أن يولد طفل في أسرة مصريّة كبيرة العدد تقليديّاً (بولادتي أصبحنا ثلاثة أولاد وبنتاً ثمّ وُلدت بنت بعد مولدي بسبع سنوات) وربّ الأسرة قسٌّ بروتستانتيّ إنجيليّ، من أسرة أرثوذكسيّة، كما يبدو من لقب بعض أجداده «القمص»، قادم من أعماق الصّعيد الجوّاني ليتحوّل من فلّاح إلى قسّ ويدرس في الكليّة الأميركيّة في أسيوط بالمجّان لتؤهّله ليصبح رجل دين.
إذن، أبٌ متمرّدٌ، لأسبابٍ تخصّه لم يفصح لنا نحن أولادَه وأسرتَه عن انتمائه الأرثوذكسيّ، فليس ببعيد أن يكون ابنه الأصغرُ الذي هو أنا قد اكتسب التمرّد منه فخطا أبعدَ بكثيرٍ من الأب وتحوّل إلى الشيوعيّة والإلحاد وهو في سنوات المراهقة أي حوالي السادسة عشرة والسابعة عشرةَ من عمره.
سنوات الفقر والتمرّد
لم يأتِ تمرّدي من ترَفٍ ثقافيّ طبقيّ ولكن رغبةً في تقويم واقع مجتمع كبير هو المجتمع المصريّ ومجتمعٌ أصغر هو المجتمع المسيحيّ المصريّ، خصوصاً حينما أسقط المرض والدي وقررتْ له الكنيسة معاشاً قدره أربعة جنيهات. كان مرتّبه حوالي خمسة عشر جنيهاً عام ١٩٥٤ وهو عام مرضه الذي أقعده الفراش إلى حين وفاته عام ١٩٦٠.
هكذا كان تأثير الفقر في حياتنا كأسرة تأثيراً من الدّرجة الأولى، كما يقال، أي مباشرة بدون وسائط جانبيّة، بل فقرٌ يأخذ بالواحد إلى التمرّد أو إلى الإجرام. هو فقر الوجبات المتكرّرة من فول وعدس أو «سحب» البقالة البسيطة من سكّر وشايٍ «على النوتة». أي بالنسيئة حتى بداية الشهر ووقت التسديد والقهر والحرمان من بعض ما يتطلّبه مراهق في نهاية الدراسة الثانويّة وبدايات الجامعة حيث الاختلاط مع البنات ومحاولة التظاهر بالأناقة وبعض «الفكّة» أُشَخْلِلُ بها في جيبي وأستطيع أن أجلس مرّة واحدة على بوفيه الكليّة وأشرب الشاي مع بنتٍ أحاول أن أقنعها بحبّي بواسطة أشعاري البسيطة لها. كنت دوماً في احتياج لقميصٍ أو حذاءٍ جديدٍ وبالتالي كان عليّ أن «أدبّر حالي»، أن أجد عملاً ما أتقاسم دخله بيني وبين والدتي التي أرعبها استلامها لميزانيّة بسيطة لأسرةٍ كبيرةٍ ملحاحة إضافة إلى شراء الأدوية للوالد طريح الفراش.
هكذا واجهتُ الفقر في حياتي الخاصّة لكن - من حسن حظّي - أنّي لم أنحرف إلى الجريمة. لكنّي قبلت الماركسيّة التي أنقذتْني من المصير المشؤوم فكنت بين أفرادٍ يقطعون انتماءاتهم الدينيّة لينتموا - بفخر - إلى علمانيّة إلحاديّةٍ تريد تغيير العالم إلى الأحسن خصوصاً أنّني قد خبرْت الفقر يوميّاً لمدى سنوات دراستي في القاهرة بعدما تنقّل الوالد القسّيس في كنائس مصريّة فقيرة من الأقصر إلى بلدة تدعى «نواي» في الصعيد قريبة من «ملوي» الصعيديّة حيث يقال إنّ عائلة أبي مقيمة فيها. وهي قرية ليست بها مياه نقيّة ولا صرف صحيّ ولا كهرباء. ثمّ انتقل الوالد إلى بلدة في الدلتا بالقرب من طنطا ودسوق اسمها «شبراخيت» يقال إنّ عسكر نابليون أقام بها فترةً من الوقت، لذا تجد بين أهلها البعض من الذين شعْرهم أشقر وعيونهم زرقاء وبشرتهم فاتحة اللون وليست سمراء مثل غالبيّة أهل مصر. وقد رأيت هذه البلاد بعد انتقال العائلة إلى القاهرة بعد مرض الوالد حيث كان أخي الأكبر قد التحق بكليّة الطبّ في القصر العيني واستأجر شقّة صغيرة مع زميل له بمنطقة العباسيّة من غرفتين وجئنا نحن بقضّنا وقضيضنا من شبراخيت لنعسكر كلّنا في غرفته حتى قرّر زميله ترك الشقّة كلّها لنا وعشنا بها سنوات. هي شقّة صغيرة من غرفتين صغيرتين وصالةٍ صغيرة في حيٍّ قاهريٍّ لا علاقة لنا به سوى البقّال الذي يبيع لنا بالنّسيئة على النّوتة كما ذكرت!
لن أذهب إلى الكنيسة!
ثمّ انتقلنا إلى حيٍّ أقلّ أهمّيّة وشبه عشوائيّ هو حيّ «دير الملاك» من الناحية الأخرى للعباسيّة، وهو حيّ تحلّق به المسيحيّون الذين بنوا منازلهم العشوائيّة حول «دير الملاك ميخائيل»، وبه كنيسة إنجيليّة صغيرة ومعظم شوارع الحيّ غير مرصوفة ما إن تنزل عليها الأمطار حتى تتحوّل إلى برَك مليئة بالماء القذر مختلطة بالصرْف الصحّيّ. وفي دير الملاك أعلنت جهاراً أنّني لن أذهب إلى الكنيسة وأنّني لا أؤمن بالدّين، ودارت معارك بيني وبين أخي الأكبر الذي كان متديّناً وصلتْ إلى الصراع البدنيّ، وتقاطعنا حتى بعدما ذهب هو للعمل في أميركا ورفضتُ أنْ ألتقي به في بعض زياراته إلى مصر لأنّي كنت احمل ضغينة له إذ رفض أن يدفع لي ما يساوي مائة جنيه مصريّ كانت غرامة ملحقة بسنوات السجن من المحكمة العسكريّة التي حاكمت القضيّة الشيوعيّة التي حُشرت فيها.
عدم دفعه الغرامة التي طلبتْها أمّي منه في خطابٍ جعلني أعمل ثلاثة أشهر في قسم الشّرطة في منطقة باب شرقي بالإسكندريّة التي انتقلتْ إليها الأسرة وأنا في السجن لتلتحق أختي الأصغر بجامعتها حسب مجموعها في امتحان الدراسة الثانويّة. كان أمامي اختيار وحيد، إمّا أن أدفع الغرامة «مصاريف»، كما يسمّونها، أي بالعمل في القسم وتنظيف مراحيضه مثلاً، أو أن أبقى في السجن لثلاثة أشهر إضافيّة. وطبعاً قرّرتُ العمل بالقسم.
هكذا خرجت من «سجن الواحات» الصحراويّ إلى مدينة الإسكندريّة الرّحبة في شهر نيسان / إبريل بداية أشهر الصيف وتكوّنت المجموعة الشيوعيّة من النّزلاء الذين خرجت معهم آخر مجموعة تخرج من ذلك السّجن بمناسبة زيارة خروتشوف إلى مصر للمرّة الأولى للاحتفال مع ناصر بانتهاء المرحلة الأولى من بناء السّدّ العالي بأسوان الذي ذهبنا إليه بعد ذلك (صنع الله إبراهيم وكمال القلش وأنا) في أول وآخر تجربة عمل مشترك لثلاثتنا لوضع كتابٍ عن السّدّ العالي. اتّخذنا هذا القرار في سجن الواحات مع عبد الحكيم قاسم حيث أسّسنا مجموعة تمّ اعتبارها «متمرّدة » على الواقعيّة الاشتراكيّة وهاجمْنا تصريح خروتشوف و«جهله» بالفنّ حين أعلن أنّ الفنّ التّجريديّ هو كالرّسم بذيل حمار. وبالطّبع وجد تصريُحه هذا قبولاً من المدرسة الماركسيّة التقليديّة المصريّة في الكتابة وكان يمثّلها آنذاك في السجن إبراهيم عبد الحليم ومحمّد صدقي، والأخير عاملٌ مثقّف، ثمّ النوبيّ محمّد خليل قاسم النوبيّ الذي كتب «الشمندورة» عن بلاد النّوبة، وهذه أوّل رواية نوبيّة فتحت الطريق لكتّاب نوبيّين بعد ذلك، منهم يحيى مختار الذي كان زميلي في السجن لمدّة سنتين ثمّ خرج براءةً بعد المحكمة العسكريّة في الإسكندريّة، ولم يمتهن الصّحافة التي درسها معي في الجامعة. وهو لا يزال - أطال الله عمره - يكتب رواياته النوبيّة الهامّة والجميلة.
في «سجن الواحات»
في سجن الواحات بدأت «آخذ نفَسي» فقد تمّت محاكمتي وصدَرَ الحكم وأصبحت سجيناً بعدما كنتُ «معتقلاً» لمدّة سنتين قَيد التّحقيق في سجن القناطر الذي انتقلت منه إلى سجن «الحضرة» في الإسكندريّة لأنّ السّادة القضاةَ العسكريّين قرّروا أن تكون المحاكمة في الصّيف الإسكندراني حتّى يستمتعوا بهواء الإسكندريّة المرطِّب للبشرة بينما نُشوى نحن في الزّنازين!
القضيّة كان المتّهم الأوّل بها أبو سيف يوسف أبو سيف، وهو سكرتير الحزب الشيوعيّ المصريّ، بعد الانقسام، وأصبحت كلّ كتلة منقسمة تعتبر نفسها الحزب الشيوعيّ. وكان المتّهم الثّاني إسماعيل المدوي ذا ثقافةٍ فرنسيّةٍ عالية ترجَمَ كتاب «بولتزر» في الفلسفة الماركسيّة، وهو شخص صداميّ قرّرت الدولة أن تتخلّص منه بعد الإفراج عنّا فأودعتْه مستشفى الأمراض العقليّة لأنّه حاجج سارتر الذي كان ضيف الدّولة المصريّة باعتبار أنّ وجوده في مصر ضيفاً على الدّولة يعطي صكّاً للنّظام المصريّ الناصريّ الدّيكتاتوريّ. كان أيضاً في القضيّة سامي خشبة، ابن المترجم المعروف دريني خشبة، مترجم الإغريقيّات الملحميّة، ومعنا أيضاً حسين شعلان وهما خرّيجا قسم صحافة وقد عمل كلاهما في «الأهرام» ووصلا إلى مناصب عالية فيها، كما عمل شعلان رئيساً لتحرير «الأهالي»، الصحيفة الأسبوعيّة لحزب التجمّع. كان بالقضيّة أيضاً عبد السّلام مبارك ابن الدكتور زكي مبارك الشهير، وشخصيّات أخرى. كنّا ستّة عشر متّهماً وأنا كنت المتّهم الرّابع عشر، وتمّ الحكم على المتّهمين الأوائل تسعَ سنواتٍ سجناً وعليّ بأربع سنوات.
التحقْت بالتّنظيم الماركسيّ «طليعة العمّال» وأنا في السّادسة عشر وبقيت فيه حتى الثّالثة والعشرين من العمر، ثمّ تحوّلت إلى «حدتو» في سجن القناطر وبقيت مع «حدتو» حتى بعد حلّ الحزب ونحن في الواحات قبل العفو بوقت قليل.
كان العفو في نيسان / أبريل١٩٦٤، ثمّ حصلتُ على منحةٍ من اتحاد الكتّاب المصريّين للسّفر إلى بولندا لدراسة اللغة البولنديّة عام ١٩٧٠، وذهبت للعمل في العراق عام ١٩٧٥ حيث فاتحني كمال القلش الذي كان يعمل في صحيفة «الثورة» العراقيّة بالانضمام مرّة أخرى إلى «الحزب»، فانضممت حتى استقلْتُ منه نهائيّاً عام ١٩٨٠. وأذكر أنّ ميشيل كامل كان يحضر من وقت لآخر من باريس ليرأس الخليّة التي كنت عضواً فيها مع الشاعر محسن الخيّاط والفنّان عدلي فخري (رحمهما الله)، وطلبت منه الاستقالة فسألني إن كنت أعترض على «خطّ الحزب السياسيّ» فقلت له بالعكس، لكنّ هناك أفراداً في الحزب أرفض أن اُسجن معهم ولا أحترمهم (لكن هذه حكاية أخرى!).
ومن يومها وأنا شخصيّة مستقلّة خارج نطاق الأطر التنظيميّة.
بيروت، عدن، أديس أبابا، بغداد...
هذه جردةٌ سريعة لحياتي التنظيميّة كان أهمّ ما فيها تكوين فرقة مسرحيّة بسيطة في بيروت مع باسمة الحسيني (التي ترأس الآن منظّمة «المورد الثقافي» اللاربحيّة) سمّيناها «سبعتعشر يناير» على اسم الانتفاضة في مصر أيّامها، وارتبطنا بروجيه عسّاف مؤسّس فرقة ومسرح «الحكواتي» الذي دعمَنا كثيراً بل ساعدّنا على أن نقدّم المسرحيّة للمخيّمات المصريّة في لبنان. كنت أنا ممثّلاً فيها بينما بسمة تقوم بالإخراج مع أنّني درست الإخراج في وارسو.
وكان الحزب قد اتّفق مع منغستو هيلا ماريام (أو من يمثّله في عدن) بتأسيس إذاعة تحريضيّة تبثّ إلى مصر من إثيوبيا فطلبوا منّي الذهاب لتأسيس هذه الإذاعة (هذه أوّل مرّة أعترف فيها بهذا العمل!) في إثيوبيا. كنت قد طلّقت زوجتي البولنديّة وتزوّجت زوجتي المصريّة التي كانت تدرس الطبّ في بغداد. كذلك كنت قد ألغيت اتّفاقي مع مؤسّسة السينما والمسرح العراقيّة التي عُيّنت فيها براتب جيّدٍ حين تركت وارسو وقدمت مباشرةً إلى العراق بتوصية من السفير العراقي في بيروت (أعدمه صدّام). عملت في المؤسّسة حوالي سنتين لكنّ صدّام انقلب على الحزب الشيوعيّ العراقيّ وأعدم بعض أفراده من الذين كانوا بالجيش العراقيّ، فلم أشأ مواصلة العمل في العراق ومعظم مَن أعرفهم من الشيوعيّين فارّون أو في السجون، فقرّرت الاستقالة دون أن أذكر السّبب الحقيقيّ خوفاً على حياتي، وذهبتُ إلى بيروت حيث وجدت عملاً في قسم التّرجمة بجريدة «السّفير» اللبنانيّة ومنها عملتُ بعد ذلك في «مجلّة اللوتس» الخاصّة باتّحاد كتّاب آسيا وأفريقيا سكرتيراً لتحرير الطّبعة العربيّة التي كان يرأسها معين بسيسو، ثمّ في «بيروت المساء» مجلّة منظّمة العمل الشيوعيّ التي بقيت فيها حتى خروجي النّهائيّ من لبنان حيث كان يرأس التحرير فوّاز طرابلسي الذي ساعدني أيضاً على الخروج الآمن من بيروت وأعطاني مبلغاً من المال كان هو ما ساهمتُ به في تأسيس «دار شهدي للنّشر». سافرتُ مع زوجتي المصريّة إيمان إلى عدن للتمرين والمساعدة على فتح إذاعة فيها موجّهة إلى صعيد مصر ضدّ السّادات. ثم ذهبت إلى أديس أبابا فلم أجد ما وعدني الحزب به حيث كان الوعد أنْ تواصل إيمان دراستها في السنة الثالثة في كليّة الطبّ بأديس أبابا، لكنّهم أصرّوا على إرجاعها إلى السّنة الأولى فرفضنا ذلك، كما سوّفوا في موضوع الإذاعة ولم أجد ترحيباً منهم بنا، فقرّرتُ الرجوع مرّة أخرى إلى عدن ومواجهة المسؤول المصريّ هناك بما لاقيتُه في إثيوبيا. فحدثتْ بيننا مشادّة ومنعني من دخول الإذاعة في عدن بحجّة أنّي «أذيع في خطٍ سياسيّ معادٍ للحزب» فطلبتُ التّحقيق معه! ولمّا لم يحصل وفهمُت أنّه لنّ يحصل استقلتُ كما ذكرْت آنفاً.
عادتْ زوجتي إلى بغداد وطلبتْ منّي أن ألتحق بها مجدّداً، وبالفعل أبلغت طلال سلمان بموقفي (وكنت لا أزال في «السفير») وذهبت إلى بغداد لاستكشاف «الجوّ» وطلبت من عبد الأمير معلّة الالتحاق مرّة أخرى بالعمل (وكان وقتها رئيس المؤسّسة ثمّ أُعدم بعد ذلك على أيدي جلاوزة صدّام، وهو الذي كتب سيرة صدّام في «الأيّام الطّويلة» وأقنع توفيق صالح بإخراجها)، لكنّه واجهني بأنّي نزلت إلى مصر وانتقدت صدّام حسين في التلفزيون المصريّ.
الحقيقة أنّي خفْت وحاولت إثبات براءتي لأنّي حقيقةً لم أذهب إلى مصر إلّا في منتصف شهر حزيران / يونيو عام ١٩٨٢، وأخبرني أحد الأصدقاء في المؤسّسة بأنّ غالب هلسه هو من أشاع ذلك فعاتبتُه (كان يعمل في مجلّة عراقيّة اسمها «أقلام») فادّعى أنّه كان يمزح! لكنّي قرّرت عدم البقاء في بغداد وعدم العمل في العراق وأخبرت إيمان بذلك ورجعت إلى بيروت، فطلبتْ هي الطلاق وهكذا حصل.
بيروت كانت بالنّسبة لي كواحةٍ أحتمي بها من حَرّ بغداد وتوتّرها السياسيّ. ذكّرتْني كثيراً بالإسكندريّة التي أحبّها أكثر من القاهرة بعجيجها وضجيجها خصوصاً أنّ الإسكندريّة استقبلتْني مباشرةً بعد صحراء «الواحات».
أمستردام أو الاستقرار
حين أتأمّل حياتي الآن، وأنا في الحادية والثّمانين، أعجب لتصاريف القدَر معي وبي. فها أنا أعيش في مدينة أمستردام لأكثر من خمسة وعشرين عاماً بشكل منتظم وقد رتّبت حياتي منذ أن استقررتُ بهولندا وقرّرت البقاء هنا رغم صعوبات اللغة التي لم أستطع إجادتها لاسيّما أنّني قدمتُ إلى هولندا بعد سنّ الخمسين، بالتّالي ليس من السهولة أن يستقبل عقلي لغة جديدة بسرعة.
أمدّتني هولندا باستقرارً عقليٍّ ونفسيٍّ، ففيها أنهيت «بيضة النّعامة» وكتبت كلّ أعمالي، وفيها أسّستُ أسرةً مع زوجتي الهولنديّة آنّا ماريكا بورما وأنجبنا بنتاً سمّيناها يارا تعمل حاليّاً طبيبة في المستشفى التعليميّ وسوف تتزوّج قريباً صديقها الذي تعرفه منذ سنوات. أنهى ابني ديدريك (ديدي) «ماستر» في الاقتصاد السياسيّ ويعمل الآن في الحكم المحلّيّ لمدينة أمستردام. أحببْت أمستردام ورضيَتْ بي لأنّها مدينة على مقاسي فلم أعدْ أحبّ المدن الكبرى مثل القاهرة ولندن مثلاً ولا البلدات الصغيرة.
بدأتُ كتابة «بيضة النعامة» بعد لحظة تنوير خاصّ في بيروت إبّان الحرب الإسرائيليّة على لبنان ١٩٨٢حين قرّرت العودة إلى مصر بأسرع ما يمكن خصوصاً أنّ جواز سفري كان قد أوشك على انتهاء فترة صلاحيته ولم يبقَ أمامي سوى عشرة أيّام لذلك. حانت اللحظة وأنا جالس ذات مساء في شرفة الشقّة التي أقيم بها في نزلة «كاراكاس» وقد تحطّم زجاجها بفعل القصف الإسرائيليّ وقد بات مصير الفلسطينيّين معروفاً: «الهجرة إلى بلاد أخرى». كان عدلي فخري يقيم في المبنى ذاته ويذهب يوميّاً للغناء في الخنادق والمعسكرات الفلسطينيّة اللبنانيّة للمقاومة. قال عدلي إنّه باقٍ وسيرحل مع الفلسطيّنيين أينما رحلوا. قلت له إنّي مغادر وراجع إلى مصر التي غبت عنها غيبة طويلة لاثنتي عشرة سنة متواصلة ولم يرجعني إليها شوق ولا محبّة بل «الشديد القويّ» كما يقول المصريّون، أي غصباً عنّي.
قبل وصولي إلى القاهرة كان قد تمّ اغتيال السادات في السّادس من تشرين الأوّل / أكتوبر ثم عُيّن حسني مبارك رئيساً للجمهوريّة. رجعت إلى مصر بسهولة وبدون استجوابات أمنيّة. أقمت فترة في شقّة محسن الخياط (رحمه الله) ثمّ استأجرت شقّة مفروشة أقمت بعدها مع صنع الله إبراهيم، وطوال مدّة إقامتي في القاهرة كنت أبحث عن سكنٍ أستقرّ فيه بمفردي. فقد عشت سنوات قبل الزواج بمفردي في بولندا ثمّ في بغداد وبيروت وتعوّدت على الحياة المستقلّة أدبّر شؤوني بنفسي ولا أستعين بإنسانٍ إلّا عند الضرورة القصوى. كنت قد تزوّجت وطلّقت مرّتين وقرّرت الابتعاد عن مؤسّسة الزواج لاعتقادي بعدم صلاحيّتي لها.
أخيراً حصلت على عمل براتب غير محدّد حين وافقت على أن أؤسّس مع أرملة شهدي عطيّة الشافعي وابنته حنان «دار شهدي للنّشر» ووضعتُ ما بقي معي من النقود التي أعطانيها فواز كنصيبي في المساهمة فيما وضعتْ روكسان أرملة شهدي بضعة آلاف الجنيهات هي نصيبها الذي حكمتْ لها به المحكمة التي أقامت أمامها دعوى بجريمة قتل شهدي في السجن وهو «أمانة» لدى مصلحة السّجون. ثمّ توالى تقديم الدعاوى ضدّ الدولة وطلَبُ تعويضات عن سجننا جميعاً، وكان القضاة يحكمون في هذه القضايا بسرعة وقد حكموا لي بعشرة آلاف جنيه!
لم يزوروني في السجن
أسّسنا المكتب في شقّة تمتلكها عائلة روكسان اليونانيّة المتمصّرة بالزمالك في شارع إسماعيل محمّد. هي شقّة لطيفة تشرف على معهد الموسيقى الشرقيّة من ناحية وعلى «النّادي الروسيّ» من ناحية أخرى وكنت أسكن في غرفة وجعلت الغرفة الأخرى والصالة هي «دار شهدي».
في تلك الأيّام بدأت أكتب في «بيضة النّعامة» ولم أكن أعرف تحديداً ماذا أكتب ولا أين أنا ذاهب في كتاباتي هذه. كان السبب الأساسيّ نفسيّاً أي أنّي حينما جلست تلك الليلة في بيروت في شرفتي المحطّم زجاجها وقرّرت العودة إلى مصر كنت قد قرّرت العودة أيضاً إلى الكتابة التي تخلّيت عنها لحوالي اثنتَي عشرة سنة هي سنوات دراستي في بولندا والعمل في بغداد ولبنان أي سنوات «عدم استقرارٍ وتخزين لا واعٍ» للأحداث. لكنْ ما إن استقرّت بي الحياة في مصر حتى بدأت أكتب لأنّي كنت أريد أن «أكتشف» مَن أنا. لم تكن هذه الرّغبة واضحةً في البداية لكنّها أخذتْ تتّضح خلال العمل في الكتابة.
أذكر حين وصلت شقّتنا الجديدة في الإسكندريّة أنّي سألت أهلي «أين كتبي ومكتبتي؟» فقيل لي إنّهم أعطوها أو باعوها بثمنٍ بَخسٍ «لبْتاع الروبابيكيا» فحزنْت كثيراً وأحسست بأنّ جزءاً خاصاً منّي قد ضاع نتيجةً لتبرّؤ أهلي منّي ومن موقفي السياسيّ. فحين كنت أقضي الحكم في الإسكندريّة لمدة ثلاثة أشهر أو أكثر لم تأت أمّي إلى المحكمة سوى مرّة واحدة، وكذلك أخي رمسيس الذي يكبرني بسنتين. لم يزوراني في السجن وكانت خالتاي المقيمتان في الإسكندريّة وقتها تأتيان بشكلٍ شبه منتظم خصوصاً بعد تصعيب الإذن بالحضور. كانت أمّي وباقي الأسرة يتحدّثون عن «اختفائي» لمن يسأل عنّي معلّلين الأمر بأنّي أدرس في منحة في الخارج باعتبار أنّ سجني السياسيّ مصدرُ عارٍ لهم!
وما إن أعلنت دولة ناصر العفو النهائي عنّا وإلغاء العقوبات المترتّبة على عقوبة السجن حتى شددْت الرّحال إلى القاهرة أبحث عن الرفاق وعن عمل. لم أكن أريد البقاء مع أهلي وقد اعتبروا رؤيتي السياسيّة وتضحياتي عاراً يخفونه! فذهبت إلى من هم يشبهونني وأصدقاء لي من السودان، هم أسرة طبيب مصريّ سودانيّ اسمه داوود إسكندر وكانوا يساعدوننا ماليّاً أيّام الفقر الكئيب فدقَقْت باب الأولاد في بيتهم في مصر الجديدة ومعي شنطة (حقيبة) صغيرة بها مقتنياتي القليلة، فرحّبوا بي واعتبروني «الابن الضّالّ» الذي رجع بعد غيبة سنوات... ولا أزال ألتقي بهم حتى الآن من وقتٍ لآخر إذ إنّهم يقيمون ويعملون في إنكلترا .
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.