبل.
ولماذا يسألون الأطفالَ هذا في الأصل؟
لمّا سألوها هذا السؤال، بطبيعة الحال أجابتْ «أريد أن أكون سعاد حسني». أريد أن أكون سعاد حسني في فيلم «صغيرة على الحبّ». للحقّ، ما زلتُ أعاني من هذه الحالة. وعلى فكرة، أردتُ أن أكونَ سعاد بالأبيض والأسود، لا الملوّن. بعد عامين ارتقيتُ في الاختيار: رغبتُ أن أكون شريهان، بالأبيض والأسود أيضاً، لا الملوّن. لا تعجبني الألوانُ الحقيقيّة فخيالي ألوانُه أفضل!
كلا. لا تعجبُني هذه المقدّمة أيضاً. لا أدري، ربّما يجب أن أتوقّفَ عن الكتابة الآن وأحاول غداً.
إذا توقّفتُ، ماذا سأفعلُ بالوقت! لا أناقض نفسي. الوقت يمرّ بسرعة ولكنّه استثناءٌ لهذا اليوم فقط!
ربّما أكتبُ لساعةٍ إضافيّةٍ كي يمرّ الوقت. هكذا يصلُ صديقي إلى منزله ونتابعُ حديثَنا على «الواتساب». نعم هو كذلك. سأكتب ليمرّ الزمنُ بسرعةٍ أيضاً هذه المرّة. وأبتسمُ لأنّني أدَعُ الوقتَ يمرّ على الأقلّ بطريقةٍ مفيدة.
هو ليس صديقي. إنّه حبيبي! أيّ علاقةٍ هذه على الواتساب! أفففففف
لماذا أخبركُم بهذه المعلومة أيضاً! معه حقّ أيّها القارئ! سأشدّدُ على بعض التفاصيل اللطيفة والحنونةِ إذاً في محاولتي الآتية لمقدّمةٍ أفضل لهذا الجزء. لن تعرفوا منّي إلّا ما أريدُكم أن تعرفوه. ولن تنزلقَ الكلماتُ منّي أبداً.
هي طفلةٌ ولدتْ. أصغر أخوتها وأكثرُهم حدّة. تمتّعتْ بخيالٍ واسع وأعتقد أنّها أدركتْ ذلك. لم تحبَّ بناتِ عمّها قطّ. ولطالما نظرتْ إلى الفرق الشاسع بين تربية أهلِها لها وإخوتِها ومدى الحرّيّة والتواضع فيها بالمقارنة مع نموذج بيتِ العمّ حيث الرعبُ والعنفُ والغرورُ حتى البكاء.
لطالما أدركتْ أنّها ستأتي إلى بيروت وقد تكون الفتاةَ الأولى التي تجازفُ بسمعتها وتنحرفُ عن الصراط المستقيم. ولطالما اعتقدتْ أنّها تتمتّعُ بقوّة خارقة عندما كانتْ تلعب «اللقّيطة». فوجئتْ على الدوام كيف يمسكُها الآخرُ في اللعبة مع أنّها عندما تركضُ تتحوّلُ إلى شخصٍ خفيّ! لكنّها لم تصارحْ أحداً بذلك لأنّها تعرفُ أنّه خَيالُها، فليكنْ لها ولِمَ لا؟ فماذا يملكُ الطفل سوى خيالِه؟
حتى لعبتُنا. نهرب ومن يمسك بنا. نستمتعُ بالقفص حتى النفَس الأخير.
رغبةً منها أن تعرفَ كيف تتّسعُ مذيعةٌ عملاقةٌ في تلفازٍ صغير، وكيف فعلاً يكون الشخصُ بالأبيض والأسود مع أنّنا ملوّنون؟ لا بل رغبة أكبر أن تعرف إلى أين تذهبُ المذيعةُ وكيف يتّسعُ التلفاز لها عند بدء برنامج؟ الرغبة الأكبر رغبةُ الفتاة بمعرفة شكل قدَمي المذيعة! صمّمَت الطفلةُ بخيالها الخارق على فتحِ التلفاز كي ترى ما يقبَعُ خلف الشاشة!
جرتْ محاولةُ اغتيالها، أمسكوا بالأذن اليسرى وقادوها إلى العقاب فالمتعة فالشغف فالتمكن فالرقص، فالاختلاف أولاً.
حسناً، ربما هي محاولةٌ أفضل من المقدّمات السابقة لأنّها بدأتْ تحرّك فيّ من الذكريات وبالتالي الموادّ للكتابة ما يعني زوالَ الوقت بخفّة وفائدة. وعليه إلى ذكرى أخرى، ذكرى عمود الكهرباء:
لمّا أرادتْ أن ترى كيف يُترجَم فعليّاً مصطلح «التيار الكهربائي»، وكيف أنّ عموداً خشبيّاً مزروعاً في الأرض وبأشرطة يخلُق كلّ هذا الضوء، حفرَت لأيّامٍ عديدةٍ تحت العمود حتى وصلَت إلى القاع وشاهدتْ بعض الأشرطة!
جرتْ محاولةٌ لاغتيالها. أمسكوا بالأذن اليسرى وقادوها إلى العقاب فالمتعة فالشغف فالتمكّن فالرقص، فالاختلاف أولاً.
كلّا كلّا، لماذا أقدّمُ صورتي كطفلة؟ لا أحكُمُ على نفسي! هذا غير صحيح! لا سيّما أنّني في الجزئين السّابقَين لم أتكلّمْ سوى عن الطفولة! سئمتُ من طريقة كتابتي هذه. سئمتُ منّي لأنّي ألجأ إلى الطفولة كلّما يضيقُ بي الواقعُ الأليم، لقد استنفدتُ طفولتي.
سأتوقّف اليوم. سأبترُ النوستالجيا السخيفة. سأفكّرُ بصديقتي الآن. بنفسي. كل جيلي مكتئبٌ، الكلُّ مكتئب. سأفكّر بالاكتئاب عموماً! بأسبابه وطرُق معالجته، إلخ.
قادمون يا بيروت
هل الأمرُ أنّنا فعلاً كبرْنا وعرفْنا طعمَ الحياة فلم يعجبْنا؟ هل كان في خيالنا مذاقٌ آخر؟ هل وصف لنا أهلنا الواقعَ بشكلٍ مغايرٍ فصُدمنا؟ نعم بالطبع، لقد حقّقنا استقلاليّتَنا وحرّيتَنا ولكن هل حقّاً هذه هي الحياة التي خُلقْنا منها ولها وقد ننجبُ أطفالاً فيها؟ إذا كانت كذلك، فأين ظلُّ الغيمة إذاً، ولماذا تُمطر من دون غيمةٍ وتغيّم من دون المطر؟
ربّما من الأفضل أن أغيّر مسارَ أحداث هذه القصة التافهة. حسناً لا بأس. سأتّجهُ مباشرةً إلى الجامعة، إلى معهد الفنون الجميلة، إلى بئر ارتوازيّةٍ من الأمراض النفسيّة ولكنّها أيضاً ساحةُ المعركة الحقيقيّة حيث تواجُه أمراضَك فإمّا تغلبُك أو تغلبُها.
في محاولةٍ منّي للتأكد من أنّ والدي سيوافقُ على توجّهي إلى بيروت، كنتُ قد بدأتُ تحضير جعبتي مذ بلغت العاشرة من العمر. لا أدري لمَ لم أحبّ طرابلس مع أنني اليوم مغرمةٌ بها بينما أنعى بيروت كشبه جزيرةٍ عربيّة.
دقّ النفيرُ وصرتُ سبعةَ عشر. ذهبتُ أخيراً إلى بيروت لاجتياز مباراة الدخول في اختصاص الصحافة في الجامعة اللبنانيّة. دخلتُ قاعةً وراقبتُ أناساً وانتظرت طويلاً. لم تكتبْ يدي حرفاً طوال الساعات الثلاث للامتحان. ربّما أنهى روحيَ المقالُ المطلوبُ إنما لم يُخرج منّي حرفاً واحداً. خفتُ النجاحَ في هذا الاختصاص، خفتُ أن أضيعَ في ما لو طَلَبَ أهلي منّي دراسة الإعلام خصوصاً لأنّه قد يكون أكثرَ توافقاً مع مفهوم الضيعة والدين والمجتمع والعرْف السائد.
يا لطيف، كما لو أنّني سأنجحُ بين مئات المتقدّمين. يا للأسف، أين تلك الروحُ منّي الآن، روحُ المغامر!
ثم حانتْ ساعةُ الصفر، يا للهَول. إنّها المرّةُ الثانيةُ التي أزورُ فيها بيروتَ خلال شهرٍ واحد. أجرةُ الطريق في يدي وسعرُ السندويشة. أعدّ ليراتي كلّ دقيقة، فلكثرة ما هي محدودةٌ أخشى على نفسي من التشتّت في حال ضاعت مني ألفُ ليرةٍ فـ«يخترب بيتي» وأضطر إلى المشي في مكانٍ لا أعرف عنه شيئاً. نعم لا أعرف في بيروت أيَّ شيء على الإطلاق فأنا من محافظة سوريّة، ولكي أعبرَ إلى بيروت لا بدّ من تأشيرة دخولٍ ومن جواز سفر. تردّدتْ هذه الدعابةُ على مسامعي طوال أربعة أعوامٍ من الدراسة في المعهد. يُشعرونني سلفاً بالدونيّة، عكّار؟ وكيف سمحَ لك أهلك؟ أربع ساعاتٍ للوصول؟ تذهبين وتأتين كل يوم؟
- طبعاً لا أيّها الأغبياءُ. لا يهمّ.
عندما قدّمتُ امتحانَ الدخول، بدا غريباً أن أرى أناساً يمثّلون، يقبّلون بعضُهم البعض، يتسامرون، يشتُمون، وفتياتٍ يصرخْن ولا أذكرُ لماذا! يولولْنَ ضحكاً ويبالغْن في الفعل وردود الفعل فيما تقفُ زمرةٌ من الشباب في آخر القاعة أحاولُ أن أنتقيَ منها حبيبيَ المستقبليّ.
على خشبة المسرح السوداء، هناك في الروشة، سحرٌ خاصّ لا يمكن إلّا أن تلامسَه. تجلس لجنة الحكَم وتشرعَ أنتَ بالأداء. دار مشهدي حول فتاةٍ تحاول أداءَ مشهدٍ ما، إلّا أنّها لشدّة الرعب لم تستطع، توقّفتْ مراراً لتعاودَ المحاولةَ فالبكاءَ فالصلاةَ أو الدعاء. أكثر ما أذكرُه أنّ أحد الممثّلين - من اللجنة - قدّمَ لي كوباً من الماء عندما أشفَقَ على تردّدي وخَوفي فيما كشفتْ سيّدةٌ بجانبه أنّه جزءٌ من اللعبة. في الجزء الآخر من مباراة الدخول، امتحانٌ نفسيّ؟ تحليلٌ نفسيّ؟ ثقافة عامّة؟
العمى، وأعتذر على التعبير، كل هذا! تحليل نفسيّ مسمّى ثقافة بماذا ولماذا؟
هل تعرفين لمنْ هذه الصورة؟
مممم لا.
هذا الاسم أو ذاك؟
ممم بالكاد أستطيعُ قراءة الاسم الروسيّ هذا.
ولا أحد منهم؟
«تسك»
ولا حتى موليير؟
نعم. موليير نعم. كان في برامج الأطفال في التلفزيون العربيّ السوري.
همممم. أح أح أح.
ولكنني هنا لأدرسَهم لا . لأعرفَ عنهم. وإلّا لمَ أنا هنا؟
معها حقّ. نعم معها حقّ.
هكذا أوجزُ لكم رحلتي في الامتحان. وأكثرُ ما يضحكني اليومَ كيف أنّ والدي يدخلُ رغماً عن أنفي في هذه القصّة أيضاً، إذ قد شبّهني أحدُ الأساتذةِ بشخصٍ كان يرأسُه في الجيش ولمّا سمِعَ اسمَ عائلتي وعرَفَ أنّني من عكّار قال: وماذا يكون «خضر» لكِ؟
إنّه أبي!
اذهبي فقد أحببْتُك.
وذهبْت. ولم أحمل إطلاقاً أيّ رأيٍ حول ما إذا كنتُ سأقبل أم لا! وأنا التي لم ترَ يوماً مسرحاً ولا قاعة سينما، وربّما رأيت البحرَ مرّتين فقط. كيف إذاً سأعرفُ ما إذا كنتُ أجيد التمثيلَ أم لا؟
وكيف سأعرفُ ذلك، كان هو ما يَشغلُني، كيف سأصلُ إلى بيروت من جديد وفي جعبتي مالٌ لا يتكاثرُ بل يكاد ينقرضُ؟ كيف سيدفع والداي ثمنَ تكلفةِ المواصلات من جديد؟ لا بدّ أنّني سأنجحُ ولن أعرفَ بذلك. سأنتظر إذاً. سأعطي رقمَ هاتفنا إلى شخصٍ تعرّفتُ إليه في المعهد، إنّها الأجملُ، الأكثر أناقةً وأنوثةً وأكثرهنّ رونقاً، لقد اخترتُها، سأعطيها رقمي، وهي بدورها رنّتْ لي.
ألو
ألو
مريم حمود؟ منزل مريم حمود؟
نعم. عفواً لقد أعطتْني رقمها في بيروت.
يوووووووووووووو مريييييييييييم تعي تعي ردّي عالتليفون يو مريييييييم.
آلو بونجور مريم معك تفضّلي.
نجحتُ بالمرتبة الأولى في امتحان الدخول. ها نحن قادمون يا بيروتُ فاتّسعي لنا.
هكذا مرّت الأيّام، باص من الكولا حتى الروشة والعكس صحيح. مصروفي الشهري مئةُ ألف ليرة لبنانية فقط لا غير. قوتي اليوميّ منقوشةُ زعتر «سادة». حلمي الأقربُ أن أتمكّنَ يوماً ما من وَضْع بعض الطّماطم والخضرة داخلها.
خمسة أيّامٍ في بيروت واثنان في عكار أغسلُ خلالهما ثيابي وأحمل بعض الطّعام الذي قد تُعدّه لي والدتي.
لوالدتي ذوقٌ غريبٌ بالتفكير، منهجٌ عجيب. إذا أعطتْني طعاماً، فهو علبةٌ كبيرةٌ جدّاً من الأرزّ وأخرى من يخنة البطاطا. علبتان تكفيان لخمسة أيّام. إذاً ما آكلُه أربعةُ أنواع من الوجبات في شهرٍ واحدٍ بالإضافة إلى المنقوشة «السادة» اليوميّة: الطقس المعتاد.
قليلٌ من زيت الزيتون، المكدوس، الشنكليش، الكشك. أيّ شيءٍ استطعتُ حملَه حتّى انحنى ظهري.
أذكر كيف حملتُ في إحدى المرّات غطاء السّرير والتلفاز الصغيرَ وسجّادةً وحقيبةَ الثياب والأكلَ معاً، أنا التي لا يزيد طولي عن مئةٍ وستّين سنتمتراً ووزني عن خمسين كيلوغراماً. كلّ هذا الشقاء وكلّ مَن حولي يأكلون أشياءَ أكتشفُها مجدّداً: نودلز، پاستا، اسكالوب، ناغيتس. يا إلهي لمّا اكتشفتُ أنّ الدجاج يمكن ألّا يكون محروقاً تماماً على الفحم!
مرّت سنين بلمح البصر. اكتسبتُ فيها الكثير من فعل المراقبة هناك. كيف يلبسون، يتكلّمون، هذا وذاك والآخر هناك، حتى قرّرتُ التعرّف إلى بيروت فعلاً. أوّل منزل، عفواً أوّل سريرٍ من منزل، كان في الطريق الجديدة وقد طردتْني منه صاحبتُه بعد أن خافت منّي حين وجدَت الكثير من الصور الفوتوغرافية في غرفتي وعلى البلاط والحيطان، فانتقلتُ إلى بيتٍ آخر لم أطقْه، لأقرّر السكَنَ في ثالثٍ أكثر راحةً.
ثمّ انتقلتُ إلى منزل آسيا. صاحبةُ المنزل قارّةٌ بحدّ ذاتها. صار عندي صديقةٌ وقد سبقتْني بأشواطٍ في كلّ شيء. صرتُ أخرج معها إلى أيّ مكان، ولم أشكّ يوماً في أنّها تبيع المخدّرات. كانت أول صديقةٍ لي في الجهة الأخرى من العالم. ربّما تَشاركْنا البيتَ نفسَه، لكنْ يبدو لي أنّني كنتُ في آسيا وهي في أوروبا.
سهرنا معاً. هي دليلي لكلّ أزقّة بيروت وكواليسها وحياتها الليليّة: أسهرُ، أرقصُ قرب الطاولات، أجنّ، ينظر الكلّ إليّ حين أرقص، يقتربُ كلّ الشبّان ليتعرّفوا إليّ، فتقول لهم «لا يغرّكم أنّها ترقص. ليست من هذا الكار. لن تستطيعوا أبداً التقرّب منها، فلا تُتعبوا أنفسكم!».
لم أفهم يوماً كلّ ما تكلّموا عنه. كنتُ غبيّةً للغاية وحملتُ عقَداً خاصّةً تجاه الشّبان لكنّني انهمكتُ بالرّقص على الموسيقى الصاخبة والابتهاج.
في كلّ الأحوال كانت صديقتي مغرمةً بشاب مصريّ لبنانيّ يعيش في جونية، متقدّم بمراحل عني في مختلف التجارب الممنوعة. وأنا، كم بدوتُ مقبلةً بنهم على الحياة وكم تحفّظتُ من الحكم على أحد. وآه، كم انتظرتُ أن أكبُرَ أكبَرَ فأكبَر.
من منزلٍ إلى آخر. الأسوأ هو رابعها. هناك التقينا بجارَتيّ في الغرفة، كانتا عاهرتين تعملان ليلاً وتعتاشان من تلك المهنة.
لمّ ذاك المنزلُ كلّ أنواع النساء: المثقّفات المتعجرفات، العاهرات البسيطات، والأخريات العاهرات حقّاً، الكلاسيكيات، المتديّنات، اليساريّات، وأنا. أنا التي رفضتُ أن أحمل أيّ هويّةٍ وفي داخلي بعضٌ من كل هذه السيّدات.
في هذا المنزل، توقّفتُ تماماً عن استعمال شفرة الحلاقة ورحتُ أستعمل الحلاقة الكهربائيّة وذاك الجهاز الذي يقضي على بصلات الشَّعر. أذكر أنّ صديقتي الأوروبيّة (أعجبني هذا التشبيه) ثبّتتْني هي وامرأتان من المنزل على السّرير ليجبرنني على مطاوعتهنّ.
في هذا المنزل أغرمتُ بالكثير من الرجال، وتركتُ الكثيرين، وشاهدتُ المصلّين والذين لا يصلّون.
أذكر منهنّ:
فرح، وقد أحبّتْ مطرباً وبقيَتْ تلاحقه حتى طارحَتْه الجنسَ وأغرمتْ به.
ملاك، خطبَت ابنَ خالتها الذي يعيش في الخارج وستنتقلُ إليه.
مادونا الشيوعيّة المثاليّة المتفلسفة المنظّرة على أنّها أكثر فهماً من الجميع.
ديانا التي تعمل في محلٍّ للأحذية الإيطاليّة وتستهلكُ جيوب زبائنها.
بتول السورية. لم أفهم قصّتها يوماً، إلا أنها لطالما عادتْ أيضاً كلّ صباحٍ بالكثير من المال. وأذكر أنّ لها ابناً في مكان ما.
لما، ابنة صاحب المنزل التي أجبرتْنا على عدم كسر قوانين المنزل، جلبتْ في إحدى الليالي صديقَها ووجدنا واقياً ذكريّاً في سلّة المهملات.
منال، مغرمة بمؤخّرتها وتكذب على حبيبها، تُوهمه أنّها خارجة كي يغارَ عليها، ثمّ تضعُ قناة «فاشن تي في» بصوتٍ عالٍ ليعتقد أنها محاطة بالرجال. سرعان ما تزوّجَته.
وأنا، هناك فقط، تتكوّن ملامحي لأكونَ اليوم امرأة. امرأة قريباً فقط. ستنفّذُ ما خطّطْت. وستلدغُ الأفعى الأوراقَ، قريباً في المَيرم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.