العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

جنازة علمانيّة

بدا أبو عمر شارد الذهن، وقلقاً، ومتوتّراً، وغيرَ قادرٍ على إنجاز التحضيرات للقاء الخميس الذي ينتظره بفارغ الصبر. نظر إلى ساعة يده: كانت عقاربها تقارب السادسة والنصف مساءً. ما زالت هناك ساعة ونصف الساعة حتى يصل صديقه ونديمه أبو طارق. لن ينتظر وصوله، سكب كأساً من الويسكي وشربه في جرعتين كبيرتين. هذا تصرّفٌ مخالفٌ لعاداته، فهو، لا يحتسي الويسكي، عادةً، قبل وصول أبو طارق، وإذا فعل فلا يستعجل إنهاء كأسه. لكنّ أعصابه مشدُودة، ولا بدّ له أن يسترخي. عليه أن يهدأ قليلاً ويُعيد ترتيب أفكاره ويجدَ الأسلوب المناسب ليُخبر أبا طارق عن التهديد الذي تلقّاه قبل قليل. يطاولُ التهديد مجموعةً من الأصدقاء والصديقات - ومن بينهم أبو طارق - الذين عملوا منذ ما يُقارب السنتين على مشروع إنشاء مقبرة للعلمانيّين، وجاءهم من يقول لهم بلهجة تهديدٍ لا ريبَ في جِدّيتها:

«إنّ الاستمرار في هذا العمل سيعرّض حياتكم للخطر، أقفلوا الملفّ وإلّا لن يَعثر الذباب الأزرق على مكانكم».

تلقّى أبو عمر التهديد على هاتفه. كُتب بصيغة الجمع. هل يعني هذا أنّ التهديد أُرسل بالتزامن إلى جميع المعنيّين؟ أم أنّه الوحيد الذي تلقّاه بصفته الأكثر نشاطاً بين أعضاء المجموعة، وأجرأهم في المجاهرة بأفكاره ومناقشتها؟

«هل من الممنوع أن يُعلن المرء كيف يُفضّل أن يُدفن وأين؟ ألا يحقّ للمحكوم بالإعدام بطلبٍ أخير؟ لماذا يُحرَم منه إذن، من سيموت آجلاً أو عاجلاً؟».

هذا ما أدلى به في آخر مقابلةٍ تلفزيونيّةٍ أُجريتْ معه. يبدو أنّ كلامه استفزّ الناطقين باسم الله على الأرض، فقرّروا أن يُلقّنوه درساً على طريقتهم الخاصّة مُستعجلينَ وصوله لمقابلة ربّ العالمين. لم ينجح أبو عمر - رغم عمله أعواماً طويلةً في الشأن العام - في اكتساب بعض الدبلوماسيّة في تعاطيه. عصبيّ المزاج وانفعاليٌّ، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بقناعاته. لا يقبل المساومة ولا يُحسن «تدوير الزوايا» للوصول إلى مبتغاه. ناجحٌ في عمله كطبيب أمراضٍ داخليّة، يخشاه مرضاه، وهذه نقطةٌ تُسجَّل لصالح طباعه الحادّة، فلا يجرؤون على تناول أدويةٍ وصفَها لهم أصدقاؤهم أو الجيران، ولا يشاركونه في تشخيص حالاتهم ومناقشة أوضاعهم الصحيّة في علاقاتٍ ندّيةٍ تحت طائلة طردهم من العيادة.

ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها مشروعُ بناء مقبرة للعلمانيّين مضايقاتٍ من مختلف الجهات الطائفيّة والمذهبيّة والدينيّة من دون استثناء. لكنّ الأمر تعدّى، هذه المرّة، حدود عرقلة المشروع والتضييق على الناشطين فيه، ليبلغ حدّ التهديد بالقتل. شعر أبو عمر بمسؤوليّةٍ كبيرةٍ تُجاهَ أفراد المجموعة. حياتهم في خطر بسببه. حماستُه الزائد وكلامُه الاستفزازيُّ جلَبا له الكثير من المتاعب التي لامست اليوم حدّ الخطر. في أيّ حال، لم يكن السير قُدماً في هذا المشروع أمراً سهلاً منذ انطلاقته الأولى. أدرك أبو عمر أخيراً، أنّ الرغبة وتضافر الجهود لا يكفيان وحدَهما لتحقيق طموحاتٍ خارج المنظومة الطائفيّة وفي مواجهة رجال الدين، وإن حشدتْ في صفوفها عشرات المريدين. جلس على كرسيّه مُلقياً رأسه إلى الخلْف بعدما حلّ ربطة العنق التي شعرَ بأنّها تضغط على أنفاسه. توالت الصوَر والأحداثُ والمواقف التي رافقت السعي لبناء هذه المقبرة في رأسه بشكلٍ عشوائيّ. تذكّر ما قاله له أبو طارق في أحد الاجتماعات التمهيديّة لإطلاق هذا المشروع، بعد إجراء مسحٍ في طول البلاد وعرضها، لإيجاد أرضٍ في منطقة محايدة لا يعترض على موتهم فيها المسيحيّون ولا المسلمون ولا الدروز. قال له حينذاك:

«أن تلتقي أصدقاءَ علمانيّين تتشارك وإيّاهم نفس القناعات والمبادئ تحت سقفٍ واحدٍ، أمرٌ سهلٌ. لكنْ أن تجمعهم أمواتاً تحت ترابٍ واحدٍ يبدو أمراً شبه مستحيل».

حين حُلّتْ هذه المُعضلة، شعر أبو عمر بأنّ المجموعة حقّقت انتصارها الأوّل، علماً أنّ الأمر كلّفها مبلغاً كبيراً من المال اتّخذَ شكل مساهمةٍ في دعم إحدى البلديّات الساحليّة. تعهّدت البلديّةُ في المقابل، عدمَ التعرّض للمجموعة في إنشاء المقبرة على قطعة أرض غير مأهولة يملكها أحد الأعضاء في ناحيةٍ معزولةٍ عن البلدة، والطريق المؤديّة إليها غير مُعبّدة. لم تدُم فرحة أبي عمر طويلاً. إذ ارتفع منسوب المشاكل مع خروج موضوع المقبرة العلمانيّة إلى العلَن، وبدا أنّ السيرَ قُدماً في المشروع هو أشبه بالتقدّم في حقل ألغام. لم يبقَ رجلُ دين إلّا وأدلى دَلْوه في الموضوع في جهات البلاد الأربع. وكأنّ كلّ مشاكل العباد قد حُلّت، ولم يبقَ من قضيّةٍ عالقةٍ سوى هؤلاء العلمانيّين ومقبرتِهم. الخُطَب في الجوامع تدور حول مقبرة العلمانيّين وكذلك العِظات في الكنائس. التحريض ضدّهم بلغ مستوياتٍ عالية.

«أظنّ أنّنا حصلنا على أفضل دعاية مُمكنة»، علّق أبو طارق ذات يومٍ بمرارةٍ بعدما اكتشف أنّ هذه المقبرة أصبحت الشغلَ الشاغل لرجال الدين وحاشيتهم.

خفّف كأس الويسكي من توتّره ومنَحَه القليل من النشاط الذي يحتاج له من أجل التحضير للقائه مع صديقه ونديمه أبي طارق. نهض عن كرسيّه واتّجه ناحية خزانة المشروب مجدّداً. وضع كأسه الفارغة جانباً، واختار نوعاً فاخراً من الويسكي حمله معه من السوق الحرّة في مطار هيثرو في لندن. رتّب صحون المازة المؤلّفة من الخيار، والجزر، والبروكولي، والقرنبيط. لم ينسَ المُكسّرات التي يُحبّها أبو طارق ويُصرّ على أنّ لا نكهة لأيّ كأسٍ تُشرب من دونها، وهو موضوع خلافٍ بينهما. يحتسي أبو عمر الويسكي مع قطعة ثلجٍ واحدةٍ ولا شيء سواها، خلافاً لنديمه أبي طارق الذي لا يستمتع باحتساء أيّ مشروبٍ من دون الإضافات الأخرى التي «تزيّن الجلسة وتجمّلها» بحسب قوله. حافَظَ أبو عمر على نُحوله، ولم يكتسب غراماً واحداً أكثر من الحدّ المسموح به صحّيّاً، رغم بلوغه عتبة السبعين. لم تتغيّر سحنتُه منذ كان شابّاً مراهقاً وحتّى اليوم. لولا الشَّيبُ الذي غزا شعرَه إلى خطوط العمر التي حفرتْ عميقاً في وجهه، يُمكن لمن لم يلتقِ به منذ أيام الثانويّة أن يتعرّف عليه فوراً. لم يبقَ أمام أبي عمر سوى الاهتمام بالموسيقى التي سيستمعان إليها في هذه الأمسية. لقد حظي أخيراً بمجموعةٍ من التسجيلات الطربيّة النادرة، سيُفاجئ بها صديقه ويتفوّق عليه في نبش الموسيقى القديمة، أو بالأحرى التنقيب عنها، كما يحلو له أن يُسمّيَ الأمر.

«إنّها أهمّ من النفط والذهب»، يقول لصديقه ونديمه أبي طارق الذي يوافقه الرأي تماماً. لذا، فإنّ أيّ بحثٍ لهما في هذا المضمار يندرج في خانة التنقيب، وأيّ اكتشافٍ يُسمّيانه «لُقىً» للدلالة على مدى أهمّية الموسيقى وقيمتها في حياتهما. سيستمعان اليوم إلى نادرة أمين. ليست هذه هي المفاجأة، لأنّهما سبق أن استمعا إلى العديد من أعمالها في الغناء والتلحين. لكنّ الجديد الذي يحمله أبو عمر اليوم هو أسطوانة لأغنية «لمّا بدا يتثنّى» بصوت نادرة أمين.

تُشكّل الموسيقى محور لقائهما الأسبوعي وأساسَه. وهو تقليدٌ دأبَا على المحافظة عليه منذ أعوامٍ طويلة: الاستماع إلى الموسيقى العربيّة، والاستمتاع بالطرب الأصيل، ورميُ كلّ الهموم خلفَهما. يستمعان إلى الموسيقى فقط. يُطرَبان. يعلّقان. يناقشان اللحن أو الكلام. وقد يكتفيان بإصدار الآهات انسجاماً وطرَباً. يُسمّيان هذه الأمسية «محرّكَ الأسبوع». تشحنُهما بالطاقة وتمدُّهما بالحيويّة. هو موعدٌ مقدّسٌ لا يتنازلان عنه أيّاً كانت الأسباب والظروف. جميع مَن حولَهما يُدركُ أنّ موعد الموسيقى لا يُناقَش، ومَن لديه أيّ مناسبةٍ، فليخترْ لها يوماً آخَر إذا أراد حضورهما، وإلّا فليقبل اعتذارهما. اختارا ليلة الخميس موعداً للقائهما الموسيقيّ تيمناً بحفلات «الست» التي كانت تُقام في الخميس الأوّل من كلّ شهر. لكنْ يبدو أنّهما أكثر نشاطاً منها، إذ جعلا موعدهما أسبوعيّاً لا شهريّاً.

رغم حماسة أبي عمر لهذا اللقاء الذي ينتظره أسبوعيّاً، ورغم سعادته بآخر اكتشافاته الموسيقيّة، فإنّ تهديد اليوم نغّصَ عليه فرْحتَه. وأكثرُ ما ساءه ليس التهديد بالقتل فحسب، بل بلوغُ المشروع تلقائيّاً حائطاً مسدوداً. لا شكّ أنّ هذا التهديد الجِدّي سيُثبط عزيمة المجموعة. لن يتحمّل أبو عمر مسؤوليّة حَثّهم على التحدّي ومواصلة العمل غير آبهينَ بأرواحهم.

«إذا نفّذوا تهديداتهم، فهذا يعني أنّنا سنموت ونُدفَن وفْق الأساليب التقليديّة المُتّبعة، وهذا يعني فشل المشروع مرتّين»، ردّد أبو عمر في سرّه.

كان يستعرضُ الاحتمالاتِ في رأسه، ولا يجدُ ما يُرضيه. هو لم يخسرْ معركةً في الحرب، بل خسر الحرب كلَّها. لقد حُشر في الزاوية. لن يُغامر بحياة المجموعة. لن يتحمّل هذه المسؤوليّة. أعاد هذا النقاشُ الداخليُّ علاماتِ الكدَر مجدّداً إلى سُحنته. وكأنّ مفعول كأس الويسكي انتهى بأسرعَ ممّا توقّع. مَنّى النفس بأنْ يخدمه حتى وصول صديقه أبي طارق. لا يرغب في استقباله بكلّ علامات الأسى المُرتسمة على مُحيّاه. لن يتسبّب في تخريب أمسيتهما المُنتظَرة. صحيحٌ أنّ عليه أن يُخبرَ صديقه في نهاية المطاف، ولكن هل يفعل ذلك اليوم؟ في هذه الأمسية التي ينتظرانها من أسبوعٍ إلى آخر؟ هل يعكّر له مزاجَه، كما تعكّر مزاجه هو؟ أبو طارق رجلٌ لطيفٌ، وطيّب القلب، وحسّاسٌ، لن يحتمل خبراً من هذا النوع. يُخشى عليه من أيّ زعلٍ وانفعالٍ إثرَ الأزمة القلبيّة التي أصابتْه قبل عامين. لطالما حذّرَه من تناول الأطعمة الدسمة، ولكن عبثاً. عناده يضاهي لطافته ورقّتَه. خلافاً لأبي عمر، تغيّر شكل أبي طارق إلى حدٍّ كبير. اكتسب وزناً زائداً استقرّ معظمُه في كرشه، تساقط شعر رأسه وكان لا يزال في عقده الرابع، فلجأ إلى إزالته كلّه. يُحبّ التواصل مع الناس ويُتقن فنونه، مهارةٌ اكتسبها مُذ كان مديراً لأحد الفروع المصرفيّة المركزيّة. ولأنّه اعتاد العملَ ولا يحسن العيش من دون وظيفة يشغُلها، تحوّلَ إلى مستشارٍ للمصرف الذي كان يعمل لصالحه بعد تقاعُده.

تعود العلاقة بين أبي عمر وأبي طارق إلى أيام المرحلة الثانويّة. كانا يُعرَفان يومَها باسمَي عماد (أبو عمر) وناصر (أبو طارق). كانا تلميذَين في مدرسة رمل الظريف الرسميّة. غير أنّ صداقتَهما لم تتكوّن في المدرسة حيث كان الكلامُ معدوماً بينهما. كان لكلٍّ منهما مجموعتُه الخاصّة. يلمحُ أحدُهما الآخرَ في الملعب أحياناً. وقد يحصل ذلك أثناء ولوجُهما بوابةَ المدرسة صباحاً أو خروجِهما منها مساءً. لقاءات عابرة من دون سلامٍ أو كلام. ليسا أعداء ولا أصدقاء. مجرّد طالبين يجمعهُما حرَم مدرسةٍ واحدةٍ من دون أيّ اتصالٍ خاصّ. لم يلتقيا في صفٍّ واحد، ذلك أنّ عماد يكبر ناصراً بسنةٍ واحدةٍ ويسبقه بصفٍّ واحد. جمعتْهُما أدراجُ بعلبكّ في صدفة أسّست لصداقةٍ لا تزال صامدة حتّى اللحظة. التقيا في حفلة أم كلثوم في العام ١٩٦٨. تاريخٌ انحفر في ذاكرة كلٍّ منهما. كيف لهما أن ينسَيا ذلك؟ ١٢ تموز / يوليو ١٩٦٨، كانت المرّة الثانية التي تغنّي فيها أمّ كلثوم في بعلبك، والمرّة الأولى التي يحضرها عماد وناصر في حفلةٍ حيّة. تجاورَ مقعداهما، ممّا شكّل مفتاحاً للكلام لم يستخدماه أثناء لقاءاتهما في حَرَم المدرسة. تبادلا الابتسامات، ثمّ بادره عماد الحديث:

- وجدْتُ أخيراً من يُشاركني اهتمامي بالموسيقى العربيّة والطرب الأصيل!

أومأَ ناصر برأسه موافقاً:

- شعورٌ متبادَل.

غنّت الستّ «أمل حياتي» و«بعيد عنك». أطربتْهما حتى الثمالة. كانا يسبحان في صوتها غيرَ مصدّقيْن أنّهما هنا في بعلبك، لا يفصلُ بينهما وبين «الستّ» سوى بضعةِ مقاعدَ، وأناسٍ كثيرين جاؤوا من جهات لبنان الأربع، ومن الدول العربيّة المجاورة، للاستماع لها. إنّها هنا، مع فرقتها الموسيقيّة الرائعة، وكرسيّ الملحّن محمد القصبْجي الفارغة خلفَها. رفضتْ إزالةَ كرسيّه عن المسرح بعد رحيله تخليداً لذكراه. أصبحا صديقَين. صداقةٌ معمّدةٌ بالطرب الأصيل. شكلّت حفلةُ أمّ كلثوم التي حضراها للمرّة الأولى مادّةً كلاميّةً ملأت الأسابيع الأولى من صداقتها حديثةِ العهد.

دقّت الساعة المُعلّقة على الحائط في الدار ثماني مرّات مُعلنةً حلولَ موعد اللقاء. لا أحد في المنزل سوى أبي عمر. زوجتُه خرجتْ في موعدها الأسبوعيّ لحضور فيلم سينما مع صديقتِها مها. تترك له البيتَ ليطرَب هو وصديقُه على راحتهما. لا تُعجبها الموسيقى التي يستمعان لها؛ وكلّما ناقشَها زوجُها في الأمر وحاول أن يشرحَ لها أهميّتَها، أجابتْه:

«الدنيا أذواق، نُحبّ أو لا نُحبّ، نُعجب أو لا نُعجب».

استسلم في نهاية الأمر، ولم يعدْ يناقشُها. لكنّه ظلّ يُردّد بين الحين والآخر، وخصوصاً عندما تُبدي انزعاجَها من صوت الموسيقى المرتفع:

«كيف تزوّجت امرأةً لا تعرفُ مَن هو عبد المُطّلب»!!

لو يتّجهُ أبو عمر ناحيةَ الباب في هذه اللحظة ويفتحُه، يُفترضُ أن يجدَ أبا طارق منتصباً أمامَه وعلى وشَك أن يقرعَ الجرس. مواعيدُ أبي طارق دقيقة جدّاً، بل أكثر دقّةً من ساعة «بيغ بن». هكذا يصفُها صديقُه الذي يحبّ أن يلهوَ معه أحياناً، فيُسارعُ إلى فتح الباب في تمام الثامنة ليضبطَ أبو طارق متأخّراً بضعَ ثَوانٍ أو ما زال يصعَدُ الدرجات الأخيرة المؤدّية إلى الطابق الأوّل، حيث الشقّةُ التي يقطنُ فيها. لم يلحظْ أبو عمر مرور الوقت ولا نبّهتْه دقّاتُ الساعة الثماني إلى حلولِ الموعد. بالُه مشغول. لا يدري ماذا يفعل وكيف يفكّر. كيف سيُخبرُ صديقه أبا طارق عن التهديد؟ ومتى؟ قبل البدء في جلسة الاستماع للموسيقى، أم بعدها؟ لا بدّ أن يُخبرَه لأنّ القضيةَ تَعنيه كما أنّ التهديد يطاوله، عدا عن أنّه غيرُ قادرٍ على كتْم الأمر في صدره. يشعُر بالاختناق، ويحتاج إلى أن يفرّغَ ما بداخله. تكمن المشكلةُ في التوقيت غير المناسب: ليلةِ الخميس، ليلةِ الطرَب، ليلة معالجة الروح ومداواتها من إحباطاتها وخَيباتها، لا يجوز إفسادُ هذه الليلة بأخبارٍ سيّئة. أمّا وقد فسدَ مزاجُه، فهل ينقل العدْوى إلى صديقه؟ أم يتّصلُ به غداً ويُخبرُه ويتصرّفُ اليومَ وكأنّ شيئاً لم يحصلْ؟ عليه أن يجدَ المَخرج المناسب. لا بدّ له من أن يفعلَ ذلك.

كان أبو طارق قد استفاق من قَيلولةِ بعدِ الظهر، أخذ حمّاماً سريعاً، فكّرَ في أن يُعدّ فنجاناً من القهوة يشربُه كي يستعيد نشاطَه، ثمّ يُجهّز نفسه للموعد الأسبوعيّ. ولكنّه تَلقّى التهديد على هاتفه قبل بلوغِه المطبخ:

«إنّ الاستمرارَ في هذا العمل سيعرِّض حياتَكم للخطر، أقفِلوا الملفَّ وإلّا فلن يَعثرَ الذبابُ الأزرقُ على مكانكم».

سمّرَه التهديدُ في مكانه. احتاج إلى بعض الوقت ليستفيقَ من وَقْع الصدمة. عاد أدراجَه نحو غرفةِ الجلوس ورمى نفسه على الكنَبة. شعر بتسارعٍ في دقّات قلبه. هل هو خائفٌ؟ أم على الأرجَح، مُستاءٌ ممّا آلت إليه الأمور؟ عامان من العمل الدؤوب، ثمّ يأتي من يقرّرُ من خلال التهديد بالقتل، إزالةَ كلّ الجهود وإحباطَ آمال مجموعةٍ من الأفراد، أرادتْ أن تعبّر عن قناعاتها وتمارسَها في مماتها كما في حياتها. أزالَ نظّارتيه عن وجهه، مسح العرق الذي بلّل صلعتَه، أعاد قراءة التهديد مرّة واثنتين وثلاث مرّات. ماذا سيفعل الآن؟ فكّرَ في أن يتّصلّ بأبي عمر. لكنْ سرعان ما عدَل عن الفكرة. لن يستعجلَ الأمور. أبو عمر عصبيّ المزاج، وخصوصاً حين يحصل ما يمسُّ منظومة قناعاته ونضالاته. لن ينقلَ إليه الخبر عبر الهاتف. سيلقاهُ بعد قليلٍ وعندها سيُخبرُه بالأمر. لكنّ هذا اليومَ موعدٌ مقدّسٌ لكلَيهما. هل يحقّ له أنْ يخرّب الأمسية على صديقه كما خرّبَها عليه أصحابُ النفوس الضعيفة؟

أبو عمر هو صاحبُ فكرة إنشاء مقبرة للعلمانيّين. لطالما كان رجلاً مناضلاً. لم يتخلّ يوماً عن قناعاته. علمانيٌّ قولاً وفعلاً وممارسةً. رفضَ أن يحضر زواجَ ابنته التي اقترنتْ برجلٍ من غير دينها، واختارت الزواج الكنسيَّ بدلاً من المدنيّ. هالَه الأمر. لم يصدّقْه. لقد نشأت ابنتُه في بيئةٍ علمانيّةٍ صرفة، واختارتْ شريكَ حياتها مناضلاً يساريّاً يزايدُ عليه في العلمنة. كيف حضرت الكنيسةُ بينهما؟ قدّمَ لها كلفةَ الرحلة إلى قبرص لعقْد القران مع سائر المصاريف الأخرى التي تشمل أيضاً العشاء الاحتفاليَّ في المناسبة، ظنّاً منه أنّ ظروفَهما الماديّة حملتْهما على اختيار الزواج الكنسيّ بدلاً من المدنيّ الذي ما زال ممنوعاً إتمامُ مراسيمه في بلاده. اعتذرتْ عن قبول الهديّة مؤكّدةً له أنّ لا علاقةَ لخَيارها بالمال. المسألةُ أبْسطُ من ذلك بكثير: تُحبّ طقوس الدخول إلى الكنيسة حين تصدَحُ الترانيم، ويقفُ المدْعوون على جانبيّ الممرّ الطويل يستعرضان مرورَها إلى المذبح، حيث ينتظرها عريسُها والخوري الذي سيكلّلهما. كاد أن يفقدَ صوابه. تحدّثَ إلى خطيبها الذي أعمى الحبُّ بصيرتَه، فقبِل بالزواج الكنسيّ إرضاءً لابنتِه. عندها أقسم بمبدئه ألّا تخطّ رجْله عتبةَ الكنيسة، وقال لابنته:

«ابحثي عن معتوهٍ سواي ليرافقَك إلى المذبح».

لم ينجح في إقناعها بالتخلّي عن حُلمها الساذج، كما لم تنجحْ في إقناعه بوضع مبادئه على الرفّ لليلةٍ واحدةٍ ينتظرُها كلُّ أب. من يرفض المساومةَ مع ابنته، لا بدّ أنّه يرفُضها مع الآخرين. لذا، لم ينقلْ أبو عمر البارودة من كتفٍ إلى كتف كما فعل كثيرون. لم يستزلمْ حين وضعَت الحرب أوزارَها. لم يتغيّر رغم أنّ كلّ ما حوْله تغيّر.

أعاد هذا التهديدُ أبا طارق إلى تذكّر بدايات العمل على مشروع المقبرة العلمانيّة. جاءه أبو عمر ذاتَ مساءٍ في زيارةٍ مفاجئةٍ إلى بيته. بدا مهموماً ومُربَكاً لا يعرف من أين يبدأ حديثَه. قال له:

«العمر يمضي يا أبا طارق، والأيام الباقية لي في هذه الحياة أقلّ بكثيرٍ ممّا عشتُه».

لم يفهمْ أبو طارق هذا التشاؤمَ المنافي لطبيعة صديقه. ظنّه مريضاً. ارتعب. طمأنَه أبو عمر بعد أن أدرك في أيّ اتّجاهٍ ذهبتْ هواجسُ صديقه وظنونُه.

«لا أشكو أيّ مرضٍ، وصحّتي مُمتازة، لكن علينا أن نُفكّر في آخرتنا، ألا توافقني الرأي؟».

«المعنى؟».

سأله أبو طارق، وقد بدأ يفقد صبرَه لمعرفة ما يشغُل بالَ صديقه إلى هذا الحدّ.

«لا أريد أن أُدفَنَ وفق الطقوس الدينيّة، ولا أريد أن يصليَّ على جثماني رجلُ دين».

رفع أبو طارق نظّارتيه في ردّ فعلٍ تلقائيّ، كأنّه أراد التأكّدَ من أنّ ما يراه ويسمعُه حقيقيٌّ وليس وهماً أو تخيّلات. تابَعَ أبو عمر متجاهلاً دهشة صديقه:

«ألستَ علمانيّاً يا رجل؟ ألم تمارسْ قناعاتِك العلمانيّةَ طوال حياتك؟ لماذا عليكَ أن تستسلمَ في مماتك وتخضعَ للقوانين التي حاربْتَها وناضلتَ من أجل إقرارها؟».

«والحلّ، هل ستُوصي بحرق جثّتك؟».

«فكّرتُ في الأمر، لكن هذا حلٌّ فرديٌّ، أنا أطمح لأبعَدَ من ذلك، أبحثُ عن مشروعٍ متكاملٍ يشكّل حلاً لكلّ علمانيٍّ يرغب أن يموتَ وفْقَ القناعات التي مارسَها في حياته. ما رأيك في بناء مقبرة للعلمانيين؟».

يذكر أبو طارق أنّ الفكرة أعجبتْه بقدر ما أدهشتْه، وقال لصديقه:

«نُدفن جنباً إلى جنب إذن».

وتابع:

«نأخذ معنا الأسطواناتِ حتى لا نُخلَّ بموعد الخميس دنيا وآخرة».

ضحكا من قلبَيهما، وقد انفرجَتْ أساريرُ أبي عمر وخصوصاً أنّ صديقَ عمره لم يخيّبْ له ظنّه. كُبرت المجموعةُ المُهتمّة بإنشاء مقبرةٍ للعلمانيّين بسرعةٍ قياسيّةٍ، وتجاوزَ عددُ أفرادها الخمسين خلال أشهرٍ قليلةٍ. ما إن خرج الموضوع إلى العلَن حتى بدأت تواجههم شتّى أنواعِ المضايقات والعرْقلات. حُطّمَ سياجُ المقبرة أكثرَ من مرّة. كُتبتْ على اللافتة التي رُفعتْ على مدخلها كلماتٌ نابيةٌ وشتائمُ وإهانات. لم تردعْهم هذه التصرّفاتُ ولا أخافَهَم تجييشُ رجال الدين ضدّهم. لكن، أن تصلَ الأمورُ حَدّ التهديد بالقتل، فهذا ما لا يُمكن تجاهلُه.

شعر أبو طارق بطعم المرارة في فمه. نهضَ متثاقلاً، اتّجهَ ناحيةَ المطبخ، شرب قليلاً من الماء. نظرَ إلى ساعته، إنّها تقارب الثامنة. أصدر شهقةً عميقة. لقد تأخّر على موعده. لا يدري كم من الوقت قد مرّ، وهو غارقٌ في هذه الكنَبة، يقلّب الأفكار والذكريات، ولا يجدُ المخرجَ المناسب للورطة المُستجدّة. ليس من عاداته أن يتأخّر. أيّ حجّةٍ سيختلقُ ليُبرّر تأخيره؟ حسَمَ خيارَه، لن يُفاتح أبا عمر في موضوع التهديد، وإن كان يخامرُه الشكُّ أنّ صديقَه ونديمَه تلقّى التهديدَ نفسه. لن يُبادرَ، رغم ذلك، إلى فتح الموضوع الليلة. وعليه الآن أن يختلقَ عذراً مُقنعاً لتأخّره.

كان أبو عمر يبحث عن هاتفه ليتّصلَ بصديقه ويستفسرَ عن سبب تأخُّره بعد أن تنبّه أخيراً إلى أنّ الساعةَ قاربت الثامنة النصف. ليس من عاداته أن يتأخّر، أرجو ألّا يكونَ مريضاً أو يشكو أمراً ما. لم يخطر في بال أبي عمر أن يكون التأخيرُ مرتبطاً بتلقّيه تهديداً مماثلاً. حسَمَ أبو عمر خيارَه بألّا يُخبرَ صديقَه عن التهديد اليوم. قال في سرّه: «اليوم موسيقى وغداً أمْرٌ»، معتذراً من امرئ القيس على التصرّف بعبارته الشهيرة. قرع أبو طارق الجرسَ في الوقت الذي كان يطلبه فيه صديقُه على الهاتف. وجد أبو طارق عذراً مقبولً، سيقول إنّه نام بعد الظهر، واتّكلَ على زوجته في إيقاظه ولكنّها نسيَت، على ما يبدو، فخرجتْ من البيت وتركتْه نائماً. مخرجٌ مناسبٌ سيفتح باباً مُسلياً للحديث عن زوجتيْهما، والشكوى من تصرّفاتهما، وتبادُل بعض النكات في هذا الشأن.

فتَحَ أبو عمر الباب في الوقت الذي كان يُقفل فيه أبو طارق الهاتف من دون الإجابة على اتّصال صديقه الذي أخذه في عناقٍ طويل. لم يسألْه عن أسباب تأخيره. لم يُعلّق على الموضوع، بل أدار ظهرَه وكأنه يريد إنجازَ عملٍ كان قد بدأه قبل أن يقاطعَه وصولُه. ذهب ناحيةَ الفونوغراف، وأراد أن يُشغّل الموسيقى من دون أيّ مقدّمات. يحتاج إلى ذلك فعلاً حتى ينجَح في تذليل الإرباك الذي سبّبَه إخفاءُ الخبر السيئ عن صديقه. لم يجلسْ أبو طارق على الكنبة. هو أيضاً أراد إخفاءَ تَوتّره الذي ارتفع منسوبُه مجدّداً ما أن التقى صديقَه، واسترجع التهديدَ في رأسه. اتّجه مباشرة إلى حيث زجاجةُ الويسكي. صَبّ لنفسه كأساً. تنبّهَ إلى أن نديمَه سبَقه إلى الشرب. سأله وكان يملأ له كأساً جديدة:

- يبدو أنك بدأتَ الشربَ مبكّراً اليوم.

التفتَ أبو عمر ناحيةَ صديقه أبي طارق، تقاطعتْ نظراتُهما. صمَتا طويلاً. هزّ أبو عمر رأسه في إشارةٍ إلى أسفه الشديد. رفع أبو طارق حاجبَيه، وقلّب شفتَيه في دلالةٍ على أنّ الأمرَ الواقعَ بات أقوى منهما، ولن يستطيعا مواجَهة التهديد بالموت. استمرّ الصمتُ لحظاتٍ إضافيّة. تنحنحَ أبو طارق، رفَع كأسه عالياً، وقال لصديقه:

- ما يعزّيني أنّهم لم يقْدروا علينا ونحن أحياء، بل سينتظرون موتنا حتى يصلّوا علينا.

- ربّما...

... وصدحت الموسيقى عالياً:

«لمّا بدا يتثنّى، آمان أمان أمان، حبّ الجمال فتنّا، آمان أمان أمان، وعدي ويا حيرتي من لي رحيم شكوتي في الحب من لوعتي إلّا مليك الجمال...».

العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.