شكّلت أحداث كانون الثاني / يناير ٨٦ منعطفاً هامّاً بالنسبة إلى حياتنا وأفكارنا وبالنسبة إلى الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ والمجتمع اليمنيّ كلّه. هي أحداث تاريخيّة لكنّ الحروب والكوارث تصنع أحياناً تاريخاً جديداً أيضاً للشّعوب والنّاس. تلقّيتُ بعد أحداث يناير رسالة. كنّا في قيادة الحزب نتلقّى رسائل من أعضاء الحزب في صنعاء وبعض الأصدقاء. من ضمن هذه الرسائل واحدةٌ من الدّكتور علي محمّد زين الدّين الذي كان يومها يُعدّ رسالة الدكتوراه في جامعة السوربون وكان واحداً من المثقّفين والمفكّرين اليساريّين المهتمّين بهذه التّجربة [في الجنوب]. وكتب لنا رسالةً عبّر فيها عن احتجاجه وأسفه لما حصل. لكنّه أردف أنّ تجربة الجنوب وتجربة الاشتراكيّة أو التّجربة اليساريّة في عدن سقطت تاريخيّاً بسبب هذه الأحداث، بصرف النّظر عن الطّرف الذي انتصر في الحرب. خلاصة الرسالة أنّ التّجربة وصلتْ إلى نهايتها.
كنت يومها مأخوذاً بالحماسة للدّفاع عن التّجربة. وأعتقد أنّ الطرف الذي انتصر في الحرب غير مسؤول عمّا حصل. وأنّه يجب علينا أن ندافع عن التّجربة وأنّها هي التي انتصرتْ وستنتصر في المستقبل. وبذلك أجبتُ على هذه الرسالة والرسائل المماثلة برسالةٍ، وقُرئتْ داخل الشّمال والجنوب، رفضتُ فيها الانتقادات ودافعت عن التّجربة، ووصفتُ الانتقادات التي نتلقّاها بأنّها عبارة عن أفكارٍ برجوازيّة صغيرة. كانت الرسالة طويلة، حماسيّة وعاطفيّة ومكتوبة تحت وطأة الحدث وبلغة المنتصر ومن منظاره الذي لا يستطيع أن يرى بوضوح ما الذي سيأتي بعد لحظة الانتصار. مع الوقت بدأنا ندرك الآثار العميقة لأحداث يناير ١٩٨٦. والشّواهد والبراهين والأدلّة تتجلّى في الحياة اليوميّة. وكان واضحاً أنّ الأحداث أضعفتْنا. لكنّ نقاط الضّعف لم تظهر لنا إلّا بالتدرّج. وبدأنا نصل إلى نتيجة أنّ الحزب يضعف. وحكاية العنف أصبحتْ تُبعد النّاس من حولنا. كنّا نعتقد أنّ اللوم في الحرب يقع على الطّرف المنهزم، لكن اتّضح أنّنا كلّنا مسؤولون عن الذي حدث ولم نكن نستطيع أن نبرّر الحرب التي دارتْ رحاها داخل الحزب والمجتمع. هنا، بصراحة، أخذت في التّفكير لماذا حدث هذا؟ سبب التحوّل من أفكار المنتصرين إلى التّفكير المختلف؟
اتّضح لي أنّ التّجربة أثبتتْ أنّه لم يكن هناك طرف منتصر. كان الانتصار وهماً وقد اتّضح أنّنا كلّنا مهزومون. كان النّاس يقولون: كلّكم مسؤولون عن الّذي حدث. ولم يفرّق الناس بين المنتصر والمهزوم. من هم النّاس الذين كانوا يقولون ذلك؟ النّاس العاديّون، المجتمع، المواطنون العاديّون يقولون لنا عندما نحاول أن نكسب النّاس في الشّمال إلى صفوف الحزب، وبالذّات المثقّفين والأدباء، كانوا يهربون منّا. أصبحوا يرون أنّ الحزب ليس على ما يرام. حتّى المثقّفون أنصار التّجربة في الخارج صُدموا بما حدث وقالوا إنّه من غير المعقول أن يعود النّاس من الحلم بالاشتراكيّة إلى قتال مناطق ومحافظات واقتتالٍ بالسّلاح وبالسّيف.
كانت النّتائج تُظهر كلّ يوم أنّها سلبيّة برغم الحملة الإعلاميّة. ولم نكن قادرين على تصحيح الأمور لأنّنا كنّا نصنع خطاباً إعلاميّاً عاطفيّاً انفعاليّاً كخطاب صنعاء بعد حرب عام ١٩٩٤. والتاريخ يكرّر نفسه كما قال هيغل. والتّاريخ في اليمن يكرّر نفسه أكثر من مرّة، ولكن على عكس ما يقول ماركس: في المرّة الأولى مأساويّ وفي الثّانية ملهاة ومهزلة ومضحكة. هذا الّذي حصل، وهو كان في كانون الثاني / يناير ١٩٨٦ مأساويّاً وفي عام ١٩٩٤ [حرب الوحدة والانفصال] كرّر التّاريخ نفسه بحيث لم يكن قادراً على القول إنّه مأساويّ أو تراجيديّ، المهمّ أنّها كانت حرباً داخليّة، كانون الثاني / يناير ١٩٨٦ وأيار / مايو ١٩٩٤ كلّها حروبٌ داخليّة، كلّها نزاعاتٌ على السّلطة. هي استخدمت العنف لكنّها تمّت تحت شعاراتٍ مقدّسة تحت شعاراتٍ كبيرة: الانتصار لليسار عام ١٩٨٦ هو قضيّة الحزب، والانتصار في ١٩٩٤ تمّ باسم قضيّة الوحدة. والطّرف المنتصر يتوهّم أنّه منتصرٌ وهو مهزوم. لكنّه يرفض المصالحة والتّصحيح. ولا سماعَ لصوت العقل، لا سماعَ للآخر.
أزمة شخصيّة
بعد أحداث يناير ١٩٨٦ بستّة أشهر، كلمة قالها لي علي محمّد زيد ظلّت تزورني باستمرار: برغم مكابرتك فإنّ التّجربة سقطتْ تاريخيّاً. أنا فكّرت بأنّ العالم يتغيّر. بدأت أقرأ ما يدور في العالم. بدأت التّجربة السّوفياتيّة وحكاية المصارحة والمكاشفة «البروسترويكا» و«إعادة البناء». نحن كنّا مرتبطين فكريّاً وإيديولوجيّاً بمركز الاشتراكيّة الأوّل الذي هو روسيا. أهمّ فكرة لغورباتشوف، أنّ في الفكر الاشتراكيّ ليس ثمّة مركزٌ يفكّر للعالم كلّه أو يمتلك الحقيقة مثل الفاتيكان. أهمّ ما قام به غورباتشوف أنّه أنهى هذه الحقبة من التّفكير، فرأيتُ أنّنا أصبحنا نفكّر بمشاكلنا لأنفسنا.
كنت أعتقد أنّ هذا بديهيّ. أنّ الآخرين يفكّرون للعالم، وأنّ موسكو هي مركز تفكير العالم الثوريّ، وأنّ هذا أمر بديهيّ، أنّ لهذه الأمميّة رأساً. كنّا نفكّر هكذا وأحياناً كنّا نتباين. ولكن في السّياق العامّ كانت هذه الفكرة مقبولة. وعندما أتى غورباتشوف بدأنا نفكّر نحن في السّياق العامّ، لكنْ نحن كنّا شيئاً مختلفاً. حصلتْ عندنا أحداثٌ لم يحصل مثلها في روسيا، فنحن نمتلك خصوصيّة، نمتلك تطوّراً تاريخيّاً مختلفاً، عندنا متطلّبات الحياة مختلفة. بعد غورباتشوف بدأ السّوفيات يتصرّفون بشكلٍ مختلف. نحن لدينا مشاكلنا وأنتم لديكم مشاكلكم، وإنّ هذا الذي تعتقدون أنّه محصّن مركز العالم الثوريّ الذي هو موسكو مركز قيادة العالم، وأنّه مثاليّ وأنّه عالمٌ مثاليّ، لديه مشاكل كثيرة أنتم لا تعلمونها. قوموا أوّلاً بحلّ مشاكلكم.
هذه القضايا جعلتْني أفكّر كثيراً. أمرٌ آخر فكّرت به: لماذا يتقاتل أبناء الحزب الاشتراكيّ فيما بينهم؟ لمَ القتال الذي حصل في يناير ١٩٨٦؟ حسناً، ممكن القول إنّ الذي حصل في يناير خطأ، لكنْ ما الذي حصل قبل يناير، أحداث سالمين في ١٩٧٨ في الجنوب، وقتل الحمدي في العام نفسه في الشّمال، وخروج الإرياني والسّلّال من البلاد. ليس عندنا نقْلٌ للسّلطة صحيح: الإمام يحيى قُتل في صنعاء، وابنُه أحمد قَتل الآخرين وقتل حتّى إخوتَه، ثمّ هو الآخر قُتل. فيما بعد تمّ إخراج البدر بانقلاب. جاء السلاّل وخرج بانقلاب ٥ تشرين الثاني / نوفمبر ١٨٦٧ وهو الثّوري، ثمّ جاء الإرياني رئيس المجلس الجمهوريّ بانقلاب وخرج بانقلاب عليه من قبل الشّيخ عبد الله بن حسين الأحمر وسنان أبو لحوم، وإبراهيم الحمدي كان متعاوناً معهم هو ومجموعة أخرى والجيش. ثمّ جاء الجيش وقام بانقلاب على الحمدي. وكان يُقال إنّ الحمدي قائدٌ استثنائيّ لكنّه ذُبح في بيت نائبه أحمد حسين الغشمي. في الجنوب قُتل سالمين وأخرج عبد الفتّاح إسماعيل من السّلطة. خرج علي ناصر من السلطة بالقوّة. أخرج الذي قبله قبل ذلك بالقوّة قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللّطيف قُتل في صراع على السلطة.
إذاً هذه المعارك المتواصلة التي لم تتوقّف من أجل السّلطة هل هي فعلاً كانت من أجل المقدّسات كما كنّا نقول دائماً؟ كلّ حرب كانت تدور تحت شعارٍ مقدّس: الثورة، الجمهوريّة، الوحدة، التصحيح، إلى آخره. أحياناً نقول من أجل الديمقراطيّة وأحياناً من أجل السّلطة. لم يكن هناك طريقٌ لتبادل السّلطة.
الاشتراكيّة والديمقراطيّة شيءٌ واحد
هذه فكرة. والفكرة الثّانية أنّ كلّ شخصٍ يستولي على السّلطة يدمّر الذي قبله، يدمّر الموروث الثقافيّ والاجتماعيّ. كلّ من يستولي على السّلطة يدمّر الذي قبله في حلقةٍ متوالية. يدمّر الذي قبله، حتّى أحجار البناء التي يُمكن أن يُشار فيها إلى اسم الحمدي أو السّلّال أو الإرياني أو سالمين يتمّ تدميرها من قبل الحكّام الجدد. ينهبون الآثار ثمّ يُدمَّرون معها الاقتصاد. أخذتُُ أفكّر في هذه الأمور وأعيشها وأقول ما هو الحلّ لهذه الأوضاع؟ كنتُ وما زلت مؤمناً بالاشتراكيّة، لكنْ أخذت أفكّر: أنا المؤمن بالعدالة والاشتراكيّة، إنّ الاشتراكيّة لا يُمكن أن تكون عدوّة الديمقراطيّة. وعدْت لأقرأ تاريخ الاشتراكيّة، ووجدتُ أنّ الاشتراكيّة كانت متّحدة مع الديمقراطيّة. والذي حصل بعد ثورة البلاشفة وفي المؤتمر الثّاني تقريباً، أو بعد محاولة اغتيال لينين من قبل إحدى النساء، حاول أن يعمل بسياسة «النيب» والتي هي اللبراليّة في الاقتصاد، لكنّه لم يعد بعد ذلك قادراً على أن يمارس الليبراليّة في السياسة نتيجة للصّراع على السّلطة. لينين كان كبيراً، مثلاً حلّ مجلس الدّوما لأنّه لم يوافق على قانون الإصلاح الزراعيّ. لم يكن لها من لزوم. إذاً أنا فكّرت لدى العودة إلى العديد من المؤلّفات ووجدتُ أنّ الاشتراكيّة والديمقراطيّة شيءٌ واحد. طبعاً الموضوع الذي كان يجري في العالم كلّه أنّ الديمقراطيّة التي بدأت بعد الموجة الثّالثة التي أتتْ بعد ثورة البرتغال.
الديمقراطيّة ظاهرة عالميّة. أنا قلت إنّ مشكلتنا هنا في اليمن في غياب الديمقراطيّة، والحلّ هو في العودة إلى الديمقراطيّة، لكن لم يكن لديّ تصوّرٌ كافٍ للموضوع. كان لديّ تصوّرٌ ضبابيّ لهذه القضيّة. لم يكن لديّ تصوّر كيف يمكن أن نصل إليها ولمن هي، من الذي يكون داخلها ومن الذي يكون خارجها؟ هذا الكلام كان في نهاية العام ١٩٨٦ وبداية العام ١٩٨٧. في هذه المرحلة عشتُ أزمةً شخصيّة فكريّة عميقة وصراعاً وتناقضاً بين قناعاتي السّابقة والتي كانت من المسلّمات وبين الوقائع التي تظهر على الأرض. كلّ يوم وبذور التفكير الجديد تتفتّح، يعني كنت أعيش صراعاً فكريّاً حقيقيّاً.
بدأتُ بالحديث مع بعض أعضاء المكتب السياسيّ الذين كانت علاقتي الشخصيّة معهم قويّة، تكلّمتُ مع الأخ يحيى الشّامي وكنتُ أقول له إنّنا معارضون للنّظام في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة ومعارضون للمؤتمر الشعبيّ العامّ الذي يحكمون باسمه ونطالبه بالدّيمقراطيّة، لكنّنا نقيم نظام الحزب الواحد في عدن، إذاً لا مصداقيّة لنا. هذه هي القضيّة التي كنت أناقشهم بها. نحن نطالب بالتّغيير الديمقراطيّ في صنعاء الذي يجب أن يكون لنا نصيبٌ فيه. وفي الوقت نفسه نؤيّد نظام الحزب الواحد في عدن. وهذا يُضعف صدقيّتنا. نريد تعدّديّة في صنعاء، لكنّنا لا نقبلها في عدن. نعارض طريقة الحكم في صنعاء ونؤيّدها في عدن. الأخ يحيى الشامي كان لديه تصوّرٌ لهذا الموضوع. ولا أعرف من بدأ بطرح ذلك، أنا أم هو. وكان رأيه فعلاً مع هذا واتّفقنا على أنّه بما أنّنا نطالب بالديمقراطيّة في صنعاء فيجب أن نطالب بها ونسعى إلى إقامتها في عدن. كان هذا النّقاش يجري وأنا كنت أتابع الكثير ممّا يُنشر في العالم وبالذّات كلّ ما يُنشر في العالم العربيّ حول الديمقراطيّة. أتابع النّدوات. وكنتُ أتابع أيضاً ما يُنشر عن «البروسترويكا» في العالم، ربّما ليس غروراً لكن هذه هي الحقيقة. واللافت أنّ زملائي يعترفون بأنّي كنتُ أتابع أكثر منهم.
رسالة إلى المكتب السياسيّ
«استمرّيت في العيش داخل القضيّة. وفي شهر آذار / مارس من العام ١٩٨٧، وسنتأكّد من التاريخ، فكّرت أنّه يجب أن أتّخذ موقفاً. استدعيت الأخ علي الصّراري الذي كان مدير مكتبي وكان يساعدني في الأفكار وكان شابّاً نشيطاً، وقلتُ له إنّي أريد أن أسجّل وجهة نظر حول قضيّة الديمقراطيّة والتعدّديّة في اليمن، وفي الجنوب أوّلاً الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ». وأرّختُ الرسالة في أوّل نيسان / إبريل من العام ١٩٨٧. وهي موجّهة لعلي سالم البيض، الأمينِ العامّ، وأعضاء المكتب السياسيّ ووقّعتُها باسم خالد عمر، وهو اسمي الحركيّ حينها أيّام العمل السرّيّ في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة، حيثُ كنت أوقّع الرّسائل وكلّ شيء باسم خالد عمر. وخلاصة الرسالة أنّها عبارة عن وجهة نظر أوّليّة أتحدّث فيها عن كلّ المشاكل التي حصلتْ وعن ضعف التنمية والصّراع على السّلطة. والمشاكل التي حصلتْ كلّها سببها انعدام الديمقراطيّة وعدم الاعتراف بالآخر في المجتمع. وافترضتُ أن يكون هناك نظامٌ من التعدّديّة الحزبيّة المفيدة، استبعاد الفئات الرجعيّة بتفكير اليوم، لكنّي غيّرت أفكاري بعد ذلك، وكنتُ يومها مع تعدّدية ثوريّة إذا جاز التّعبير. كما أنّ هذه القناعات اهتزّت بعد ذلك كما سأروي فيما بعد لأنّني عندما أجد الحقيقة عند شخصٍ آخر لا أعاند، وأحياناً تتعرّض افكاري لهزّاتٍ بتأثيرٍ من أفكار الآخرين، فأتراجع عنها من دون عناد. وأذكر كلّ شخصٍ بتأثيره عليّ ولا أخجل من ذلك، فأنا كتبتُ هذه الرسالة بشكلٍ سريّ وسلّمتها إلى علي البيض، ووُزّعتْ على أعضاء المكتب السياسيّ. وكانت لديّ رغبة أن تناقَش الرّسالة رسميّاً لكنّ الأمين العامّ لاحظ عدم تقبّل لهذه الرّسالة، وفكّر أنّ مناقشتها يمكن أن تؤدّي إلى إلى آثارٍ سلبيّة عليّ أنا بالذّات. لذلك جمّد الموضوع لديه لبعض الوقت فيما سكتّ أنا ولم أطالب بشيء.
ندوة عن التعدّديّة وتسريب
لكنْ حدثتْ بعض التّطوّرات التي أخرجت المسألة إلى السّطح. كان يمكن لهذه القضيّة أن تبقى داخل الحزب لمدّة سنة أو سنتين، لكنّ أموراً عديدةً طرأتْ وقتَها. أوّلاً أنا أخذت أنشطُ وأناقش مع بعض الكوادر مسألة تطوير الفكر السياسيّ للحزب الاشتراكيّ اليمنيّ. كنتُ أعقد مع بعض الشّباب ندواتٍ أسبوعيّة، ومن ضمن الشّباب مثلاً عبد العزيز ثابت الكادر في الحزب، وهو مثقّف من عدن، ومنصور هائل وعمر عبد العزيز وعلي محمّد الصّراري. كنت أتناقش معهم في ندواتٍ سرّيّة أسبوعيّة تتناول نقْد الفكر السياسيّ للحزب الاشتراكيّ اليمنيّ. كنّا نتبادل الرّأي في بيتي أحياناً، وفي بيت عبد العزيز ثابت أو بيت منصور في حائل أحياناً أخرى، وكان منصور مدير تحرير صحيفة «١٤ أكتوبر» الحكوميّة. كان هؤلاء جميعاً شبّانا مثقّفين ولديهم تطلّعاتهم. كنّا نتبادل الرّأي وكانوا ينظرون إليّ بصفتي أكبرهم سنّاً والذي يقود عمليّة التجديد، لكنّي كنت أعدّهم جزءاً من العمليّة ويساعدونني في تطوير الأفكار. كنت أناقش معهم أفكار الحزب بشكل نقديّ، باحثين عن تطوير هذا الفكر.
حدث في ظلّ هذه الندوات والمناقشات غير المعلنة أنْ زار عدن الشّاعر العربي علي أحمد سعيد «أدونيس» وفوّاز طرابلسي، المثقّف اللبناني، ومحمّد كشلي. وتمّ ترتيب ندوة في منزل الدكتور عمر عبد العزيز. كان عنوان النّدوة «حول أزمة حركة التّحرّر العربيّة وقضايا أخرى»، وشارك فيها أدونيس، فوّاز طرابلسي، محمّد كشلي، عمر عبد العزيز وهو مدير معهد الفنون في عدن، عبد الواسع قاسم وهو رئيس تحرير مجلّة «قضايا العصر» التي كان لها إسهام كبير في تنظيم النّدوة، منصور هائل، رئيس تحرير صحيفة «١٤ أكتوبر»، محمود سعيد، المسؤول الإعلاميّ في سفارة دولة فلسطين في عدن، وجار الله عمر. ونشرتْ موادّ النّدوة في مجلّة «قضايا العصر» العدد السّادس حزيران / يونيو١٩٨٩.
شارك المذكورون في النّدوة التي كانت مسجّلة ولم يكن من المفترض نشرها في ذلك الوقت، لكنْ تمّ تسريب الشّريط إلى صحيفة «صوت العمّال» التي تصدر عن اتّحاد عمّال اليمن في عدن. وكان هناك حديث واضح عن التعدّديّة والدّيمقراطيّة. ورد على لساني نقدٌ للتّجربة القائمة في الجنوب والحزب الاشتراكيّ اليمنيّ، وقلتُ إذا لم تكن له معارضة فهو يعارض نفسه حتّى ينتهي. وقلت إنّ مجريات التّطوّر تشير إلى الوراء إذا لم يكن هناك تفكير جديد وتغيير، ملخّص الفكرة التي وردت هي فكرة التعدّديّة السياسيّة. وقلت إنّ الديمقراطيّة يمكن أن تكون مقيّدة وأن تقتصر على القوى الثّورية فقط. وأتذكّر أنّ أدونيس ردّ على مفكّرتي بشأن التعدّديّة أكانت ثوريّة أم للثوريّين. وكان هذا الرّأي ناتجاً من الخوف لأنّ الوضع في البلد اليمن، وفي الحزب لا يحتمل ديمقراطيّةً مفتوحة. قال أدونيس إنّ النّظام الذي سينشأ عن هذه التعدّديّة هو نظامٌ غير شرعيّ لأنّك تستبعد الإسلاميّين في دعوتك. قلت نعم، الإسلاميّون يسيطرون على جزءٍ من الشّارع ومعنى هذا أنّ أيّ انتخابات وأيّ تعدّديّة ستكون منقوصة في شرعيّتها لأنّ جزءاً من الشّارع ليس معها إذ إنّ الرّأي العامّ جزءٌ منه ممنوعٌ من التعبير عن نفسه، عن وجهة نظره. ولأنّ جزءاً من الشارع العربيّ يسيطر عليه الإسلاميّون وهمْ جزءٌ من الرّأي العامّ ويجب أن يشاركوا فيه. وأنا كنت قد وضعت المبرّرات لمنع الإسلاميّين من المشاركة في التعدّديّة التي اقترحتُها لأنّهم يرفضون الديمقراطيّة، وإنّهم إذا وصلوا إلى الحكم فلن يخرجوا منه على اعتبار أنّهم يحتكرون الحقيقة. قال لي أدونيس: لا، هذه أتركها للشارع وأتركها للنّاس. ردُّ أدونيس هزّني. جلست أفكّر في هذا الموضوع واستغرقت في التّفكير حتى بداية التّسعينيّات وحتى قيام الوحدة، غيّرت أفكاري ووجهة نظري وصرت أعتقد مثل أدونيس، أنّ من المهمّ أن نشارك الإسلاميّين في التعدّديّة وأنّهم إذا وصلوا إلى السلطة وأحرزوا الأغلبيّة في الأصوات فليحكموا، وعلى الشّعب أن يحكم عليهم بعد ذلك. صحيح لا يزال لديهم تحفّظات تجاه الآخر، صحيحٌ أنّ ما هو موجود في السودان أو أفغانستان يثير شكوكاً حول إمكانيّة وسهولة أن تتحوّل بعض الحركات الإسلاميّة، لكنّني متأكّد أنّ المستقبل سيأتي بتغييراتٍ في الحركات الإسلاميّة وفي تقبّلها للآخر. وما حدث في إيران الآن من فوزٍ للإصلاحيّين، والانقسام الذي حصل في السّودان يدلّان على أنّ من غير الممكن أن تحلّ المشاكل إلّا بالديمقراطيّة وقبول الآخر.
كما قلت فإنّ النّدوة نُشرت في صحيفة «صوت العمّال». وعلم المجتمع بعد ذلك بالآراء التي طرحتُها في النّدوة. وفجأةً نشرتْ صحيفةٌ تصدر في قبرص وصحف في بيروت مذكّرة التعدّديّة. سُرّبت الرّسالة إلى الخارج دون علمي. وأنا الآن أؤكّد أنّه لم يكن لي أيّ دور على الإطلاق في تسريبها. سرّبها أحد الأشخاص من أحد المكاتب إلى صنعاء ولست أدري من هو. ثمّ وصلتْ إلى يد الرئيس علي عبد الله صالح وسُرّبت إلى الخارج على يد أنصار علي ناصر محمّد في صنعاء، وعلّقوا عليها كما علّق عليها الأستاذ عبد الرحمن بن علي الجفري في كتيّب حمل عنوان «تفنيد وجهة نظر جار الله عمر» لأنّ المقترح عن التعدّديّة كان قد استَبعد حقّ رابطة أبناء الجنوب والإسلاميّين في ممارسة نشاطهم، وهنا أخذت الضّجّة الصحافيّة والسياسيّة تتعاظم وانقسم الكتّاب والصّحافيون بين مؤيّد ومعارض في الحزب الاشتراكيّ وخارجه في الشّمال والجنوب.
حملة وتهديدات
هنا بدأت المشكلة. كانت ردود الفعل داخل الحزب في معظمها رافضة لهذه الفكرة أو لهذا التّوجّه. هاجمت الصحافة الفكرة من جملة من هاجموها، وكانت الحملة ضدّ التعدّديّة السياسيّة منسّقة ومتكاملة. وبطبيعة الحال لم يكن ثمّة صحف أهليّة وحزبيّة، وكانت الصّحف تصدر هنا [في صنعاء حيث تجري المقابلة] عن الحكومة وفي عدن عن الحزب، ولكن كانت في عدن صحيفة «صوت العمّال» الوحيدة التي حاولت أن تخالف، وكان يرأسها محمّد قاسم نعمان، وهو نقابيّ معروف في عدن. طبعاً تولّت صحيفتا «الثّوري» و«الراية» الردّ على التعدّدية برغم أنّ «الثّوري» كانت أكثر اعتدالاً. كانت تحاول أن تناقش. أمّا صحيفة «الراية»، الصادرة عن دائرة التوجيه السياسيّ في القوّات المسلّحة، فكانت تهاجم الفكرة. وكان هذا يجري وسط الحزب والجيش. والقيادة صامتة. هي الطرف الوحيد الذي لا يتكلّم في الموضوع. وكان هذا الموقف يعكس الحيرة أو الارتباك، مع أنّ الموقع الذي تحتلّه هذه القيادة يجعلها مطلعة أكثر من سواها على الأوضاع في البلاد وتتوافر لديها معلومات كثيرة عن المتغيّرات الدوليّة، بما في ذلك المتغيّرات التي أخذتْ تلوح في أفق المعسكر الاشتراكيّ خصوصاً بعد البيرسترويكا السّوفياتيّة. القيادة كانت تخشى أن تصطدم مع قواعد الحزب وكوادره الّتي عُبّئت وامتلأت بمسلّمات وبدهيّات لا تقبل النّقض وكأنّ الانتصار في يناير ٨٦ كان مئة في المئة، وكان من الصّعب أن تفاخر القيادة بشعبيّتها بين القواعد داخل الجيش والحزب. غير أنّ هذا الصّمت لن يدوم طويلاً.
بالنّسبة لي بدت المسألة سهلة في البداية وكأنّ الأمر مجرّد تعبير عن وجهة نظر يأخذها الآخرون أو يرفضونها. لكن اتّضح فيما بعد أنّ المسألة أكثر تعقيداً ممّا كنتُ أتصوّر. فما إن بدأت الحملة على الأفكار التي طرحتُها، واستمرّت الكتابات تطرح أو تتوالى في «الراية» وإلى حدٍّ ما في «الثّوري» وفي صحيفة «الثّورة» في صنعاء وكانت تهاجم التّعدّديّة وتقول إنّ هؤلاء الّذين خرّبوا البلاد لم يكتفوا بما فعلوه في الماضي، فها هم الآن يريدون أن ينقلوا الحزبيّة إلى العلنيّة ويدمّروا اليمن كما دمّر لبنان. وكان الدّستور في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة يحرّم الحزبيّة ويعتبرها خيانة. سمعت رئيس الجمهوريّة شخصيّاً يهاجم التعدّديّة في العام ١٩٨٨ في خطابٍ علنيّ. لكنّ الهجوم في عدن كان أكثر قساوة لأنّ الذين اعترضوا في عدن يمكن تقسيمهم إلى عدّة فئات. بعض الأشخاص اعترضوا لأنّها ليست متدرّجة من حيث التطبيق. وأشخاص اعترضوا على اعتبار أنّ التعدّديّة كانت مفاجئة من دون تمهيد. وبعض آخر لم يُبد موقفاً فلم يؤيّد ولم يرفض. لكنّ بعضَ كوادر الحزب كانوا مقتنعين بأنّ هذه مؤامرة لتدمير النّظام الوطنيّ الدّيمقراطيّ في الجنوب وخيانة للاشتراكيّة، وقد تكون من قبيل العمالة لاستخباراتٍ أجنبيّةٍ بهدف تدمير الثّورة كما النّظام.
هنا أخذت الضّغوط تتزايد وباتت التهديدات جدّيّة. طبعاً هؤلاء النّاس لم يكونوا سيّئي النّوايا. كانوا يهدّدون لأنّهم كانوا يعتقدون أنّهم على حقّ وأنّهم يحمون الثّورة ويحمون النّظام. أخبرتْني زوجتي أنّها تتلقّى اتّصالاتٍ هاتفيّة. وأنا أيضاً كنت أتلقّى تهديدات هاتفيّة لكن لم أكن أعلمها بها. كانوا يقولون لي نحن نحبّك ونحترمك لكنّ هذا العمل الذي قمتَ به غير مفهوم لنا، ونحن لا نشكّك فيه لكن ربّما هو سوء تقدير، نتوقّع أن تتراجع عن هذا الموضوع. وانتقلت التّهديدات إلى الزّوجة والطّلب إليها أن تقنع زوجها بأنّه أخطأ وعليه أن يتراجع. وكانوا يقولون لها: أنتم هنا تعيشون في ظلّ نظام الحزب، وهو عضو مكتب سياسيّ في الحزب، فإذا انتهى الحزب ستصبحون أنتِ وأولادكِ في الشارع لا تملكون عملاً، تصبحون مشرّدين، وأنتم مشرّدون من الشّمال وهذه مغامرة، وهو يغامر بحياتك وحياة أولادك.
حوارات في المرجعيّة
كانت الزوجة تخبرني بهذا وأشرح لها الأمر وتقتنع. وفي إحدى المرّات اتّصل بعض الكوادر من الحزب ومن الجيش وقالوا: إنّ هناك أناساً يريدون زيارتي في المنزل. قلت أهلاً وسهلاً. قابلْتهم في المنزل وشربنا القهوة، ومنهم مجموعة من الشباب في الجيش المخلصين للحزب، وهم من الذين درسوا في معاهد الاتّحاد السوفياتي. دخلوا في مناقشاتٍ حول الأفكار التي طرحتُها وقالوا «نحن لا نصدّق ما يُقال عنك أنّك خائنٌ وعميل. لكن نقول لكَ بصراحة الآن: لم نعد نفهم ماذا تريد أن تفعل. هل تخلّيتَ عن الاشتراكيّة كغاية نهائيّة؟ هل أنت غير مقتنع بالاشتراكيّة؟ نريد أن تردّ علينا بوضوح». قلت لهم لا لم أتخلّ عنها ولكنّني أريد أن أعمل من أجل التّلاحم بين الدّيمقراطيّة والاشتراكيّة، فليس هناك اشتراكيّة من دون ديمقراطيّة، وليس هناك عدالة من دون ديمقراطيّة. وأخذت أشرح لهم كيف كان الوضع في بداية الاشتراكيّة والديمقراطيّة عند نهاية الحرب العالميّة الأولى. وبيّنتُ لهم أنّ الاشتراكيّة الحقيقيّة تسودها الديمقراطيّة. وشرحت لهم تجربة السّويد على سبيل المثال، وأنّه يمكن الجمع بين الاشتراكيّة والديمقراطيّة، وأنّهما لا يتناقضان بل هما شيءٌ واحد. وكنت أشرح لهم الخلاف الذي جرى بين كاوتسكي ولينين وروزا لوكسمبورغ، وما حصل في المؤتمر الثّاني للحزب الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ الروسيّ. وفوجئوا بمعلوماتٍ لم يكونوا يعرفونها. لم يصدّقوها. وقلت لهم إنّه قبل محاولة اغتيال لينين كان هناك أحزاب، كانت هناك تعدّديّة، وحتّى الحزب الدّيمقراطيّ الرّوسيّ كان يسمح بالأجنحة، كان هناك المناشفة والبلاشفة، كان هناك اليسار واليمين والوسط. قالوا نحن نعرف المناشفة والبلاشفة، لكنّ المناشفة خَوَنة. قلتُ أصبحوا خونة فيما بعد، لكنّهم كانوا جناحاً معترفاً به. وشرحتُ لهم أنّ المصيبة جاءت عندما تمّ منع التعددية. شرحتُ لهم أهمّيّة الديمقراطيّة بالنّسبة إلى الاشتراكيّة. وطبعاً هذه كانت عندي يومها تصوّرات أوّليّة. هنا بعد هذا الشّرح انقسموا إلى قسمين، عددٌ منهم تقبّل الموضوع وقال إنّ المسألة تحتاج إلى نقاش. وأذكر أنّي قلت لهم يومها: تأكّدوا أنّ روسيا ستصل إلى التّعدديّة قريباً لأنّ غورباتشوف كان موجوداً يومها وكان هناك صراع شديد، هو يريد أن يخطو خطوةً نحو العلنيّة والحزب يمنعه، والقوميّون استغلّوا الموضوع للانقسام عن الاتّحاد السّوفياتي. وكان هناك ارتباكٌ لكن كان واضحاً أنّه كان يريد أن يصل بالمسألة إلى الاشتراكيّة الديمقراطيّة. طبعاً الموضوع في روسيا كان كلّه يتحرّك، وكنّا نتوقّع أنّ روسيا ستصل إلى التّعدّديّة. ولكنْ تبقى الاشتراكيّة منتصرة لأنّ هناك حزباً يساريّاً قوياً، ويكون الشّيوعيّون في وضع قويّ بل أقوى ممّا هم عليه الآن. لو أعلنوا التّعدّديّة لربّما كانوا في وضعٍ أفضل لو تمكّنوا من الانتقال بشكلٍ سلميّ وهم الآن في كتلة قويّة وزيغانوف يطالب بتحقيق تجربة السّويد.
قلتُ إنّ الكوادر الذين حضروا إلى المنزل انقسموا إلى قسمين، قسمٌ قال هذا موضوعٌ جيّد لكن نريدك أن تخرج لتتحاور معنا. قلت: جيّد. وقسمٌ آخر قال إنّ هذا الكلام مرفوض وإنّهم تأكّدوا اليوم أنّك تجرّ البلاد والحزب إلى كارثة. ونهضوا منفعلين وانسحبوا ولم يقولوا مع السّلامة. وبقي الآخرون لبعض الوقت. بعدها بأسبوعين أو ثلاثة أسابيع اتّصل بي مدير الدّائرة السياسيّة في القوّات في وزارة الدّفاع، وكانت صحيفة «الرّاية» صحيفة الجيش تقود الحملة ضدّ فكرة التّعدّديّة. قال لي إنّ القوّات المسلّحة تستنكر هذه الدّعوة! وطلب منّي، بما يُشبه الإنذار، أن أتراجع، وقال: «أنا أطلب إليك باسم القوّات المسلّحة وكوادر الحزب في القوّات المسلّحة أن تتراجع عن دعوتك هذه وألّا تجرّ البلاد إلى كارثة». في الحقيقة هو إنسانٌ غير معروف عنه أنّه عنيف. ولكن أحياناً يخلط آراء كثيرة بين الجدّ والمزاح. قلت له «أنا أجرّ البلاد إلى الحرب بالتّعدّديّة؟ الحرب هي عندما لا يكون هناك تعدّديّة، عندما لا يكون هناك اعتراف بالطّرف الآخر. والحروب في الماضي وقعتْ لأنّه لم يكن هناك تعدّديّة حزبيّة. لكن أنا أعتقد أنّ هذا ليس موقف القوّات المسلّحة كلّها. وحتّى لو كان موقف القوّات المسلّحة فأنا أتوقّع أن تتفهم الموضوع عندما يكون هناك مناقشات أكثر وتوضيح أكثر».
وبعد ذلك كان هناك لقاء وفد من المدنيّين، وكان يذكّرني به قبل أيّام الأخ عبد الواسع سلام وزير العدل. وكانوا حريصين، وكان بعضهم يهدّد باسم الجيش، وأنّ القوّات المسلّحة مستنفرة. وكنت أنا أجيب «أنا يهمّني موقف الحزب أوّلاً». إثر هذا الجوّ المشحون بالتّهديدات وبالتّوتّر والإنذارات، اقترح البعض أن تتوقّف الحملة الصحافيّة على جار الله عمر وعدم فصله من الحزب لأنّه كانت هناك دعوة إلى فصلي من الحزب وتجريدي من المسؤوليّة ثمّ محاكمتي. ربّما كانت هناك مقترحات أخرى لست متأكّداً منها. طبعاً كلّ هؤلاء ليس لديهم موقفٌ شخصيٌّ منّي على الإطلاق. وطلبوا أيضاً أنْ أعلن التخلّي عن دعوتي إلى التعدّديّة السياسيّة في مؤتمرٍ صحافيّ. واقترح بعضهم طردي إلى خارج البلاد، فيما اقترح آخرون حلّاً وسطاً تضمّن إعلاني عن اعتذاري للحزب والتّخلّي عن الدّعوة إلى التعدّديّة السياسيّة مقابل توقّف الحملة عليّ.
وأخبرني الأخ سعد سالم فرج قبل أيّام، وكان محافظ حضرموت حينها، أنّ الحديث عن الديمقراطيّة وعن التعدّديّة وإبعاد جار الله عمر من قيادة الحزب لأنّه يريد أن يخرّب في الجنوب كما خرّب في الشّمال: نحن كنّا نقول هذا الكلام وأنتم لم تصدّقونا وإنّ هذا العمل الذي يقوم به جار الله هو ضدّ مصلحة اليمن شمالاً وجنوباً.
لن أتراجع
المهمّ اشتدّت الضغوط من كلّ مكان. وطرح هذا اقتراح التراجع عن الفكرة. طبعاً، أعضاء المكتب السياسيّ لم يكن منهم من فاه ببنت شفة، بمن فيهم الأمين العامّ علي سالم البيض. قلت: أنا والله لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذه الدعوة لما تركتها. ربّما من يسمع هذا يقول هناك مبالغة، لكنّني كنت قد وصلت إلى هذه الحالة العصبيّة ولديّ استعداد لأيّ شيء على ألّا أتراجع عن هذا الأمر، لأنّ لا مساحة للمناورة أو الحلول الوسط. وهذا كان نصّ الحديث. طبعاً الإخوان عندنا في الحزب لم يكن لديهم علم بهذه الأحاديث حتّى أنّ بعضهم دُهش لبلاغته.
الغريب يومها أنّه حتّى الصّحف المعارضة لنظام الجنوب في الخارج، المؤيّدة لعلي ناصر والرّابطة وجبهة التّحرير، كانت تهاجمني على اعتبار أنّ الفكرة ليست كاملة وغير واضحة، لكنّهم كانوا يقولون إنّ هذا دليل على انقسامٍ داخل الحزب في عدن، إذاً فجار الله عمر هو سبب الانقسام.
استمرّت الأحوال على هذا المنوال لبضعة أشهر إلى أن لاحت التّغيرات الدوليّة وخاصّةً في الدّول الاشتراكيّة. بدأت أحداث بولندا وراحت الأمور تتسارع والدّيمقراطيّة في موجتها الثالثة أخذت تنتشر أكثر فأكثر في العالم. لكنّ مشكلتي أنّ دعوتي لم يكن هناك من يدافع عنها في الخارج أو الصحف التي كانت تصدر في الخارج لأنّني كنت إنساناً مغموراً غير معروف. واليمن بلد متخلّف صغير غير مهمّ بالنسبة إلى العالم. لم يكن هناك انتشارٌ للفكرة في الصحف الخارجيّة وكان العديد من المثقّفين في الشّمال والجنوب المستقلّين غير متوقّعين أن تأتي هذه الفكرة من جار الله خصوصاً أنّ الإعلام قد أظهرني بعد أحداث يناير ١٩٨٦ في عدن كإنسانٍ محارب هو الذي قاد العنف ضدّ علي ناصر وجماعته. وكان هذا على خلاف الحقيقة. لم يكن هنا في صنعاء تعاطف معي حتّى من المثقّفين من خارج الحزب. ولم يكن هذا الكلام منتشراً في صحف عالميّة أو في العالم العربي.
لكن مع الوقت أخذتُ أخرج للحديث مع النّاس. وكانت واحدة من المصادفات أنّ العديد من الدّبلوماسيّين اليمنيّين السّفراء في الخارج عقدوا مؤتمراً لهم في عدن، وكان هناك يومها السفير عبد الله الأشطل وغيره من الدّبلوماسيّين الذين يعرفون تلك المتغيّرات. أثناء المؤتمر دعَوني كي ألقي محاضرة عن سياسة الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ في الدّاخل والخارج. وكانت بالنّسبة لي فرصةً كبيرة وثمينة لكي أطرح وجهة نظري. وتكلمت مع الدبلوماسيّين بلغةٍ جديدة غير مألوفة في قاموسنا الحزبيّ. ربطتُ في كلمتي بين أهمّيّة الديمقراطيّة وخدمة مصالح البلد. ودعوت إلى دبلوماسيّة جديدة ونهج دبلوماسيّ جديد في عالمٍ متغيّر. وكان الكلام مثيراً وجديداً بالنّسبة إليهم. الحقيقة أنّ الدّبلوماسيّين أثارهم الموضوع وشاركوا في المناقشات عن التّعدّديّة والدّيمقراطيّة. وسألتهم كيف سيكون بلدنا بلداً ديمقراطيّاً متعدّداً في نظر الآخرين؟ هل ستكون له مكانة كبيرة لدى البلدان التي تتواجدون فيها؟ فردّ الكثير منهم بنعم. ثمّ خرج أغلبهم إلى مجالس مختلفة كان أهمّها اللقاء مع ضبّاط وكوادر ووزراء الداخليّة، ودار النّقاش نفسه، وبدأ الحصار يتحلحل وبدأ الكثير من النّاس يتفهّمون، خاصّةً مع المتغيّرات العالميّة التي كانت تجري وبشكل متسارع.
هنا حصلت تطوّرات جديدة. الأمين العامّ المساعد سالم صالح محمّد، والأمين العامّ علي سالم البيض قاما بزيارات متعدّدة لبلدان أوروبا الشرقيّة. علي البيض زار بلغاريا وألمانيا والاتّحاد السوفياتيّ والتقى زعماءها ووصل إلى استنتاجٍ مفاده أنّ العالم الاشتراكيّ ينهار. وفي موسكو يتحول أو هو يتغيّر في أحسن الأحوال. بعدما خرجت الفكرة وأصبحت علنيّة مورستْ عليّ ضغوط كثيرة من داخل الحزب وبعض كوادر الحزب في الجيش كي أتخلّي عن الفكرة. «وإذا لم يتخلّ جار الله ويعتذر عمّا بدر منه يمكن أن نتّخذ ضدّه إجراء حزبيّاً». لكن خلال فترة الجدال تلك، وذلك المخاض العسير حصلتْ متغيّرات عديدة.
أوّلاً، كانت الأحوال تتدهور بسرعة في البدان الاشتراكيّة والدّعوات إلى الانفتاح والدّيمقراطيّة تزداد وشعوب تلك البلدان تتحرّك باتجاد الديمقراطية. وعلى الصعيد اليمنيّ تمكّنت أنا وبعض الإخوة الذين اقتنعوا بالفكرة من توضيح بعض الأفكار من خلال حضور بعض المؤتمرات: مؤتمر الدّبلوماسيّين في عدن، ومؤتمر ضبّاط الشرطة واجتماعات مع بعض ضبّاط الجيش. ووضّحت هذه الأفكار وكذلك المناقشات مع الوفود التي كانت تأتي إلينا إلى البيت وتطلب منّي التراجع عن الفكرة. وكنت أتناقش معهم، وقد اقتنع البعض أنّ الدّيمقراطيّة لا تتعارض مع الاشتراكيّة بل هي تؤصّلها وتجلعها أكثر شعبيّة وأكثر مشروعيّة.
العلّة في المركزيّة الديمقراطيّة
هنا قادة الحزب الاشتراكيّ وتحديداً الأمين العامّ علي سالم البيض والأمين العامّ المساعد سالم صالح محمّد وبعض أعضاء المكتب السياسيّ زاروا بعض البلدان الاشتراكيّة واطّلعوا على حقيقة الأمر ووجدوا أنّ الأوضاع تتغيّر بسرعة وأنّ المعسكر الاشتراكيّ إمّا ينهار وإمّا ينشغل كل بلد بوضعه وبحالته في أحسن الأحوال، وبعض البلدان تتصرّف كما يناسبها. وكان الأمين العامّ قد عاد من زيارةٍ لبلغاريا وألمانيا الديمقراطيّة وبعض البلدان الأخرى منها الاتحاد السوفياتي. بدأوا بما لديهم من معلومات يتساءلون أو يفكّرون عن الحل وكأنّ لديهم رغبة في تأييد الفكرة. لكن كانت الرّغبة والقناعة تصطدمان بتلك القناعات الإيديولوجيّة السابقة التي تقوم على الحديّة والمسلّمات. لذلك كانت الرّغبة لدى قيادة الحزب في التعامل مع الفكرة بالتدرّج. بالنّسبة لي، كنتُ أرغب في أن تأخذ الفكرة مجراها نحو النّقاش ومن ثمّ التّطبيق، لأنّ الزّمن كان يجري بسرعة وكنتُ أدرك أنّ التّأخير يضرّ بالتّجربة في الجنوب وأنّ المبادرة سوف تساعد الحزب والتّجربة في الجنوب على الخروج من الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة المتتابعة.
هنا أخذ بعض كوادر الحزب بتغيير وجهة نظرهم وتأييد الفكرة واتّخاذ موقفٍ محايد. وهذا كان بالنّسبة لي شيئاً إيجابيّاً. غير أنّ الجديد المؤثّر على الصّعيد الدّاخليّ هو ظهور بعض الكتابات الصّحافيّة الصّريحة والعلنيّة في صحيفة «صوت العمّال» تدعو إلى تأييد فكرة التعدّديّة وتشرح مضمونها وتدافع عن جار الله عمر صاحب الدّعوة. وكانت أوّل مقالة ظهرت في صحيفة «صوت العمّال» تدافع عن الفكرة بتوقيع فتاةٍ يمنيّةٍ مثقّفةٍ، وكانت هذه المبادرة من قبَل امرأة كان لها موقفٌ إيجابيّ وهي مستقلّة من خارج الحزب. تلتْ ذلك مقالةٌ أخرى من قبل أحد المحامين يدافع عن التعدّديّة الحزبيّة. وتراجعت الأصوات التي ترفض الفكرة، سواء داخل الحزب أو خارجه. أنا من جانبي كنتُ مستمرّاً في شرح فكرتي ولكنْ على قدرٍ كبيرٍ من الحذر والحصافة «الاتّزان غير المتهوّر». أتذكّر هنا أنّه حتى في المذكّرة التي دعوتُ فيها إلى التعدّديّة، راجعتُ بعض الأفكار وأجّلتُها بمقترحٍ من الأستاذ علي محمّد الصراري. كنتُ قد طرحتُ في المسوّدة الأولى أنّ مقولة المركزيّة الديمقراطيّة التي طرحها لينين هي سبب كلّ المشكلات وكلّ الإخفاقات في البلدان الاشتراكيّة والأحزاب الاشتراكيّة والشّيوعيّة لأنّ هذه الفكرة، أو المقولة، كانت تعني الالتفاف على الديمقراطيّة وإلغائها وإبقاء المركزيّة، وهي أدّت إلى انعدام الشفافيّة وإلى السيطرة الإداريّة وإلى خلق أحزابٍ إداريّة وإلغاء العمل المؤسّسي داخل الأحزاب واستبدالها بالأمين العامّ في نهاية المطاف والذي بدوره يلغي المكتب السياسيّ والمكتب السياسي يُلغي اللجنة المركزيّة واللجنة المركزيّة تلغي المجتمع وفي النهاية يبقى الأمين العامّ والذي يصدر القرارات إلخ. طلب منّي علي الصراري إلغاء هذا النّصّ من المذكّرة. لماذا؟ لأنّه ينطوي على خطرٍ كبير بالرّغم من أنّ الفكرة برأيه صحيحة ولكن ستكون مرفوضة داخل الحزب وستقابَل بردود فعل عنيفةٍ بالنّظر إلى المكانة التي يحتلّها لينين. ولينين مكانته تضفي عليها نوعاً من القداسة لدى الأحزاب الاشتراكيّة والشيوعيّة في العالم. اقترح تأجيل الفكرة إلى ما بعد. كما كنتُ أنا حريصاً في شرحي وتوضيحي أن أقول للحزبيّين إنّ الحزب قويّ والمعارضة ضعيفة، وأنّ لا خطر على الحزب وعلى الحكم، لذلك لا ينبغي الخوف من الديمقراطيّة ومن التعدّديّة. وساعدني في هذا الموضوع أنّ مذكّرة التعدّديّة نفسها لم تتحدّث عن تعدّديّة مطلقة بلا حدود، إنّها مقيّدة.
أمّا العامل الثّاني الذي ساعد على انسياب الفكرة من دون أن تتعرّض لمكروه فهو أنّ علاقتي الشخصيّة مع أعضاء الحزب وقيادته كانت علاقة جيّدة. ولم تكن لديّ ردود فعل تجاه النّاس الذين انتقدوني. كنتُ أتفهّم وجهة نظرهم وأعتبرها موقفاً سياسيّاً ووجهة نظر مشروعة تجاه فكرة هي جديدة علينا جميعاً. وأعترف هنا بأنّ معظم زملائي في المكتب السياسيّ واللجنة المركزيّة كانوا في مجالسهم الخاصّة وغير العلنيّة يدافعون عنّي، حتّى الذين كانوا ضدّ الفكرة كانوا يدافعون عنّي كشخص ويقولون إنّه ليست لديّ نوايا سيّئة، وإنّ نواياي حسنة. وفي إحدى المرّات ذهب الأمين العامّ إلى منطقة الضّالع، وهي من المناطق المهمّة في الكفاح ضدّ الإنكليز ولديها الكثير من الكوادر والقادة المدنيّين والعسكريّين، وعقد لقاءٌ مع أعضاء الحزب وضبّاط الجيش، وقال لهم إنّ الفكرة التي طرحها جار الله عمر هي وجهة نظر قابلة للنّقاش ومن حقّه أن يطرح وجهة نظره.
وفي بداية عام ١٩٨٩ تسارعَت التّغيّرات في تفكير أعضاء الحزب وقيادته. وعقد المكتب السياسيّ اجتماعاتٍ عدّة حول الموضوع. وبدأت تطرح فكرة الإصلاح الاقتصاديّ والاجتماعيّ الشّامل على بساط البحث. وكان بعض أعضاء المكتب السياسيّ يطرحون ضرورة الإصلاح الاقتصاديّ والانفتاح على رأس المال المحلّيّ وفي مقدّمتهم حيدر أبو بكر العطّاس وفضل محسن عبد الله والدكتور ياسين سعيد نعمان وآخرون.
النّفط يعيد طرح قضيّة الوحدة
بداية ذاك العام أبلغت بعض الشركات التي تنقّب عن النّفط في حضرموت عن اكتشاف كمّيّات تجاريّة من النّفط القابلة للاستثمار خلال أشهر. كان التّنقيب قد بدأ قبل فترة. وكان من ضمن الحقول المكتشفة حقل وادي جنّة في شبوة وهو على مقربة من الحدود بين الشطرين.
وبسبب هذا الاكتشاف حصل توتّر وتنازع بين حكومتَي صنعاء وعدن حول مستقبل الحقل النفطيّ وملكيّته. وبلغ التوتّر درجةَ حشد القوّات المسلّحة على الحدود بين الشّمال والجنوب. وكان هذا في العام ١٩٨٨، وقد اتّخذ المكتب السياسيّ قراراً بالتّفاهم مع حكومة صنعاء والعمل من أجل الوصول إلى حلّ سلميّ بشأن الحقل المذكور، ولو أدّى الأمر إلى الاستغلال المشترك للحقل برغم وجوده في أراضي الجنوب، وهذا يعني أن يكون موقف الجنوب مرناً إلى حدٍّ كبير برغم أنّه في أراضي دولة الجنوب. وهنا أدّى النّفط وظهوره في الجنوب ومشكلة النّزاع مع الشّمال والمتغيّرات الداخليّة والخارجيّة، إلى إعادة طرح قضيّة الوحدة على جدول أعمال الحكومتين في صنعاء وعدن ما دام هناك نفط فسوف يؤدّي إلى رفاهيّة أو حرب. ولا رفاهيّة إلّا بتوحيد اليمن. وقد أرسل فضل محسن عبد الله إلى صنعاء كما أرسل في أحيان أخرى صالح أبو بكر بن حسينون، وزير النفط حينها، رحمه الله. واستمرّ مندوبون بالتوجّه من عدن إلى صنعاء في رحلاتٍ مكّوكيّة للتفاوض حول النّفط. وقدّم الجنوب تنازلاً تعبيراً عن حسن نيّة ومن أجل السّلام، باستعداده لاقتسام المنطقة واستغلالها بصورة مشتركة. وتمّ الاتّفاق على حلّ مشكلة النّفط بالمشاركة بين الدولتين. وبدأت الشركات تنقّب. وبعد انخفاض التّوتر، انتقلت المفاوضات بين الشطرين إلى البحث في تحسين العلاقة وحصل انفراجٌ بين الشّمال والجنوب تمهيداً لبحث موضوع الوحدة من جديد بحسب الاتفاقيّات السابقة.
واتّفقت الحكومتان من خلال وزراء الداخليّة على إلغاء الحواجز بين الشّمال والجنوب والسّماح للأشخاص بالتّنقّل بحرّيّة بين الشّطرين عن طريق البطاقة الشخصيّة، وكذلك بحرّيّة نقل السّلع. وقد أتاح هذا الاتّفاق للمواطنين فرصة الزّيارات المتبادلة والاطّلاع على الأوضاع كما هي في الواقع، كما تبادل المصالح. وأدّى هذا إلى اتّخاذ قرارات جديدة تماماً. اتّخذ المكتب السياسيّ في عدن قراراتٍ أهمها قراران، قضى الأوّل بتغيير الخطاب السياسيّ للحرب تجاه الشّمال نحو الدّعوة إلى الانفتاح على بعضهما البعض وقبول الحلول الوسَط، وإقامة الوحدة اليمنيّة على أساسٍ سلميّ، ومراعاة المصالح بين الطرفين. وتجلّى تطبيق هذا القرار من خلال الخطابات التّي كان يلقيها الأمين العامّ علي سالم البيض الموجّهة إلى الشعب اليمنيّ وإلى القيادة في الشّمال.
أمّا القرار الثّاني فنصّ على تشكيل لجان حزبيّة وحكوميّة ضمّت سياسيّين وخبراء اقتصاد وعلماءَ وغيرهم، مهمّتها دراسة الأوضاع بشكلٍ عامّ وتقديم توصيات حول إصلاحٍ اقتصاديّ وسياسيّ وحول كيفيّة تحقيق الوحدة اليمنيّة بالتّعاون مع حكومة صنعاء وعن طريق الإقرار المشترك بالمصالح المتبادَلة. وقد أتاح هذا التطوّر الجديد على خلفيّة التغيّرات الداخليّة والخارجيّة الإقرار بأنّ الوحدة اليمنيّة لا يمكن أن تتحقّق بالقوّة. كنّا نعتقد في الماضي بأنّها حتماً ستتحقّق سلميّاً وعلى قاعدة الاعتراف بالمصالح المشترَكة وقبول كلّ طرفٍ للآخر.
كانت هناك لجنة حكوميّة برئاسة د. ياسين سعيد نعمان ولجنة حزبيّة برئاسة الأمين العامّ المساعد سالم صالح محمّد، ولجان أخرى من الخبراء وأساتذة الجامعات والخبراء الاقتصاديّين. وكان معظم أعضاء المكتب السياسيّ أعضاء في اللّجنة. وكنتُ أنا في اللجنة الحزبيّة والوزراءُ في اللجنة الحكوميّة، وكان علي البيض يُشرف على كلّ اللجان بوصفه الأمين العام للحزب الاشتراكيّ اليمنيّ. وبعد أربعة عشر شهراً من الدّراسة خلصت اللجان إلى مجموعة من التّوصيات مدوّنة في كتيّب، آمل أن نحصل عليه، ضمّ مجموعةً من التوصيات التي أقرّت ضرورة الإصلاح الاقتصاديّ والسياسيّ للنّظام بما في ذلك التعدّديّة السياسيّة وحرّيّة الصحافة. كما أقرّت التقدّم بمشروعٍ لتحقيق الوحدة اليمنيّة على مراحل تبدأ بالكونفدراليّة وتتصاعد إلى الوحدة الاندماجيّة الكاملة. طبعاً هذه التّوصيات من اللجنة أخذتْ وقتاً طويلاً حتّى قُدّمت إلى اللجنة المركزيّة وتمّ إقرارها.
التعدّديّة السياسيّة أم الوحدة أوّلاً؟
من جانبي أنا، وبرغم موافقتي على الإطار العامّ لعمل اللجان وإقرارها، كان رأيي يومها أنّ دولة الجنوب أو الحزب الاشتراكيّ في الدّولة في الجنوب لا بدّ من أن يسارع إلى تغيير نظامه السياسيّ وإعلان التعدّديّة السياسيّة قبل إقامة دولة الوحدة وتحقيق الانفتاح الداخليّ والخارجيّ على القوى السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة في الدّاخل والخارج قبل أن يذهب إلى تحقيق الوحدة لأنّه بهذا يؤمّن لنفسه دخول الوحدة وهو قويّ.
وعندما انتهت اللجان وقدّمت توصياتها بخصوص الإصلاح السياسيّ والاقتصاديّ وموضوع العلاقة مع شمال اليمن وقضيّة الوحدة، ظهرت آراء كثيرة جدّاً. البعض كان يطالب بالوحدة الفوريّة ووثيقة الإصلاح كانت تطرح الكونفدراليّة أوّلاً. وأذكر أنّ هناك ورقة مقدّمة من أعضاء في مجلس الشّعب الأعلى في الجنوب وقّع عليها نحو مئة عضو يطالبون فيها المكتب السياسيّ باتّخاذ خطواتٍ جادّة لتوحيد شطرَي اليمن. هذه كانت مبادرة من أعضاء في مجلس الشّعب الأعلى في عدن.
كان رأيي أنّ الأولويّة يجب أن تكون لتغيير النّظام السياسيّ في عدن من خلال قيام الحزب بثورة سلميّة على النّفس. وتبدأ المسألة بإدخال تغييرات دستوريّة على النّظام في عدن والقيام بانفتاحٍ سياسيّ واقتصاديّ واسعٍ في الدّاخل والخارج وتصفية مشكلة الخلافات السّابقة داخل الحزب وفي المجتمع وآثار الخلافات السّابقة، إعادة الاعتبار للنّاس الذين تضرّروا من الصّراعات السابقة ومن النّظام السّابق في الجنوب. أعني هنا أنّ الحزب في الجنوب يعيد تأهيل نفسه استعداداً للمهمّات المقبلة، وكذلك تصفية مشاكل الماضي ومن ضمنها ترسيم الحدود مع سلطنة عمان حيث كانوا قد قطعوا بها شوطاً كبيراً. وكان عبد الواسع سلام، الذي شغل منصب وزير العدل في دولة الوحدة لاحقاً، قد توصّل مع العمانيّين إلى اتّفاق شاملٍ من خلال اللجنة التي كانت تحت إشراف وزير الخارجيّة والأمين العامّ للحزب، لكن لم يجرؤوا على الإعلان عن الاتّفاق مراعاةً لشعور الإخوان في الشّمال حتّى لا يغضبوا، لكوننا شعباً واحداً.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.