تقنيات العمل السرّي
تميّز الحزب بقدراته في العمل السرّيّ وبجهازه الاستثنائيّ في هذا المجال. لهذا السبب لم يسجّل حدوث سوى عددٍ محدودٍ من الأخطاء. مرّةً واحدةً فقط انكشفت لنا مطبعة كانت موضوعة في أحد منازل الأشرفيّة. قام الأمنيّون يومها بملاحقة بائعي مخدّرات، فأجروا مسحاً على المنازل. عندما دخلوا أحدَها وجدوا للأسف رفيقاً عراقيّاً، كان نائباً في البرلمان خلال فترة الثلاثينيّات ومن زعماء «الحركة الوطنيّة» ثمّ انتمى إلى «الحزب الشيوعيّ»، كما كان لاجئاً سياسيّاً عمل في المطبعة على غرار الكثير من أمثاله ممّن هربوا من القمع في بلادهم ولجأوا إلى لبنان. سعتْ هذه الشخصيّات إلى ملء وقتها فعملتْ غالباً خلال النهار في الطباعة أو الكتابة أو الترجمة.
كانت هذه المطبعة الوحيدة التي اكتُشفتْ منذ تاريخ تأسيس الحزب في العام ١٩٢٥. صدرت صحفٌ سرّيّة ووُزّعت منشورات. صحيح أنّه تمّ اعتقال أشخاص أثناء قيامهم بتوزيع هذه المنشورات لكن لم تذهب الأمور أبعدَ من ذلك. يعود الفضل في هذه الميزة التي اكتسبها الحزب الشيوعيّ إلى منظّمة الحزب الأرمنيّة، ذلك أنّ الأرمن نقلوا تقاليد للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ لم تستفد منها باقي الأحزاب حيث لم تتوفّر لها في الأساس لأنّ الحزب الشيوعيّ كان الحزب اللبنانيّ الوحيد الذي ضمّ في صفوفه شيوعييّن أرمن. كانت هناك أحزابٌ أرمنيّة، إلّا أنّ الشيوعيّين الأرمن - البلاشفة دخلوا في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ ولم يُنشئوا حزباً خاصّاً بهم. تعلّم الشيوعيّون الأرمن اللغة العربيّة أفضل من الأرمن الذين تقوقعوا بعضهم على بعض.
حرص الأرمن على أن تتمركز البيوت المخصّصة للعمل السرّيّ في أحياء يسكنها أغنياء ولو كانت أعلى تكلفة، بسبب نمط حياة هؤلاء المختلف عنه لدى سكّان الأحياء الشعبيّة، فالأخيرة تعجّ بأشخاصٍ يعرف بعضهم بعضاً، يطلّون من النّوافذ، يدقّقون في هويّة الجار الجديد وزوّاره، كما أنّ شوارعها مليئة بالأطفال.
اخترنا على سبيل المثال «ڤيلاّت» كانت إحداها في منطقة حرج بيروت تملّكتها عائلةٌ بيروتيّة معروفة. وُضعت فيها مطبعة كبيرة وطُبعت فيها صحيفةٌ مؤلّفة من أربع صفحات كبيرة سُميت «في سبيل سلم دائم، في سبيل ديموقراطيّة شعبيّة»، وكان ذلك في أواخر الأربعينيّات من القرن الماضي بعد حلّ الكومنترن وتأسيس الكومنفورم. طُبعت هذه الصّحيفة لفترة، وقد قضى فرج الله الحلو جزءاً من وقته في ترجمتها بعد تعرّضه للاضطهاد وعزله عن العمل القياديّ. وعملتْ فيها أيضاً مجموعةٌ من الرّفاق الاستثنائيّين من الذين انعزلوا عن العالم بشكلٍ شبه كامل منهم الرّاحل عزيز صليبا وغسان الرفاعي. وعمل الاثنان لفترةٍ طويلة في العمل السرّيّ، ليس فقط في الكتابة والتصحيح بل كذلك في الطباعة وأصبحا من القادة في الحزب (أعضاء مكتب سياسيّ). وبدأت طباعة هذه الصّحيفة في هذه الفيلا وانتهت فيها لأنّ الموقع كان بعيداً عن البشر ولا يثير تساؤلات أحد.
يعود عدم حدوث خللٍ في العمل السرّيّ جزئيّاً إلى الاعتماد على عائلات أرمنيّة في فتح منازل ورعاية المقيمين فيها. على سبيل المثال، أنا تنقّلتُ في أكثر من منزل كان في أحدها سيّدةٌ وزوجُها وفّرا الأمان برعاية الأب والأمّ. وقدّمتْ كذلك بيوت عائلات شيوعيّة كثيرة خدماتٍ استثنائيّة للّذين جاؤوا من قادة وكوادر أحزاب شقيقة لاجئين إلى لبنان، فجرى تعزيزهم وتكريمهم. تمتّع خالد بكداش بهذه الخدمات إلى أبعد حدود، فهو أقام في بيروت بصورة شبه دائمة حتى عندما كان نائباً. عندما لم يكن هناك دورة لمجلس النواب، كان يأتي إلى بيروت ويفضّلها على دمشق.
عادةً في العمل السرّيّ، يفترض بالشخص التخفيف من علاقاته الاجتماعيّة قدر الإمكان حتّى إذا كان لديه كثيرٌ من المعارف. ويتوجّب عليه أحياناً قطع علاقاته ببعض الناس ليتوقّف هؤلاء عن زيارته أو التّعرّف إليه إذا ما رأوه في مكانٍ عامّ.
في ذلك الحين، اقتضت الضّرورة تغيير بعض الأماكن المُفعمة بالحركة، منها، على سبيل المثال، تلك التي تُعقد فيها اجتماعات لجنة مركزيّة أو اجتماعات القيادات المحليّة، الفرعيّة والمحافظات. ولم يكن من المفترض العودة إلى منزلٍ عُقد فيه اجتماع، الأمر الذي خلق مشكلةً على اعتبار أنّه يجب استخدام العديد من المنازل. في وثائق اطّلعتُ عليها، هي عن مذكّراتٍ أعدّها أولاد فريد شهاب عن والدهم حين كان المدير العامّ للأمن العام، والمسؤول حينها عن مكافحة الشيوعيّة طوال سنوات عديدة، تبيّن لي أنّ الاختراقات الأمنيّة كانت نادرة الحدوث وأنّ معظم التقارير عن نشاط الحزب ملفّقة وكذلك المعلومات عن تركيب المكتب السياسيّ واللجنة المركزيّة والمواقع الحزبيّة الأخرى. حتى التقارير التي تدّعي معرفةً بتنظيم الحزب وأساليب عمله كان معظمها ملفّقاً. كان الّذين يتخاذلون لدى توقيفهم أو في السّجون فيدلون بمواقعَ وعناوين وأسماء، يستبعدون فوراً وتتغيّر العناوين والأسماء، والّتي كانت في أغلبها أسماء سرّيّة على كلّ حال. ويوُضع المعتقلون الشّيوعيّون تحت رقابةٍ حقيقيّة [من الحزب بعد إطلاق سراحهم]. وتتّخذ التدابير الفوريّة لتبديل المنازل التي يعرفها المعتقل ولتغيير ما أمكن تغييره ممّا يعرف من عمل الرفاق، مهما بلغ وضع ذلك المعتقل أو موقعه وسمعته.
قد يكون الخرق الوحيد الخطير في عملنا السرّي هو الذي أدّى إلى القضاء على فرج الله الحلو، والمتمثّل بخيانة رفيق رضا وتسليمه للمخابرات التي قتلتْه تحت التعذيب في دمشق في عهد الوحدة مع مصر ومرحلة السعار في معاداة الشيوعيّة.
دّور آرتين مادايان التأسيسيّ
يرجع الفضل في عملنا الدقيق والناجح في المراحل السرّيّة والمراحل العلنيّة في ذلك الوقت للأرمن وتحديداً لآرتين مادايان، أحد مؤسّسي الحزب، صاحب الدور الفعليّ في تنظيم هذا العمل وقيادته. أعتقد أنّ تكوينه لعب دوراً أساسيّاً. كان في البدء طالباً في اسطنبول وأعتقد أنّه امتلك تجربةً حزبيّة سابقة، وكان آرتين على صلةٍ بالبلاشفة قبل أن يأتي إلى لبنان حيث درس الطبّ في الجامعة اليسوعيّة واعتُقل أثناء الثورة السوريّة، وحُكم عليه بالإعدام إلى جانب فؤاد الشّمالي وشقيقه نسيم الشّمالي. هكذا انتهتْ علاقة آرتين بكلية الطبّ لأنّه سُجن في قلعة قدموس وبقي فيها ثلاث سنوات. والقلعة موجودة في جبال العلويّين وكان فيها إلى جانب زعماء الكتلة الوطنيّة في سورية، وقد تنقّلوا بين معتقلات عديدة، منها جزيرة أرواد. أخبرني آرتين أنّه ترك في قلعة قدموس رسالةً منه ومن فؤاد الشّمالي وشقيقه نسيم الشّمالي على اعتبار أنّهم قد يعدَمون. أخبرني أيضاً أنّهم بعد كتابة الرسالة وضعوها في قنّينة ثمّ حفروا حفرةً وخبّأوها في زاوية أحد الجدران.
استمرّت هذه التقنيّات في العمل السرّيّ، والّتي يعود الفضل فيها للأرمن، حتى الحرب الأهليّة. لعب الشيوعيّون الأرمن دوراً مميّزاً في تاريخ الحزب الشيوعيّ وقدّموا عدداً وافراً من الشهداء في مراحل عديدة. وسبق أن ذكرتُ عندما تطرّقت إلى الذين توجّهوا إلى الشّوف خلال أحداث العام ١٩٥٨، أنّ الثّلثين منهم كانوا من الأرمن. هذا التاريخ المجيد عند الشيوعيّين الأرمن أصبح من الماضي. ليس لدى الحزب حاليّاً منظّمة أرمنيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. وجودُه بين الأرمن أقلّ من قليل. طالت هجرةٌ أرمنيّة كبيرة حتى الشيوعيّين الأرمن. امتلك الشّيوعيّون وجهتين للهجرة: أرمينيا والولايات المتّحدة.
حضرتُ في السنوات القليلة الماضية أكثر من مأتم داخل أحياء أرمنيّة كان الشّيوعيّون فيها كثراً إن لم أقلّ الأكثريّة، منها حيّ خليل البدوي وحيّ كامل هاجين. في آخر مأتمٍ حضرتُه لرفيقٍ مهندس أرمنيّ منذ حوالي السّنة، تعجّبتُ للعدد القليل من النّاس في كنيسة خليل البدوي. سألت أحدَ الرّفاق فأجابني: أين تعيش؟ ما تبقّى من العائلات الأرمنيّة ومنها العائلات الشيوعيّة لا يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة. الهجرة وغلاء الأرض في أطراف الأشرفيّة، وزّعتْ أرمن هذه الأحياء بين المهاجرين، ومن لم يهاجر باع بيته واشترى في أحياء بعيدة مساكنها رخيصة.
تعرّضت المنظّمة الأرمنيّة للضّرب لألف سببٍ وسبب لكنّها كانت منظّمةً قويّة. شخصيّاً، عملتُ على سبيل المثال لفترةٍ خلال العام ١٩٥٩ بعد الحربٍ الأهليّة الأولى في الأشرفيّة وضواحيها، داخلَ الأحياء التي تسكنها أكثريّة مسيحيّة. بلغ عدد أفراد المنظّمة التي عملت معها أكثر من أربعمائة شخصٍ من العائلات المسيحيّة العربيّة، وما يوازي هذا العدد من الأرمن إلى عددٍ وفير من الشيوعيّين بين الوافدين الذي أقاموا في حي الوادي المطلّ على الكورنيش، هذا بالإضافة إلى أرمن برج حمّود والأشرفيّة. كذلك انتشر الأرمن في أحياء بيروتيّة عديدة منها البور والوتوات. سكن هذا الأخير حوالي ثلاثين ألف أرمنيّ. اليوم لم يعد أحد أو بالكاد. وتمّ هدم نادي الإنترانيك الرياضي الأرمني.
لا أعتقد أنّ في لبنان عائلة لم ينتسب أحد أعضائها إلى الحزب. تواجد هذا الأخير في جميع أحياء المجتمع وجميع القرى والبلدات. تواجد في الوسطين الأورثوذكسي والماروني بوفرة، في جميع مدن وقرى جبل لبنان، وأيضاً في المناطق ذات الأكثريّة الكاثوليكيّة: زحلة، مشغرة، رأس بعلبك والقاع. وفي الوسط الشّيعي تواجد بقوّة وكذلك فعل في طرابلس وعكّار والأقاليم والبقاع. وعُرف عن الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ أنّه حزبٌ علمانيٌّ وطنيّ عابرٌ للطّوائف والمناطق، وقد بلغ عدد المنتسبين إليه بعيد المؤتمر الأوّل في مطلع العام ١٩٤٤ عشرين ألف شخص.
الوحدة والخلاف مع عبد النّاصر
تطوّرت الظروفُ في سورية بعد إسقاط آخر الديكتاتوريّات السّابقة للوحدة. حصلت تغييراتٌ في الجيش السوري بعد اغتيال عدنان المالكي أدّت إلى وصول ضبّاطٍ شيوعيين وأصدقاء لهم إلى قيادة الجيش والمواقع الهامّة فيه. تصدّت المقاومة الشعبيّة الواسعة إلى جانب الجيش على طول الحدود مع تركيا للأحلاف الاستعماريّة والتّهديدات التركيّة الجدّيّة على الحدود الشماليّة، وكان للشيوعيّين دورٌ مميّزٌ بها. لبّى هؤلاء الضبّاط مع زملائهم في حزب البعث خصوصاً طموحات عبد النّاصر بإقامة وحدةٍ بين مصر وسورية.
ربطتني معرفةٌ شخصيّةٌ بثلاثة من هؤلاء الضبّاط بينهم عفيف البزري الذي كان قريباً جدّاً من الحزب الشيوعيّ. بقيت على تواصل مع البزري ولقاء عندما جاء إلى لبنان وعمل مع المقاومة الفلسطينيّة. وثاني هؤلاء الثلاثة يُدعى أحمد عبد الكريم وهو ما زال على قيد الحياة. والتقيتُ قبل أكثر من شهرين في مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت بعبدو، نجل رفعت الكردي الذي كان وزيراً للاتّصالات [في سورية، ممثّلاً الحزب الشيوعيّ السوري]. أخبرني عن زواجه من ابنة أخ أحمد عبد الكريم وقال إنّ الأخير يقيم في بلدته حوران، كما أخبرني أنّ منزله صار مزاراً بعد تحوّله إلى مرجع بسبب اتّخاذه موقفاً علنيّاً ضدّ النظام وبسبب صعوبة التعرّض له.
التقيتُ هؤلاء الضبّاط الثلاثة مراراً بعد الوحدة. أخبروني كيف ذهبوا إلى مصر زعماء لسورية وطلاب وحدة، ليتحوّلوا لاحقاً إلى وزراء مركزيين لم يُمنحوا أي سلطة. يذهبون إلى المكتب ومنه يعودون. تبع الوزراءُ الإقليميّون الذين تحت سلطتهم مباشرةً لعبد النّاصر. أمّا هم فتمّ إهمالهم بشكلٍ كاملٍ ووضعوا في شبه إقامةٍ جبريّة.
خافت البرجوازيّة السّوريّة من تطوّر الحركة الشعبيّة وازدياد نفوذ الشيوعيّين والبعثيّين. أقبل البعثيّون حينها على الوحدة أيضاً انطلاقاً من عقيدتهم القوميّة: أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة. أمّا الشيوعيّون فكانوا من صنّاعها وذلك من خلال الضبّاط الموالين لهم. أراد الجميع الوحدة، لكن أيّ وحدة؟ اندماجيّة أم اتحاديّة؟
ما أعرفه أنّ الشيوعيّين ألحّوا على وحدةٍ اتحاديّة تأخذ بعين الاعتبار الظروفَ الموضوعيّة في كلٍّ من البلدين، وكذلك مستوى الحياة السياسيّة وقوّة الأحزاب ووجودها التاريخيّ . شكّل موقف الشيوعيّين هذا صّدىً لموقف الحزب التاريخيّ من الوحدة العربيّة ودعْوته إلى تحقيقها على المستوى الوطنيّ العربيّ. كان عديد الحزب الشيوعيّ ونفوذه كبيرين في سورية، لذا من الطبيعي أنّه فكّر بطبيعة الوحدة بين بلدٍ كبيرٍ كمصر وآخر صغير كسورية، مع الانتباه إلى الفوارق بين البلدين.
في مصر حينها، تمّ احتكارُ الحياة السياسيّة من قبل تنظيم رسميّ فوقيّ، فيما قبع الشيوعيّون وبقيّة الأحزاب في السّجون. لذلك خاف الشيوعيّون السوريّون من الوحدة الاندماجيّة. وقد برّرت الحياةُ خوفهم، فقد تمّ القضاء على الحياة السياسيّة وحُلّت الأحزاب وامتلأت السجون بالمناضلين الشيوعيّين.
أعلن شكري القوتْلي الوحدة الاندماجيّة. لم يفعل ذلك الضّباط كما أنّهم لم يعترضوا عليها.
في الواقع، تناولت المحادثات نظام حكم شبه اتّحادي، من حكومة مركزيّة وحكومتين إقليميّتين، وكذلك المجالس. لكنّ ما حصل على أرض الواقع كان خلاف ذلك تماماً. الحكومة المركزيّة التي ضمّت الضبّاط الذين رافقوا شكري القوتلي [إلى مصر لمفاوضات الوحدة] وُلدت ميتة ووُضع وزراؤها في شبه إقامةٍ جبريّة في القاهرة ومُنعوا من زيارة سورية. وفي الواقع، تمّ تعيين المشير عبد الحكيم عامر حاكماً عسكريّاً مطلق الصلاحيّة في سورية.
على الرغم من ذلك لم يطالب الشّيوعيّون بالانفصال بل بإعادة النّظر بالأساس في طبيعة الوحدة. من أسقط الوحدة هي البرجوازيّة السوريّة ومن تآمر هو حزب البعث. أمّا الحكومة الانفصاليّة فقد منعت خالد بكداش من العودة إلى سورية بعد الانفصال. ينبغي أن يُعرف التّاريخُ على حقيقته.
عمل عبد النّاصر على حشد الجماهير، كفّر أمامها الشّيوعيّة والشيوعيّين في الوقت الذي كانت فيه الرجعيّة السوريّة وحلفاؤها القوميّون (البعث خصوصاً) يعملون على الإطاحة بالوحدة، وقد نجحوا للأسف الشديد.
موقف الحزب المرتبك من الوحدة
في البداية، برز موقف الحزب من الوحدة واضحاً لكنّه سرعان ما ارتبك عند إعلانها بالشّكل الذي أعلِنتْ فيه. كان من المفترض أن يكون الحزب متّفقاً مع ضبّاطه على التّوجّه نحو إقامة وحدةٍ اتّحاديّةٍ لا اندماجيّة، وقد نشطوا في ذاك الاتجاه. وأعتقد أنّ خالد بكداش لم يعارض الوحدة لأنّه كان صاحب القرار عند اتّخاذه.
ليلة إعلان الوحدة لاحظتُ الارتباك على وجه فرج الله. كنت حينها في مطبعة جريدة «النّور» عند منتصف الليل. ذهبتُ إلى دمشق عن طريق طرابلس. لم أعد أذكر لماذا ذهبتُ عن طريق الشّمال وما إذا حصلت مشكلةٌ في ذلك الحين على الحدود بين لبنان وسورية. ما أذكره فقط أنّي ذهبتُ عن طريق حمص. حين وصلتُ إلى الحدود سمعتُ عبر الراديو شكري القوتلي يقول «هذا اليوم التاريخيّ العظيم». أعلن القوتلي الوحدة وأنا أقف تماماً على الحدود. توجّهتُ مباشرةً إلى دمشق وإلى مطبعة «النور» لرؤية كريم مروّة، ذلك أنّ مكتب التحرير موجودٌ إلى جانب المطبعة. وكريم كان قد توجّه قبل بضعة أشهر، بناءً على اقتراح فرج الله، للعمل في الجريدة. وقد سأل عنه فرج الله في وقتٍ سابقٍ خلال زيارتنا إلى دمشق وأخبرناه حينها أنّه بعدما عمل مع اتّحاد الشباب الديمقراطي العالمي عاد وتسجّل في الجامعة وهو يقوم بالتّدريس في شمسطار. أقام كريم ثلاثة أشهر في سورية وعمل في جريدة «النّور». ولأنّ سورية في ذلك الحين كانت قد خرجت حديثاً من الدّيكتاتوريّة ولم تتوافر فيها البنية التّحتيّة، كان جميع العاملين في الجريدة، الذين يجمعون الأحرف ويطبعون على الماكينات، من رفاقنا اللبنانيّين.
سيطر الارتباك في تلك اللحظات على العمّال بسبب عدم استلامهم الافتتاحيّة ليُعرف من خلالها الموقف. وبينما أنا أنتظر كريم لمعرفة موقفهم، وصل فرج الله حاملاً الافتتاحيّة. أشرف على عمليّة صفّها بسبب كثرة التّشطيب والتعديل التي أدخلت عليها. من قام بالتّشطيب؟ لا أتصوّر أنّ فرج الله وحده من قام بذلك، أعتقد أنّ مجموعةً بكاملها ضلعتْ بهذه العمليّة، أقلّه ثلاثةٌ منهم: خالد ونقولا وفرج الله، ذلك أنّ هؤلاء كانوا القادة الفعلييّن في الحزب.
بدا الارتباك في الافتتاحيّة: مع الوحدة وإنّما، والـ «إنّما» غير واضحة. أُعلنت وحدة اندماجيّة فوراً، ولم يريدوا أخذ موقفٍ حادٍّ منها، لكنّهم في الوقت نفسه أرادوا تمرير رسالةٍ مفادها أنّ الوحدة الاندماجيّة لن تنجح. هذا هو سبب الارتباك. خرج كلامٌ إنشائيّ من دون معنى، يهرب عبره المرء من قول القضيّة بصراحة. حدث هذا الأمر لأنّ الموضوع أربك الحزب. أنا متأكّدٌ أنّ الحزب توقّع وحدةً اتّحاديّة - كونفدراليّة أو فدراليّة - لكنّه لم يتوقّع وحدةً اندماجيّة، ولهذا السّبب فوجئوا بالإعلان كما فوجئ الضّباط. على الأقلّ، هكذا حدّثني عفيف البزري. قال لي إنّهم فوجئوا لأنّهم لم يذهبوا إلى مصر على هذا الأساس، لكنّ عبد النّاصر وضعهم تحت الأمر الواقع بضغطٍ من البعثيّين ومن بينهم أكرم حوراني. وممّا قاله البزري كذلك «وُضعنا تحت الحراسة مباشرةً. قبعنا بين منازلنا والمكاتب لا نتحرّك إلّا برفقة أحد الأشخاص».
وعلى الرّغم من ارتباك الحزب، لم يتّخذ موقفاً، وقد سار الشيوعيّون فيما بعد بالأمر خصوصاً لعدم وجود اضطهادٍ فيه. لكنّ خالد بكداش عبّر عن رفضه للوحدة الاندماجيّة من خلال سفره إلى موسكو وتغيّبه عن الجلسة البرلمانيّة التي كان يفترض أن تتمّ فيها الموافقة على الوحدة الاندماجيّة.
شهدتُ على عودته من موسكو. عندما فعل كتب البنود الثلاثة عشر وأطلعني عليها. يومها التقيتُ بحسين مروة ومحمّد دكروب في دمشق. قالا لي إنّهما يريدان الذّهاب لزيارة بكداش. عرفتُ خالد جيّداً. لطالما زرتُه في منزله بحيّ الأكراد، ذاك الذي خصّصه للزّيارات من دون موعد مسبق. والد خالد كان ضابطاً كبيراً في الجيش التركيّ، وكان منزله قديماً واسعاً مصنوعاً من الطّين، يحوي ساحةً كبيرة تتّسع لإقامة مهرجان، وهو ما زال حتّى اليوم على حاله. على عكسي، لم يكن حسين مروّة ومحمّد دكروب يعرفان خالد مسبقاً. أرادا رؤيته للمرّة الأولى. ولأنّ غياب خالد كان كثيراً ووضعُه في الغالب سرّيّاً، تكفّلتُ بإيصال الرّجلين إليه.
لم أكن قد التقيتُ خالد منذ مدّة، تحديداً منذ أيّام الثّورة في العام ١٩٥٨. لدى توجّهنا للقائه، كانت أصداء عملي بالثورة قد وصلته. رحّب بي، وقال «أهلاً رفيق جورج رفعت لنا رأسنا». شرحتُ له أنّني أتيت بلا موعد لأنّ حسين ومحمد يريدان رؤيته. كان يعرف عنهما من دون أن يكون قد رآهما سابقاً. في ذلك الوقت، كان محمّد يتولّى إصدار «الثقافة الوطنيّة» وحسين لم يكن يحتاج إلى تعريف.
أثناء جلوسنا، قال خالد إنّه يفكّر بإصدار بيانٍ يقول فيه إنّه لا بدّ للوحدة من إصلاح. وأخبرنا أنّه كتب البنود الثلاثة عشر التي قرأها لنا عن ورقةٍ تحوي الكثير من التّشطيب مكتوبة بخطّ يده. لذلك، يمكنني القول إنّني ودكروب ومروة أوّل من قرأ هذه البنود حتى قبل فرج الله ونقولا.
أهمّ ما حوتْه تلك البنود اعتبار أنّ الوحدة انحرفت وينبغي أن يعاد النظر فيها من الجذور، إلى جانب حديث عن الديمقراطيّة والاحتكارات المصريّة، وتصرّف المصريّين مع السوريّين كمستعمرين لمستعمرة على غرار ما كانت تفعل فرنسا، لكنّ خالد لم يستخدم لفظة «مستعمر» بل تحدّث عن «هجمة رأس المال المصريّ». كما دعا خالد إلى العودة للفدراليّة، واعتبر أنّ الوحدة بصيغتها الحاليّة ستعيد النظام الرجعيّ إلى سورية، وقال إنّ كلّ مكاسب سورية التي تحقّقت منذ العام ١٩٥٤ مهدّدة بسبب تصرّفات الوحدة وتصرفات المصريّين. وحوَت بنودُه مآخذ كثيرة على المصريّين، تحديداً الضبّاط منهم، لأنّهم يتصرّفون كسادة، والآمر الناهي لديهم هو المشير عبد الحكيم عامر.
تسبّبت البنود [التي أصدرها خالد بكداش] بتشديد الحملة على الشيوعيّين، ذلك أنّها شكّلت صوتاً مخيفاً في سورية يدعو إلى إعادة النظر في أساس الوحدة، وهو ما عنى رفض الوحدة عمليّاً كما كان يريدها ويمارسها عبد النّاصر والمصريّون. صحيح أنّهم دفعوا ثمنها لكن دفع ثمنها المصريّون كذلك. وقد دفعت البنود عبدَ النّاصر إلى إلقاء خطابه الشهير في الإسكندرية الذي هاجم فيه الشيوعيّة، الأمر الذي فتح المجال لإرهابٍ لا مثيل له في مصر وسورية ضدّ روّادٍ من الرّفاق الذين صمدوا، وهم كثرٌ منهم رياض الترك. أخذوا يرمون الترك في البحر ثمّ يعيدون التقاطه وقد أدخلوا رأسه في كيسٍ لدفعه إلى الاعتراف، لكنّه صمد. سُجن رياض لثلاث سنوات في عهد عبد النّاصر وسبع عشرة سنة في عهد حافظ الأسد، أي إنّ مجموع السنوات التي قضاها في السجن هو عشرون سنة. كما تعرّض للاعتقال بضعة أشهر أيّام بشار الأسد. ومن بين الذين صمدوا أيضاً مراد القوتلي وهو ابن عائلة كبيرة، جدّه لأمّه هو عبد القادر الجزائري.
صمد معظم الشّيوعيّين ما عدا قلّةً متخاذلةً منهم. وباعتقادي أنّ من تخاذلوا هم الذين هربوا. للأسف هرب كلّ كبار أعضاء اللجنة المركزيّة وجاؤوا إلى لبنان. وهذا ما جعل فرج الله يتحمّل أعباء كلّ ما كان يجري في سورية، وما جعل اللبنانيّين يلعبون دوراً أساسياً مثلي ومثل كميل مجدلاني وسوانا. بالإضافة إلى عملنا مع فرج الله كنّا نوزّع المناشير في سورية ونقوم بإيصالها إلى المعنيّين. استخدمنا سياراتنا لذاك الغرض. كان هناك بضعة أشخاص نلتقي بهم في أماكن محدّدة ونقوم بتسليمهم المناشير لتوزيعها. تُكتب المناشير وتُطبع في بيروت ثمّ ننقلها إلى سورية للتّوزيع. في بعض الأحيان تولّى لبنانيّون مقيمون في سورية أو يتردّدون من لبنان على سورية توزيعَ تلك المناشير، ذلك بسبب سيطرة حالٍ من الرّعب والذّعر والانهيار على الشيوعيّين السوريّين. وقد سيطرت تلك الحالة بعدما فوجئ الشيوعيّون السوريّون بالحملة العنيفة ضدّهم خصوصاً أنّ معظم القيادات خرجت من سورية. في ذلك الوقت لم يكن أحدٌ من أعضاء في اللجنة المركزيّة من السوريّين في سورية. كانوا في بيروت أو في موسكو. كان يوسف فيصل في بيروت، وأنا اهتممتُ به داخل بيتٍ سرّيّ.
إلقاء القبض على فرج الله
بعدما انتهتْ مفاعيل «رسالة سالم»١ سيّئة الذّكر وأعيد إليه الاعتبار، كان فرج الله يقيم في دمشق، وذلك بعد سقوط ديكتاتوريّة الشّيشكلي وعودة الحياة إلى البرلمان كما إلى سائر الأعضاء البارزين في قيادة الحزب. عمل فرج الله على إصدار جريدة النّور اليوميّة، وكان المسؤول الفعليّ عن سياستها. واستمرّ مقيماً في دمشق برغم تردّده على بيروت.
ولمّا قامت الوحدة، ظلّ فرج الله المسؤول الوحيد من قيادة الحزب في دمشق مسؤولاً عن الحزب في سورية بعدما غادر معظم الكوادر السوريّين إمّا إلى السجون أو إلى المنافي وخصوصاً لبنان. وكان من الطّبيعيّ أن يبقى أحد القادة في سورية، إمّا خالد أو نقولا أو فرج الله. وقع الاختيار على فرج الله. وفي هذا الإطار أريدُ أن أنفي نظريّة المؤامرة وسوء النّيّة لأنّها غير صحيحة وأرى أنّ من روّج لها كاذب، ففرج الله هو من طلب البقاء لأنّه كان المسؤول والمطّلع على شؤون التنظيم وكلّ تفاصيل الحياة الحزبيّة في سورية، وليس خالد هو من اقترح ذلك للتخلّص منه.
في ذلك الوقت بدا خالد بكداش قلقاً جدّاً على فرج الله، بعَث رسالة من موسكو تدعو إلى ضرورة رحيل فرج الله عن دمشق فوراً لوجود خطرٍ جدي عليه. وهو ما أكّده لي نقولا الشاوي ويوسف فيصل. بلغ هذا الأمر فرجَ الله فقدم إلى لبنان. ووفقاً لما يرويه يوسف فيصل ونقولا، فإنّ هذا الأخير وآرتين انفردا بفرج الله وبحثا معه رسالة خالد وسألاه عنها. عندها اعترف فرج الله بأنّ الوضع قد أصبح خطراً، لكنّه أكّد في الوقت نفسه أنّه لا يستطيع عدم العودة إلى سورية بسبب ضرورة تأمين استمرار بعض الصّلات على أن يكون ذلك آخر مشوارٍ له إلى سورية. وكان هذا بالفعل المشوار الأخير لفرج الله الذي أودى بحياته.
كلّفتُ بالتنقّل بين بيروت ودمشق لتأمين الصلة بفرج الله ونقل رسائل مكتوبة وأخرى شفهيّة له ومناقشته حول بعض القضايا وأخذ رأيه. وفي بيروت اقتصرت صلاتي واتصالاتي حول هذا الموضوع على نقولا وآرتين.
توليتُ نقل مطبوعاتٍ إلى فرج الله. نقلتها بالسيّارة نفسها التي نقلْت فيها السّلاح. أمّا الرسائل، سواء تلك التي كنت أنقلها له بعد نقاشٍ مع آرتين ونقولا أو تلك التي كنت أنقلها منه وأتناقش معه فيها، فكانت شفهيّة. في بعض الأحيان، عندما لم يكن الوضع الأمنيّ مخيفاً والمكان يسمح لنا، كنّا نتناقش لنحو ساعة من الزمن. أكثر ما التقينا كان إمّا في منازل سرّيّة أو في الطّرقات.
في إحدى المرّات توجّهتُ إلى دمشق للقاء فرج الله. أعطاني ثلاثة مواعيد مختلفة المكان والزمان ليلتقيني وأسلّمه أشياء وأتسلّم منه أخرى ونتحدّث معاً. توزّعت المواعيد الثلاثة على أوقاتٍ مختلفة من النّهار: موعد قبل الظّهر وآخر بعده والثّالث في المساء. توجّهتُ بالسّيّارة، وكان عليّ أن أتجوّل بين الموعد والآخر بانتظار أن ألقاه.
كان بالإمكان الجلوس لبعض الوقت في القهوة، إلّا أنّ الوضع الأمنيّ كان بوليسيّاً، فرجال الأمن يتجوّلون في كلّ مكان.
لم يأتِ إلى أيٍّ من مواعيد قبل الظّهر أو بعده. قضيتُ الوقت متنقّلاً منذ الصّباح بانتظار موعد المساء وكان عليّ العودة إلى بيروت لأنّ بقائي في دمشق يزيد المخاطر.
وبينما أنا أتنقّل، مررت أمام مطعمٍ يُدعى «مطعم الريّس»، صاحبه لبنانيّ ويقع بالقرب من فندق الشّام حيث توجد ساحة وفي وسطها تمثالٌ لفلّاح. خلال مروري بالسّيّارة بالقرب من المطعم، لفت نظري اقتراب سيّارتين اصطفّتا قرب بعضهما البعض على طريقة الاستخبارات. فُتحت أبواب السيّارتين معاً ونزل منها شبّان وبنات. رأيت بينهم رفيق رضا.
عرفتُ رفيق رضا عن قرب ولزمنٍ طويل يوم كنت أتردّد على جريدة «الصّرخة» في بيروت وكان من المشرفين عليها. عاش رفيق فترةً في فرنسا بالـ «سكسيون كولونيال» («شعبة المستعمرات» التابعة للحزب الشيوعيّ الفرنسيّ وتضمّ مندوبين للأحزاب الشيوعيّة في المستعمرات والبلدان الواقعة تحت الانتداب). كان رفيق صاحب خبرة واسعة، ومسؤولاً حزبيّاً مثقّفاً. عرفْته لحظة رأيته يترجّل من السيّارة، عرفته من ظهره وحركته وكذلك من صوته. عندما التقيتُ فرج الله مساءً بين السّاعة السّابعة والسّاعة الثّامنة أخبرته بما رأيت. أجابني بأنّ الأمر مستحيل برغم تأكيدي على ذلك. قال إنّ النّاس تتشابه، مضيفاً: شُبّه لك.
لم يقتصر الأمر على رفيق رضا. أثناء تنقّلي خلال النّهار سيراً على الأقدام، صادفتُ زوج ابنة خالي المولودة في الاسكندريّة والمتزوّجة في دمشق. وزوجها موظّفٌ في شركة الكهرباء والمفوضيّة الفرنسية العليا سابقاً. عندما رأيته ارتعب ورمى نفسه بين السّيّارات التي كادت تصدمه، كي يصل إلى الرّصيف الثّاني. أخبرتُ فرج الله أيضاً بذلك وأكّدت له وجود حالة من الرّعب بين السوريّين.
هنا ربّما شعر فرج الله بحاجتي إلى التشجيع فألقى عليّ محاضرةً عن صمود الشّعب السوريّ وأهميّته، معتبراً أنّ زوج ابنة خالتي لا يعكس الحالة الفعليّة لأهل دمشق. ساعد فارق السّنّ بيننا على إلقاء دروسٍ عليّ، ذلك أنّ فرج الله كان يبلغ حينها من العمر حوالي خمسةً وخمسين عاماً بينما كنتُ أنا في التاسعة والعشرين. لكنّه بدا في الوقت نفسه خائفاً من أن أكون قد تأثّرت من حال الرّعب التي شاهدتها.
بعدما تناقشتُ مع فرج الله وعدتُ إلى بيروت في تلك الرّحلة الأخيرة إلى دمشق، ظهرتْ مانشيت في «النّداء» عن اعتقال رفيق رضا في العاصمة السوريّة. استمرّت الحملة في الجريدة لثلاثة أو أربعة ثمّ توقّفت. لم يتحدّث الحزب عن الموضوع. عرفت وقتها أنّه أصبح هناك شكّ في رفيق رضا. في الحقيقة أخطأ فرج الله لأنّه كان على علمٍ أنّ رضا يعرف ببعض صِلاته، أي الأشخاص الذين ارتبط بهم وقاموا بتأمين خدماتٍ له. ولم يعلم فرج الله أنّ «بوحبلة» اعتُقل. وبوحبلة رفيقٌ من ضمن مهمّاته تأمين المنازل السرّيّة لفرج الله ومرافقته. أدّى اعتقال رفيق رضا إلى اعتقال بوحبلة، الذي لم يكن شخصيّة معروفة بل كُلّف فقط بخدمة فرج الله وكان من بين الأشخاص الذين يعملون دائماً «تحت الأرض».
تعاون رفيق رضا مع الشّرطة فور اعتقاله. وقد تأكّد فيما بعد أنّه قد تعاون مع الشرطة من قبل. حينها كان رفيق رضا في حوالي الخمسين ومتزوّجاً من شابّة في العشرين من عمرها. وبحسب ما قيل، ابتزّوه بزوجته. عندها ربطتُ بين رؤيتي له في دمشق مع الشابّات الصغيرات، أي أنّه كان برفقة زوجته وجماعة الأمن ممّن يتعاون معهم.
عندما تعاون رفيق رضا مع الشّرطة أخبرهم أنّهم إذا ما كانوا يريدون الوصول إلى فرج الله فما من وسيلة لذلك سوى بوحبلة. اعتقلوا الرجل، فلم يصمد كثيراً كما فعل غيره نظراً إلى أنّه لم يكن كادراً مجرّباً ولم يتصوّر أنّ أحداً سيعتقله. تعاون بوحبلة معهم، فأخبرهم أنّ ثمّة احتمال أن يأتي فرج الله إلى منزلٍ يعرفه عندما يزور دمشق، وأنّه متفقٌ مع فرج الله على وضع منشفة من لونٍ معيّن على حبل غسيل المنزل، ما يعني أنّ المنزل آمن. بوحبلة خان، وفعلاً صار ينتظر فرج الله في إحدى الشّقق حيث تمّ الإيقاع بالأخير.
وصل فرج الله إلى المنزل بعدما شاهد شارة الجهوزيّة. بمجرّد أن فتح باب المنزل بالمفتاح الذي كان في حوزته، فوجئ بالأمن داخله. كلّ ما ورد في الرّواية أنّ فرج الله قال عبارة واحدة «أنا فرج الله الحلو، وأنا مسؤولٌ عن كلّ موقف الحزب في سورية ولا يوجد مسؤولٌ غيري». كانت هذه الكلمات آخر ما قاله، قُطع بعدها الحديث مع الأمن، وذلك باعتراف الضبّاط خلال المحاكمة. ويروى أيضاً أنّهم عندما وجدوا معه كمّيّة كبيرة من المفاتيح تعرّض للضّرب حتى الموت من دون أن يعترف.
كُشِف في هذه المحاكمة أيضاً دور بوحبلة. لم يعرف أحدٌ عن هذا الرّجل سوى فرج الله ورفيق رضا. لم يكن بوحبلة عميلاً، لكنّه لم يصمد بعد اعتقاله من قبل الأمن بل تعاون معهم. في الأصل بوحبلة طيّب وبسيط، وهو ما دفع فرج الله إلى استخدامه، مثل الذين كانوا يُستخدَمون في مثل هذه القضايا على اعتبار أنّهم كانوا على الأقلّ مجهولين من الشّرطة. راحوا يأخذونه إلى جلسات التّعذيب مع جملة المعتقلين الآخرين، لكنّهم على الأرجح لم يعذّبوه. ولم يتمّ كشفه إلا من قبل الشّرطة السوريّة، عندما فتحت فرجيني حلو دعوى بصفتها وليّة الدّم. وفي المحكمة تبيّن كيف حدثت العمليّة لأنّه تمّ اعتقال الضبّاط المسؤولين عن مقتل فرج الله إذ كانوا لا يزالون حينها في سورية. أراد النظام الجديد الذي أتى في ذلك الوقت، نظام البرجوازيّة السوريّة، أن ينتهي من كلّ هذه التركيبة. أصبحت محاكمة المسؤولين والتّحقيق معهم أمراً يسيراً.
روى الضبّاط ما جرى حيث قاموا بفضح دور بوحبلة الذي خرج من السّجن حينها مع رياض الترك ومراد القوتلي ومجموعات كثيرة صمدت في السّجن، والذين أصبح معظمهم قادة في الحزب الشيوعيّ. والقوتلي صار وزيراً.
ووفقاً لما رواه سامي جُمعة، رجل الأمن الذي تولّى اعتقال فرج الله، فقد أذيب جثمان فرج الله بالحامض الكبريتي. وجمعة هو الوحيد الذي رأى فرج الله بعد اعتقاله. وقد أصدر كتاباً منذ حوالي أربع أو خمس سنوات، كتب مقدّمته مصطفى طلاس وصدر عن «دار طلاس». روى جمعة في الكتاب عمليّة اعتقال فرج الله وموته، حاول تبرئة نفسه من المسؤوليّة عن مقتله وإن كان قد اعترف بأنّه أسهم في اعتقاله. وأشار جمعة إلى أنّه توجّه إلى منزله للرّاحة وأثناء غيابه تمّ تعذيب فرج الله وقتله. واتّهم سامي جمعة أحدَ الضبّاط ويدعى عبد الوهّاب الخطيب، بالمسؤوليّة عن القتل.
جاء رفيق رضا إلى فرج الله وهو رهن الاعتقال وقال له: لكي تنجو بحياتك افعل مثلي. حاول رفيق رضا إقناع فرج الله بالتّعاون متسائلاً ما الذي يجنيه من عناده. حاول ابتزازه ببناته الثلاث متحدّثاً عن صغر أعمارهنّ. وبالرّغم من محاولات ابتزاز رفيق رضا لفرج الله بعائلته، صمد فرج الله تحت التعذيب وغاب عن الوعي، فوضعوه تحت درج، وذهبوا لتناول القهوة أو الطعام على أن يعودوا لإكمال تعذيبه، فوجدوه ميتاً. مات فوراً من الليلة الأولى. لم يقضِ سوى ساعاتٍ بين أيديهم. هو في الأساس كان يشكو من قلبه ويتناول الأدوية، كما كان يتّبع نظاماً غذائيّاً معيّناً. على سبيل المثال، يتناول «وقية لحمة هبرا مشويّة وكاسة لبن وصحن حمّص خلال وجبة العشاء».
روى سامي جمعة في كتابه أيضاً كيف أربكهم اعتقال فرج الله وموته، خصوصاً بعدما جاء الأمر من مصر بضرورة إخفاء القضيّة بأيّ طريقة. دفنوه بعد قتله في بستانٍ لدى جمعة، ثمّ أخرجوا جثّته ووضعوه في حوض مرحاض إحدى الشقق وذوّبوه بالأسيد لإخفاء أيّ أثرٍ له.
ارتباك عبد النّاصر وكذب هيكل
بوصول خبر اعتقال فرج الله، قام الحزب بحملة لبنانيّة وعربيّة ودوليّة للإفراج عنه، وشكّلنا لجنة دوليّة من شخصيّات كبيرة للمطالبة بذلك. في ذلك الحين لم نكن متأكّدين من أنّه توفّي، أو بتعيسرٍ أدقّ لم نرد الاعتراف بذلك. كان رئيس اللجنة الدوليّة برلينغوير الأب، [والد إنريكو برلينغوير، الأمين العامّ للحزب الشّيوعي الإيطالي] وقد كان سيناتوراً اشتراكيّاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه توجد صورة لبرلينغوير الأب في بيروت وهو يحمل طفلة فرج الله الصغيرة. تزوّج فرج الله كبيراً في السّنّ، حوالي الخمسين عاماً على غرار باقي قادة الحزب. خالد ونقولا مثلاً تزوّجا في الفترة العمريّة نفسها تقريباً.
ارتبك عبد النّاصر عندما علم بالأمر، فالضبّاط جاءت إليهم أوامر بإنهاء القصّة لأنّ هذه القضيّة لا يمكن تحمّلها أمام الدّول الاشتراكيّة والاتحاد السّوفياتي. نحن قدنا حملةً كبيرة. يومها، حصلت تدخّلاتٌ كثيرةٌ مع عبد النّاصر أصرّ خلالها على نفي أيّ علاقة له. تيتو، الصينيّون، الرّوس، جميعهم اتّصلوا بعبد النّاصر للكشف عن مصير فرج الله. في ذلك الوقت كان فرج الله مسؤولاً كبيراً لكنّهم للأسف أصرّوا على الإنكار، منهم محمّد حسنين هيكل الّذي ظلّ مصراً حتّى وفاته على أنّ ليس هناك من يُدعى فرج الله الحلو، وذلك في أحد كتبه التي كتبها بعد وفاة عبد النّاصر. التقى به كريم مروّة وعاتبه، فقال له إنّه سيصحّح ما ورد في الكتاب لكنّه أعاد طبعه من دون أن يصحّح... استمرّ المصريّون في كذبة عدم وجود قضيّة لفرج الله الحلو تماماً كما لم يكن هناك رياض الترك لدى حافظ الأسد، في وقتٍ كان هذا يضعه على مدى سبعة عشر عاماً في قبوٍ تحت الأرض.
اللقاء الأخير مع فرج الله
لا أتصوّر أن فرج الله كان وقتها يتردّد على منزله كثيراً، إذ كان تواجده في بيروت سرّيّاً خصوصاً أنّه قضى أغلب وقته في سورية. في آخر مشوار له في بيروت، قبيل استشهاده بفترة قصيرة، طلب منّي إيصاله إلى مكان في العاصمة، مكان قريب للّيسيه الفرنسيّة حاليّاً عند مدافن رأس النّبع. تواجد في جريدة «النّداء» في الصيفي ومعه حقيبة صغيرة. أخبرني أنّ لديه موعداً لمقابلة أصدقاء في رأس النّبع. وبطبيعة الحال لم يخبرني أنّه سيعود إلى سورية، لكنّي شككت بأنّه قد يفعل. وبالفعل لم أره بعد ذلك الحين لأنّه لم يعد لزيارة الجريدة، حتى تلقّيتُ خبر اعتقاله. مَن نقَل إليّ الخبر هو الرّفيق عزيز صليبا الذي عمل طويلاً مع فرج الله، وكان يومذاك يعمل سكرتير تحرير لجريدة «النّداء».
عندها بدأتُ بمراجعة الأمور في ذهني وذهبت لرؤية نقولا. أخبرتُه أنّني سبق أن حذّرتُ فرج الله لدى رؤيتي لرفيق رضا مع أشخاصٍ اشتبهت بأنّهم من الأمن، فقال لي إنّه كانت توجد ثقة كبيرة برضا، بوصفه رفيق عمر وابن جيلٍ واحدٍ رافقنا منذ الثلاثينيّات. لم يتصوّر أحدٌ إمكانيّة خيانته مع أنّه كان يجب أن نلتفت إلى مسألة زواجه المتأخّر على الرّغم من أنّنا نحن أيضاً تزوّجنا متأخّرين.
ابتزّ الأمنُ رفيق رضا عبر تهديده بالتعرّض لزوجته في حال لم يتعاون معهم. لطالما استخدم الأمن بشكل أساسيّ أساليب الابتزاز هذه. تحوّل رفيق رضا عميلاً وبقي كذلك حتى وفاته. وقد لجأ مع بعض المشاركين في قتل فرج الله إلى القاهرة وبقي هناك.
لم يستطِع أحدٌ الجزم بأنّ فرج الله استشهد. شككنا بالأمر إلى أن جاءنا الخبرُ اليقين. وبعدما أخذنا فترةً كافية حتى تأكدنا بالكامل من الخبر، أقمنا له مأتماً حاشداً في حصرايل برغم عدم وجود جثمانٍ له. تماشياً مع العادات، أقمنا المأتم في قريته وأقمنا فيها مهرجاناً حاشداً خطب فيه نقولا والعديد من الأشخاص من بينهم شفيق الحوت، الذي تعرّف إلى فرج الله يوم كان عضواً في الحزب في المنظّمة الطالبيّة في الجامعة الأميركيّة. ترك خطاب شفيق الحوت كبيرَ الأثر، لأنّه كما فرج الله، أدين في الحزب وأُبعد عنه خلال فترة كانت النّظرة فيها إلى كلّ رفيق فلسطينيّ في حزبنا هي أنّه عميل محتمل.
ما أذكره أنّ لبنان بأكمله شارك في جنازة فرج الله، من بينهم حسب ما أذكر ريمون إدّه، الذي تعرّضت سيارته على طريق حصرايل غير المعبّدة إلى تمزّق العجلات، ما اضطره إلى وضع سترته على كتفه والإكمال سيراً على الأقدام للمشاركة. رأيته يتصبّب عرقاً لحظة وصوله. كلّ الطبقة السياسيّة في لبنان شاركتْ باستثناء قلّة من المرتبطين بالمخابرات المصرية. جاءت هذه المشاركة الكبيرة أوّلاً لأنّ فرج الله اسمٌ كبير، وثانياً بسبب احتمال أن يكون في الأمر موقفٌ من سورية وعبد النّاصر.
ونحن عانينا من مؤيّدي عبد النّاصر في لبنان حتى على صعيد توزيع الصّحيفة. لطالما اعتُدي علينا من قبل البعثيّين والقوميّين العرب. أذكر أنّه في إحدى المرّات، في منطقة الغبيري بالضّاحية الجنوبيّة لبيروت، بينما كان الشّباب يوزّعون الصحيفة، تمّ الاعتداء على أحدهم ويُدعى سعد سمهون. ضربوه بموسى من رقبته حتّى آخر ظهره. أردنا معالجته لكن لم نستطع نقله إلى المشفى خوفاً من اعتقاله، فنقلْته بسيّارتي بينما جلس إلى جانبه شخصٌ تكفّل بضمّ الجرح في ظهره. أخذناه إلى الدكتور غبريال بو شعر، وكان طبيباً جرّاحاً ورفيقاً لنا، وابن عائلة شيوعيّة. سمهون أصبح فيما بعد رئيس نقابة بائعي الخضار بالجملة، وهو شقيق لرفيق سمهون عضو المكتب السياسيّ سابقاً.
بالنسبة لي، أعيد الاعتبار الحقيقي لفرج الله باستشهاده على الرّغم من أنّه كان قد أصبح مسؤولاً حزبيّاً في سورية وأعيد إلى قيادة الحزب، لكنّه ظلّ بعيداً عن الواجهة حتى استشهاده. أعيد الاعتبار لهذا القائد ولتاريخه في المهرجان الحاشد وفي تكريم الحزب لذكراه على مرّ الأيّام. من حسن حظّ الحزب أنّه لم يحكم ولم يستول على السّلطة، في سورية أو لبنان، لكان أعدم فرج الله سنة الـ ١٩٤٨ - ١٩٤٩ على غرار ما حصل في أحزاب أخرى. من حسن حظّ فرج الله أنّه لم يُقتل على يد أصدقاء وهو يهتف يعيش خالد بكداش مثل الجنرالات في موسكو الذين كانوا يهتفون وهم يُعدمون «يعيش ستالين». لم يحصل هذا الأمر فقط في موسكو بل في العديد من البلدان التي استلم فيها الشّيوعيّون السلطة.
ما أفظع هذه الجرائم التي ارتُكبتْ باسم الإنسان وكرامة الانسان وحرّيّة الإنسان وحقوقه الأساسيّة وعلى رأسها حقّه في الحياة!
عُرف عن فرج الله الحلو أنّه خلوقٌ دمثٌ طويل البال وهادئ، يتعامل مع الرفاق أخاً وصديقاً، يقنع ولا يفحم، على قدر عالٍ من الثّقافة وكاتبٌ من الكتّاب الذين ينطبق على كتاباتهم أسلوب السّهل الممتنع. لم يؤلّف كتباً لكنّه ألقى مئات الخطب، وكتب مئات الافتتاحيّات في «صوت الشّعب» وصحف الحزب، منها «النّداء» التي صدرتْ قبل أشهر.
- ١. هي الرسالة التي أُجبر فرج الله الحلو على كتابتها بمثابة نقد ذاتي على موقفه المعارض لخالد بكداش وسائر قيادة الحزب من تأييد الحزب الشيوعيّ السوريّ - اللبنانيّ لقرار تقسيم فلسطين العام ١٩٤٧ وقد نُحّي فرج الله عمليّاً من قيادة الحزب لموقفه هذا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.