عشيّة ١٨ كانون الأوّل / ديسمبر٢٠١٨ تحرّك قطار سكّة حديد من مدينة عطبرة، المضرِبة احتجاجاً على غلاء المعيشة والفساد، لينضمّ أهالي المدينة العمّالية إلى جماهير بورتسودان وأم درمان والخرطوم في إطلاق ثورة شعبيّة سلميّة عارمة ضدّ عهد «ثورة الإنقاذ» لعام ١٩٨٩ التي جاءتْ إلى الحكم بالجبهة الإسلاميّة وعمر البشير.
عشيّة يوم ١٧ آب / أغسطس ٢٠١٩ وصل قطار عطبرة، وقد عُمّد «قطار الثورة»، إلى الخرطوم ليشارك أهالي مدينة الثورة في الاحتفال بالتوقيع على الوثيقة الدستوريّة.
خارج القاعة، جماهير محتشدة تختلط عندها الفرحةُ بالانتصار مع التوجّس من حدود الإنجاز ومع التصميم على الاستمرار لتحقيق الحكم المدنيّ وتغيير النظام بمجمله.
مع التوقيع على الوثيقة الدستوريّة، وصَل قطار الثورة إلى محطّة تاريخيّة مع أنّها لن تكون الأخيرة.
على مدى أكثر من أربعة أشهر، نمتْ حركةٌ شعبيّة سلميّة عارمة، تضغط بقوّة العدد والإرادة والوحدة على السلطة العسكريّة - الأمنيّة. في الشوارع جيلٌ جديد من نساءٍ وشباب لم يعرف معظمُهم غير عهد «ثورة الإنقاذ» الإسلاميّة وقد أجرَوا تمرينهم الأوّل على الثورة خلال انتفاضة العام ٢٠١٣ التي قمعها البشير بالقتل والاعتقالات. وعلى مدى أربعة أشهر عمّت التظاهرات والإضرابات والاعتصامات في أكبر عدد من المدن والبلدات والولايات، تحضنها شبكة استثنائيّة من الهيئات القاعديّة من لجان مقاومة وتنسيقيّاتٍ ولجان أحياء وتنظيمات نسويّة وشبابيّة ونقابات، إلخ.
القيادة لتحالفٍ نشأ حول «إعلان الحريّة والتغيير» طالَب بتنحّي عمر البشير وتسليم الحكم لحكومةٍ مدنيّة تخضع لها القوّات المسلّحة والأمنيّة. ضمَّ التحالف كتلتين حزبيّتين: حزب الأمّة التقليدي وحلفاءه، من جهة، وتحالفاً قوميّاً - يساريّاً يضمّ الحزب الشيوعيّ وحزبَي البعث والناصريّين، من جهة أخرى. غير أنّ القيادة اليوميّة كانت لـ«تجمّع المهنيّين السودانيّين» الذي نشأ في خضمّ الحراك كمعارضةٍ سياسيّة غير حزبيّة تمثّل نقابات المهن الحرّة.
في نيسان / أبريل، حاصرت التظاهرات مكتبَ عمر البشير تطالبه بالتنحّي («تسقط بس!») وطوّقت القيادة العامّة للجيش. في ١١ منه، وقع انقلابٌ عسكريّ - أمنيّ اعتُقل فيه البشير ومدير الأمن، صلاح قوش، وأعلن عن تشكيل «مجلس عسكريٍّ انتقاليّ» لسنتين ما لبثتْ أن آلت رئاستُه عبد الفتّاح البرهان، المفتّش العامّ للجيش، ونائبه محمد حمدان دقلو - حميدتي، قائد «قوّات التدخّل السريع» (المكوّنة في معظمها من مليشيات الجنجويد ذات الشهرة الدمويّة في دارفور). والضابطان معروفان بعلاقتهما الوثيقة بالعربيّة السعوديّة والإمارات، يتولّيان تصدير المقاتلين السودانيّين إلى اليمن، بمن فيهم الأطفال. في مطلع أيّار / مايو، ردّتْ قوى الثورة على الانقلاب بخرق حالة الطوارئ وتنظيم «مليونيّة السلطة المدنيّة».
خلال أشهُر، راوغَ المجلس العسكريّ في المفاوضات مع قوى الحرّية والتغيير إلى أن أمّن الدعمَ والتمويل والتسليح من الترويكا المضادّة للثورة - مصر - السعوديّة - الإمارات، ولم يزعجْه بشيء موقفٌ أميركيّ يدعو إلى منع الفوضى وعودة الأمن والاستقرار. بناءً عليه، انتقلتْ قوى الانقلاب من الدفاع إلى الهجوم. أقدمتْ «قوّات الدعم السريع» يومَ الثالث من حزيران / يونيو على فضّ اعتصام القيادة في مجزرة سقط فيها أكثرُ من مئة قتيل وعدة مئاتٍ من الجرحى، وقد رميتْ عشرات الجثث في النهر، وتعرّض عدد من المعتصِمات للاغتصاب. ارتكب المجلس العسكريّ مجزرته وأعلن قطْع المفاوضات.
لم تقضِ المجزرة على الانتفاضة لكنّها أدّت إلى اختلالٍ في موازين القوى إذ حرمت قوى الثورة من الطوق الذي كانتْ تضربه على مركز قيادة الجيش. ردّت قوى الحرّية والتغيير في اليوم التالي للمجزرة بالاعتصام العام وبالإضرابات والتظاهرات المليونيّة.
في ظلّ هذا الاختلال في موازين القوى، وتفاوُت المواقف داخل «قوى الحرّية والتغيير» حول أشكال التصعيد، استؤنفت المفاوضات التي أفضتْ إلى صياغة اتّفاقٍ على وثيقةٍ دستوريّة بناءً على وساطةٍ حاسمة لرئيس وزراء إثيوبيا وممثّل الاتّحاد الأفريقي. وهذه أبرز بنودها:
فترة انتقاليّة من ٣٩ شهراً يتمّ خلالها تحقيق السلام مع الحركات المسلّحة، ومحاسبة مسؤولي «النظام البائد» عن الجرائم بحقّ الشعب، ومنها مجزرة فضّ الاعتصام في ٣ يونيو / حزيران وسائر الانتهاكات، ومعالجة الأزمة الاقتصاديّة، وتأمين استقلال القضاء وتحقيق حقوق النساء والشباب والإعداد لدستور جديد.
يشرف على الفترة الانتقاليّة مجلسُ سيادةٍ يتشكل مناصفةً بين المجلس العسكريّ الانتقاليّ وقوى إعلان الحرّية والتغيير بالإضافة إلى عضوٍ مدنيّ يجري اختياره بالتوافق بين الطرفين. يرأس المجلسَ رئيسٌ عسكريّ خلال الـ ٢١ شهراً الأولى ورئيسٌ مدنيّ خلال الـ١٨ شهراً المتبقيّة. على أن يحلّ المجلس العسكريّ الانتقالي نفسَه بعد تشكيل مجلس السيادة.
مجلس وزراء، تختاره قوى الحرّية ويعيّن أعضاء مجلسُ السيادة.
تعيين مجلسٍ تشريعيّ، خلال ٩٠ يوماً، يضمّ ٦٧٪ من ممثّلي قوى الحرّية والتغيير و٣٣٪ من القوى الأخرى، من صلاحيّاته سحْب الثقة من الوزارة.
في ختام المهلة الدستوريّة، سَنّ دستورٍ نهائيّ وتنظيم انتخابات حرّة تُفضي إلى قيام حكمٍ مدنيّ.
تمّ تشكيل مجلس السيادة برئاسة عبد الفتّاح برهان وضمَّ خمسة عسكريّين وخمسة ممثّلين عن أحزاب قوى الحرّية والتغيير بينهم إحدى قائدات الحركة النسويّة. واختيرتْ محاميةٌ قبطيّة بما هي العضو الحادي عشر، كما اختيرت امرأةٌ رئيساً للقضاء، وتشكّلت حكومةٌ انتقاليّة.
هكذا طوَت الثورة السودانيّةُ السلميّة ثلاثين سنةً من دكتاتوريّة عمر البشير الدمويّة الفاسدة. ونجحتْ في إحداث خرقٍ في النظام القائم، وفرضتْ شراكةً، وإن تكن غير متكافئة، مع العسكريّين الانقلابيّين مفتوحةً امام شتّى الاحتمالات.
أولى المهمّات - محاسبة المسؤولين عن مجزرة فكّ اعتصام القيادة ومعاقبتُهم - تصطدم برفض العسكريّين تشكيل لجنة تحقيق دوليّة مستقلّة لهذا الغرض.
مساءلة أركان النظام ومحاسبتُهم. تجري محاكمة عمر البشير بتهمة «الثراء الحرام» بتجاهلٍ كاملٍ لجرائمه ضدّ الإنسانيّة ومسؤوليّته في انفصال الجنوب، وفي الفساد وسوء إدارة الاقتصاد، وغيرها. أمّا أن يكون أحدُ أكبر المتّهمين بجرائمَ ضدّ الإنسانيّة في دارفور، الفريق أوّل حميدتي، هو موقّع الوثيقة الدستوريّة مع قوى الحرّية والتغيير فأشبه بصكّ منع محاكمةٍ مُسبقٍ عنه وعن أعوانه الباقين في السلطة.
الثغرات التي يمكن للعسكر أن يَنفذوا منها لتعطيل المرحلة الانتقاليّة أو الاحتفاظ بالهيمنة على مؤسّسات الحكم المدنيّ والحياة المدنيّة، وأبرزُها أنّ لا سلطةَ للمجلس السياديّ ولا للوزارة على القوّات المسلّحة والأمنيّة، التي احتفظتْ لنفسها بحقّ تعيين وزيرَي الدفاع والداخليّة.
السؤال المركزيّ في السياسة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتنمويّة. انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة العام ٢٠١٣ ونهاية العام ٢٠١٨ ضدّ سياسة الإفقار والفساد التي انتهجها نظامُ البشير تلبيةً لطلب المؤسّسات الماليّة والإنمائيّة الدوليّة: خفض قيمة العملة، رفع الدعم عن السلَع الغذائيّة والمحروقات، وغيرها. فماذا ستكون السياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة لحكومة تكنقراط سوف تتعرّض للضغوط والاملاءات إياها، تضاف الى مسووليّتها عن معالجة قضايا المناطق المتأثّرة بالحروب والفئات المهمّشة والمستضعَفة.
الحزب الشيوعيّ السودانيّ هو أبرزُ المعارضين للاتّفاق. سجّل على الاتّفاق وعلى حلفائه في قوى الحرّية والتغيير: تغييب الجماهير عن المشاركة في المفاوضات، القبول بمشاركة العسكريّين في المرحلة الانتقاليّة، حصر قضايا الدفاع والجيش والأمن بالعسكريّين، عدم تشكيل لجنة دوليّة مستقلّة للتحقيق في مجزرة فضّ اعتصام القيادة، والتخوّف من أن يكون تشكيلُ مجلس السيادة مقدّمةً لقيام نظامٍ رئاسيّ. وإذ أعلن الحزب التزامه بالمعارضة السلميّة، واصل دعوتَه إلى «تغييرات جذريّة متمثّلة في إسقاط النظام وتفكيك دولة الرأسماليّة الطفيليّة وتصفيتِها».
الطرف الآخرُ المعارِض للاتّفاق هو «الجبهة الثوريّة» التي تضمّ الحركاتِ المسلّحة في الغرب والجنوب الغربيّ، في بلاد النوبة والنيل الأزرق ودارفور. وقد رفضتْ حضور مراسيم توقيع الوثيقة الدستوريّة احتجاجاً على عدم إشراكها في المفاوضات، على أنّها أكّدت التزامها بالهدنة بينها وبين النظام وبالمعارضة السلميّة للاتّفاق.
هل كان لقوى الحرّية والتغيير خيارٌ آخر لتحسين شروط التسوية مع المحافظة على سلميّة حراكها بعدما فُضّ اعتصام القيادة العامّة؟ سوف يكون هذا السؤال في صلب حوارات ونقاشات جميع المشاركين والمعنيّين بالثورة السودانيّة.
الثورة مستمرّة بالتأكيد، ولكن بأيّ مقادير من الحشد وبأيّ وسائلِ ضغطٍ واحتجاجٍ وعرقلة تناسب المرحلة الانتقاليّة؟
في هذا العدد من «بدايات»، أعطينا الكلمة لنساء ورجال السودان ومعظمُهم من المشاركين المباشرين في الثورة. ننشر نصوصاً تعرّف بعوامل الثورة وقواها والقوى المناهضة لها، ونستعرض أساليب الحشد والتنظيم والهيئات المحليّة والقاعديّة التي تتولّاها، نلقي الأضواء على الدور المميّز للنساء في الثورة، وقد أولينا أهمّيّةً خاصّة للمَعيش اليوميّ في الثورة بنشر يوميّاتها. وكانت لنا الفرصة أيضاً أن نحيط بأوجهٍ مختلفة من الفنّ السودانيّ، في التشكيل والغرافيك وفنّ الملصَق والتصوير الفوتغرافيّ والغرافيتي. إلى هذا، أضفنا شاهدَين عربيّيْن يكتبان عن السودان الذي عايشاه، شعباً ونضالاً وثقافة.
لعلّ في هذا الملفّ السودانيّ وثراء وتنوّع العدد المزدوج ٢٣ - ٢٤ ما يعوّض عن طول المهلة التي غبنا فيها عن القراء العائد بالدرجة الأولى إلى إصرارنا على متابعة تطوّرات الحدث السودانيّ واستكتاب المعنيّين مباشرةً به.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.