حتى بعد مئة عام من ميتتها الشنيعة بين ليلة ١٥ وصباح ١٦ من كانون الأول / ديسمبر من عام ١٩١٩، لا تزال تدوّي أصداء كلمات روزا لوكسمبورغ التي وردتْ في كتابها «في الثورة الروسيّة»، إذ تقول إن الديكتاتوريّة المنشودة هي ديكتاتوريّة «طبقة، وليست ديكتاتوريّة حزبٍ أو طغمة [...]، ومعنى هذا أنّها ديكتاتورّيةٌ تُمارَس بأرحب عموميّة، وبأنشط مشاركة شعبيّة، تُمارَسُ بديمقراطيّة من دون قيود». حتى الأعداءُ يجب أن يحظوا بحرّيّة التعبير السياسيّ، وفق لوكسمبورغ، التي كانت تطالب باتّباع مباشرٍ لمسالكَ اشتراكيّة في البناء الاجتماعيّ لعمليّة الإنتاج. ميشائيل بْرِي يسلّط الضوء على اشتراكيّة لوكسمبورغ الحيويّة والمعيشة، وذلك في ضوء السؤال عن أهميّة عملها بالنسبّة إلى مساعٍ حاليّة ترمي إلى تأسيسٍ استراتيجيّ لسياسةٍ اشتراكيّة يساريّة.
«سألتني مرّة عمّا ينقصني. في الحقيقة: الحياة»1
الكثير من السياسيّين يمكن اختزالهم بمبدأٍ أوحد. غير أنّ لوكسمبورغ كانت فضاءً من التناقضات المَعيشة. فعلى الرّغم من حرصها على تحصين حياتها الخاصّة وحفظ مساحاتها الحُرّة في أدقّ التفاصيل، لم تكن حياتها الخاصّة هذه من جهة، ونشاطها السياسيّ من جهة أخرى سوى وجهين لحياةٍ واحدة مُتحققة الإمكانيّات. ولعلّ من المستحيل الفصل بين فهمنا لوكسمبورغ وفهمها لذاتها. فلطالما كانتْ مستعدّة للتضحية بنفسها، وذلك منذ أن كانت طالبةً في الثانويّة، ومن ثَم في خضمّ الثورة الروسيّة (١٩٠٥ - ١٩٠٦)، وكذلك في السجون الروسيّة والألمانيّة كما في ثورة تشرين الثاني / نوفمبر. كانت تستمتع بالحياة بوعي وكثافة تعمّقا مع تقدّمها بالعمر. لا بدّ لمن يريد فهم لوكسمبورغ من قراءة رسائلها إلى جانب أعمالها. فالرسائل توضح معنى الحياة الناجحة بالنسبة إليها كاشتراكيّة. إنّ العلاقة المتبادَلة بين أعمالها السياسيّة والنظريّة من جهة ورسائلها من جهة أخرى تعكس التوتّرات التي وسمتْ حياتها، ومن يعجز عن فهم ذلك، يفشل في فهم أيّ شيءٍ من لوكسمبورغ. لا تُقاس حياتها بأعمالها فحسب، إذ إنّها لم تؤسّس دولة كما فعل لينين، ولم تترك عملاً مُدهشاً على نحو «رأسمال» ماركس. أثرها السياسيّ بقي محدوداً، وأعمالها الاقتصاديّة لا تنقصها الأهمّيّة، غير أنّها تماثل أعمال مجموعةٍ من معاصريها الماركسيّين.
بالاعتماد على الأثر المباشر لأعمالها سيتعذّر على المرء إدراكُ أثر روزا لوكسمبورغ الواقعيّ الباقي، فثمّة ما يُعلي من شأنها: إنّه حياتها ذاتها. [...] في هذه الحياة تنجلي عبقريّة لوكسمبورغ، إذْ فيها يمتزج قدرْان كبيران من التسيّس والخصوصيّة، ويتزامن انخراط عمليٌّ وجوديّ العواقب مع تفكّرٍ نظريّ، لقد كانت حياة لوكسمبورغ منخرطة بقضايا الناس بصفتها صحافيّة وخطيبةً مُبرَّزة، وفي الحين ذاته عاكفة على نفسها، على الرسم والموسيقي والنباتات والحيوانات. مراراً وتكراراً كانت تغوص في الكتابة والرسم وعلم النبات «من الصباح حتى المساء دونما فعل شيء آخر»، وكأنّها سَكرى (GM 5: 74,234)2. بيد أنّها كانتْ عقب ذلك تجوب المظاهرات واحدةً تلو الأخرى. لم تكن هذه مناحيَ تتجاور في حياتها فحسب، بل أضداداً تُعاش على نحوٍ مكثّف وتتفاعل فيما بينها. يذكر فالتر ينس (Walter Jens) أنّ لوكسمبورغ سعتْ إلى شكل حياةٍ «يَنتج فيه من الشخص الخاصّ والحيوان السياسيّ كائنٌ منسجمٌ ومطبوع بهويّته الذاتيّة وبعلاقةٍ مفتوحة بالعالم في آن معاً» (Jens 1995: 13). في إطار وحدةٍ بين تغيير العالم من جهة وتغيّره الذّاتيّ من جهةٍ أخرى، عاشتْ لوكسمبورغ الاشتراكيّة كحركةٍ تحرّريّة - تضامنيّة على نحوٍ يُحتذى. [...]
تجرفنا قراءة أعمال لوكسمبورغ السياسيّة والنظريّة إلى لغةِ ماركسيّةِ الأمميّةِ الثانيةِ، والتي باتت اليوم بحكم المنقرضة إلى حدّ بعيد. الكثير ممّا يرد في نصوصها من كلماتٍ مفتاحيّة لم يعد يمتلك معادِلاً حيّاً، أو أنّ هذا المعادل صار يجب إعادة إنتاجه من جديد. البداهة التي تسم كلامها عن طبقة العمّال والبروليتاريا والإصلاح والثورة وعن الحزب والاشتراكيّة هي بداهة تنتمي إلى عصرٍ آخر غير عصرنا. لكنْ ما أن يخترق المرء حاجز اللغة هذا حتى يكشف واقعَ الحياة المحجوب خلفه، ومعه السببَ الباقي لألَق لوكسمبورغ المستمرّ لأزْيدَ من قرنٍ من الزمان، أي علاقتها الشاعريّة بالعالم. في كلّ شيءٍ كانت تبحث عن «أنت»، والعالم كانت تخاطبه بـ«أنت». طاقةُ هذا الخطاب تصدر عن قوة شخصيّتها، عن «روحها». ضدّ ليو يوغيشيس Leo Yogiches علّقت مرّة في إحدى رسائلها: «تحديداً شكل الكتابة لا يرضيني، أشعر أنّ شكلاً أصيلاً يَينع في روحي، شكلاً لا يتكوّن من الصيَغ والقوالب، بل يفجّرها - بطاقة الروح والقناعة. أحتاج إلى أن أكتب على هذا النحو، أن أؤثّر في الناس كصاعقةٍ وأمسك بهم من جماجمهم، طبعاً ليس بالحماسة، بل ببُعد النظر وقوّة الإقناع وطاقة التعبير» (GB 1: 307).
مُبصرة وعمياء معاً
ثمّة مفارقة دائمة في حالة لوكسمبورغ، فهي كانت مُبصرة وعمياء في آن معاً. لم يكن لتفاؤلها حدودٌ حينما يتعلّق الأمر بقدرة العاملات والعمّال على الفهم والاستيعاب والتي تمكّنهم من تجاوز تبعيّتهم للنّظام الرأسماليّ. بدا لها أنّ لكلّ معركةٍ أفقاً يجاوز الآن والهُنا. القناعة بالمعطى والاكتفاء بالذّات لم يكونا ممّا تطيقه أو تصبر عليه. بنظرٍ ثاقبٍ استطاعتْ أن ترى في الثورة الروسيّة تعبيراً عن قدرة الناس على التنظيم ذاتيّاً وتقرير مصيرهم بأيديهم، في ذات الوقت كانت تُغفل وعلى نحو تامّ تقريباً الدور الضروريّ للتنظيمات المتراصّة، وتهاجمها أحياناً بوصفها أدواتِ سلطة. كانت تصرُّ على تضامنٍ طبقيّ عابرٍ للحدود القوميّة والعرقيّة والجنسيّة، ولذا كانت تُعرِض عن تسييس «آلام اليهود» الخاصّة وعن الاعتراف باستقلالّية المعارك ضدّ البطريركية أو ضدّ عدوانِ أمّة على أمّة. لم تكن تعترف إلّا بنضالٍ اشتراكيّ مشترَك ممنوع عليه أن يبدي أيّ تصدّعات. لذا يفتقد قارئ أعمال لوكسمبورغ إجابات مُقْنِعةً استراتيجيّاً على السؤال عن كيفيّة اتّباع سياسة تضامنيّة تتعدّى مناشدة المشترك، وذلك في ظلّ الاعتراف بالتصدّعات، لا بل بالانقسامات أحياناً. لقد كانت ترى نفسها مثاليّة بقدْر اعتمادها في تحليلاتها على المصالح الاقتصاديّة.
لم تكن روزا لوكسمبورغ استراتيجيّةً مثل لينين، ولا منظّرة مثل كاوتسكي، ولا مرتابةً كبرنشتاين ولا مثقّفة عضويّة كغرامشي، بل كانت نبيّةً بمعنى العهد القديم وبالمعنى الحديث للكلمة في آن معاً - كانت «مُحرِّرةً من بيت العبيد» (Veerkamp 2013: 53).
كانت لوكسمبورغ [...] تبحث في الواقع عمّا يلائمها - عن متعة جعل العالم أكثر إنسانيّة بثقةٍ وفخر، عن جذريّة أن يريدَ المرء التحرَّر بأكمله غير منقوص، عن الحبّ الذي يشمل الآخر بأسره ويصيبه في صميمه، عن الجمال في كلّ ورقة شجر وفي كلّ تغريدة طير وكلّ نغمة، وعن كلّ فكرة تفتح رؤية جديدة إلى العالم. [...] أمّا أناها فلا يجوز أن يتلاشى في اتّصالها بالعالم الخارجيّ (GM 2: 290). من سجنها إبان الحرب كتبتْ: «لم أكن طريّة في حياتي، غير أنّني غدَوت في الفترة الأخيرة بقساوة فولاذٍ مصقول، ولن أُقْدم على أيّة تنازلات، سياسيّةً كانت أو شخصيّة» (GM 5: 151).
لكن، وبموازاة ذلك، كان لحياة لوكسمبورغ وجهٌ آخر ينضح بالهشاشة، كما كتبتْ في ٣٠ آذار / مارس عام ١٩١٧ لصديقها هانس ديفنباخ Hans Diefenbach الذي سقط في الحرب في تشرين الأوّل / أكتوبر من عام ١٩١٧، إذْ تقول: «في وسط توازني الجميل الذي حِكْته بأناة اعتراني أمس قُبيل النوم يأسٌ أحلكُ من الليل، واليوم كان أيضاً رماديّاً، ريحٌ شرقيّة باردة بدلاً من الشمس [...] أحسسْت أنّني نحلةٌ متجمّدة [...] الانحناء إلى نحْلات كهذه وإنعاشها بالزفرات الدافئة كان دائماً جزءاً من عملي، ليت الشمس تشرع بإيقاظي، أنا البائسة، من برودتي القاتلة!» (GM 5: 195).
«أن أكون دوماً أنا ذاتي، بمعزلٍ عن نظرات المحيط والآخر» هو مبدأ لوكسمبورغ الأعلى، التي تضيف: «أنا [...] مثاليّة وسأبقى، سواء في الحركة الألمانيّة أو البولونيّة» (GB 1: 323). لقد كانت تبحث في العالم وفي الآخرين من حولها عمّا يلائم صميمها. وعندما كانت تتحدّث بأحاسيسها عن الاشتراكيّة، أو عن روح الإبداع الجوهريّة في الناس الذين شرعوا بالتحرّك، أو عمّا ينبغي على الحزب فعْله، عن مجتمعات ما قبل الرأسماليّة وما بعدها، فإنّها كانت تقارب هذه الموضوعات من التي كانت تَلقى في نفسها صدىً وتسحرها. وحينما كانت تتحدّث عن موت إنسانٍ في أحد منازل الفقراء، أو عن ضحايا الاستعمار أو الحرب أو عن جاموسة معذّبة، فإنّها كانت تعبّر في الوقت نفسه عن معاناتها الخاصّة.
بهذا المعنى كتبت لوكسمبورغ أنّ «أثْمن ما في تَرِكة» ماركس هو الرّبط بين ضدّين اثنين: «التعمّق النظريّ حتى نقودَ كفاحنا اليوميّ وفق مبدأ، وقوّة الفعل الثوريّة الحازمة كيلا يُخَيِّبَ أملَ العصرِ المقبلِ علينا مَن ليسوا أهلاً له» (GW 3: 184). بهذا ترسم لوكسمبورغ بورتريه لنفسها. إعجابها بالإضراب العامّ السياسيّ عبّرتْ عنه بكلماتٍ تتواءم مع ما تتمنّاه لنشاطها: «من عواصف وزوابع الإضرابات العامّة، ومن نار وجمر قتال الشوارع تنبثق النقابات الفتيّة والقويّة والبهيجة، كما تخرج فينوس من زبد البحر» (GW 2: 118).
عن نشاطها في المنظّمات الاشتراكيّة كتبتْ عام ١٩١٥: «بمصادر الاشتراكيّة أنعشْنا الروح العطشى لإنسانيّةٍ حُرّة، ومن هذه المصادر نهلْنا حياةً جديدة، غير أنّنا لن نكون أهلاً لهذا إنْ اكتفينا بكلّ ما تمليه علينا اللحظة الراهنة. ما نقوم به عبر التنظيم ومن أجله يجب أن يُملأ بروحٍ اشتراكيةٍ كالوعاء حتى أطرافه. بذلك فقط تحصل الروح الاشتراكيّة على معناها الحقيقيّ وقداستها» (GW 2: 118).
كانت لوكسمبورغ تحسب نفسها المُعَبِّرةَ عن هذه الروح. من دون هذه الروح ما كان للوعاء أن يكون أكثر من قشرة مَيتة وبمثابة جهنّم بالنّسبة إليها شخصيّاً. عن هذه الوحدة بين صميم شخصيّتها وذلك الحراك العالميّ الذي تبنَّته صدر استعدادها لمواجهة الهزائم، أو حتى الموت على ألّا تتباين حياتها عن مُثُلِها. لقد كانت ترى ذاتها «كأرضٍ ملأى بالإمكانات»، وتبحث في الواقع عن تلك الحركات السياسيّة، أولئك النّاس، تلك الأفكار والأشكال التي تطمح لتفجير الحدود الموضوعة.
في السجن - خلوة مع نفسها ومع العالم
لا تنكشف شخصيّة الإنسان بوضوح أشدّ ممّا يحدث عندما يُسلب منه حيّزه الخاصّ الذي يحميه. السجون أماكن من هذا النّوع. تعرضت روزا لوكسمبورغ للاعتقال مرّات عدّة قبل الحرب العالميّة الأولى. وأثناء الحرب قضتْ سنةً كاملة في «سجن النساء» في شارع بارنيم ببرلين، ليُعاد اعتقالُها - بعد إفراج قصير عنها في ربيع عام ١٩١٦ - في «إجراءٍ احترازيّ» في فرونكه وبريسلاو حتى تشرين الثاني / نوفمبر من عام ١٩١٨ حين أطلق سراحها. أثناء هذه «الاستراحة القسريّة» في سجنها البرلينيّ عكفتْ على تأليف «كتيّب يونيوس» وخاضتْ نقاشاً مع النقد الموجّه لعملها «تراكم رأس المال»، وأنهتْ مؤلّفها «ضدّ النقد». في أواخر فترة سجنها ترجمت الجزء الأوّل من مذكّرات الثائر الاشتراكيّ الروسيّ - الأوكرانيّ فلاديمير كورولينكو Wladimir G. Korolenko، وكتبتْ مقدّمة لها، كما تمكّنت من تهريب الكثير من المقالات ووقفتْ على الثورة الروسيّة على نحوٍ خاصّ.
من اللافت - إلى جانب نصوصها النظريّة والسياسيّة التي كتبتْها في السجن - وممّا يُعدُّ شرطاً لإنجاز هذه النصوص هو قدرتها وعزيمتها الجبّارة على العيش في السجن. لقد كتبتْ مرّة أنّها اتبعتْ مبدأً يقول: «الأهمّ أن يحيا المرء في كلّ وقت كإنسانٍ كامل» (GB 5: 177).
وطالما كانت تسمح الظروف والسجانون وآمروهم، لم تكنْ لوكسمبورغ تألو جهداً في جعل السجن مكاناً يليق بالحياة، وفي إضفاء ملامح الوطن عليه، وإنْ في أبشع الظروف. كانت تحاول مواصلة عاداتِها القديمة. الشقق التي سكنتْها سابقاً كانت شديدة الأهميّة بالنسبة إليها، كان يجب أن تليق بها، مرتّبةً وطبيعيّةً ما أمكن. كذلك السجن جعلتْه «قابلاً للسكن» بقدْر المستطاع. في سجن فرونكه أنشأتْ حديقةً وملأتْها بالنباتات. كانت تلتزم دوماً بنظام يوميٍّ بقدْر ما يتاح لها ذلك. ثمّ إنّها تابعتْ نقاشاتها مع صديقاتها وأصدقائها وعقدتْ علاقاتٍ جديدة. إعاقة السجن للتّواصل المباشر تخطّتها عبر مراسلاتها المكثّفة. من جهةٍ أخرى، بقيتْ لوكسمبورغ على نشاطها السياسيّ المعهود، تتدخّل وتحاول بكلامها الوصول إلى الناس وتنويرهم. أخيراً، استثمرت الوقت في السجن في التفكير السياسيّ والثقافيّ. وجرّاء تألّق شخصيّتها تمكنتْ لوكسمبورغ، على الأقلّ في سجن فرونكه، من الحصول على امتيازاتٍ جوهريّة. (انظر مذكّرات مدير السجن الدكتور إرنست دوسمان Dr. Ernst Dossman في: GW 7: 971 - 995).
قول الحقيقة
في أحاديثها ومقالاتها كانت لوكسمبورغ تعيد وتكرّر: «كما قال مرّة لا سال Ferdinand Lassalle، فإنّ الفعل الأشدّ ثوريّة كان وسيبقى الجهر بالأشياء كما هي.» (GW 2: 36، انظر كذلك إلى المصادر لدى لَا سال في الهامش في GW 7.2: 577) غير أنّ لقول الحقيقة لدى لوكسمبورغ أبعاداً عديدة:
أوّلاً: عن مبدأ قول الحقيقة لزم مطلب خلق وحفظ فضاءات سياسيّة تُصان فيها حرّيّة مغايري الفكر كقيمة عليا. طالما كان يتكّلم، فإنّ العدوّ أيضاً لا يجوز المسّ بحرّيّته. فقط في فضاءات الكلام الحُرّ يمكن للإنسان أن يحصل على حقّ تقرير مصيره وامتلاك قراره. ولذا ليست الديمقراطيّة مرحلةً انتقاليّةً، كما أنّ ديكتاتوريّة البروليتاريّة لا بدّ أن تتّسم بـ«صحافةٍ حرّة لا يضيّق عليها... وتجمّعاتٍ واتّحاداتٍ من دون عوائق». تتساءل لوكسمبورغ، كيف يمكن بغير هذا أنْ تتحقّق «سلطة الجماهير»؟ (GW 4: 358).
ثانياً: لا يجوز الخلط بين ما تعنيه لوكسمبورغ من قول الحقيقة والثرثرة المجانيّة. [...] توجد الحقيقة، بادئ ذي بدء، في المتكلّمة والمتكلّم، متخذةً شكل مزاعمٍ عن الذّات ومكفولةً بالفعل ذاته. تكمن وصيّة لوكسمبورغ في المقام الأوّل في أنّها، كاشتراكيّة، قد واجهتْ تناقضات الحياة بأقصى درجات الاتّساق بين القول والفعل، حتى تجاوزتْ تلك النقطة التي يغدو عندها الاتّساق مع الذات بمثابة أبلغ درجات إهمال الذات، اتّساق قد يعني الموت. عندما همّت السلطات القيصريّة عام ١٩١٣ باحتجاز لوكسمبورغ بذريعة إمكانيّة هروبها، دوّتْ كلماتها في نهاية المحاكمة: «الديمقراطيّ الاشتراكيّ لا يهرب، إنّه يتحمّل مسؤوليّة أعماله ويهزأ من معاقبته جَرّاءها. فلتحاكموني إذن!» (GW 3: 406).
الالتزام فعليّاً بالكلام كان من الخصال التي ميّزتْ لوكسمبورغ، لا بل إنّها كانت راديكاليّة في هذا الصدد. وحدها هذه الخصلة ما جعلها أهلاً لأن تجهر بالحقيقة. وحقيقة كلامها كانت تكمن في حقيقة حياتها، فقول الحقيقة كان تعبيراً عن الحقيقة التي تكفلها حياتُها ذاتها. يتّضح هذا أكثر في رؤيا يوحنا حيث يرد: «سأتقيّؤك من فمي لأنّك فاترٌ، لا حارّ ولا بارد» (رؤيا يوحنّا ٣: ١٦).
ثالثاً: يدفع قول الحقيقة المخاطبَ بهذا القول أيضاً إلى الالتزام. فكذلك الآخرون لا ينبغي أن يبقوا فاترين، وهو ما اتّخذ عند لوكسمبورغ معنىً سياسيّاً وإنسانيّاً في الوقت نفسه. بهذا المعنى كتبتْ لصديقتها كوستيا تسيكتين Kostja Zetkin، وذلك في إطار تحضيرها لـ«كتيّب يونيوس»: «حضرْت اليوم في دار الأوبّرا حفلة بيانو لبيتهوفن. لقد كانت رائعة، غير أنّني وأثناء الاستماع انتابتْني مشاعر كرهٍ بارد تجاه الرعاع الذين يتوجّب عليَّ العيشُ بينهم. أشعر بأنّه بات من الضروريّ تأليفُ كتاب عمّا يحصل، كتاب لم يسبق أن قرأه رجل ولا امرأة، ولا حتى أطْعنُ الناس في السن، كتاب يهوي على رؤوس القطعان كما تهوي الهراوات» (GB 5: 28). بقول الحقيقة كانت لوكسمبورغ تدفع الآخرين إلى حياة حقيقيّة، لا بل تجبرهم عليها بعنفوان اللغة. لم تكن علاقاتها الخاصّة بمنأى عن سعيها هذا. فنحن نقرأ في رسالةٍ كتبتْها إلى شريك حياتها ليو يوغيش في ٢١ آذار / مارس ١٨٩٥: «أيّها الغالي! أتدري بنواياي الفظيعة؟ لقد قلّبت علاقتنا في رأسي قليلاً، وعندما أعود، سأستبدّ بك حتى يعلو صراخك، سترى! سأرهبك بشدّة. عليك أن تخضع وتركع، هذا هو شرط استمرار حياتنا المشتركة. يجب أن أكسرك وأقلّم أظافرك، وإلّا لن أتمكن من تحمّل العيش معك. أنت إنسان سيئ، أرى ذلك بوضوح الشمس في كبد السماء، بعدما تأمّلتُ في ملامح روحك بأكملها. سأطفئ نار غضبي هذا فيك، طالما بقيت أحيا حياة حقيقيّة، فلا يجوز لأمثالك أن يعيثوا فساداً دون رادع. يحقُّ لي فعل هذا، فأنا أفضل منك بعشر مرّات وأستهجن عن وعي أقوى جوانب شخصيّتك هذا» (GB 1: 56f.).
رابعاً: كان قول الحقيقة لدى لوكسمبورغ بمثابة إنتاج لواقع حقيقيٍّ - علاقاتٍ حقيقيّةٍ وأشكال حياة حقيقيّة وسياسة حقيقيّة، وإنْ ظلّ هذا مظهراً، كما كان يسمّيه إرنست بلوخ Ernst Bloch. الممارسة اللغويّة للوكسمبورغ كانت تحسب نفسها استحضاراً معيشاً لما هو ممكنٌ ولما يمكن أن يتحقّق عندما يعيش الناس في الحقيقة. في مؤلّفها «في الثورة الروسيّة» تصوغ لوكسمبورغ رؤيتها بالضدّ من «الاشتراكيّة الواقعيّة» بلشفية الطابع على النّحو التالي: «إنّ نظامَ المجتمع الاشتراكيَّ لا يمكن ولا ينبغي أن يكون إلّا منتَجاً تاريخيّاً، مولوداً من رحم التجربة الخاصّة في ساعة انقلاب الإمكان إلى واقع، مولوداً من صيرورة التاريخ الحيويّ الذي - تماماً كالطبيعة العضويّة حيث يكون الجزء في نهاية المطاف هو الكلّ - يُعهَد عنه أنّه يُنتِجُ بالتساوق مع الحاجةِ الاجتماعيّةِ الواقعيّةِ الوسيلةَ لتلبيتها، أي أنّه يُرفِق السؤال بالجواب» (GW 8: 360). إنَّ اشتراكيّةً من هذا النوع لهي مجتمعٌ تَنْظُمه أعلى درجات التنوّع، الذي كانت لوكسمبورغ قريبةً منه في دخيلتها. عن لوكسمبورغ هذه كتَبَ بول ليفي Paul Levi عام ١٩٢٢: «لم تكن روحها المنسجمة في صميمها تعرف الانفصالات والجدران. كلّ شيءٍ كان عندها عمليّة صيرورة حيويّة لا يمكن فيها للروافع الميكانيكيّة وعبوات الأكسجين أن تنوب عن عمل الطبيعة، صيرورة تتّخذ شكل معارك الإنسان ومطامحه، أي شكل النضال العظيم المفروض على الفرد والأجناس والطبقات. لذا لم تكن تسعى لوكسمبورغ لأن يكفَّ المرء عن النضال في هذه الطبيعة تحت ذريعة أنّ كلّ شيءٍ سيحدث تلقائيّاً من ذاته، بل على العكس، كانت ترمي إلى النضال الأشدّ حيويّة، لأنّه الشكل الأشدّ حيويّة للصيرورة» (Levi 1990: 223f).
خامساً: انبثق مذهب قول الحقّ عند لوكسمبورغ عن الماركسيّة نفسها. [...] فهي عاشتْ تناقضات الماركسيّة التي لم تكن بالنسبة إليها علْماً محضاً ولا مجموعةً من المؤمنين، لا أيديولوجيا شكلانيّة ولا محض أداة سياسيّة، بل ممارسةً حياتيّةً وكذلك السياسةَ الواقعيّةَ - الثوريّةَ الوحيدةَ الممكنةَ. لقد وجدتْ نفسها لوكسمبورغ، كما كتبتْ عام ١٩٠٣، في مواجهةٍ مع حقيقة «أنّ تأثيراً معيّناً ضاغطاً لماركس على حرّيّة الحركة النظريّة لدى بعض طلّابه لا يمكن نكرانه» (GW 1.2: 364). ثمّة «حرصٌ مخجل على إبقاء التفكير على أرضٍ ماركسيّة» (المصدر نفسه). بيد أنّ هذا قد «يُضرُّ في بعض الحالات بعمل الفكر [...] ذات الضرر الذي قد يتسبّب به الطرف الآخر، أي السعي المخجل لإثبات ‹استقلاليّة الفكر› عبر التبرّؤ الكامل من منهج التفكير الماركسيّ» (المصدر نفسه). وهذا بدوره يطرح السؤال: هل يمكن العيش البنّاء مع التناقضات التي عاشتْها لوكسمبورغ في إطار الماركسيّة، أو في إطار أي ماركسيّة يمكن هذا؟
الحريّة هي دوماً حريّة الآخر
في مجابهتها كلَّ انتهازيّة، كانت لوكسمبورغ تطالب بأن تحفَّز الحريّةُ، لكي تكون حريةً حقيقيّة وليست إكراهاً مقنّعاً على التكيّف، حرّيةَ الآخر. بهذا المعنى كانت لوكسمبورغ قد استبَقَتْ الحركاتِ الاجتماعيّة الحديثة. فمطمحها كان عالَماً حيّاً يتّسع لكلّ العوالم: التساوي في الحرّية هو تساوٍ بين المختلفين. إنّ سلوك الإنسان الحرّ، كما كانت تفهمه، يكمن تحديداً في تمكين الآخرين - بوصفهم آخرين - من أن يكونوا أحراراً. وقبل أن تصبح هذه الحرّية حقاً، تظهر بمظهر المطلب يوجّهه كلٌّ منا إلى تصرّفاته ذاتها، مطلب بتجاوز علاقات استغلال واضطهاد المختلفين فكراً في المقام الأوّل.
غير أنّ الحرّية عند لوكسمبورغ تختلف كليّاً عن أنانيّة ليبراليةِ السوق أو عن عبادة تحقيق الذات. إنّ الحرّية التي مارستْها لوكسمبورغ بوصفها فضيلةً اجتماعيّة هي نضالٌ لأجل حرّية الآخرين. مجتمع الأحرار ليس هو ذاك المجتمع الذي تناضل مواطناتُه ومواطنوه حصراً ضدّ القمع الذي يتعرّضون هم له. فالتجربة تعلّمنا أنّ هؤلاء سينقلبون حالاً إلى مُضطَهِدين للآخرين ما أن تتيح لهم ذلك توازناتُ القوى وتغريهم أنانيّاتهم الخاصّة. لا أحرارَ حقّاً سوى أولئك الذين يناضلون ضدّ قمع الآخرين حتى لو كانوا يستفيدون من هذا القمع. الحرّية في عيون لوكسمبورغ هي سلوكٌ يكوّن علاقاتٍ توفّر للمغايرين شروط الحرّية. لكنّ هذا يتعلّق بالسؤال عن الوسائل الأساسيّة لتحقيق الحرّية، كما بإلغاء الامتيازات التي لا تساهم في تخطّي اللامساواة الاجتماعيّة. غير أنّ هذا يظلّ ممتنعاً إذا لم تطاول تغييراتٌ جذريّة علاقاتِ السلطة والمُلكيّة، ولم يتمّ تجاوز هيمنة مفهوم الربح على الاقتصاد والمجتمع. لهذا السبب كانت لوكسمبورغ اشتراكيّة.
لا مجتمعَ يمكن وسمه بالحرّية إلّا عندما يكون كلّ أفراده أحراراً. بيد أنّ هذا لن يكون ممكناّ إلّا إذا ساهم التطوّرُ الحرُّ لكلّ فردٍ في التطوّر التضامنيّ للكلّ. وحدهم المتزمّتون والكلبيّون، حسب لوكسمبورغ، يمكنهم أن يصدّقوا أن أيادي السوق «الخفيّة» أو أيادي الدولة «الجليّة» يمكنها العناية بذلك من دون تدخّلنا. وهذا تحديداً ما قد يكون معناه أن نتخلّى لآخرين عن مسؤوليّتنا تجاه الحرّية براحةٍ أو جبن، وأن نغدو بذلك غير أحرار. لذلك لم تكن السياسة بالنّسبة إلى لوكسمبورغ سوى مشارَكة مُقاوِمة بالممارسة التضامنيّة التحرّرية.
إنَّ حرّية استثمار المال والذي تؤول حركته إلى انتفاع توتاليتاريّ من رأس المال - انتفاع يوزّع الغنى والفقر، الصحّة والمرض، التعليم والأمّيّة، السلم والحرب على جماعات وطبقاتٍ وشعوبٍ متناحرة على هذه الأرض - إنّ هذه الحرّيّة بالنسبة إلى لوكسمبورغ ليست سوى اضطهادٍ وحشيّ. كما أنَّ حرّيّة تمكّن نسبةً ضئيلة من سكّان الأرض من أنْ تمتلك النسبة العظمى من مواردها لن ترى فيها لوكسمبورغ سوى سلطة متوحّشة. أمّا «النظام العالميّ الليبراليّ» عالي التسليح فكانت تصِفه بأنّه سياسةٌ إمبرياليّة عسكريّة، والحرّيّة التي فرضتْ نفسها مؤخّراً، أي حرّيّة الاستحواذ على الشيفرات الوراثيّة واحتكار العِلم، كان لا يمكن للوكسمبورغ إلّا أن تزدريها بصفتها سلباً إجراميّاً. وكذلك تدمير التنوّع الحيويّ على كوكب الأرض، كانت ستعتبره، وهي مَن كانت تتألّم لكلّ حيوان مشرّد ونبات مثداس، بربريةً ملعونةً.
لعلّه ليس هناك من بين أحكام المجتمع الليبراليّ المسبقة ما هو أعْند من اعتبار أنّ الحرّيّة من جهةٍ والمساواةَ والعدالةَ من جهةٍ أخرى يقفان على طرفَي نقيض. بَنَتْ لوكسمبورغ فهمها للحرّيّة على أرضيّة التكافل، ففقط من يوفّر للآخر إمكانيّة الحياة الحرّة، يكون عادلاً في ممارسته. [...] إنّ ترْك وصيّةٍ من هذا النوع والشهادة من أجلها لهو معجزة لوكسمبورغ.
المصادر
Heraklit (2011): Fragmente. In: Marciano, Laura Gemelli (Hrsg.), Die Vorsokratiker. Band 1. Griechisch - Deutsch. Berlin, 284 - 329
Hetmann, Frederik (1998): Eine Kerze, die an beiden Seiten brennt. Freiburg
Jens, Walter (1995): Rosa Luxemburg. Weder Poetin noch Petroleuse. In: Soden, Kristine von (Hrsg.), Rosa Luxemburg. Berlin, 6 - 17
Levi, Paul (1990): Einleitung zu «Die Russische Revolution. Eine kritische Würdigung. Aus dem Nachlass von Rosa Luxemburg». In: Institut für Geschichte der Arbeiterbewegung (Hrsg.), Rosa Luxemburg und die Freiheit der Andersdenkenden. Extraausgabe des unvollendeten Manuskripts» Zur russischen Revolution« und anderer Quellen zur Polemik mit Lenin. Zusammengestellt und eingeleitet von Annelies Laschitza. Berlin, 177 - 231
Veerkamp, Ton (2013): Die Welt anders. Politische Geschichte der
Großen Erzählung. Hamburg/Berlin
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.