العدد ٢٢ - ٢٠١٩

الفنّانة التّونسيّة أمال الحمروني:

أغاني الفرح والحرية واللذة

النسخة الورقية

الفنّ الملتزم، ترفيهٌ فكريّ يُصار إلى استساغته فنيّاً، انطلق من هموم صاحبه نحو أزمات شعبه، فنادى من أجل تحرّر وطنه ومن أجل الكرامة والحريّة والعدالة الاجتماعيّة.

في هذا الحوار، نستضيف إحدى أيقونات الفنّ الملتزم في تونس، الفنانة أمال الحمروني. أمال فنّانةٌ ذاع صيتها، ألهمتْ أجيالاً متتاليةً من اليسار التونسيّ والعربيّ، وحرّضت في مدارج الكليّات من أجل الحريّة. تركت الحمروني بصمتَها في الأعمال الّتي أنتجتْها. تنوّعت صنوفُ أغانيها، لكنّ همّ شعبها كان يلاحقها دائماً.

أسلوب حياة بسيطٌ من دون بذخ أو ثراء، وكثيرٌ من التواضع، هكذا هي أمال. استلّت الأثيرَ وهي تمزجه في الموسيقى لتقدّم لنا أغاني خلّدها الزمن في وجداننا، نحن الأجيال الّتي تماوجتْ بغصّة الحرمان والحاجة وهي تعزّي نفسها بأغنية «خذ البسيسة والتّمر يا مضنوني». استفزّت أغانيها الخوَنة وكانت حضناً للثائرين، فكانت أغنية «يا شهيد»، التي سبق أنْ أدّاها عميدُ الفنّ الملتزم الأستاذ الأزهر الضاوي، إدانةً للثّابت والمعروف ووصيّةً للثّبات والنّضال، فمن سقط قد خانَ في النّهاية.

ينبع الهمّ الجماعيّ الّذي تحمله أمال من شقاءٍ ذاتيّ، فتتوالى على أثره أغانيها الملتزمة. تصبغُ ابنةُ تونسَ من أنينها وألمها الأغاني. أغانٍ مضمونُها ألمٌ ذاتيّ، وموضوعُها شقاءٌ جماعيٌّ. غنّت لجميع مُنْهَكِي هذا الوطن، فالهمّ الجماعيّ في النّهاية يتقاطع مع ذواتنا للتّشابك والتّفاعل في أغنيةٍ غنّتها أمال، وهذا ما يفسّر رواج أغانيها لدى مختلف الفئات الاجتماعيّة.

ولا يسعفنا الحديثُ هنا أنْ نذكرَ جميع أغانيها، فقد قدّمت أمال للموسوعة الفنيّة التونسيّة الكثيرَ من الأعمال التي أثْرتْها. وكما قدّمت أغانيَ عن الألم والالتزام السّياسيّ والنّقاء الثّوريّ، غنّت للبهجة والفرح والسّعادة والشّوق والحنان واللذّة والشّبق، وعن المرأة وللمرأة، غنّت: يا أمّي، يا أختي، يا حبيبة، يا رفيقة العمر والدّروب.

أخبرينا عن نشأتكِ والطفولة.

أنا أصيلةُ قابس، مدينتي الّتي أعشق، تربّيتُ بين أبوين حبيبين، في بيئةٍ علّمتني معنى أن يكون للإنسان مبادئ يسير عليها ويدافع عنها، أن نعطي لمرورنا في الحياة معنىً، أن نحيا ونعمل لأنفسنا ولكن أيضاً من أجل الآخرين.

ما تحصيلكِ العلميّ وتخصّصكِ؟

لا علاقة لاختصاصي بالفنّ، فأنا تخرّجتُ من «المدرسة الوطنيّةِ للإدارة»، اختصاص ماليّة عموميّة. أنا «عَونٌ عموميّ»، أحبّ هذه التّسمية لأنّها تحيل إلى مفهوم «المرفق العموميّ»، هذا المرفق الذي تُبنى عليه كلّ الدّول الّتي تحترم شعوبها.

كيف كانت النّقلة الفجائيّة من الإدارة إلى الفنّ؟

كان ولعي بالغناء والفنّ عموماً سابقاً للاختصاص المهنيّ. أحببتُ الغناء وأصبح رفيق مهجتي في عمرٍ مبكّرٍ جدّاً، أمّا تكوين «مجموعة البحث الموسيقيّ» في قابس وبداية المسيرة التي تعرفون، فهي تزامنت مع دخولي الجامعة عام ١٩٨٠.

عُرفْتِ كفنّانة ملتزمة تنطلق من قضايا شعبها وتترجمها في أغانٍ وجدت صدىً لدى الطلّاب والعمّال، لماذا اخترتِ هذا اللون الموسيقيّ؟

في صغري غنّيتُ كلّ ما لانتْ له أذني وهفّت له مهجتي، لكن لم أفكّر إطلاقاً، رغم حبّي للغناء والموسيقى، أنْ أمتهنهما. أعتقد أنّ اكتشاف تجربة الشّيخ إمام وأحمد فؤاد نجم كانت لحظةً فارقةً في حياتي. حينها فهمتُ أنّ الفنّ تعبيرٌ عن الوجدان الشّخصيّ والجمعيّ في كلّ حالاته، وهو وحده، ما يمكن أن ينفذ إلى مغاور الوعي.

ما معنى أن تكوني فنّانةً ملتزمةً في بلدٍ ديكتاتوريّ، أي الصّعوبات والعواقب الوخيمة؟

أعتقد أنّ بناء الوعي عمليّةٌ طويلةٌ نراكمها عبر تجربتنا الحياتيّة اليوميّة، اطّلاعاً، معرفةً، ممارسة، إلخ. يجب التّذكير بأنّنا جيلٌ نشأ في مناخ مختلف، أواسط السّبعينيّات. في سنّ السادسة عشرة، انخرطتُ مثل الكثيرين في حركةٍ تلمذيّةٍ واعيةٍ لقضاياها الخاصّة ولقضايا شعبها. كنّا نطالع بنهمٍ، نشاهد الأفلام المهمّة بشغف، نتابع التّجارب العالميّة، سياسة، فنّاً وفكراً بدهشة الشّباب الحالم بمستقبلٍ يليق بشعبنا. فأن أكون فنّانةً ملتزمةً بكلّ الوعي الضّروري في سنّ التاسعة عشرة، كان جزءاً من المسار الطبيعيّ لحياةٍ كانت بعدُ مختلفة ومنخرطة في الثنايا الوعرة.

كيف كانت الحفلات الموسيقيّة بالنّسبة إليكِ؟ هل هي عملٌ أم التزام؟

الالتزام يتجلّى طبعاً فيما اخترتُ أن يحمله صوتي، من قضايا ومواضيع، لكنّه يتجلّى أيضاً في البعد الجماليّ لما نقترحه على المتلقّي. لا يمكن لأغنيةٍ أن تصل إلى وجدان النّاس ووعيهم ووسائِل عقلهم إذا لم تكن لها مقوّمات الأغنية الجميلة، والجميل هنا، قد يكون مستحدثاً جديداً، غير خاضع ضرورةً لمقاييس «الجميل» بالمعايير القديمة أو السّائدة. لذلك أعتقد، بكلّ تواضع، أنّ تجربتنا كانت رائدة، لأنّ «جدّيّة» المواضيع وجرأتها وفرادتها وطرافتها، أحياناً، خلقتْ شكلاً للتّعبير الموسيقيّ مختلفاً ومخصوصاً.

حدّثينا عن مغادرتك «فرقة البحث الموسيقي»، وعن تجربتكِ الجديدة في فرقة «عيون الكلام».

هذا موضوعٌ لم أشفَ منه، وقد لا أشفى أصلاً، ولا ضرر في ذلك لأنّني علمتُ منذ زمنٍ بعيد بأنّنا نكبر أيضاً ونتقدّم وسط أحزاننا، وقد يكون بفضلها. سألخّص ما قلته في العديد من المناسبات ولكن لم يحتفظ منه مع كل الأسف، إلا بما لا قيمة له. كانت تجربة «مجموعة البحث الموسيقيّ» تجربة أغنية مختلفة، متفرّدة، قصّة ملحّنين مبدعين وشعراء موهوبين، وهو الأهمّ، لكنّها كانت أيضاً مسيرة شبابٍ ارتبطوا بعلاقةٍ إنسانيّةٍ خاصّة جدّاً. كانت المتن الحقيقيّ الّذي واجهوا بفضل وعيهم وبفضله أدغالَ تجربةٍ كانت تتجاوز أكتافهم الغضّة. لقد نجحوا في نحت تلك «الشّخصيّة الجماعيّة» الّتي أحبّها الناس وتماهوا معها لأنّها كانت تشبههم وتحدّثهم عن أنفسهم. والنّاس بحدسهم الفطريّ، كانوا يعلمون ويحسّون بما يجمعنا ويحرّكنا، حتّى من لم تكن له معرفةٌ شخصيّةٌ بأفراد المجموعة.

إنّ المجموعة الّتي تأسّست عام ١٩٨٠ ونحن بين سنّ ١٩ و٢٢، لم يكن لها قائد فرقة. كنّا نقدّم أغانينا على أنّها «أغاني المجموعة»، وإن كانت في الواقع من تلحين نبراس أو خالد أو خميس، وكنّا نتكلّم بصوتٍ واحدٍ وموقفٍ واحدٍ عندما نُسأل أو نجري حواراً ما. كان وعينا أكبر من أعمارنا، وكنّا، عن طريق الممارسة، نقدّم الدّليل على أنّ العلاقات الفنّيّة المختلفة لما نراه ونسمعه في السّائد منها ممكنة. هل تلاحظ كم أعيدتْ كلمة «كنّا»، ذاك بيت القصيد وسبب حزني ووجعي حتّى الآن! فقد انقطعنا وعدْنا إلى الغناء بعد ثماني سنواتٍ من التّوقّف بسبب سجن بعضنا، كان الشّوق إلى العودة عميقاً وشديداً لدى كلّ واحدٍ منّا من دون استثناء. لكنّ اللّقاء، بالنّسبة إليّ، كان مقبرةً حقيقيّةً لأجمل الأحاسيس التي عشتُها مع أقرب الأصدقاء إلى قلبي وأكثرهم حميميّةً، ولن أتوقّف عند التفاصيل، فلا معنى لها عندما تبلغ الإساءة وخيبة الأمل درجةَ أن نبتغي البُعد من أجل أن نحافظ فقط على أجمل ما تحتفظ به الذّاكرة نفسها. أكثر الأشياء التي منعتْ تجاوزي العاطفيّ للمحنة هي إعادة كتابة تاريخ مزيّفٍ للمجموعة، على قياس الرّاهن، مع أنّ عناصرها كلّهم أحياء يرزَقون. قد أغفر ذلك ولكن هل يغفر التّاريخ؟! لم تكن محنة الفراق محنتي الخاصّة بل كانت محنة خميس أيضاً، فنحن جزءٌ من البحث الموسيقيّ وهي جزءٌ منّا، وسنبقى كذلك دوماً، فلا أحد يستطيع فسخ الذاكرة، تلك الذّاكرة عنيدة.

ولأنّنا كنّا تقريباً على نفس الموقف ممّا عشناه، كان تجاوزنا رهين مواصلةِ ما حلمنا بتحقيقه عند العودة مع باقي رفاقنا، وإن بشكلٍ جديد، وكانت «عيون الكلام». حقّقناً معاً الكثير، أغانيَ جميلةً، مجموعة من العازفين حملوا معنا مشروعنا بكلّ الموهبة والحبّ. ومازال سيتحقّق الكثير، إن بقي في العمر أنفاس. المؤكّد الآن أنّ الفضاء رحب، وصداقتي مع خميس بلغتْ من النّضج درجةً تسمح بخوض كلّ الممكنات، معاً دون شكّ، ولكن أيضاً، كلٌّ حسب رغباته الفنّيّة الخاصّة وميوله الشخصيّة التي قد يحقّقها على انفرادٍ أو مع مبدعينَ آخرين، بشكلٍ موازٍ لتجربتنا. تلك ميزة التّجربة والنضج المتراكمة، فالحياة حبّات لؤلؤ ثمينة يجب أن نجيد نظمها.

واليوم كيف تنظرين إلى تجربتك الفنّيّة بعد مراكمتكِ إرثاً فنّيّاً وشعبيّة وجمهوراً على مدى أربعة عقودٍ؟ وما هي نقائص تجربتك الفنّيّة برأيك؟ وهل طوّرتِ من أساليب عملك؟

أشعر بالفخر والحزن في آنٍ معاً. الفخر بسبب ما حفرتْه أغانينا في وجدان النّاس حتّى أصبحت جزءاً من الذّاكرة الجمعيّة، والحزن لأنّها لم تسجّل كلّها في محامل مُرضيّة على المستوى الموسيقيّ والتّقني، كان سيعطيها ألَقاً وإشعاعاً إضافيّاً ويمدّد في حضورها عبر الأيّام.

لقد شاب تجربتي الشّخصيّة الكثير من النّواقص، أوّلها وأهمّها، بحسب رأيي، أنّني لم أنجح بتاتاً في امتلاك تقنيّات الغناء الحرفيّ ولم أجتهد كفايةً لتحقيق حلمي في مواصلة تعلّم الموسيقى، كان ذلك سيعطي حتماً قيمةً مضافةً لكلّ ما أدّيته. لم أكن شرسةً في تحقيق كلّ ما كنت أصبو إليه، وتلك مسؤوليّتي الشّخصيّة. لكنّني، على الرّغم من تقدّمي في السّن، واستحالة الرّجوع بالزمن إلى الوراء، أنوي تحقيق الكثير ولو بعد الخروج إلى التّقاعد.

يعني أنّكِ لم تتوقّفي عن الغناء؟ ولكن ما سبب هذا الانقطاع المفاجئ؟ هل هنالك مشروعٌ فنّي مستقبليّ لك؟

لا أشعر أبداً بأنّ الوقت حان كي أتوقّف عن الغناء، وإن كنت أعرف أنّني لن أتأخّر عن ذلك في اللّحظة الحاسمة. كلّ ما في الأمر أنّني في الخارج للعمل، ولحاجةٍ ملحّةٍ في لملمة نفسٍ متعبةٍ جدّاً. أتمنّى أن يكون في الأنفاس بقيّة لتحقيق بعض ما تمنّيتُ تحقيقه لأغنيتنا.

كانت «عيون الكلام» محطّةً أخرى في درب الفنّ الملتزم؟ هل لقيت المجموعة الجديدة رواجاً وذاع صيتها أم كان الأمر عسيراً في بدايتها؟

أرى أنّ «عيون الكلام» كانت محطّةً أخرى تضاف إلى مسيرتنا أنا وصديقي خميس، وهي كانت مراكمة لما عشناه في «مجموعة البحث الموسيقيّ»، ولا أعتقد أنّ البدايات كانت متعثّرة لأنّ وجدان الجمهور كان يرانا، كما اعتبرنا دائماً، ثنائيّاً ولد من رحم مجموعة أحبّها بصدق، وواصل كذلك لأنّ هذا الجمهور أحبّ أغانينا الجديدة وحفظَها، لكن لا يمكن إنكار أنّ الأغاني القديمة غرست في الذّاكرة والوجدان لأنّ الزّمن أثبت قيمتها، ولأنّها ارتبطت أيضاً بفترةٍ عسيرة.

لا وجود لأغنية ملتزمة من دون شعراء ملتزمين، كيف كانت تجربة العمل مع شعراء ملتزمين؟

ما قلتَه حول الشّعر والشّعراء صائبٌ جدّاً، لم يكن لتجربتنا أن ترى النور من دون وجود شعراء موهوبين، كانوا ولا يزالون، أصدقاء ورفاق دروب. كلمتهم أعطت لأغانينا أجنحةً ولمشروعنا ألقاً ومعنى. أحبّ عالمهم وأعشق سماعهم وهم يقرؤون ما تحدّثه عنّا أشعارهم.

الصغيّر أولاد حمد، آدم فتحي، الطيّب بوعلّاق، جمال قصودة، وغيرهم كثيرون اليوم في تونس ممّن لا يتّسع المجال لذكرهم، قدّموا للشعر العامّي أو الفصيح، هل كانت تجربتهم ناجحة في رأيك؟

يُسعدني ذكرهم بالأسماء لأنّ أسماءهم وشمٌ نحته الزّمن في وجداننا، بلقاسم اليعقوبي، عبد الجبّار العشّ، كمال أحمد بديعة، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ غنّينا من كلمات خالد الحمروني، الناصر الرديسي. طبعاً كلّ هؤلاء الشّعراء مختلفون بكلّ المقاييس ولا يستوي أبداً وضعهم على قدم المساواة، وفي كلّ الحالات أعتبر أنّني لست مؤهّلة أبداً لتقييمهم شعريّاً، إلّا أنّ كتابتهم للأغنية تحديداً أضافت لتجربتهم الشّعرية الكثير.

بصفتكِ فنّانة ملتزمة يساريّة الهوى، هل عانيت من الرّقابة بعد الثّورة في عهد الإسلاميّين؟

إطلاقاً، لم يحدث هذا قطّ، لأنّهم لا يقدرون. ثمّ ما كان ومازال يثيرني، سلباً طبعاً، هو تعبيرهم لي دائماً كلّما سنحت الفرصة، عن إعجابهم وتقديرهم والتّأكيد على حفظهم لأغانينا، لكنّني أشير لهم دوماً بأنّهم قطعاً لا يحفظون الأغاني التي تدينهم فكراً وممارسةً، وأمثال تلك الأغاني كثير. سلوك المهادنة والخطاب المزدوج والمخادع هو أهمّ ما يميّز الإسلاميّين. أذكر أنّهم كانوا يرافقون حملتهم الانتخابيّة في العام ٢٠١١ بصوتي، وبمضخّم صوتٍ يجوب شوارع المدينة. إنّهم لا يستحون.

ماذا كان شعورك بعد اغتيال شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، والاعتداء على قصر العبدليّة، ومنع عرض بعض الأفلام، والاعتداءات المتتالية على الفنّانين؟

اغتيال الشّهيدين هي قضيّة اغتيالٍ سياسيّ بامتياز، اغتيال كان ومازال وسيبقى جرحاً نازفاً في نفس كلّ الأحرار، هو جرح وطنٍ بأكمله، وهو عارٌ بكلّ المقاييس. لن نتمكّن من التّجاوز طالما لم ترَ الحقيقة النور. تتوهّم الأطراف المستفيدة بأنّها، عبر إيقاف منفّذي الجريمتين، ستدفن الحقيقة كلّها. تتجاوز الحقيقة عمليّة الاغتيالين لتعرّي واقعاً يتغلغل فيه الإرهاب بآليّاتٍ ووسائل ونتائج ووجبت محاسبة المسؤولين عنها.

أمّا الاعتداء على التّعبير الحرّ وعن كلّ المدافعين عنه من الفنّانين فقد كان أوّل مَظاهر تغلغل فكرٍ أرادوا له أن يغيّر من واقع التّونسيّين نحو الظّلمات. وقد بدأ بالتّعبير عن نفسه في الأشهر الأولى من عام ٢٠١١، وإن حاول البعض التّقليل من خطورته. وقد كان الفنّانون أوّل من أطلق صيحة الفزع لأنّهم فهموا باكراً ما يتربّص بالوطن آنذاك.

واليوم، كيف تشاهدين السّاحة الفنّيّة في تونس؟ هل ساهمت الحريّة اللامحدودة في تطوير المشهد الثّقافيّ في تونس؟

قد يبدو المشهد قاتماً برجوع تعبيراتٍ فنّيّة غايةً في الرّكاكة وانحدار الذّوق. إلّا أنّ المستقبل مفتوحٌ على كلّ الممكنات الجميلة لأنّ هناك جيلاً من الشّباب في العديد من المجالات الفنّيّة ما فتئوا يبهروننا بخطابٍ وجماليّة جديدين ومتفرّدين. أعتقد أنّ لجيلكم، وعلى عكس المعتقد السّائد، قدراتٍ وإمكاناتٍ كبيرة تعبّر عن نفسها بكلّ إبداعٍ كلّما سنحت فرصة ولو ضئيلة لذلك. أنا متفائلة بقدرتهم على المقاومة وإبلاغ أعمالهم رغم الواقع الرديء.

ماذا عن الفنّ الملتزم في تونس على ضوء تجربتكِ خلال أربعة عقودٍ؟ هل هو محصورٌ في الدّول الاستبداديّة؟ أنتِ الّتي غنّت في ثلاث فتراتٍ مختلفةٍ في عهد تونس الحديث: فترة بورقيبة، فترة بن علي وفترة الحريّة والديمقراطيّة.

نتحدّث هنا عن الأغنية الملتزمة بما أنّ الفنّ الملتزم مجاله أرحب ويمسّ كلّ التّعبيرات الفنّية تقريباً. صحيحٌ أنّ تجربتي الشّخصيّة تمتدّ على حوالي أربعة عقود، لكنّ عمر هذه الأغنية التي تستمدّ مواضيعها من المعيش في شتّى مجالاته، وجملها الموسيقيّة من الموروث الشّعبي الموشوم في الذّاكرة والوجدان، أقدم بكثيرٍ من تجربتنا أو تجربة الجيل الذي سبقنا. والمختصّون في تاريخ الأغنية الشّعبيّة في تونس، يؤكّدون أن هذه الأغنية تطرّقت كثيراً إلى المواضيع الممنوعة، وخاصّةً تلك التي عارضت السّلطة (السّياسيّة، أو العائليّة أو غيرها). أمّا عدم معرفة الرّأي العام الواسع بها، علاوةً على حفظه لها، هو تحديداً لأنّها أغنيةٌ محاصرةٌ بطبعها من السّلطة التي تنتقدها أو تتحدّاها والّتي تقرّر(السلطة) طبيعة ما يجب أن يروّج أو لا بسبب امتلاكها تحديداً وسائل التّرويج وآليّات المنع والقمع، فالأغنية السّائدة هي ضرورة أغنية تمدح السّلطان وتروّج له أوهي أغنيةٌ لا تقلقه أو كما هو الحال دائماً، عند شعوبنا، أغنية الحبّ والهجر والوصل والحرمان. والسّؤال الذي يُطرح هنا، كيف لفنّانين مبدعين، شعراء، موسيقيّين أو مغنّين، أن يمارسوا على أنفسهم تلك الرّقابة الذّاتيّة ولا يفجّروا ملكاتهم إلّا بما «يُرضي» الحكّام أو يتحدّث عن جانبٍ وحيدٍ للحياة؟ لطالما اعتقدت أنّهم يملكون آثاراً لم يقدّر لها أن ترى النور، بإرادتهم الشّخصيّة، ما يجعل منّا شعوباً منفصمةً حقّاً.

لا أعتقد أنّ الأغنية الملتزمة حكرٌ على العيش في ظلّ الدّول الاستبداديّة، لأنّ كلّ زمانٍ وكلّ مكانٍ وكلّ ظرفٍ يعبِّر عنه فنٌّ هادف، منحازٌ للشّعوب، معارضٌ للحكّام، مشاكسٌ للعقليّة السّائدة ومحرّكٌ لمياه الفكر الرّاكدة. لكنّ الحاجة الوجدانيّة لمثل هذه الأغاني تكون ملحّةً أكثر في حكم الأنظمة المستبدّة، لأنّها تترجم توقاً للانعتاق وحاجةً حياتيّةً لاستبدال القديم بجديدٍ يتناغم مع الطّموح الجماعيّ لتغيير الواقع.

لا تختلف فترتا بورقيبة وبن علي في رفض أغنيتنا وقمعها وحَشرها في الزاوية أو محاولاتها الفاشلة استمالة أصحابها، إلّا أنّ السّلطة في زمن بورقيبة كانت تمنعنا صراحةً لمعارضتنا النّظام، أمّا زمن بن علي، فقد كانت تمارس القمع تحت تعلّات مضحكة أو بضغوطاتٍ على المبادرين بدعوتنا، في بعض المناسبات.

وفترة ما بعد الثورة؟ كيف كانت التّجربة؟ وما هي خصوصيّة كلّ فترة؟

لقد عرفنا في نهاية العام ٢٠١٢، وخاصّةً بعد ١٤ كانون الثّاني / يناير ٢٠١١ نشاطاً مكثّفاً، لحاجتنا أوّلاً إلى مشاركة شعبنا لحظاتٍ تاريخيّة من حياته، ولأنّ جزءاً كبيراً من هذا الشّعب اكتشفَنا كمن يكتشف صورةً أخرى من ملامحه. كانت عروضاً وحفلات عالية التركيز، أحاسيس، أشجاناً وأفراحاً. لكنّ تلك الفترة لم تعرف إنتاجاً كثيفاً ولم تلد أغاني، متفرّدةً ترتقي لما عشناه، كما كان متوقّعاً. أعتقد أنّ ذلك يرجع إلى أنّ الواقع نفسه كان بديعاً، ثمّ لأنّ الشعراء الواعين بخطورة اللّحظة، كانوا حذرين وفي منأى عن كتابة نصٍّ يعبّر عن لحظةٍ متحرّكةٍ ومتغيّرةٍ بمثل ما عشناه. أتذكّر أنّنا ردّدنا أغنيةً جميلةً جدّاً، بداية اندلاع الاحتجاجات في ليبيا، لكنّنا تخلّينا عنها حالما اتّضحت الصورة، فلم تعد كلماتها تترجم عمّا توقّعناه من عدوى جميلة سرتْ من تونس إلى ليبيا. أظنّ أن المستقبل كفيلٌ وحده بفرز أعمالٍ فنّيّة تؤسّس لما نعيشه بكلّ الوعي الذي تهديه المسافة مع الرّاهن.

العدد ٢٢ - ٢٠١٩
أغاني الفرح والحرية واللذة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.