سبوجماي زرياب المولودة في المقاطعة الفارسية من أفغانستان، من مواليد ١٩٤٩ وهي تنشر القصص منذ عمر الـ ١٧. نشأتْ في العهد الليبرالي الملكي. درست الأدب الفرنسي في جامعة كابُل، وهي تنتمي إلى الجيل الأوّل من الافغانيات السافرات بعدما ألغيَ القانون الذي كان يُوجب على النساء ارتداء البرقع عام ١٩٥١.
خلال العهد السوفياتي كانت سبوجماي تعمل مترجمة في السفارة الأميركية بكابُل. وقد عارضت الوجود السوفياتي في بلادها في عدد من القصص منها «أحذية الهذيان» و«بطاقة هوية». ولما جاء الطالبان إلى الحكم، غادرتْ إلى باريس حيث لا تزال تقيم. رفضت العودة إلى بلادها بعد الغزو الأميركي.
تروي سبوجماي أنّه قبل مجيء الطالبان، كانت النساء يشكّلنَ ٤٢٪ من مجموع معلّمات المدارس. وقد مَنَعَ الطالبانُ النساءَ من العلم والتدريس ومن العمل. حجروا عليهم في البيوت. حتى في البيوت، منعوا عليهنّ استشارة طبيبٍ ذكَر. هذا عندما لم تكن النساء تُبَعْن في أسواق العبودية الجنسية في الباكستان. لكنّ النساء قاومْنَ بتنظيم شبكات المدارس السرّيّة في البيوت، فإذا كان رمز السوفيات هو الدبّابة، فرمزُ الطالبان هو النار، تقول، وهم الذين أحرقوا حقول الفستق في أفغانستان.
الفتاةُ التي كانت تقرأ عن الفقر والحروب والمَنافي في الكتب والروايات لم يكن يخطرُ في بالها أنّها سوف تَختبرُ أيّاً منها في حياتها. اختبرتُها كلَّها. وقاومتُ. قيل عنها إنّها «قلمٌ يواجه الكابوس». واجهتُ الكوابيس. فالحرب كابوس. واضطهاد المرأة كابوس. والمنفى كابوس. وتقول زرياب في هذه القصة إنّ المالَ هو أيضاً كابوس.
هي كوابيسُ تقضُّ مَضجعَها بالأسئلة. لصحافيٍّ سألَها بماذا تفكّرُ أجابتْ: «بماذا عسايَ أفكّرُ عندما أشاهدُ أنّه عَبْر القرون لم يتمكّن الدينُ ولا الفلسفةُ ولا الأدبُ ولا العلومُ ولا التكنولوجيا من إشباع جُوعِ بطْن الأرض ولا تمكّنتْ من اكتشاف علاج للجنون الذي نسمّيه «الحرب». لماذا لم يُشبِعوا جُوعَ الناس الجائعين؟ لماذا لم يَجدوا العلاج؟ هل لديك أنت جواب؟».
«المدينة التاجرة» مأخوذةٌ من «سَهْل قايين» أوّل مجموعة لزرياب تُرجمتْ إلى الفرنسية (١٩٨٨).
من بعيد، إذ ترفعُ رأسَك، تستطيعُ أن تشاهدَ البرجَ العتيق، تزنّرُه نوافذُ هي أشبهُ بنُدوبٍ عميقة، ينبثق من الظلمةِ كأنّه يراقب الجِوارَ بعينَيه الجاحظتَين الدّهشتَين. عندما كنتُ طفلةً، كان البرج يبدو لي هائلاً فأشْعرني صغيرةً جدّاً إزاءه. أمّا الآنَ، فما هو عندي غيرُ كَومةٍ من الحجارة والطلاء. فبمقدارِ ما كنتُ أكبُرُ كان البرج يصغُر ويفقد تدريجيّاً ارتفاعَه المَهيب.
ينتصب البرجُ عند مفترقِ طرق، يبدو المارّون حوله مشهداً بائساً جدّاً: صغاراً إلى حدّ أنّكَ تقول عنهم إنّهم لُعَبٌ يرمُقُها البرجُ بنظرةٍ حَيرى.
ذاتَ مساء، خرجتُ من العمل متأخّرةً أكثرَ من العادة وتوجّهتُ بهدوءٍ نحو المدينة التجارية. هبّ هواءٌ ثلجيٌّ أخذ يقرصُ لي جسدي مثلَ آلاف الإبَر الصغيرة. غرزتُ عنقي عميقاً بين كتفَيّ ورفعت ياقةَ معطفي أعلى ما أستطيع لحماية أذنيّ. ثَقل عليّ حمْلُ حقيبتي إلى درجة أنّني رغبتُ في أن أتركها في الطريق وأَمضي... أحنيتُ رأسي لحماية عينيّ اللتين كانتا على حافّة البكاء. وفي العتمة، بدَت الحفرةُ الأرضيّةُ موَشّحةً بانعكاساتٍ فولاذيّة سوداء. غذذْتُ السيرَ وبي شعورٌ بإنّ الطريقَ تمشي هي أيضاً. كانت مَنقوبةً من كل الجهات، تخترمُها أخاديدُ حقيقيّة، الواحدة منها أطْول من الأخرى. ومن كل جهةٍ منها أخدودٌ بلا ماءٍ يَحدُّه رصيفٌ ذو تبليطٍ متفاوِت. الجدرانُ مثقوبةٌ بثقوبٍ فاغرةٍ تتدلّى منها القمامةُ مثلَ أفواهٍ كريهةٍ تتقيّأُها.
في البعيد تلتمعُ أضواءُ المدينة التجارية، خفِرة وشاحِبة، فيما يتجاوز الأخاديد. كأنّ هَزّةً أرضيّةً قد شقّتْ أرضَ هذه المدينة. كان الأمرُ مُفزعاً، إذ أخذَتِ الاخاديدُ تبدو أعمقَ فأعْمق. وإذ أقتربُ من البرج، لن يكونَ عندي غيرُ رغبةٍ واحدة، أنْ أعْدوَ نَحْوه: ثمّةَ ناسٌ على مقربة منه فلم يعُدْ لي سببٌ للخوف وسْطَ جُموع البازار.
إذْ ذاك أبصرتُ على امتداد الشارع سياجاً ضخماً بدتْ لي قضبانُه رماديّةً في العَتمة. لاحظتُ إذْ ذاك أنّ تأوّهاتٍ غريبةً ومقلقةً إلى أبعدِ حدٍّ تنبعثُ من الساحة تخالطُها صرخاتٌ غيرُ مفهومة. ومع أنّ لا شيءَ يدعو للاطمئنان، مطَطْتُ عنقيَ للتناوص من خلال قضبان السياج الحديديّة فتمكّنتُ من أنْ أميّزَ في شِبه العتمة الأشباحَ الداكنةَ اللون لكَومة أشجارٍ مَيتة. للفور، أنساني المشهدُ ثقلَ حقيبتي فأطلقتُ قدميَّ للريح... بدا لي أنّ الشارعَ يركضُ هو أيضاً بموكبهِ من الأخاديد والجدرانِ المثقوبة. وصلتُ إلى مشارف البرج: الجمعُ موجودٌ هنا كالعادة غَيرَ أنّ البازارَ بدا لي مختلفاً عنه في سائر الأيّام. كان يطنُّ طنيناً خافتاً والناسُ يتراكضون وينادُون على الأسعار ويشترون ويبيعون مثلما لم يفعلوا قَطّ من قبْل. استوقفتُ أحد المارّة أسألُه ماذا يجري. لم يحرْ جواباً. كرّرتُ سؤالي فظَلَّ ملتزماً الصمتَ. بعد مسافةٍ قصيرةٍ استوقفتُ رجلاً آخَر:
- سيّدي، ماذا يجري؟
لم ينبسْ ببنت شفة، فوقفتُ مشدوهةً متسائلةً لماذا بحقّ الشيطان ليس ثمّةَ من يجيب عن الأسئلة.
- سيّدي، أرجوك، ألححتُ في السؤال، هل لك أن تقول لي ماذا يجري هنا، أرجوك!
- ألستِ على علمٍ بما يجري؟ سألني بعد برهةٍ صمْت.
- لا. لستُ أفقهُ شيئاً. ماذا يجري؟
- كم معك من النقود؟
فتّشتُ في جيبي أخرجتُ ورقتَين أو ثلاث أوراقٍ وبِضْعَ قطَع نقودٍ معدنيّة.
- هذا كلُّ ما لديّ...
- أعطني كلَّ هذا، أقُلْ لكَ ما الذي يجري!
- ولماذا تريدُ أخْذَ مالي؟
سألتُ متعجّبةً وأنا أعيدُ النقودَ إلى جيبي فتَساقطَت القطعُ المعدنيّة وكان لها رنين.
- لا تقلْ لي شيئاً، إذا كان الأمرُ كذلك فسوفَ أسألُ شخصاً آخر.
انفجرَ ضاحكاً وهو يرمقُني بنظرةِ احتقار. لكنّني كنتُ قد اقتربتُ من أحد المارّة الآخرين.
- ماذا يجري؟
تفرّسني الرجلُ بصمت.
- هلمّ. قلْ لي ماذا يجري!
ألقى نظرةً على جَيبي:
- معكَ نقود؟
- نعَم
- كم؟
أخرجتُ من جيبي كلَّ ما لديّ من نقودٍ وأريتُه إيّاها وأنا لا أصدّقُ عينيَّ الاثنتَين وقد باتتا جاحظتَين ودهشتَين مثلَ الثقْبّين في جدار البرج.
- لا تأخذ كل شيء، قلتُ له وأنا أقبض بيدي على النقود.
تكلّمتُ بسرعة إلى درجةِ أنّه جعلني أكرّرُ ما قلتُه.
- لا تأخذْها كلَّها، أقول لك!
اختنقَ صوتي في حنجُرتي.
- أنا رجلٌ صادق، قال. لن آخذَ منكَ إلّا نصفَ المبلغ.
عددْتُ ما لديّ من نقودٍ ونقدْتُه النصف. ما إن صارت النقود في يدِه، حتى تفحّصَها وأفْرغَها في جَيبِه فأحدثَت القطعُ المعدنيّة الرنينَ ذاتَه. والتقمتْ جيبُه نقوديَ لقمةً واحدة.
- تعالَي معي! قال لي إذذاك.
أسرعتُ مقتفيةً خُطاهُ بمحاذاة الدكاكين والبردُ يلسعُني لسعاً. لم يكن سهلاً أنْ أشقَّ طريقيَ وسطَ الجمع. كان التدافُعُ عامّاً. أخيراً وصلنا إلى فسحةٍ توقّفَ الرجلُ فيها. كانتْ عيناهُ مغرورقتَين بالدمع.
- أنا رجلٌ صادق، تعلمينَ ذلك.
- أعلمُ جيّداً، ولكنْ قلْ لي ماذا يجري.
تأثّرتُ لدموعِه.
- هنا، أجاب بصوتٍ خَفيض، كلُّ شيءٍ يُشرى ويُباع: الجسد، الضحك، الدموع، الحديث... أمَا كنتِ تدرين ذلك؟
فيما أنا أحدّقُ فيه فاغرةَ الفم، خطرتْ في بالي صورةُ عينَي البرج الدهشتَين.
- ماذا تقول؟ هل تعني أنّه يجب أن ندفع لكيْ يُنصتَ أحدٌ لنا! هذا ليس منطقيّاً.
أخرجَ إذذاك من جيبه حفنةً من النقود ودسَّها تحت أنفي، وهو يحفُّ الأوراقَ النقديّةَ ويُخشخشُ بالنقود المعدنيّة مستخرجاً منها موسيقىً خفيضةً غريبةً.
- صدّقيني، هذه مهمّةٌ جدّاً، وهو يدسُّ النقودَ تحت عينَي.
ازدادتْ عروقُ عنقِه نفوراً وأضاءَ وجهَهُ النورُ الخجول المنبعثُ من مصابيح الشارع فبدا أكثر تجعّداً من السابق، فصرخَ مجدّداً في ثقب أذني:
- إنّها مهمّةٌ جدّاً، جدّاً!
بدا لي أنّ صوتَه يرجِع صداهُ ويغيبُ في البعيد.
- أعرف ذلك جيّداً... ولكن لماذا، بحقّ الشيطان، يجب أن يُشرى كلُّ شيءٍ ويُباع كلُّ شيء؟
التزمَ الصمتَ وطأطأ برأسه. ثمّ استطردَ قائلاً:
- سوف أقولُ لك، حتى أنا، الرجلُ الصادقُ، أبيعُ كلَّ شيء: الكلمات، الضحك، الدموع، كل شيء...
وصمتَ وهو يغصُّ بموجةِ بكاءٍ جديدة. ازدادتْ عيناهُ امتلاءً بالدمع فأشاحَ بوجهه عنّي، فيما عروقُ عنقه تنبضُ ومِنخَراه يرتجفان.
- أتوسّلُ إليكِ: صدّقيني، فَحَّ فحيحاً، أنا صادق.
- لا أشكّ في ذلك، ولكن اشرحْ لي لماذا كلُّ شيءٍ يُباع، حتى الكلمات والأحاديث...
- حسناً، سوف أريكِ، سوف أريكِ ما إذا...
ألقى نظرةً غامضة على جيبي.
- سوف أريك إن أنت أنقدتِني النصف الباقي...
بحركة لاإرادية، دسستُ يدي وتلمّستُ نقودي: بدَت القطعُ المعدنيّةُ ضخمةً بين أصابعي والأوراقُ النقديّةُ جديدةً كلَّ الجدّة. وبعد لحظة تردّدٍ، فتحتُ قبضتي واعطيتُه كلَّ ما لديّ:
- خذ! خذ كلَّ هذا وأريني!
تناولَ النقودَ بخجلٍ وأشاحَ بنظره عنّي، مكرِّراً أنّه رجلٌ شريف فيما جيبُه تبتلعُ نقودي.
- تعالَي، الحقي بي.
لحقتُ به إلى أن توقّفَ فجأةً في زاويةٍ من زوايا البازار:
- انظري جيّداً!
رجُلان واقفان تحت شعاعٍ باهتٍ لعمود نُور. واحد يسألُ الآخَر ما الذي يجري، والآخر جامدٌ مثل تمثالٍ من مَرمَر، كما لو أنّ فمَه مَخيط. يلحّ الأوّل:
- لطفاً، قلْ لي ما الذي يجري هنا!
كان الآخرُ لا يزال ملتزماً الصمتَ، ولكنْ عندما تَكرّرَ السؤالُ للمرّة الثالثة، أراه جيوبه:
- كم من المال لديك؟
حدَّقَ الأوّل به دون أن يَفهم، وكان قد أخرجَ قطَعَ النقودِ القليلة التي يملك.
- هاك
- أعطني مالَك، أقلْ لك ما الذي يجري.
أخذ يحدّق بنقوده مذهولاً، ثم رفع عينَيه أخيراً، وكأنّما مدفوعاً بقوّةٍ خارجةٍ عنه، ناوَلَه النقودَ التي سَرعانَ ما تساقطتْ في جيب الآخر.
- يجب أن تعلمَ أنّ كلّ شيءٍ هنا يُباع ويُشرى: الضحك، الدموع، الأحاديث، كلّ شيء.
ثم تنحْنَحَ وقال بصوتٍ أعلى:
- هذا ما يجري. هل تفهم؟ وأنا أيضاً أبيعُ أقوالي. هل تفهمُني؟
انكمَشَ المسكينُ أكثرَ فأكثر. ثُم أومأَ برأسه وأدارَ ظهره وغادرَ دون أن يطالبَ بالباقي. شاهدتُه يبتعد ويذوب في العتمة شيئاً فشيئاً فبدا كأنّ ساقَيه تترنّحان تحت ثقل جسده وقد بلغتا نهاية الاحتمال.
وكنّا قد استعدْنا مسيرَنا نَشقُّ بصعوبةٍ طريقَنا وسطَ جعجعةٍ تختلط فيها الأصواتُ الأكثرُ تنوّعاً: رنينُ القطَع المعدنيّة، حفيفُ الأوراق النقديّة، ضجيجُ الجَمع، المزايداتُ على الأسعار... فتوقّفَ مُرافقي مجدّداً وأراني امرأةً تُخبرُ رجلاً نكتةً ما... لكنّه لا يضحك، كأن شفَتيه مختومتان. ومع ذلك فقد وجدتُ القصةَ فكهةً ... إلى أن تكشّف لي وجهُ المرأة. إذذاك توقفْتُ عن الضحك وغمرَني الحزن: فقد أدركتُ أنّ المرأة تروي نُكاتِها مجبرةً. كانت تجهدُ كثيراً على ما يبدو لتبدوَ منشرحةً. والغريب في الأمر أنّ الرجل لم يكن يضحك.
- اضحك! كانت تقول له. اضحكْ ولو مرّةً واحدة.
- كم معكِ؟ سألَها وهو يحدّق بجيبها.
فتّشتْ:
- هاك!
- أعطنيها وسوف أضحك....
قال بنبرة خجولة. ألقتْ نظرةً متردّدةً على مالها.
- خذه كلَّه، قالت من طرف شفتَيها.
دسّ النقودَ في جيبه. نظر إلى المرأةِ ومطّ أطراف شفتيه كاشفاً عن أسنانه ثم علَتْ وجهَهُ ابتسامةٌ مُشرقة. ثمّ انفرجتْ أسنانُه فانفجر ضاحكاً. فواصَلَت المرأة رواية قصّتِها وهي مستمتعةٌ مثل صبيّة شقيّة.
ولكنْ سَرعان ما استوقَفَها الرجل:
- لا حاجة إلى أن تواصلي رواية قصّتَك: سوف أضحك قدْرَ ما تريدين...
فصمتَتْ إذّاك وتفحّصتْه. وشاهدتُها تخفض نظرها وتقوّس ظهرَها إلى ما لا نهايةَ كما لو أنّ شيئاً قد انهار في داخلها. أقعتْ أرضاً ووكأتْ ظهرها إلى الجدار. خلال ذاك، واصل الرجل القهقهةَ ملءَ شِدقَيْه.
- أترَيْن؟ قال لي رفيقي. أمَا قلتُ لك ذلك؟
مضَيْنا. لم أعدْ أشعرُ بساقَي: أحسسْتُني خفيفةً كلَّ الخفّة وبدا لي أنّي أتقدّمُ بقمزات كبيرة على وسادة من هواء، مدوّخة الرأس، بالكاد أحافظُ على توازني. رحتُ أقتفي أثَرَ رفيقي خطوةً خطوة.
توقّفَ أمامَ باب أحد المنازل وأبلغني أنّ أحداً قد مات فيه للتوّ. سرتْ رعدةٌ في أوصالي لمجرّد التفكير بالموت. من حوشِ البيت ينبعثُ نَدبُ امرأةٍ يُمزّق نياطَ القلب. دفع رفيقي البابَ المشقوقَ فتبعْتُه.
كان حَوشاً مُربّعاً، مثل جميع أحواش المدينة. تجمّعَ فيه حشدٌ من الناس. المصابيحُ الباهتةُ ينبعثُ منها نورٌ شحيحٌ حول نعشٍ بدائيٍّ تعِسٍ مركوزٍ وَسطَ الحَوش، إلى درجةِ أنّ الميتَ لا بدّ أنّه يشعرُ بالضِّيق في مثل تلك التَّخشيبة. وكان الجمْعُ متحلّقاً حَول النعش الذي تجلسُ امرأةٌ عند إحدى زواياه. تبكي وتضربُ رأسَها على لَوحات النعش الخشبيّة. نُواحُها المتحشْرجُ ودموعُها المُرّة مزّقتْ نياطَ قلبي. امتلكَني تعاطفٌ غريبٌ تُجاه تلك المرأة، فشعرتُ برغبةٍ عارمةٍ في أنْ أبكي معها، أن أجلسَ قربَها وأنْ أضربَ أنا أيضاً جَبْهتي على خشَب النَّعش. ولكنْ كيف لي أن أفعلَ ذلك؟ فجأةً، رفعَت المرأةُ رأسّها وتوجَّهَت إلى الجَمع المُحيط بها قائلةً:
- آه، ما بالُكم لا تَبكون، ألم تكونوا أصدقاءَ لنا؟
ثم أشارتْ إلى النَّعش:
- انظروه مسجّىً هنا... إنّه ميت! هل أتيتُ أيَّ فعلٍ مُؤذٍ تجاهَكم؟
واصلَت البكاءَ فيما الناسُ يُلقونَ عليها نظراتٍ لا مبالية، عيونُهم جافّةٌ وشفاهُهم مختونة. وإذ الجالسةُ عند إحدى زوايا النّعش تبدأ بشَدّ شعرها ثمّ تنتفضُ فجأةً بحركةٍ من رأسها:
- آه لكم. ابكُوا على الأقلّ...
فتحلّقوا إذّاك حولَها وسألوا في صوتٍ واحد:
- كم من المال لديك؟
تطلعَت إليهم بعينَين محمرّتَين طافحتين بالدمع:
- المال؟ لديّ ما يكفي من المال!
- نعلم ذلك...اذهبي وائْتنا به!
نظرتْ إليهم دون أنْ تفهم قصدَهم.
-... لتفعلوا ماذا بالمال؟
- لِنبكي، قالوا.
جفّفتْ دموعَها بطرَف منديلِها بحركةٍ واحدةٍ وهي تَشرُق فجأةً، وبقمزةٍ واحدةٍ ولَجتْ إحدى الغرف. اكتفوا بالتحديق في النعش يغمرُهُم الخجَلُ عائبين على أنفُسهم أنْ يلاحقوها بنظَراتهم. عادَت الأرملةُ وفي يدها كيسُ جِلدٍ عتيقٌ يعلوه العثُّ وقد اهترأتْ قَبضتُه. وكانت المرأة تبكي دموعاً حارّةً فيما الآخرونَ عيونُهم شاخصةٌ إلى كيس النقود. فتحتْه وهي ترتجفُ كورقةٍ في مهبِّ الريح ورمَتْ إليهم بالنقود فتَعالى رنينُ النقودِ المعدنيّةِ وحفيفُ الأوراق النقديّة. إذّاك فقط شرَعوا يبكون وينوحُون ويَندبون المَيت بأصواتٍ عاليةٍ انضمّتْ إلى تأوّهات الأرملة. وسط هذه الجوقة من النحيب، غَطّوا النعشَ بشَلحةٍ سوداءَ مطرّزةٍ بأزهارٍ مذَهّبةٍ ووضَعوه على محمَلٍ وحَمَلوا المحمَل على المناكب. وما إنْ خرجوا إلى الشارع حتى تكاثرَ حَمَلةُ النعش وانهار القومُ بكاءً ينشجُ الواحد منهم بجسمه كُلِّه.
- ما أغربَه من مَشهد! قلتُ لمرافقي.
- بل ما أهمَّه! إنّه مهمّ جدّاً.
سألتُه لماذا يتمُّ الدفنُ ليلاً؟ فإذا هو يظنّ أنّ العادةَ تقتضي ذلك. ثمّ استطردَ قائلا:
- في كل الأحوال، تكريمُ الميت دفنُه، نهاراً أو ليلاً، لا فَرْق. المهمُّ أنْ يشاركَ الناسُ في تشييعه.
فيما نحن نغادر، تلاشى صوتُ النَّدْب والنحيب. كنت منهكةً وَوَددْتُ لو أنّ مرافقي يتركُني لحالي ويدَعُني أواصلُ السَّيرَ بمفردي. قلت له إنّي شاهدتُ ما فيه الكفاية وإنّي أرغبُ في العودة إلى البيت. لكنّه أصرّ:
- انتظري، أرجوك، ما زال يوجد مشهد واحدٌ يجب أن تشاهديه.
وكان علينا أن نعود لنشقّ طريقنا وسْطَ الجمع. هكذا وصلْنا إلى مكانٍ يقف فيه رَجلانِ تحت هالةٍ شحيحةٍ منبعثةٍ من أحد مصابيح الشارع. وكان واحدٌ يضغطُ على أذنَيه بكلتا يَديْه بكلّ ما أوتيَ من قوّة فيما الثاني يتوسّل إليه أنْ يُنصتَ لحديثه.
- كم معك من المال؟ سأله الأوّل.
أخرجَ الثاني من جَيبه قَبضةً من قطَع النقد والأوراق.
- هاك، خذ.
- هات. وأنا سوف أستمع إليك.
كاد الآخرُ أن يجنّ من الفرح. فنَقَدَه كلَّ مالِه وبدأ يتكلّم سعيداً لأنّ أحداً سوف يُنصتُ له أخيراً، ذلك أنّ مُحاوِرَه كان قد أزاح يدَيْه عن أذنَيه. لم أنصتْ إلى قصّته ومع ذلك بدا لي أنّي سمعتُها في مكانٍ ما. آه، بلي، أذكرُ أنّي قرأتُها في كتابٍ منذ زمنٍ بعيد.
هي قصة سائقِ عرَبةٍ له ابنٌ وحيدٌ. ذاتَ ليلةٍ، يموت الابن. أراد السائقُ التعبيرَ عن حزنه فراح يقول لجميع مَن استقلّ عربتَه: «تعلمون، ابني مات، ابني أنا...». والمسافرون يتنحْنحون ولا يُنصتون لحديثه.
عَبَثاً حاول سائق العربة أنْ يُسرّ بالخبر إلى زبائنه ولكن لا أحدَ كان يريد أن يسمع. وما إن عاد إلى منزله في المساء، حتى نظر إلى حصانه وقال له: «يا حصان، صغيري مات!» وانفجر السائق في البكاء. بدا لي أنّي قرأتُ تلك القصّةَ مئاتِ المرّات. بل ساورتْني رغبةٌ عارمةٌ في أنْ أرتقيَ المنصّةَ وأرويَ القصّة على المَلَأ تكراراً بلا كَلَل. فهذا العربجي، في نهاية الأمر، يمثّل المدينة: أهل المدينة يبحثون عن حصانٍ يحادثونه ولا يجِدون حصاناً واحداً في كل المدينة.
- هل أتْعسُ من أنْ لا تعثُرَ ولو على حصانٍ واحدٍ في هذه المدينة!
- كيف؟ ماذا تقولين؟ سأل رفيقي دَهِشاً.
لم أحِرْ جواباً وأدرتُ له ظهري.
في البعيد كان البرجُ شامخاً يراقبُ المدينة التاجرةَ بعينَيه الجاحظتين. وبدا لي أنّ البرجَ لديه الكثير ليقولَه هو أيضاً، وأنّ قلْبه طافحٌ مثْل قلبي: أحسسْتُ بذلك. وأخذتُ أستذكرُ وجوهاً صديقةً هي الأجملُ بين الوجوه، ثمّ استذكرتُ وجوهاً أخرى، في الوقت ذاته شخصتْ في ذهني أشباحٌ من كل القياسات. وقَعَ اختياري على وجهٍ من تلك الوجوه، كان وجهَ أعزِّ اصدقائي. وبدأَت الوجوهُ الأخرى تتبخّر لتتكثّفَ أخيراً في نقطةٍ ما لبثتْ أنْ تَلاشتْ مُخْليةً المجالَ أمام وجهِ صديقي وحدَه.
لكنّ صديقي يسكنُ بعيداً فماذا أفعل بالحقيبة الثقيلة جدّاً؟ لم أُردْ رميَها في الشارع بل تمنّيتُ أن يسرقَها أحدُهم منّي. وددْتُ كثيراً أنْ أقولَ لمرافقي أن يسرقها منّي بل كنتُ مستعدّةً لأن أتوسّل إليه توسّلاً كي يفعل، لكنْ بدا لي الأمر عبثيّاً فامتنعْتُ عنه... إذّاك قلتُ له ببساطة: إنّني ذاهبة، وداعاً، وهذا كلّ شيء. نظر إليّ بصمتٍ ثم غادرتُ.
سلكتُ الطريق إلى بيت صديقي، وهو مألوفٌ لديّ. لكنّني كنتُ منهَكة القوى. في الشوارع كانت أضواءُ المصابيحِ تغمزُ بخفَرٍ كما لو أنّ الضوء خجولٌ من هشاشته.
وصلتُ إلى بيت صديقي وصعدتُ السلّمَ وطرقتُ على بابه الصغير. سمعتُ صوت خطواته الأليفة تقترب ثمّ فتحَ لي البابَ وعيناه ناعستان. رميتُ بحقيبتي في الزاوية وسألتُه عمّا إذا كان يدري ما في المدينة، عمّا إذا كان يعلم أنّ الناس شرَعوا يبيعون كل شيء: ضحكاتِهم ودموعَهم وكلماتِهم. اتّكَأَ إلى الجدار وأخذ يحدّقُ فيّ طويلاً ويداه تضغطان على أذنَيه.
ألححتُ وكرّرتُ السؤال:
ما بالك؟ اسمعني! إنّهم يبيعون كل شيء: هل لاحظتَ ذلك؟ اسمعني، أرجوك!
أبصرتُه يحرّك شفتيه، إنّه يتكلّم:
- كم من المال لديك؟
لمّا دسَسْتُ يدي في جيبي شعرتُ بأنّها سوف تغوص عميقاً حتى تصلَ إلى قدمي. تفحّصتُ جيوبي فلم أعثرْ على غير القماش الخشن الوسخ. ألقيتُ على صديقي نظرةً يائسةً فإذا هو لا يزال يضغط بيديه على أذنَيه.
شعرت بثقلٍ عجيبٍ، كأنّ ساقيّ قد ملّتا حمْل جسمي. جحظَتْ عيناي بطريقةٍ مضخّمةٍ وأخذتَا تضغطان على جفني: لا بدّ أنّي بتُّ أشبهُ البرجَ ذا العينين الوسيعتين الجاحظتين في البازار. صديقي يراقبني وأذناه مسدودتان. أدرتُ له ظهري وأخذتُ أجرْجرُ قدّمي واجتزتُ الباب. «حصان»... كنتُ أقول لنفسي،
«ليتَ لي حصاناً مُجرّدَ حصان!».
تباطأتُ دون أن أدري تماماً لماذا، وإذا بي لا أتقدّم. وجدتُني وسْط ساحةٍ وشعرتُ بكامل ثقل جسمي وإذا خطواتي تتجرجران بائستين.
دون إرادةٍ فعليّةٍ منّي، بدوت كأني منقادةٌ نحو البازار، كأنّ حبلاً غيرَ مرئيٍّ يشدّني إليه بكل قواه. فجأةً ألفيتُني مزروعةً في صميم البازار ذاهلةَ النظرات وسْط الجمْع الذي يطنّ طنيناً.
اقتربَ منّي رجلٌ بدا تائهاً كلّيّاً وسألني ما الذي يجري في المدينة. رغماً عنّي لم أجبْه. بدا كأنّ شفَتيّ مخيطتَان ولساني ملتصقٌ بسقف حلقي. كرّر سؤاله:
- ماذا يجري في المدينة؟
أبصرتُني ينزلق نظري إلى جيوبه.
- كم معك من مال؟
وكأنّ ذلك الصوت المخجِل لم يكن صوتي، كأنّ شخصاً آخرَ كان يصيحُ فيّ: «كم معك؟ كم معك؟ كم؟».
وتراقصتْ في رأسي صُوَرُ أحصنةٍ صامتةٍ حاِلمة تغمزُ بجفونها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.