شهد الفكر الاقتصاديّ الماركسيّ مساهمتين تجديديّتين استثنائيّتين عشيّة الحرب العالميّة الأولى. «الرأسمال المالي» لرودولف هيلفردينغ و«تراكم رأس المال» لروزا لوكسمبورغ. الأوّل صدر في فيينّا عام ١٩١٠1. عُدّ بمثابة المجلّد الرابع لـ«رأس المال» حال صدوره. رفض صاحبه مقولة الانهيار الحتميّ للرأسماليّة، لكنّه اعتبر أنّ رأسماليّة القرن التاسع عشر الحرّة التزاحميّة صارت من الماضي، وأنّ «النموذج البريطانيّ» الارتكازيّ في تحليلات ماركس بـ«رأس المال» والذي يظهر فيه الرأسماليّون أنصاراً لحرّيّة التبادل ما عاد يغطي واقع الحال، بخاصّةٍ مع الصعود الصناعيّ لألمانيا والولايات المتّحدة، حيث حاجة الرأسماليّين إلى الحماية الجمركيّة، ودور الدولة وتشريعاتها المساند لهم، وحيث تتنامى نزعة التمركز في عمليّات تحقيق فائض القيمة، مع ظهور الشركات المساهمة، ثمّ الكارتيلات الصناعيّة والاحتكارات الائتمانيّة2. درس هليفردينغ الترابط المتنامي بين المصالح المصرفيّة والمصالح الصناعيّة، ووجد أنّ المصرفيّ في عصره ما عاد يكتفي بإقراض الصناعيّ لرأس المال والاكتفاء بالفائدة. أمّا الصناعيّ فما عادتْ مصلحته في الإبقاء على تملّكه الفرديّ لمشروعه، وأنّ بمستطاعه إذا باع قسماً من هذا المشروع في شكل أسهم، أن يبقى متحكّماً به كلّيّاً، طالما معه أكثريّة الرأسمال. الأفضل له أن يستثمر الرأسمال الذي سحَبه من هذا المشروع لأجل إنشاء فروعٍ له وفقاً للمسار نفسه، وشيئاً فشيئاً يمكنه أن يحافظ على تحكّمه ولو اكتفى بثلث أو ربع الرأسمال طالما لا يزال يحتفظ بـ«امتيازات المؤسِّس». سلطته التقريريّة على رأسمال شركائه الأصغر منه أهمّ من التملّك الخاصّ بحدّ ذاته، مثلما أنّ شركة مساهمة أسهل لها الاقتراض من المصارف من المشروع الصناعيّ الفردي.
من المدرسة الحزبيّة إلى «التراكم»
يوم صدر كتاب هيلفردينغ كانت روزا لوكسمبورغ تتابع التدريس في مدرسة «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ» الألمانيّببرلين. أنشأها هذا الحزب العمّالي الماركسيّ الأكبر في أوروبا في ذلك الوقت عام ١٩٠٦ لتجهيز كوادره، وكانت بحقّ«التعبير عن قوّة الحركة العمّالية المنظّمة»3 كما يصفها بول فروليش الذي يصنّفها أقرب إلى الجناح اليساريّ للحزب4. كان المفترض بهيلفردينغ أن يعطي مدخلاً للنظريّات الاقتصاديّة لكارل ماركس في هذه المدرسة الحزبيّة، غير أنّ تهديد الشرطة البروسيّة بطرد هيلفردينغ، النمساوي، وبانيكوك، الهولندي، أدّى إلى تكليف روزا لوكسمبورغ بتدريس الاقتصاد السياسيّ، بتوصيةٍ من «بابا الماركسيّة» في ذلك الوقت كارل كاوتسكي. لاحقاً ستعترف روزا، أمام مؤتمر الحزب في نورمبرغ (أيلول / سبتمبر ١٩٠٨)، وفي سياق مواجهة المطالِبين بتخفيض ميزانيّة المدرسة الحزبيّة، بأنّها تلقّت في البداية خبر تأسيسها بمنتهى الارتياب والخشية من أن تؤدّي إلى انعزال مثقّفي الحزب بدلاً من انخراطهم في النضال الجماهيريّ للطبقة العاملة. بيدَ أنّ المهارات التربويّة التي أظهرتْها روزا سريعاً في حصص التدريس، وتعاملها الفطن مع كوادر متفاوتة من حيث الخبرة والتحصيل والاضطلاع، جعل من دروسها أوّل محاولة للقراءة الجماعيّة لـ«رأس المال»، الذي كان على هالته مقروءاً بشكل محدود، في حين أنّ كرّاس روزا الشابّة «إصلاح اجتماعيّ أم ثورة؟» (١٨٩٨) الصادر في سياق المعركة ضدّ «التنقيحيّة»، لقيَ رواجاً كبيراً في القاعدة الشعبيّة وصدرتْ منه طبعات عدّة متتالية.
انبثق عن محاضرات روزا لوكسمبورغ في المدرسة الحزبيّة ١٩٠٧ - ١٩١٢، «مدخل إلى الاقتصاد السياسيّ». إذ عكفت روزا في فترة سجنها بعد اندلاع الحرب، على مراجعة المخطوطات وتشذيبها لأجل إصدار هذا الكتاب دون أن تتمكّن من ذلك، كما أُشتلف جزءٌ منها أثناء مداهمة العناصر المعادية للثورة لمنزلها غداة قمع انتفاضة السبارتاكيّين، ولم يصدر «المدخل»، بصورته غير المكتملة، إلّا عام ١٩٢٥، بعد ستّ سنواتٍ على اغتيال روزا.
سبب أساسيّ لعدم تمكّن روزا من إكمال «المدخل» المعدّ لتيسير أمر النظريّة الاقتصاديّة الماركسيّة أثناء حياتها، أنّها، وأثناء تدريسها «رأس المال»، أخذتْ تتحيّر أمام كيفيّة تبسيط وعرض السيرورة الشاملة للإنتاج الرأسماليّ سواء من جهة العلاقات الملموسة التي تنظّم هذه السيرورة أو من جهة الحدود التاريخيّة الموضوعيّة لها. وشيئاً فشيئاً أدركت لوكسمبورغ أنّ المشكلة أبعد من تبسيط منطق هذه السيرورة، وأنّها أمام معضلة نظريّة، تظهر بشكل أوضح كلّما تعدّت تدريسها لفصول المجلّد الأوّل من «رأس المال»، الوحيد الصادر (١٨٦٧) في حياة ماركس، والمكرّس لعمليّة إنتاج رأس المال (أي تحوّل النقد إلى رأسمال وإنتاج فائضَي القيمة المطلق والنسبيّ) إلى محتويات المجلّدين الثاني (١٨٨٥) والثالث (١٨٩٤) الصادرة بعد وفاته من مخطوطات جمعها فردريك أنغلز، وتحديداً صعوبة المزاوجة بين ما يتضمّنه المجلّد الثاني المكرّس لشرح عمليّة تداول رأس المال وشروط إعادة إنتاجه والتصوّر التخطيطيّ للتراكم، وبين ما يتضمّنه المجلّد الثالث الذي ينظر في «عمليّة انتاج رأس المال ككلّ». لقد أعطى المجلّد الثاني الانطباع بأنّ نمط الإنتاج الرأسماليّ قادر دائماًعلى التوسّع إلى ما لا نهاية، وعلى إعادة إنتاج علاقات إنتاجه، وإعادة تثوير نفسه، في مقابل المجلّد الثالث، الذي يشدّد تحديداً في الفصل ١٥ منه على التناقض بين التطوّر اللامحدود للقوى المنتجة وبين محدوديّةٍ لا يمكن أن يتجاوزها الاستهلاك الداخليّ ضمن السوق الرأسماليّة. كما في حال هيلفردينغ (١٩١٠) ارتبط «تراكم رأس المال» الذي اعتكفتْروزا عن التدريس الحزبيّ عام ١٩١٢ للانشغال فيه وصدوره في العام التالي، بالسؤال حول مصير الرأسماليّة.
رأس المال المالي: تعدّد الخلاصات
نظريّة هيلفردينغ في «الرأسمال المالي» ستغذّي لاحقاً خلاصاتٍ على يمينها وأخرى على يسارها. فمن جهة، سيستعيد بوخارين في «الاقتصاد العالمي والإمبرياليّة» (١٩١٦) ولينين في «الرأسماليّة أعلى مراحل الإمبرياليّة» (١٩١٦) خلاصات أساسيّة من «الرأسمال الماليّ» (اندماج الرأسمالَين المصرفي والصناعي في الرأسمال المالي وارتباط ذلك بتزايد النزعة الحربيّة بين الدول الصناعيّة) لترجيح كفّة بدء انهيار الرأسماليّة في حال لينين، بحيث تصبح لحظة انطلاقة الحرب العالميّة الأولى لحظة بداية النهاية للرأسماليّة، في حين سيطوّر بوخارين نظرةً تتعلّق بصعود نماذج «رأسماليّة الدولة» في مرحلة الإمبرياليّة. استعان لينين بممثّل النقد الليبراليّ للإمبرياليّة البريطانيّة، جون إتكينسون هوبسن وكتابه عن الإمبرياليّة (١٩٠٢)، مع أنّه كتاب يطمس تماماً حركة التداخل بين الرأسمالَين الصناعي والمصرفي، ويبني على ترجيح تنامي حركة المضاربة وتصدير الرساميل نحو المستعمرات وأشباه المستعمرات، ليخلص إلى أنّالمتحكّمين بالاقتصاد العالميّ يصبحون أكثر فأكثر طفيليّة. انتزع لينين هذه السمة الطفيليّة من هوبسن، ليدمجها بالنزعة إلى تمركز رأس المال الذي سبر حركتها هيلفردينغ.
من الجهة المقابلة، سيطوّر هيلفردينغ بعد الحرب الخلاصة «اليمينيّة» لنظريّته. هو شدّد سابقاً على أنّ النزعة إلى التمركز أبعد ما تكون عن تجنيب الرأسماليّة اشتداد أزماتها، وكان يحتسب أقرب إلى الجناح اليساريّ من الاشتراكيّة - الديمقراطيّة، ومن القلّة التي عارضت جنوح الحزب لتأييد السياسة الحربيّة للرايخ الثاني. ما استخلصه من نهاية الحريق العالميّ نفسه هو أنّ النزعة التمركزيّة لرأس المال انتقلتْ من دور الحرب الشاملة، حرب الكلّ ضدّ الكلّ على صعيد الإمبرياليّة، إلى حقبة «الرأسماليّة المنظّمة» المديدة، التي يمكن فقط المراهنة على تشريكها التدريجيّ.
وفي الوسط، جاء تعريف كارل كاوتسكي للإمبرياليّة، بوصفها «نتاج الرأسماليّة الصناعيّة عالية التطوّر»، وباعتبارها نزعة تتّجه من خلالها كلّ أمّةٍ رأسماليّة صناعيّة إلى استتباع أقاليم زراعيّة أكثر فأكثر. لكنّ كاوتسكي، وبخلاف لينين، أعاد تطبيق معادلة التمركز على الإمبرياليّة نفسها، بحيث إنّه توقّع - في وسط أتون الحرب الكبرى - أن ينبثق من الحرب الطاحنة بين القوى الإمبرياليّة تحالف بينها. بالتالي، هذه «الإمبرياليّة العليا» لن تعود أسيرة سباقٍ محموم على التسلّح، ولن تعود تشكّل تهديداً للسلام العالميّ.
بخلاف الاهتمام اللافت الذي حظي به «الرأسمال الماليّ» ومسارعة كلّ فصيل في الحركة الاشتراكيّة إلى توظيف تحليلاته وخلاصاته، قوبل «تراكم رأس المال» بمزيجٍ من الفتور والسلبيّة. هذا يرى فيه «تطاولاً» على ماركس، الذي خطّأت روزا جزءاً أساسيّاً من عمله النظريّ حول إعادة الإنتاج الموسّعة، بحيث ذهبت إلى أنّ نمط الإنتاج الرأسماليّ، مأخوذاً بذاته، لا يمكنه أن يفسّر كيفيّة استخراج فائض القيمة على الصعيد الشامل، وثمّة اختلافٌ نوعيٌّ بين منطق استخراج فائض القيمة على صعيد مشروع اقتصاديّ فرديّ مأخوذٍ على حدة، وبين منطق استخراجها على صعيد مجتمعٍبأسره وسوق رأسماليّة مأخوذة ككلّ. وذاك يرى في الكتاب مراوحة عند معطيات القرن الماضي، وتأخّراً في الإدراك بأنّالرأسماليّة التزاحميّة صارتْ وراءنا، وأنّ ظاهرة الإمبرياليّة وتزايد النزعة الاحترابيّة بين الدول الصناعيّة تحيل إلى المنحى المتزايد لتمركز الرساميل، واندماج المصرفيّ منها بالصناعيّ. بإزاء حركةٍ اشتراكيّة أخذتْ تتقبّل بشكل أسرع نظريّة «الرأسمال الماليّ» وتنقسم بين مَن يحاول أن يأخذ هذه النظريّة إلى اليمين أو إلى اليسار، وجدتْ روزا نفسها في موقعٍ ضعيف، ومتّهمةً بأنّها تقوم بتخطئة ماركس عن عبث، ولا تدرك أنّ العصر تغيّر عن فترته في ذات الوقت.
بعض هذه السلبيّة أتى من هيلفردينغ نفسه، الذي تتّهمه روزا في مراسلاته بأنّه سعى في أروقة الحزب إلى إعاقة إصدارها كتاب «التراكم». في نهاية الأمر بدتْ روزا كمن يكسر «الإجماع» على نظريّة «الرأسمال الماليّ» التي وافق عليها الجميع في الحركة الاشتراكيّة وتسابق كلٌّ إلى أخذها في الاتّجاه الذي يراه منسجماً أكثر مع تحديد سمات الإمبرياليّة وأثر هذه السمات في تكوين الطبقة العاملة ودور الحركة الاشتراكيّة. بدتْ روزا لهيلفردينغ، كما للينين، كما لكاوتسكي، كمن يحاول تفسير إمبرياليّة القرن العشرين بإحداثيّات القرن التاسع عشر. فالتراكم الرأسماليّ تزاحميٌّبالضرورة عندها، وهم يرونه آخذاً في التمركز أكثر فأكثر بحيث يتزايد الاحتكار على حساب التزاحم. هم يؤوّلون وقائع التحسّن التدريجيّ للأجور الفعليّة للعمّال في الدول الصناعيّة بمقارباتٍ مختلفة، وهي لا تزال تكابر على الإقرار بهذا التحسّن، مع أنّ ما كان يمكنها استجماعُه من أسانيد في هذا الصدد عام 1898 في سياق المساجلة مع إدوارد برنشتاين والتنقيحيّين، أصبح من الأصعب التسويق له بعدها بخمسة عشر عاماً، يوم صدور «التراكم».
عناصر الضعف والوهَن في كتابها بدتْ للنّقّاد كثيرة، وهي حاولت إعادة تصويب الفحوى في سياق «الردّ على النقد» الذي صدر كمؤلّف لوحده، وكتبتْ أكثره من داخل السجن أثناء الحرب. يبقى أنّ عنصر قوّة أساسيّاً ميّز كتابها، يتركّز في سؤالٍ بسيطٍ اعتبرتْ روزا أنّه لم يلقَ جواباً شافياً لا في «رأس المال» لماركس ولا عند أيٍّ من المفكّرين الماركسيّين في فترتها. السؤال: «من أين يأتي الطلب؟»، الطلب على الإنتاج السلعيّ المتنامي للحواضر الصناعيّة؟ هل يأتي الطلب على الاستهلاك، الذي لا غنى عنه بالنتيجة لتأمين شروط إعادة الإنتاج، وإعادة تحريك عجلة الإنتاج وتوسيعها، بطلبٍ من الرأسماليّين أنفسهم، بنتيجة من الرأسمال لوحده، بتزايد الضغط الاستهلاكيّ للطبقة العاملة لوحده؟ ما استخلصتْه روزا أنّهذا الطلَب، الضروريّ في سياق توسعة فضاء التراكم الرأسماليّ هو طلبٌ تفرضه السوق الرأسماليّة فرْضاً على القطاعات والأقاليم التي لم ترسمل بعد. منطق الإمبرياليّة عضويٌّ في منطق الرأسماليّة ذاته بالنسبة إليها. ذلك أنّالرأسماليّة يستحيل عليها استخراج فائض القيمة من داخل السوق الرأسماليّة نفسها، ومن العلاقات المقتصرة على قطبين، الرأسماليّين والعمّال المأجورين. منطق التراكم الرأسماليّ أنْ يبقى يتوسّع، وألّا يكونَ بمقدوره الاكتفاءُ بالعودة سنويّاًإلى النقطة التي انطلق الإنتاج منها، لكن إذا أراد أن يتوسّع على كرةٍ أرضيّةٍ معزولة في هذا الفضاء فإن لهذا التوسّع حدوداً، هي قبل كلّ شيء آخر حدود الجغرافيا. إذا ما أراد التراكم الرأسماليُّ أن يتواصل، عليه أن يبقى يتوسّع، وكي يتوسّع عليه إلحاق القطاعات والأقاليم غير الرأسماليّة به، باستتباعها ورسْملتها، وتصريف فائض إنتاجه وفائض استهلاكه فيها. في الوقت عينه، كلّما ترسملَت القطاعات والأقاليم ما قبل الرأسماليّة، اقتربت الرأسماليّةُ من صعوبة الاستمرار في استخراج فائض القيمة، ومن النقطة التي ليس بإمكانها إعادة إنتاج شروط استمرارها.
التوسّع الامتداديّ والتوسّع التكثيفيّ
جذْر هذه المقاربة طرحتْه روزا منذ سجالها مع المراجعة البرنشتاينيّة. فمنذ «إصلاح اجتماعيّ أم ثورة؟» وهي تشدّد على أنّ الرأسماليّة تحتاج كي تبقى إلى أن تتوسّع، وتحتاج كي تتوسّع إلى رسملة القطاعات والأقاليم غير الرأسماليّة قسراً، وأنّها تقترب مع ضيق توسّعها هذا، بما أنّ رقعة الأرض محدودة بالنهاية، إلى اللحظة التي لا يعود من الممكن أمامها التوسّع. الرأسماليّة تستمرّ ما دام أنّها ليست لوحدها في العالم، وما دام أنّها ليست نمط الإنتاج الوحيد القائم، وما دامت قادرةً على التوسّع وإلغاء الأنماط الأخرى تباعاً، ولا تعود كذلك حين تنسدّ أمام توسّعها السبل. كلّما اقتربتْ من حسم الأمور لصالح منطق تراكمها على الصعيد العالمي اقتربتْ لحتفها.
غداة السجال بين خطّ المراجعة الذي قاده إدوارد برنشتاين وبين خطّ الماركسيّة الأرثوذكسيّة، اتّهم زعيم التنقيحيّين روزا بالترويج لواحدة من طبعات «نظريّة الكارثة»، أي توقّع اختفاء النظام الرأسماليّ نتيجةً لخطٍّ بيانيّ متصاعدٍ يجعل أزماته تتراكم على بعضها البعض إلى حين الانهيار التامّ. بالنسبة إلى برنشتاين، نظريّة الانهيار الكارثيّ للرأسماليّة هي في الظاهر يسارويّة، لكنّها في العمق محافظة وتلغي المسوّغ الفعليّ للنضال طالما تعلق الفَرَجَ على التناقضات الداخليّة للتّراكم الرأسماليّ. لأجل هذا، سعتْ روزا إلى النّأي بنفسها عن هذا التفسير الانتظاريّ للكارثة المقبلة، معتبرةً أنّه ليس المطلوب الاستعداد لاستقبال الكارثة بجهوزيّة عمّاليّة حزبيّة ونقابيّة عالية، إنّما المطلوبُ استباق السقوط المدوّي والأخير للرأسماليّة، وذهبتْ إلى أنّ البروليتاريا قادرةٌ بالفعل على الإطاحة بالنظام الرأسماليّ حتى قبل وصوله إلى لحظة انفجاره. وهذا عبّرتْ عنه تحديداً في كلمتها أمام مؤتمر «الأمميّة الثانية» بباريس ١٩٠٠، عندما توقّعتْ أن يحدث انهيار النظام الرأسماليّ نتيجةَ أزمةٍ سياسيّة بسبب تنامي السباق العسكريّ المحموم بين الدول الأوروبيّة من ناحية، وتنامي الحركة الاشتراكيّة في كلّ القارّة من ناحية ثانية، أزمة تدفع إليها «السياسة العالميّة» بالدرجة الأولى - في إشارة إلى «السياسة العالميّة» للإمبراطور غليوم الثاني المبنيّة على «مظلوميّة» ألمانيا والمطالبة بأن يكون لها حصّة وافرة من المستعمرات في أفريقيا وآسيا. بالتوازي، تحوّطتْ روزا في كلمتها بباريس ونبّهت إلى أنّ «سيطرة النظام الرأسماليّربّما تستمرّ لفترة لا تزال طويلة، إنّما عاجلاً أو آجلاً ينبغي أن نكون حاضرين للاضطلاع بدورنا في اللحظة الفاصلة»5.
يبقى أنّ التناقض المحموم بين لوكسمبورغ وبرنشتاين لا يلغي تقاطعاً في الإشكاليّة بينهما، فكلٌّ منهما طوّر وعياً مبكّراًإلى أنّ فائض الإنتاج المرميّ في الأسواق ليس بإمكان الرأسماليّين والبروليتاريّين وحدهم استهلاكه، لكنّ برنشتاين اهتدى إلى خلاصةٍ مختلفة، وهي أنّ الفئات الوسطيّة وبدلاً من أن تندثر تدريجيّاً تبعاً للاستقطاب بين طبقتين متناقضتين في المجتمع فإنّها تطوّر كمّاً ونوعاً، وتشكّل القاعدة البشريّة الأساسيّة للسوق الاستهلاكيّة، كذلك التنامي في القدرة الشرائيّة للعمّال بفعل مَيل معدّل الأجور الفعليّة إلى الارتفاع من شأنه عند برنشتاين امتصاص وتحقيق جزءٍ من فائض القيمة.
يضعنا جيلبير باديا أمام مفارقةٍ عرقلت تفكير روزا. فهي لم تحتمل فكرة أنّ الأجور الفعليّة يمكنها أن تتنامى في النظام الرأسماليّ، وجنحتْ إلى ربط تحقّق فائض القيمة برسملة القطاعات والأقاليم غير الرأسماليّة فحسب. أكثر من ذلك، انطلقتْ روزا في فهمها للفضاءات الآيلة للإخضاع والرسملة من فهمٍ شامل من الناحية النظريّة، لا يختصر في التمدّد الجغرافيّ إلى المستعمرات، بل يتعلّق برسملة المناطق الريفيّة في البلدان ذات السمة الرأسماليّة الصناعيّة الغالبة أيضاً، لكنّها أخذتْ شيئاً فشيئاً تختزل التوسّع إلى التمدّد الجغرافيّ باتّجاه المستعمرات ولم تولِ العناية الكافية لدراسة التوسّع التكثيفيّ لحركة رأس المال في الحواضر نفسها، بل أنكرتْ تماماً إمكانيّة تكيّف الإنتاج الرأسماليّ مع فضاءاتٍ تبادليّة جديدة في هذه الحواضر. يقتضي الاعتراف بأنّ برنشتاين كان في موقع قوّة، جزئيّاً، في هذا النقاش، وبخاصّة حين أبرز لروزا أنّ التصديرات باتّجاه البلدان المستعمرة لا تلعب هذا الدور الأساسيّ الذي تتخيّله، وأنّ التصديرات إلى المستعمرات الأقدم أعلى من الكمّ الهزيل جدّاً لتصدير المنتوجات إلى المستعمرات التي غنمتْها بريطانيا مثلاً في فترة١٨٨٠ــ١٨٩٠. لا يتردّد باديا هنا في الحديث عن «مكابرةٍ نفسيّة» التزمتْ بها روزا لوكسمبورغ أمام وقائع أساسيّة للتطوّر الرأسماليّ في عصرها، وهو يسجّل في الوقت عينه مفارقةً أخرى، ذلك أنّ روزا نفسها التي جعلت من الاستعمار قاعدةً أساسيّة للتراكم الرأسماليّ، وندّدتْ بتدمير مجتمعات السكّان الأصليّين بشكل لا لبس فيه، لم يكن بإمكانها أن تأخذ بعين الاعتبار بعمق، انتفاضات السكّان المحلّيّين ضدّ المستعمِرين، ولا أن تشبك بين هذه الانتفاضات وبين الصراع الطبقيّ بين العمل ورأس المال كما فعل لينين، ولا أن تنظر إلى وحدة الكادحين الكلّيّة انطلاقاً من ثنائيّة العمّال والفلّاحين أيضاً على غرار لينين. ويميل باديا هنا أيضاً إلى تعليل الأمر بنشأة روزا لوكسمبورغ في الطرف الأكثر تصنيعاً من الإمبراطوريّة الروسيّة، بولونيا، وإلى ضعفٍ مركزيٍّ في نتاجها عندما يتعلّق الأمر بالمسألة الزراعيّة والجماهير الفلّاحيّة6.
إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعي: الإطار النظري
تعاملتْ روزا مع الرأسماليّة بوصفها أوّل تشكيلةٍ اقتصاديّة تمتلك قوّةً توسّعيّة وترويجيّة بهذا الحجم، وأنّها تشكيلة تنحو إلى التمدّد على كلّ الكوكب وإزاحة كلّ التشكيلات الاقتصاديّة الأخرى" لكنّها في الوقت نفسه التشكيلة الوحيدة التي لا يمكنها أن تستمرّ لوحدها طويلاً، لأنّها تتغذّى من التشكيلات الاقتصاديّة الأخرى»، على ما خلصتْ إليه في آخر كتاب «التراكم» مُطلقةً على الرأسماليّة صفة «التناقض التاريخيّ الحيّ» حيث «حركة التراكم فيها هي التعبير عن هذا التناقض»7.
من هنا، اتّخذتْ نصوص ماركس حول شروط إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعي، أي الشروط التي تمكّن الرأسماليّة من تجديد نفسها، أهمّيّةً استثنائيّة في تفكير روزا لوكسمبورغ، وإلى حدٍّ ما جاء هذا على حساب البُعدَين الآخرَين لمقولة «إعادة الإنتاج» في الفكر الماركسيّ، فمن ثلاثيّة إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعيّ، وإعادة إنتاج القوى المنتجة، وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج، ركّزت روزا على البعد الأوّل، وظلّت تتعامل مع تنامي القوى المنتجة على أنّه مسلّمة شبه بديهيّة في التفكير الماركسيّ، ولم تميّز في المستويات كثيراً بين إعادة الإنتاج التي تعنيها، أي إعادة الإنتاج الموسّعة التي تؤمّن قاعدة التراكم، وبين إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعيّة التي هي مسألة أكثر شموليّة.
لقد حيّرت معضلة إعادة الإنتاج ماركس طويلاً، لكنّه شدّد في الوقت عينه على أنّها بديهية بالنسبة إلى كلّ الناس! ففي رسالته إلى لويس كوغلمان المؤرّخة في ١١ تموز / يوليو ١٨٦٨، يشير ماركس إلى أنّ «أيّ طفلٍ يدرك أنّ أيّ أمّة ستؤول إلى الهلاك إذا توقّفتْ عن العمل، لن أقول في عام واحد، بل في غضون بضعة أسابيع. كذلك، يدري الطفل أنّ كمّيّات المنتوجات ترتبط بكمّيّات مختلفةٍ من الحاجات، وهذه تفترض بدورها كمّيّاتٍ مختلفة ومحدّدة من إجماليّ العمل الاجتماعيّ». التشكيلة الاجتماعيّة التي ليس بوسعها إعادة إنتاج شروط إنتاجها في فترةٍ محدودة من الوقت لن يكون بوسعها الاستمرار.
إعادة الإنتاج تعني إذاً في المقام الأوّل إعادةَ إنتاج شروط الإنتاج. اقتفى ماركس أثر شيخ مدرسة «الفيزيوقراط» فرنسوا كيناي، صاحب كتاب «الجدول الاقتصاديّ» (١٧٥٨) الذي كان أوّل من نظَر لاقتصاديّات مجتمع كدائرة شاملة. بالنسبة إلى كلٍّ من كيناي وماركس، لا يمكن الخوض بصدد إعادة إنتاج شروط الإنتاج على مستوى كلّ وحدة إنتاجيّة معزولة عن سواها، بل على مستوى المجتمع ككلّ في مدّة من الوقت. بعد كيناي، وقبل ماركس، لن يكون بوسع الاقتصاد السياسيّالنظر بكليّة إلى «الرأسمال الاجتماعيّ»، أمّا ما يَجمع كيناي بماركس فهو هذه النظرة الشاملة إلى موضوع الرأسمال الاجتماعي الذي هو شرط إمكان النظر في عمليّة إعادة الإنتاج، وفهم - تحديداً في حالة ماركس - أنّ كلّ عمليّة إنتاج هي في الوقت نفسه عمليّة إعادة إنتاج.
لقد تعامل كيناي في القرن الثامن عشر مع وجود الرأسمال الاجتماعيّ كـ«ظاهرة قائمة بذاتها وفاعلة»8 ودرس معه من ناحية عمليّة دوران الرأسمال في حركة التبادل السلعيّ. كفيزيوقراطيّ، لم يكن يعترف بإنتاج غير ذلك الزراعيّ، وبمصدر قيمةٍ غير الأرض. المجتمع عنده ينقسم إلى ثلاث طبقات، المزارعين، و«العقيمين» - كما يسمّيهم - سواء تعاطوا في الصناعات أو في التجارة، وطبقة الملاك العقاريّين، بمن فيهم الملك والمستفيدون من ضريبة العشر. تبدأ المرحلة الإنتاجيّة عنده من لحظة حصاد آخر محصول، والهدف منها تغذية كلّ قطاعات المجتمع، المنتجة والعقيمة - المساهمة في دوران الإنتاج - والمالكة العقاريّة، كلّ بمقداره، والعودة إلى النّقطة التي جرى الانطلاق منها بسلام.
الإنتاج اجتماعيٌّ عنده طالما أنّ له مصدراً زراعيّاً واحداً. والمنشأة أو «المانيكفاتورة» حالها عنده حال التجارة: ليست بإنتاج. هي تدويرٌ للإنتاج، إذ تعتمد على «الرأسمال المتحرّك» فقط، ولا تمثّل بحدّ ذاتها «رأسَ مال قارّاً». في المقابل، سيضبط آدم سميث تعريف «الرأسمال القارّ» على أنّه هذا الجزء من الرأسمال الذي لا يندرج في المداخيل البحتة في المجتمع، والمكوّن من «الموادّ الأوّليّة، والمستخدَمة في صيانة الآلات والأدوات» ومن «إنتاج العمل الضروريّ لتحويل هذه الموادّ إلى الشكل المطلوب». في شرحها، تجازف روزا لوكسمبورغ بالمواءمة تماماً بين مقولة «الرأسمال القارّ» عند سميث وبين مقولة «الرأسمال الثابت» (الجزء من الرأسمال الموجود في كلّ وسائل الإنتاج المادّيّة في مقابل «الرأسمال المتبدّل» الموظّف في قوّة العمل)9، مع أنّ ماركس نفسه يستخدم المفهومين، لدلالتين مختلفتين في «رأس المال».
وآدم سميث، انطلاقاً من هذه القسمة بين الرأسمال القارّ والرأسمال المتجوّل، يخلص إلى أنّ ثمّة بالفعل رأسَ مال متجوّلاًعلى مستوى المجتمع ككلّ، إنّما هذا الرأسمال وبعد أن يُطرحَ منه الجزء المتعلّق بالرأسمال القارّ، لا يتبقى منه إلّا وسائل الاستهلاك، وهذا لا يشكّل عنده رأس مال بالنسبة إلى المجتمع، بل مدخول صرْف، وقاعدة استهلاك. يتبع هذا أنّالإنتاج الاجتماعيّ لا يمكن التفكير به من زاوية سميث، ذلك أنّ قيمة الإنتاج الكلّيّ السنوي في مجتمع ما، ستتوزّع بالنسبة له ما بين أجورٍ، وأرباح، وريوع. تتكشّف هنا حدود نظريّة القيمة عنده، فهو يعتبر أنّ العمل مصدر كلّ قيمة، لكنّه غير قادرٍ على التمييز على هذا الصعيد بين عمل المأجور وعمل الرأسماليّ نفسه، وهو تمييزٌ لا يمكن أن يسوّغ نظريّاً إلّا من التمييز الأساسيّ الذي يجريه ماركس بين «العمل الملموس» أي العمل الذي ينتج القيمة الاستعماليّة، والعمل المجرّد، أي العمل الذي ينتج القيمة التداوليّة. لقد استعان ماركس بسميث (العمل مصدر القيمة) على ريكاردو (العمل قيمة) لكنّه تجاوز ثنائيّة «الرأسمال القارّ - الرأسمال المتحرّك» عند سميث إلى ثنائيّة «الرأسمال الثابت - الرأسمال المتبدّل» من خلال تمييزه الرأسمال المتبدّل على أنّه ذلك الموظّف في شراء قوّة عمل العمّال، وليس العمل ذاته، وأنّه المتعيّن من خلال الأجور الفعليّة في مجتمعٍ معيّن في مدّة من الوقت.
رأس المال الثابت ورأس المال المتبدّل
بدورها، ثنائيّة «العمل المباشر - العمل الوسيط» عند ريكاردو استصلحتْ من قبل ماركس من خلال هذه الثنائية «الرأسمال الثابت - الرأسمال المتبدّل» ما دام أنّ الرأسمال الثابت هو العمل الميّت، أي العمل الذي سبق له أن صنع وسائل الإنتاج لكنّ الذي لا يمكن أن يحييه إلّا التشغيل بواسطة العمل الحيّ - قوّة العمل، أي الرأسمال المتبدّل. سمح هذا التأليف النقديّ بين فكرَي ريكاردو وسميث لماركس أن يعود إلى حيث إمكانيّة تمثّل حركة الرأسمال الاجتماعي وإعادة إنتاجه، الذي كان قد استهلّه في منتصف القرن الثامن عشر كيناي في «الجدول الاقتصاديّ».
بيد أنّ إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعي، أي إعادة تشكيل شروط وعلاقات الإنتاج، مسألة أخذتْ تتبلور تدريجيّاً في فكر ماركس الاقتصاديّ. أسّس لها في «مقدّمة نقد الاقتصاد السياسيّ» ١٨٥٧، من خلال التشديد على الحاجة إلى دراسة الترابط العامّ بين الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك وكيفيّة اشتراط كلّ مستوى للآخر، وبخاصّة من خلال مقولة «الإنتاج هو أيضاً استهلاك» حيث إنّ «الإنتاج هو مباشرة استهلاك، والاستهلاك هو مباشرة إنتاج. كلّ واحدٍ هو مباشرة معكوسه»، في ابتعاد عن التعاقب الذي أوجده جون ستيوارت ميل بين الإنتاج كنقطة انطلاق، والتوزيع والتبادل كمرحلةٍوسيطة، والاستهلاك كمرحلةٍ نهائيّة منَحّاة عن الاقتصاد10. بيدَ أنّ طَرق المسألة على نحوٍ منهجيّ سيتأخّر إلى مرحلة الإعداد لـ«رأس المال»، حيث سيتطوّر التمييز بين «إعادة الإنتاج البسيطة» و«إعادة الإنتاج الموسّعة».
فبدءاً من المجلّد الأوّل، سيقابل ماركس بين ثلاثيّة «س.ن.س» (سلعة - نقد - سلعة) وثلاثيّة «ن.س.ن» (نقد - سلعة - نقد) جاعلاً من الأخيرة سمة الإنتاج الرأسماليّ. الأولى هي الشكل المباشر لتنقّل السلَع (البيع من أجل الشراء). السلعة فيها نقطة الذهاب والإياب والنقد يكتفي بدور الوسيط. نقطة الوصول سلعة تُستهلك وينتهي معها الدوَران، «إشباع حاجة، قيمة استعماليّة، هو هدفها النهائيّ»11. أمّا «ن.س.ن» فنقطة الانطلاق فيها النقد، وتعود للنقد، والهدف المحدّد هو القيمة التبادليّة (الشراء من أجل البيع)، أمّا السلعة فتلعب دور الوسيط. حركة الدوران لا تستمدّ مسوّغها في هذه الحالة من الاستهلاك الذي يخرج منها، بل من «الاختلاف النوعيّ» بين النقد الموظّف في «ن» الأولى وبين النقد المعزّز «ن‘». القيمة هنا متنامية في تعريفها: نقد لا يسعى إلى الخروج من الدوران، ويصبح بصفه هذه رأسَ مال. «الشراء من أجل البيع، أو بالأحرى، الشراء من أجل البيع بسعر أعلى، ن - س - ن‘»12. رغم أنّ ماركس يعتبر هذه الصيغة مرتبطةً أكثر بالرأسمال التجاريّ، يتابع بأنّ «الرأسمال الصناعيّ هو أيضاً نقدٌ يتحوّل إلى سلعة، ومن خلال بَيع هذه الأخيرة، يتحوّل إلى مزيد من المال. ما يجري بين الشراء والبيع، خارج نطاق الدوران، لا يبدّل شيئاً في شكل هذه الحركة». بالتالي «ن - س - ن‘» هي الصيغة العامّة للرأسمال بالشكل الذي يظهر فيه في حركة تجواله. ويقابَل هذا بالرأسمال المرابي حيث يجري اختزال صيغة «ن - س - ن‘» إلى «ن - ن‘»، أي في هذه الحالة «نقد يصير مساوياً لنقدٍ مزيد، قيمة تصبح أكبر من نفسها»13.
تؤسّس صيغة «ن - س - ن‘» للشّرط الأوّل للتراكم: أن يتمكّن الرأسماليّ من بيع سلعه وإعادة تحويل القسم الأكبر من النقد الذي حصل عليه إلى رأسمال، لكنّ ماركس ينبّه إلى أنّ الحركة الوسيطة للدوران وتجزّؤ فائض القيمة إلى أقسام شتّى من شأنها تعقيد وعرقلة فهمنا لعمليّة التراكم هذه، ولأجل هذا «بغية تبسيط التحليل»، ينبغي الانصراف بادئ ذي بدء لدراسة «التراكم من وجهة نظر الإنتاج»14. بسْط ماركس لإشكاليّة إعادة الإنتاج يندرج في هذا الإطار. في الفصل ٢٣ من المجلّد الأوّل من «رأس المال» يكثّف بكلمات بسيطة مقصده: «إنّ مجتمعاً لا يمكنه أن يتوقّف عن الإنتاج، ولا عن الاستهلاك، إذ يجري اعتبارها لا بشكل معزول، إنّما في مجرى تجدّدها الذي لا يتوقّف، فإنّ كلّ عمليّة إنتاج اجتماعيّهي في الوقت عينه عمليّة إعادة إنتاج»15. إعادة الإنتاج تعني بهذا المعنى الإنتاج بشكلٍ متواصل، و«عمليّة الإنتاج الرأسماليّة من حيث طابعها المتواصل، أي من حيث إعادة الإنتاج، لا تنتج سلعةً فقط ولا فائض قيمة فقط، بل تنتج وتؤبّد العلاقة الاجتماعيّة بين الرأسماليّ والأجير»16. يميّز ماركس هنا بين إعادة الإنتاج البسيطة وبين إعادة الإنتاج الموسّعة. البسيطة بمعنى إبدال وسائل الإنتاج المستهلكة في غضون سنة مثلاً، بكمّيّة موازية من الوسائل، وهي تبقى بكيفيّة ولادة فائض القيمة من الرأسمال، في حين أنّ إعادة الإنتاج الموسّعة تنبني على كيفيّة ولادة الرأسمال من فائض القيمة، أي تكرار لعمليّة الإنتاج بشكل تصاعديّ بفضل تحويل فائض القيمة إلى رأسمال. لاحقاً في المجلّد الثاني من «رأس المال»، ستأتي «مخطّطات إعادة الإنتاج» الموسّع الإيضاحيّة التي استجمعها أنغلز لتشعل نقاشاً داخل كلٍّ من الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الألمانيّة والروسيّة حول المنحى الذي يمكن أن تتّخذه إعادة الإنتاج الموسّع، لا سيّما أنّ هذه المخطّطات التي تتصوّر منحى العلاقة بين قطاع إنتاج وسائل الإنتاج وقطاع إنتاج وسائل الاستهلاك تبدو قابلة لإمكانية أن يستمرّالتراكم الرأسماليّ نظريّاً في التوسّع إلى ما لا نهاية، هذا بخلاف محتويات «المجلّد الثالث» من رأس المال، وخصوصاًما يتصّل منها بـ«قانون منحى معدّل الأرباح إلى الانخفاض» المتأتّي «قانون ارتفاع التكوين العضويّ لرأس المال» حيث عمليّة التراكم تميل إلى زيادة نسبة العمل الميت (الرأسمال الثابت) بالنسبة إلى العمل الحيّ (قوّة العمل)17.
التبادل بوصفه العلاقة الاجتماعيّة الوحيدة في الرأسماليّة
تشدّد روزا على أنّ ما يصنع الفارق بين المفهوم العامّ لـ«الإنتاج» وبين عمليّة «إعادة الإنتاج» هو عنصرٌ يمكن تمييزه بحدّ ذاته وتصفه بـ«التاريخيّ الثقافيّ»18. ومعنى ذلك أنّ التجدّد المنتظم لعمليّة الإنتاج هو القاعدة العامّة للاستهلاك المنتظم كما أنّه قاعدة الوجود الثقافي للمجتمعات، في كلّ أشكالها التاريخيّة. وروزا هنا، تستند في جلّ مقاربتها إلى القسمة بين «البدائيّ» ما قبل التاريخيّ وبين مجتمعات تقسيم العمل التاريخيّة، وفقاً بطبيعة الحال لمستوى المعارف بهذا الخصوص في عصرها. وعلى هذا الأساس تجدها تفصل بين «المراحل الأكثر بدائيّة للتطوّر الثقافي، في بداية عمليّة سيطرة الإنسان على الطبيعة» وبين ما يلي ذلك من أطوار. في الطور البدائيّ إذاً، كانت إمكانيّة استئناف الإنتاج تتعلّق بالصدف عند كلّعتبة. ما دامت القاعدة الأساسيّة لقيام المجتمع تركن إلى القنص والصَّيد ستبقى سيرورة تجديد الإنتاج متقطّعة بفترات من المجاعة الواسعة. فقط مع حراثة الأرض واستئناس الحيوان وتربية المواشي يصبح من الممكن تحقيق دورة انتظام للإنتاج والاستهلاك. يظهر حينها مفهوم «إعادة الإنتاج» بما هو شيءٌ يزيد على مجرّد التكرار والمعاودة في عمليّة الإنتاج. فهو يستدعي درجةً من التحكّم بالطبيعة من لدن المجتمع، ومستوى من الإنتاجيّة في العمل. بما أنّ عمليّة الإنتاج تنقسم في كلّأطوار التطوّر الاجتماعيّ إلى عنصرَين مختلفين، هما الشكل المحدّد لعلائق البشر مع الطبيعة - مع ما يتضمّنه من شروط تقنيّة واجتماعيّة - وعلائق البشر فيما بينهم، تدمج عمليّة إعادة الإنتاج العنصرين معاً، وهو ما يتّخذ منحىً مختلفاً تماماًمع المجتمع الرأسماليّ عنه في كامل مجتمعات تقسيم العمل المعروفة التي سبقتْه.
قبل الرأسماليّة، تنحو عمليّة إعادة الإنتاج إلى الانتظام من داخلها، وترجع معظم أسباب تعطّلها إلى عوامل خارجيّة، سواء الحروب المدمّرة أو الأوبئة بما تحدثه من فجوات سكّانيّة ودمار واسع النطاق في القوى العاملة ووسائل الإنتاج، أو بكوارث يتسبّب بها الاعتباط الاستبدادي حين يتعسّف في محاولاته تثبيت مخطّطات الإنتاج. مع الرأسماليّة، لا تعود العوامل الخارجيّة والاعتباطيّة الاستبداديّة هي المتسبّبة الأساسيّة للانقطاعات والكبوات في سيرورة إعادة الإنتاج.
هذه الأخيرة ستشمل أكثر فأكثر كلّاً من الإنتاج والدوران - عمليّة التبادل، انطلاقاً من كون التبادل، في الرأسماليّة، هو «العلاقة الاجتماعيّة الوحيدة»19 بين المنتجين. بناءً عليه، ما التحدّي الذي يواجه مقتضى إعادة الإنتاج الرأسمال الاجتماعي، أي إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعيّة، أنّه لا يمكنها في المجتمع الرأسماليّ، تحديد كمّ الحاجات الاجتماعيّة المطلوب من الإنتاج إشباعها إلّا بناًء على تجارب إشباع سابقة، في سلسلةٍ متّصلة من الأشكال اللولبيّة، ذات المنحنيات التي تضيق ثمّ تتّسع ثمّ تضيق. وإذ تُظهر روزا كيف أنّ التعاقب الدوريّ لأوضاع الرواج والعسرة ثمّ الأزمة الكابحة لإعادة الإنتاج هو الشكل الخاصّ بحركة الإنتاج الرأسماليّ، تعود فتنبّه إلى أنّ هذا التعاقب ليس هو هذه الحركة بحدّ ذاتها، وأنّه، لأجل عرْض مشكل الإنتاج الرأسماليّ بتمامه، ينبغي قبل كلّ شيء عدم استقرائه من خلال التعاقب الدوري للأوضاع والأزمات لوحده، تماماً مثلما أنّه، بغية عرض مشكل القيمة بتمامها، ولأجل إيجاد حلّ لها، لا ينفع الانطلاق من تذبذب الأسعار. وتذكّر بأنّ الاقتصاد السياسيّ الكلاسيكيّ من آدم سميث إلى كارل ماركس يتعامل مع تأرجح العرض والطلب على أنّه يفسّر الفارق في السعر، فوق قيمة السلعة أو دون هذه القيمة، لكنّه لا يفسّر القيمة ذاتها. لأجل إدراك ما قيمة سلع معيّنة، لا يمكن الافتراض أنّ العرض والطلب يتوازنان، ولا أنّ ثمن السلع يناسب قيمتها الحقيقيّة. «المشكلة الحقيقيّة للقيمة تبدأ بالتالي حيثما يتوقّف أثر العرض والطلب. والشيء نفسه تماماً بالنسبة إلى مشكلة إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعيّ. نتيجة التعاقب الدوريّ للأوضاع والأزمات تتأرجح إعادة الإنتاج الرأسماليّة اعتياديّاً على صعيد الحاجات التي يمكن إشباعها في المجتمع، مرّةً إذ تتجاوزها، ومرّة إذ تتهاوى إلى حدّ الانقطاع، يكاد يكون التّام، عن إشباع هذه الحاجات». فالإنتاج الرأسماليّ ينهض به عدد لا محدودٌ ومتنامٍ دوماً من المنتجين المستقلّين عن بعضهم البعض، ولا يخضع لأيّ تحكم اجتماعيٍّ غير ذلك الذي تفرضه مراقبة تأرجحات الأسعار، ومن دون أيّ رابطةٍ اجتماعيّة غير التبادل السلعي. الهدف الأساسيّ للإنتاج الرأسماليّ ليس إشباع حاجات اجتماعيّة، ولا حتى تصريف السلع المنتجة. ذلك أنّ المنتج لا ينتج فقط سلعاً بل رأسَ مال أيضاً، وعليه أن يولّد قبل كلّ شيء فائض القيمة. «فائض القيمة هو هدف المنتج الرأسماليّومحرّكه الأوّل» بحسب روزا لوكسمبورغ، وهذه صيغة تحيل إلى ما كتبه ماركس في الجزء الثالث (إنتاج فائض القيمة المطلق) من المجلّد الأوّل من «رأس المال» حيث الرأسماليّ من حيث هو كذلك «هو الرأسمال مشخّصاً، مهجته ومهجة الرأسمال واحد. بيد أنّه ليس للرأسمال غير منزعٍ طبيعيّ واحد، وغير محرّك واحد، اذ ينزع إلى التنامي، وإلى خلق فائض - قيمة، وامتصاص وسائل الإنتاج، وأكبر كتلة ممكنة من العمل الإضافيّ. الرأسمال هو عملٌ ميّت، شبيه في ذلك بمصّاص الدماء، لا يحييه سوى امتصاص دم العمل الحيّ، ولا تبهجه حياته إلّا بمقدار ما أنّه يضخّ كمّيّة أكبر. الوقت الذي يشتغل خلاله العامل هو الوقت الذي يستهلك الرأسماليّ في غضونه قوّة العمل التي اشتراها من العامل، حتى إذا استهلك الأجير لحسابه الوقت المتوفّر له يسرق بذلك الرأسماليّ».
تركّز روزا على أنّ الإنتاج الرأسمالّي ليس إنتاجاً محدّداً بدواعي الاستهلاك، إنمّا بقصد إنتاج القيمة، حيث إنّ روابط القيمة تسيطر على كلٍّ من مسارات الإنتاج وإعادة الإنتاج. أمّا في النماذج الاقتصاديّة السابقة على الرأسماليّة، فالاستهلاك يلعب دوراً تحديديّاً أكبر، سواء بالنسبة إلى الإنتاج أو بالنسبة إلى شروط إعادة الإنتاج. نقطة الارتكاز عند ماركس تبقى نظريّة القيمة زائد القسمة التي يعتمدها بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتبدّل. نظريّة القيمة عند ماركس تستعيد تعريف ريكاردو لقيمة سلعةٍ ما بأنّها كمّيّة العمل المباشر وغير المباشر اللازم لصناعة سلعة، لكنّها وبدلاً من التعامل مع العمل كسلعة - شأن ريكاردو - تجعله المصدر الأساسيّ للقيمة، ما يجعل فائض القيمة محصّلاً من خلال استثمار قوّة العمل من قبل الرأسمال وليس من خلال استثمار الرأسمال للرأسمال، إنّما بالشكل يحتاج فيه الرأسمال لأجل التنامي إلى الدوران الذي يسمح به التبادل السلعيّ.
استحالة تحقيق فائض القيمة من دون التوسّع
على أساس هذا المفهوم للقيمة، وللعمل كمصدرٍ للقيمة، يعتمد ماركس القسمة بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتبدّل - حيث الثابت (ث) مجموع الوسائل التي أنتجها عملُ سابق، والمتبدّل (ت) هو قوّة العمل المؤجّرة الموظّفة في الإنتاج. رأس المال المستثمر هو «ت+ث»، ومع إضافة فائض القيمة (ف) تكون القيمة الإجماليّة للسلعة المنتجة «ت+ث+ف»، أو بالمطلق، التعبير عن الإنتاج الاجتماعي. بالنسبة إلى ماركس، الرأسمال الثابت هو الرأسمال الميّت، الأبنية والآلات والأدوات، التي لا يحييها سوى الرأسمال المتحرّك، قوّة العمل المؤجّرة. تتقاطع هذه القسمة، لكنّها تبقى مختلفة، عن أخرى يستعيدها ماركس من آدم سميث، بين «رأس المال القارّ» و«رأس المال المتحوّل».
ما تريد أن تعرفه روزا لوكسمبورغ هنا هو إذا كانت صيغة ماركس المكثّفة للإنتاج الاجتماعي في المجتمع الرأسماليّ«ت+ث+ف» هي تصوّر نظريّ مجرّد أو أنّ لها إحالة ملموسة إلى واقعٍ اجتماعيّ موضوعيّ محدّد20: «الرأسمال الثابت» (ث) يحيل إلى واقعة فعليّة (وسائل الإنتاج من حيث هي رساميل خاصّة) و«الرأسمال المتحرّك» (ت) يحيل بدوره إلى كتلة فعليّة (مجموع الأجور المسدّدة بالفعل). الجمع «ت+ث» هو الرأسمال الاجتماعيّ (مجموع رأس المال في مجتمع معيّن). أمّا فائض القيمة الذي هو الشكل الرأسماليّ لتحقّق «فائض العمل» - بالإضافة إلى التملّك الخاصّ لوسائل الإنتاج - فبجمعه إلى «ت» نحصل على إجماليّ العمل الحيّ المحقَّق في مجتمعٍ معيّن في مدّة من الزمن (سنة).
بيد أنّ نمط الإنتاج الرأسماليّ لا يقوم على تنظيم منهجيٍّ للإنتاج الاجتماعيّ، فعلى أيّ أساس يمكن إذاً الحديث عن إنتاجٍاجتماعيٍّ هو حصيلة الوجود المستقلّ لوحداتٍ استثماريّة رأسماليّة خاصّة؟ هذه العشوائيّة في حركة الرساميل التي تجعل التنظيم الاجتماعيّ لحركتها أشبه بالمستحيل، تتمخّض عنها في الوقت نفسه حركةُ عامّة تتابع كما لو كانت «جَمْلاً واحداً». ففيما يرتبط كلّ نظامٍ منظّم للإنتاج - أي ما قبل رأسماليّ في تقسيم روزا - بتنظيم العمل المحقّق أو المعدّ للتحقيق كما بتنظيم العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، فإنّ العمل الاجتماعيّ الضروريّ لصيانة وتجديد وسائل الإنتاج كما لصيانة وتجديد قوى العمل الحيّة لا يأخذ صفته «الكليّة» في النظام الرأسماليّ إلّا حين يوضع قبالة فائض العمل المحقّق من حيث هو في هذا النظام فائض القيمة. وعلى هذا الأساس تعتبر روزا لوكسمبورغ أنّ العلاقة بين «ف» و«ث+ت» هي علاقة فعليّة، موضوعيّة، ملموسة، في المجتمع الرأسماليّ، هي «معدّل الربح الوسطيّ»، حيث كلّ رأسمال خاصّ لا يكون إلّا جزءاً من الرأسمال الاجتماعيّ الكليّ، ومعدّل الربح الوسطيّ هذا هو الذي يوجّه كلّ عمليّات التبادل بواسطة قانون القيمة. في مخطّط روزا النظريّ إذاً، «الرأسمال الاجتماعيّ يسيطر تماماً، بواسطة معدّل الربح الوسطيّ، على الحركات، التي هي في ظاهرها مستقلّة بذاتها، للرساميل الفرديّة». من هنا، جوابها على السؤال حول السّنَد الواقعيّ لصيغة «ت+ث+ف» في الخطاطة النظريّة، هو أنّ هذه الصيغة لا تعبّر فقط عن تكوين القيمة في كلّ سلعة، بل أيضاً تسري على مجموع السلع المنتجة في مجتمعٍ رأسماليّ بمدّة معيّنة، لكنّها تتعلّق فقط بتشكيل القيمة. لكنّ ذلك يختلف على صعيد كلّ وحدة إنتاجيّة من جهة، وعلى صعيد الإنتاج الاجتماعيّ من جهةٍ أخرى. فعلى الصعيد الفردي، صيغة «ت+ث+ف» هي قاعدة تقسيم المال (الرأسمال النقديّ) بين جزء يذهب لشراء وسائل إنتاج، وجزء لشراء قوّة عمل، وجزء للاستهلاك الشخصيّللرأسماليّ، في حالة إعادة الإنتاج البسيطة، أو إلى التوزّع بين جزء معدّ للاستهلاك وجزء للاستثمار بغية تنامي الرأسمال، في حال إعادة الإنتاج الموسّعة. بالنسبة إلى الرأسماليّ الفرْد، وسائل الإنتاج وقوى العمل التي يحتاج إليها، هي أمورٌ يرى من البديهيّ أنّها مطروحة في السوق، وكذلك بالنسبة إلى «الاقتصادي المبتذل» أي «الأيديولوجيّ» هذا الرأسمالّي الفرديّ، على حدّ تعبير لوكسمبورغ. الحال تختلف تماماً على مستوى المجموع، الإنتاج الاجتماعي، ففي حين أنّ«الرأسماليّ الفرد لا يكترث أبداً بمعرفة ما إذا كانت السلعة التي يصنعها هي آلة، أو سكْر، أو سماد اصطناعيّ أو صحيفة ليبراليّة، بشرط أن يسيّلها بغية استعادته الرأسمال الذي وظّفه، + فائض القيمة، فإنّه بالنسبة إلى طبقة الرأسماليّين ككلّ، من الأهمّيّة بمكان معرفة ما إذا كان إنتاجها عنده نمطاً استخداميّاً محدّداً» وما إذا كان يتضمّن وسائل الإنتاج الضروريّة لتجديد سيرورة العمل، ووسائل الاستهلاك البسيطة لصيانة الطبقة العاملة، ووسائل الاستهلاك الأرفع مستوى، من أجل ترَف الطبقة الرأسماليّة. أكثر من هذا، تشدّد روزا على أنّ هذه الرغبة في معرفة إلى أين يذهب الإنتاج لا تعود مصاغة، على مستوى الكتلة الطبقيّة لمجموع الرأسماليّين، فقط بطريقة عامّة وغامضة، بل بشكلٍ لافتٍ في دقّته، وعلى هذا الصعيد بالذات فإنّ صيغة «ت+ث+ف» لا تعود فقط متعلّقة بمجموع الرأسمال الاجتماعيّ أو الرأسمال الفرديّ، وتتعدّى بذلك كونها تقسيماً كمّيّاً للقيمة المجملة، تقسيماً لكمّيّة العمل المتضمّن في الإنتاج السنوي للمجتمع، وتصير قاعدةً للتقسيم المادّيّ للإنتاج. من منظار الرأسماليّ الفرد، عليه أن يعيد إنتاج رأسماله الثابت والمتبدّل عند كلّ عتبة، فضلاً عن تحصيل فائض القيمة، من دون أن ينقسم الإنتاج بحدّ ذاته على صعيده المادّيّ بين ثلاثة أصناف. أمّا بالنسبة إلى مجموع الرأسماليّين، فهم ينتجون كلّ قسمٍ من قيمة إنتاجهم السنويّ في شكلٍ مادّيّ مختلف عن سواه. الـ«ث» من حيث هو وسائل إنتاج، و«ت» كوسائل استهلاك للعمّال، و«ف» كوسائل استهلاك للرأسماليّين. في إعادة إنتاج الرأسمال الفرديّ، ما يحسبه المستثمر هو علاقات القيمة فحسب، على افتراض أنّ الشروط المادّيّة هي بمثابة التعبير الطبيعيّ التلقائيّ للتبادل السلعيّ. يختلف الوضع على مستوى الإنتاج الاجتماعي. لأجل إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعيّ، علاقات القيمة لا يمكن أن تحتسب بمعزلٍ عن شروطها المادّيّة، أو أن تعتبر هذه الشروط معطاةً فقط في الأسواق، وفي أقلّ تقدير لو أنّ كلّ الرأسمال الثابت «ث» في المجتمع لا يعاد إنتاجه كلّ عام في شكل كمّيّة وسائل الإنتاج نفسها، فإنّ كلّ رأسماليّ فرد ولو مشّط السوق كلّها مع رأسماله الثابت «ث» المحقّق في شكل نقد، فإنّه لن يجد حينها الشروط المادّية الضروريّة لإعادة الإنتاج على مستواه الفرديّ. على صعيد الرأسماليّ الفرد، صيغة «ت+ث+ف» ملموسة، أمّا على صعيد الرأسمال الاجتماعيّ مأخوذاً ككلّفإنّها تبقى مجرّدة، ولا يمكن أن يركن إليها وحدها لتأمين شروط إعادة الإنتاج، ولأجل هذا بالتحديد تمثّل إعادة الإنتاج شيئاً واقعيّاً لا يتضمّنه مباشرةً مفهومُ الإنتاج. التمييز بين قطاعَي الإنتاج، إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج وسائل الاستهلاك يصبح ضروريّاً في حالة الإنتاج الاجتماعيّ. القطاعان ينتجان فائض القيمة. بالتالي صيغة «ت+ث+ف» تسري بالتوازي في كلٍّ منهما.
الشروط التاريخيّة للتراكم وتراكم أزمات الرأسماليّة
انطلاقاً من هذا الإطار النظريّ تناولت روزا المخطّطات الإيضاحيّة «الدياغرام» لإعادة الإنتاج الموسّعة في المجلّد الثاني من «رأس المال». هل يمنح ماركس من خلال هذه المخطّطات إمكانيّة تطوّرٍ لامتناهٍ للرأسماليّة بشرط الحفاظ على التناسبات بين قطاعَي الإنتاج، قطاع إنتاج وسائل الإنتاج، وقطاع إنتاج وسائل الاستهلاك؟ أنكرتْ روزا على «دياغرام» المجلّد الثاني سرَيانه على إعادة الإنتاج الموسّعة، وأنّه ناشئ من تركيبة كتاب «رأس المال» نفسها المحكومة بثنائيّة الرأسماليّين والعمّال مع تغييب الآخرين في عمليّة تحقيق فائض القيمة. لكنّ العنصر الأساسيّ النوعيّ الذي أدخلتْه روزا هو سؤال «من أين يأتي الطلب الإضافيّ؟» أي ما هو دافع الرأسماليّين من أجل توسعة الإنتاج، ومن أجل مَن يقومون بتوسيعه؟ وجدتْ أنّ الربح ليس جواباً كافياً. لا يمكن أن يحصل الربح إلّا بمقدار ما أن هناك شارين للإنتاج الموسّع، لكن الأطروحة المركزيّة لـ«رأس المال» يستحيل معها إيجاد هؤلاء الشارين داخل المجتمع المشكّل أساساً من رأسماليّين وعمّال.
تكرّس روزا لوكسمبورغ الجزء الثالث من كتابها لمبحث الشروط التاريخيّة للتّراكم، هذه الشروط التي لا يسمح التقيّد الحَرفي بالمخطّط التوضيحيّ في آخر المجلّد الثاني من «رأس المال» بالوصول إليها، ما دام أنّ هذا المخطّط التوضيحيّيخلق الانطباع بأنّ الإنتاج الرأسماليّ يحقّق كلّ فائض القيمة في داخل نطاقه ويستخدم فائض القيمة المرسمل لاحتياجاته هو، وهذا الانطباع يقوّيه التحليل الذي يجريه ماركس انطلاقاً من «الدياغرام» المعتمَد، إذ يختزل حركة دوَران رأس المال إلى الطلب على الاستهلاك من لدن الرأسماليّين والعمّال، الأمر الذي يتناقض مع ما توصّل إليه ماركس في المجلّد الثالث بصدد التشكّل العضويّ المتنامي لرأس المال، أي التنامي المتسارع للرأسمال الثابت بالنسبة إلى الرأسمال المتحرّك، الذي يجد تعبيره المادّيّ في تنامي إنتاج وسائل الإنتاج (القطاع ١) بشكلٍ أسرع من تنامي إنتاج وسائل الاستهلاك (القطاع ٢). مثل هذا الاختلاف في إيقاع التراكم بين القطاعَين هو بالنسبة إلى روزا مستحيل تماماً إذا ما أخذنا بالمخطّط التوضيحي للمجلّد الثاني21. هذا المخطّط يفترض إذاً حركةً لرأس المال الكامل مختلفةً تماماً عن المجرى الفعليّ للتطوّر الرأسمالي، ذلك أنّ تاريخ الإنتاج الرأسماليّ يتّسم بالتوسّع الدوري لحقل الإنتاج من جهة، وبالتطوّر المتفاوت للغاية بين مختلف فروع الإنتاج من ناحية أخرى.
المسألة كما تعيد طرحها روزا: كيف تتمّ عمليّة إعادة الإنتاج الاجتماعيّة تبعاً لواقعة أنّ فائض القيمة لا يستهلكه الرأسماليّون بكلّيّته، بل أنّ جزءاً متنامياً منه يُحفَظ لتوسعة الإنتاج؟ في مقاربة روزا لا يسع العمّال والرأسماليّين سوى تحقيق الرأسمال المتحرّك، والجزء المستخدَم من الرأسمال الثابت والجزء المستهل من فائض القيمة، وإذ يقومون بذلك يعيدون خلق الشروط الضروريّة لمواصلة إعادة الإنتاج على الصعيد نفسه، فيما لا العمّال ولا الرأسماليّون بإمكانهم تحقيق الجزء من فائض القيمة المخصّص للرسملة لوحدهم22.
تدريجيّاً تنتقل روزا في كتابها من تحديد الإطار النظريّ لمشكل إعادة الإنتاج وعدم كفاية ثنائيّة رأس المال والعمل لتحقيق فائض القيمة، مع ترجيح كفّة اللاتناسب بين القطاعَين ١ و٢، قطاع إنتاج وسائل الإنتاج وقطاع إنتاج وسائل الاستهلاك، إلى الفصول التي تظهر فيها الأشكال التاريخيّة للتراكم المرتبط عضويّاً بتوسّع الرأسماليّة إلى الأقاليم والقطاعات ما قبل الرأسماليّة. كما تشدّد في مستهلّ فصل «الصراع ضدّ الاقتصاد الطبيعيّ»، «الرأسماليّة، تنشأ وتتطوّر تاريخيّاً في محيطٍاجتماعيٍّ غير رأسماليّ»23. تتناول روزا «الاقتصاد الطبيعيّ» كما تسمّيه، الذي يشمل بالنسبة إليها الإقطاعيّة في أوروبا الغربيّة، والمشاعيّة الريفيّة والقبليّة التي تعتبرها متأصّلة في الهند والجزائر قبل استعمارهما - وتسمّيه اقتصاداً«طبيعيّاً» لأنّ وسيلة الإنتاج الأساسيّة فيه (الأرض) مرتبطة عضويّاً بالقوّة التي تشغل هذه الوسيلة. وتميّز الاقتصاد السلعيّ الفلّاحي والحرفيّ عن كلٍّ من الاقتصادَين «الطبيعيّ» و«الرأسمالي». تاريخ التراكم الرأسماليّ يصبح إذاً في هذا الترتيب تاريخَ صراع، استئصاليّ، ضدّ الاقتصاد الطبيعيّ، وهيمَنيّ على الاقتصاد السلعيّ، قبل الانتقال إلى مرحلة الإمبرياليّة، حيث الصراع على المستوى العالميّ حيال ما تبقّى من أقاليم غير مترسملة.
لا هوادةَ للتراكم الرأسماليّ مع الاقتصاد الطبيعيّ، وروزا تُدرج هنا الثورات والحروب التي أتتْ على الإقطاعيّة في أوروبا، كما الاستعمار وعنفه ضدّ السكّان الأصليّين في المستعمرات. فمن ناحية، هذا التحطيم للاقتصاد الطبيعيّ يتعلّق أساساً بمرحلة التراكم البدائيّ لرأس المال، منذ نهاية العصر الوسيط حتى منتصف القرن التاسع عشر، تبعاً للتّمرحل الذي تتبنّاه روزا، التي تعتبر أنّ من الوهم تصوّر أنّ التراكم الرأسماليّ كان يمكنه أن يكتفي بانتظار تصدّع العلاقات الاجتماعيّة في الاقتصاد الطبيعيّ. لا يسمح التوسّع بالقفزات لرأس المال بأن ينتظر تحلّل المجتمعات «البدائيّة» كما تسمّيها روزا، أو دخولها في ركب الاقتصاد السلعيّ شيئاً فشيئاً. والعنف عندها وسيلةٌ متأصّلة في التراكم كسيرورةٍتاريخيّة منذ بداياتها إلى اليوم.
نماذج من الهند والجزائر والصين
لعلّ أضعف النماذج التي تقدّمها روزا حديثُها عن البُنى المشاعيّة للقرية الهنديّة. تعتبر أنّ المشاعة القرويّة الهنديّة استطاعتْ أن تحافظ على نفسها رغم كلّ الغزاة المتعاقبين لشبه القارة، الذين اكتفوا بالإتاوة السنويّة وتركوا الريفيّين لحالهم إلى أنْ جاء الاستعمار البريطانيّ لمصادرة الأرض، انطلاقاً من تسويغ تجده عند جيمس ميل وهو أنّ ملكيّة الأرض كانت للسلطان المغوليّ وتتحوّل من بعده لسلطان «شركة الهند الشرقيّة» البريطانيّة. اختزال طبقة «الضامن دار» في الهند ما قبل البريطانيّة إلى مجرّد جباة للإتاوة، بما يترك القرية تتدبّر شأنها مشاعيّاً، هو تصوّرٌ متقادم بالنسبة إلى الهند. اللافت هنا أنّ روزا كتبتْ «التراكم» بعد أربع سنوات على إصدار موهنداس غاندي لكتاب «هند سواراج» الذي يستعيد فيه نموذج الجماعة القرويّة المستقلّة بذاتها، ويدعو فيه إلى جعل الهند جمهوريّةً من القرى تشكّل فيها كلّ قرية جمهوريّة قائمةً بذاتها.
«المشاعيّة» أيضاً تُسقطها روزا على الجزائر ما قبل الفرنسيّة، وإن كانت تنبّه إلى أنّ العثمانيّين (الترك كما تسمّيهم) صادروا قسماً من هذه الأراضي، فيما بقي نصف الأراضي الزراعيّة ملكاً مشتركاً للقبائل. يتميّز نموذج الجزائر في تحليل روزا بأنّ السيطرة «التركيّة» مهّدتْ لزعزعة التنظيمات الاجتماعيّة «المشاعيّة»، وهي تعتبر أنّ الفرنسيّين استغلّوا لاحقاً خرافة أنّ الترك صادروا كلّ الأراضي من أجل تحصيل الإتاوة، ولا تتردّد في التسجيل أنّه «فقط الأوروبيّون يمكنهم تخيّل فكرة بهذه العبثيّة تتعارض مع كلّ الأسس الاقتصاديّة للإسلام والمؤمنين. بالعكس، الترك احترموا بشكل عام الملكيّة الجماعيّة للقوى والعائلات الكبرى». يبقى أنّ ما يصنع الاختلاف بين النموذجَين البريطاني في الهند والفرنسيّ في الجزائر هو أنّ الاستعمار استيطانيّ في الحالة الثانية، وهو ما تستعرضه روزا من خلال آليّة فرز الأراضي إلى ملكيّات خاصّة مع إرهاق مالكيها من السكّان الأصليّين بالدين لإعادة بيعها، وما تعرضه بالفعل من حركة هجرة للجزائريّين في ذلك الوقت باتّجاه «آسيا التركيّة» (سورية العثمانيّة) حيث تمنحهم الحكومة أرضاً ووسائل للزراعة (هذه الظاهرة بطبيعة الحال بقيتْ جزئيّة، لا المجتمع الاستيطانيّ الفرنسيّ بقي بعد استقلال الجزائر، ولا معظم الجزائريّين هاجروا إلى سورية!)24.
يبدو استخدام «المشاعيّة» لتفسير العلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بالأرض في الهند أو الجزائر ما قبل الاستعمار أكَلَ عليه الدهر وشرب اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستخدام واسع النطاق لصفة «المجتمعات البدائيّة» عند روزا. في المقابل، يكتسب تحليلها لصراع التراكم مع الاقتصاد الفلّاحيّ جدارةً لافتة، لا سيّما أنّها تعتبر أنّ عمق هذا الصراع يقوم على فصل الزراعة عن الحرف، والغاء المهن الفلّاحية من الاقتصاد الفلّاحي. الرأسمال يمهّد لاختزال الاقتصاد الفلّاحي إلى فرع واحد: الزراعة. يتشابك ذلك مع عمليّات «إدخال الاقتصاد السلعيّ» سواء بمدّ سكك الحديد وتطوّر الملاحة البحريّة وشقّ القنوات - وهو ما ترى فيه روزا «طابَعاً سلميّاً مخادعاً» - أو بالقوّة، كما في نموذج «حرب الأفيون» الذي أجبر من خلالها البريطانيون الصين على «شراء هذا السمّ من الفلّاحين الهنود لمساعدة الرأسمالّيين الإنكليز على مراكمة النقد»25. وبعدها تضيف المديونيّة، مميّزةً بين اقتراض روسيا وأميركا من الرأسمال الأوروبيّ لبناء سكك الحديد في منتصف القرن التاسع عشر، وبين الاقتراض الذي يتحوّل إلى شكلٍ للاستتباع في حال أشباه المستعمرات، مُدرجةًالنموذجين العثمانيّ والإيرانيّ في هذا السياق. تتناول أيضاً الاستتباع الألمانيّ للإمبراطوريّة العثمانيّة عشيّة اندلاع الحرب الكبرى، فتصف الدولة العثمانيّة بأنّها تحوّلت إلى «جهاز سياسيٍّ لاستثمار الاقتصاد الفلّاحي لحساب الرأسمال الألمانيّ».
بالنسبة إلى روزا، لا يكفي القول إنّ الرأسماليّة تعيش على البنى غير الرأسماليّة، بل هي تتغذّى من عمليّة انهيار هذه البنى. وهكذا، نجدها تصف التراكم الرأسماليّ على أنّه شكْل من «الميتابوليزم» (الأيض) بين نمط الإنتاج الرأسماليّوأنماط الإنتاج ما قبل الرأسماليّة. فالتراكم لا يسجن نفسه في إطاره الداخليّ، بين قطاعَي إنتاجٍ وسائل الإنتاج وإنتاج وسائل الاستهلاك، بل أكثر، كلٌّ من قطاعَي الإنتاج هذين يمكنه أن يحقّق التراكم جزئيّاً بطريقةٍ مستقلّة إلى حدّ ما عن القطاع الثاني.
النزعة العسكريّة حقلٌ لتراكم رأس المال
أمّا الإمبرياليّة، فهي بخلاف التراكم البدائيّ لرأس المال، بمثابة «التعبير السياسيّ عن عمليّة التراكم الرأسماليّ التي تتجلّى بالتزاحم بين الرأسماليّات القوميّة حول ما تبقّى من أقاليم غير رأسماليّة في العالم»، وتلاحظ روزا هنا26 أنّمعظم الكوكب في عصرها لا يزال خارج التوسّع الرأسماليّ. في المرحلة الإمبرياليّة تتزايد النزعة العسكريّة، التي تصاحب أساساً بالنسبة إلى روزا كلّ أطوار التراكم الرأسماليّ، وأهمّيّة معالجتها للنزعة العسكريّة أنّها ترى فيها «حقلَتراكم» قائماً بذاته، فهذه النزعة تحرم كلّاً من الطبقة العاملة والشرائح غير المرسملة بعد أو القائمة على الإنتاج السلعيّالبسيط من جزءٍ من قوّتها الشرائيّة، كما أنّ استهلاك أجهزة الدولة لا يساهم في شيءٍ من عمليّة تحقيق فائض القيمة المعدّللرسملة.
بالضدّ من مقولات الانتقال من مرحلة رأسماليّة التزاحم الحرّ إلى رأسماليّة التمركز الإمبرياليّ (هيلفردينغ، لينين، بوخارين)، تذهب روزا إلى أنّه لم يكن هناك أبداً «مرحلة تبادل حرّ» في تاريخ الرأسماليّة، بل نزعات إلى مثل هذا تقابلها نزعاتٌ حمائيّة، وأنّه بشكل عامّ، الرأسمال التجاريّ في المدن التي يرتبط نشاطها الاقتصاديّ بالتجارة الدوليّة، هي التي تميل إلى التبادل الحرّ، في حين أنّ الرأسمال الصناعيّ ينحو إلى الحمائيّة، والذي تراجَعَ هو أوهام التبادل الحرّ مع صعود الرأسمال الصناعيّ. وهنا (الفصل ٣١، «الحمائيّة والتراكم») تتمكّن روزا من تكثيف إشكاليّةٍ أساسيّة في فكرها: التناقض التاريخيّ بين مصالح التراكم (تحقيق ورسملة فائض القيمة) وبين التبادل السلعيّ!
بسبب هذا التناقض «التاريخيّ» لا يمكن للرأسماليّة الذهاب بعيداً في تحقيق التناسب بين الإنتاج والاستهلاك. بسببه أيضاً، التراكم في عالم مسيطَر عليه تماماً من الإنتاج الرأسمالي مستحيل. يعني ذلك إذا أخذنا بقناعة روزا اليوم، إمّا أنّ الرأسماليّة لا تزال تتوسّع، ولا تزال ثمّة قطاعاتٌ وأقاليمُ غير رأسماليّة تتوسّع إليها، وإمّا أنّ الرأسماليّة توسّعت بالفعل لتبلغ تمامها الذي هو منطق نهايتها بالنسبة إلى روزا... وإمّا أنّ نظرة روزا الأساسيّة لم يصادق التاريخ على صحّتها.
باعتراف روزا نفسها في «الردّ على النقّاد» (أو «النقد المضادّ»)، كان أخطر نقد يوجّه لكتابها هو الذي أتى من طرف قطب الماركسيّة - النمساوية أوتو باور بمقالٍ حمل عنوان «تراكم رأس المال». صمّم باور «دياغرام» لإعادة إنتاج رأسماليّة موسّعة مختلفاً عن ذاك الذي نشره ماركس في «المجلّد الثاني» ويلحظ تنامي التكوين العضويّ لرأس المال، لكنّه يثبت أنّ الرأسماليّة يمكن أن تنمو في مجتمع واحد على حدة، وليست هناك علاقة عضويّة بينها وبين الإمبرياليّة، إذ كان باور يرى أنّ نظريّة روزا تقود إلى اعتبار كلّ مجتمع تنمو فيه القوى المنتجة إمبرياليّاً بالفطرة، سواء كان هذا المجتمع رأسماليّاً أو اشتراكيّاً، ويرى أنّ منطق كتابها مضرّ بالحركة الاشتراكيّة. في المقابل، الدياغرام المركّب الذي طرحه باور أظهر أنّ من الممكن أن يشهد التطوّر الرأسماليّ تراجعاً في أرباح الرأسماليّين، وتحسّناً في الأجور للعمّال في الوقت نفسه. لم ينكر باور الأزمات الدوريّة للرأسماليّة، لكنّه ذهب إلى أنّه بخلاف نظرة ماركس وأنغلز، الأزمة الدوريّة تتطوّر ليس بسبب فائض الإنتاج السلعيّ، لكن عندما يفشل الرأسماليّون الصناعيّون في تأمين قوّة عملٍ كافية لزيادة الإنتاج. قاده ذلك في المقابل إلى ربط مسار التراكم بالتزايد السكّاني، فـ«التراكم يفترض التزايد السكّانيّ».
ما لم يستطع أوتو باور رؤيته أنّ هذا المَيل في المجتمعات الأوروبيّة للابتعاد عن نظريّة الإفقار لا يمكن أن يفسَّر بمعزل عن الإمبرياليّة، مثلما لم تستطع روزا لوكسمبورغ الإقرار بأنّ ربطها الرأسماليّة عضويّاً بالإمبرياليّة يترتّب عليه مسارٌ أكثر تعقيداً في مجتمعات الحواضر الإمبرياليّة، بحيث لا يعود الاستقطاب الطبقيّ بالحدّيّة نفسها الذي طبعتْه في فترة الثورة الصناعيّة، من دون تسهيل عمليّة رسملة المستعمرات وأشباه المستعمرات مسار تشكّل الطبقات الاجتماعيّة فيها على أساسٍ استقطابيّ بين الرأسمال والعمل.
هل الازمات ضروريّة للرأسماليّة؟
فهل يعني هذا أنّ النظام الرأسماليّ قادرٌ دائماً على الإفلات من الأزمات التي تلمّ به - هنا لا بدّ من طرح المعادلة التي يُعملها ديفيد هارفي في «معضلة رأس المال» وهو أنّ الأزمات ضروريّة لتطوّر الرأسماليّة ضرورة المال والقوّة والعمل ورأس المال نفسه27، وأنّ هذه الأزمات هي «لاعقلانيّات» تعقْلن في كلّ مرّة لاعقلانيّة الرأسماليّة.
أيّاً يكن من شيء، الاختلاف بين روحيّة المجلّدين الثاني والثالث لرأس المال ليس من الميسّر حسمه، وعدم تمكّن ماركس من الانتهاء من كتابة عمله الضخم يعود إلى حدّ بعيدٍ إلى إشكال كهذا، إلى تناقضٍ أخذ يتطوّر فصلاً بعد فصل، ويمكن اقتفاء أثره منذ بداية الكتاب، بين اتّجاهين، أحدهما ينحو إلى اعتبار انهيار الرأسماليّة حتميّاً، وآخر يتخوّف، بالعكس، من إمكانيّة تمدّدها أكثر بكثير ممّا كان متوقّعاً من قبل ماركس.
مثّل «تراكم رأس المال» محاولة مهمّة للغاية في التصويب على مسألة إعادة إنتاج الرأسمال الاجتماعيّ من حيث هي عمق التفكير الاقتصاديّ الماركسيّ، ومثّل في المقابل مجازفةً غير مكتملة الشروط في ترجيح الكفّة لمنطق المجلّد الثالث (التراكم مسدود الأفق) بالضدّ من المجلّد الثاني (التراكم اللامتناهي). بَيد أنّه، من وراء هذه المجازفة، كان لروزا إسهامٌ مهمّ في طرح مسألة «من أين يأتي الطلب» الذي يدفع إلى المزيد من الإنتاج، وجواب روزا بأنّه لا يمكن أن يأتي من ثنائيّة الرأسماليّين والعمّال لوحدها يحتفظ براهنيّةٍ أساسيّة.
في المقابل، كثير من الموادّ النقديّة في «تراكم رأس المال»، بخاصّة التي تتناول النقاشات بين المفكّرين الاقتصاديّين في روسيا القيصريّة حول إمكانات التطوّر الرأسماليّ تحتاج إلى التأنّي في النظر إليها، وإعادة قراءة المنقودين. وجّهتْ روزا النقد في هذا الصدد لكلٍّ من النزعة «النارودنيّة» التي تقول باستحالة توطيد الرأسماليّة في روسيا أو من ثمّ بإمكانيّة تفادي الرأسماليّة، وللمدرسة المقابلة، ممثلةً خصوصاً بميخائيل توغان بارانفوسكي (ت ١٩١٩) الذي رصد شكلاً روسيّاً من عمليّة تراكم رأس المال منذ القرن الثامن عشر. تميل روزا إلى اختزال أعمال بارانوفسكي، الذي تحلّ مئويّته السنويّة هذا العام أيضاً، في «توتولوجيا» الإنتاج المكتفي بنفسه كعلّةٍ ومعلول، كسبب للطلب على الإنتاج وكإطار للاستهلاك، في حين أنّ قيمة بارانوفسكي الأساسيّة تكمن في النقد الذي وجّهه لمقولة «فائض القيمة» نفسها، وإعادة اعتباره لكلفة الإنتاج مأخوذةً ككلٍّ على حساب مركزيّة كلفة العمل في «رأس المال»، مؤسّساً بذلك لتاريخٍ من التشكيك، من موقع يريد المراكمة بشكل نقديّ على ماركس، بنظريّة الأخير حول «فائض القيمة».
كان خيار روزا إنقاذ نظريّة فائض القيمة، إنّما بالتشديد على استحالة تحقيق فائض القيمة ضمن السوق الرأسماليّة لوحدها، وارتباط فائض القيمة بـ«الأيض» الذي يربط هذه السوق بما لم يرسمَل بعد من علاقاتٍ اجتماعيّة على هذه الأرض. لم يكن بإمكانها أن تتخيّل تراكم رأس المال في مجتمعٍ رأسماليّ حصراً، ولم يكن بإمكانها أن تتخيّل استمرار الرأسماليّة من بعد رسملة كلّ الكوكب. والحال هذه، التأمّل يطرح نفسه بعد مئة عام على اغتيال روزا التي دافعت عن نظريّة فائض القيمة بشرط ربط التراكم بالتوسّع إلى الأقاليم والقطاعات غير الرأسماليّة، وبعد مئة عام على رحيل توغان - بارانوفسكي، الذي اعتبر أنّ «فائض القيمة» هي نوعاً ما أصل العلّة في التصوّر النظريّ الذي ابتناه ماركس عن التراكم الرأسماليّ: هل ما زالت هناك فضاءاتٌ لم ترسمَل بعد على الكوكب أم أنّ مقولة برنشتاين عن «التوسّع التكثيفيّ» للرأسماليّة هي التي تصلح منظاراً؟ قطعاً لم تكن روزا تتوقّع انتهاء الرأسماليّة في غضون سنوات قليلة، لكن من المؤكّد أنّها ما كانت لتتخيّل، هي وسائر جيلها، أنّ الرأسماليّة بـ«ألف روح»، وأقرب بهذا المعنى إلى تشخيصات توغان - بارانوفسكي. هل يمكن أن يُبطل هذا في المقابل كلّ إمكانيّةٍ للانهيار الرأسماليّ الشامل؟ أبداً. لا شيء مضموناً في الرأسماليّة، بما في ذلك عدم انهيارها الشامل.
- 1. يمكن تحميل ترجمة مارسيل اوليفييه الفرنسية لكتاب هيلفردينغ على: https://www.marxists.org/francais/hilferding/1910/lcp/hilf_lcp.pdf وهي ترجمة تتصدّرها مقدّمة شارحة لايفون بورديه
- 2. لكارتيل والتراست نوعان من «احتكار القلّة» ظهر أوّلهما اواخر القرن التاسع عشر وثانيهما مطلع القرن العشرين. الكارتيل تعاضد مؤقّت لمشاريع مختلفة تعمل في نفس الفرع الصناعي وتتّفق على توحيد عمليّة توريد الموادّ الأوليّة وتوزيع طلبات الزبائن فيما بينها من دون أن يكون الكارتيل مشروعاً قائماً بذاته. هذا بخلاف الاحتكار الائتمانيّ أو «الترست» الناشيء عن اندماج كتلةٍ ماليّة للسيطرة على قطاع بكامله من قطاعات الإنتاج، الأمر الذي تنبثق عنه ظاهرة «الرأسمال الماليّ» بالمعنى المحدّد للاصطلاح
- 3. Paul Frölich, Rosa Luxemburg. Traduit de l’allemand par Jacqueline Bois. Paris, Maspero, 1965, p. 187
- 4. بول فروليش (١٨٨٤ - ١٩٥٣) مؤرّخ وصحافيّ ومناضل شيوعيّ ألمانيّ، وأحد مؤسّسي الرابطة السبارتاكيّة والحزب الشيوعي الألمانيّ مع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت واصطدم لاحقاً بالستالينيّة من موقع تمثّله بنهج وروحيّة روزا لوكمسبورغ الذي اشتهر بسيرته عنها (١٩٣٩)
- 5. Rosa Luxemburg, Intervention sur le militarisme et la politique coloniale au Congrès de l'Internationale, https://www.marxists.org/francais/luxembur/works/1900/09/congres.htm
- 6. Gilbert Badia, L’analyse du developpement capitaliste chez Rosa Luxemburg in Histoire du marxisme contemporain, t2, 10 / 18, 1976, 97 - 116
- 7. جرت العودة أثناء إعداد هذه الدراسة إلى كلٍّ من الترجمتين الإنكليزيّة والفرنسيّة لكتاب التراكم Rosa Luxemburg, The Accumulation of Capital, translated by Agnes Schwarzschild, with a new introduction by Tadeuz Kowalik. London, Routledge, 2003. Rosa Luxembourg, L’accumulation du capital, traduction d’Irène Petit. http://www.uqac.uquebec.ca/zone30/Classiques_des_sciences_sociales/index...
- 8. L’accumulation, p. 17
- 9. Idem, p. 25
- 10. Karl Marx. «Introduction générale à l’étude de l’économie politique» in Karl Marx. Œuvres. Economie I. Gallimard - Bibliothèque de la Pléiade, p. 243
- 11. Karl Marx, Le Capital, Livre Premier. Tome I, Paris, Editions Sociales, 1969, p.154
- 12. Idem, p. 150
- 13. Ibid
- 14. Karl Marx, Le Capital, Livre Premier. Tome III, Paris, Editions Sociales, 1969, p. 8
- 15. Ibid
- 16. Idem, p. 20
- 17. Denis Collin, Le cauchemar de Marx. Le capitalisme est-il une histoire sans fin? Paris, Max Milo, 2009, p. 80
- 18. L’accumulation, op.cit. p. 10
- 19. المرجع السابق، ص 11
- 20. المرجع السابق، ص 30
- 21. المرجع السابق، ص 131
- 22. لمرجع السابق، ص 135
- 23. المرجع السابق، ص 142
- 24. المرجع السابق، ص 148
- 25. لمرجع السابق، ص 151
- 26. الحمائية والتراكم, الفصل31
- 27. D. Harvey, The Enigma of Capital and the Crisis of Capitalism, Oxford 2010
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.