بمناسبة الذّكرى السّبعين بعد المائة لصدور البيان الشيوعيّ لماركس وأنغلز نعيد نشر مسوّدة «البيان» التي كتبها أنغلز على شكل أسئلة وأجوبة حول مبادئ الشيوعيّة وسمّيت «تعاليم الماركسيّة». النّصّ العربيّ المعروف لدينا من «التّعاليم» صدر عام ١٩٣٥ بترجمة مصطفى حسني، الاسم المستعار لنقولا شاوي، الأمين العامّ الأسبق للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ. وهي خارج التّداول منذ فترةٍ طويلة. وقد صدرت طبعة جديدة بعنوان «التعاليم الماركسيّة»، ترجمة فوّاز طرابلسي، دار الطليعة، بيروت،١٩٧١.
مرّت صياغة «البيان الشّيوعيّ» بثلاثة أطوار رئيسيّة قبل أن يتولّى ماركس سكبها نهائيّاً بالقالب الّذي نعرفه. وُلدت الاشتراكيّة العلميّة فعلاً بانضمام ماركس وأنغلز إلى «عصبة البررة» الّتي أعلنت تبنّيها للهدف الشّيوعي في مؤتمرها الأوّل بلندن (حزيران / يونيو ١٨٤٧). في ذاك المؤتمر، قرّرت العصبة تغيير اسمها إلى «العصبة الشّيوعيّة» وأعلنت أنّ هدفها بات «الإطاحة بالبرجوازيّة وإقامة سلطة البروليتاريا وإلغاء النّظام الاجتماعي البرجوازي القائم على التّناقضات الطّبقيّة واستبداله بنظام اجتماعي تزول فيه الطّبقات والملكيّة الفرديّة». وقرّرت «العصبة» في مؤتمرها الثّاني (٢٨ تشرين الثاني / نوفمبر إلى ٨ كانون الأوّل / ديسمبر من العام ذاته) إصدار بيان بأهدافها وكلّفت ماركس وأنغلز بصياغته.
قبل ذلك كان أعضاء العصبة يتداولون عدّة مشاريع. ففي أيلول / سبتمبر ١٨٤٧، تقدّم ثلاثة من أعضاء لجنتها التّنفيذيّة في لندن - هم كارل شابر وهنريش باور وجوزف مول - بمشروع اعتبره ماركس وأنغلز طوباويّاً جدّاً، فتقرّر صرف النّظر عنه. وصدر مشروعٌ آخر عن المجموعة الشّيوعيّة في باريس أشرف عليه أحد أصدقاء ماركس القدامى، موزس هسّ. لكن أنغلز انتقده، فكلّفتْه المجموعة بكتابة نصّ آخر. غير أنّ المؤتمر الثّاني للعصبة ما لبث أن كلّف أنغلز وماركس بكتابة بيان «العصبة» فقرّر أنغلز التّخلّي عن مشروعه - الّذي سُمّي لاحقاً «تعاليم الماركسيّة» أو «تعاليم الشيوعيّة» - كتب إلى ماركس قائلاً: «فكِّر قليلاً في فعل الإيمان (إعلان مبادئ العصبة). الأفضل، برأيي، التّخلّي عن شكل التّعاليم وتسميته «البيان الشيوعيّ» (...) سأحمل معي النّصّ الّذي أعددْت، لكنّه نصّ سرديّ محض، ومصوغ بطريقةٍ بائسة ومكتوب على عجل. (أنغلز إلى ماركس، ٢٤ تشرين الثاني / نوفمبر ١٨٤٧، المراسلات المختارة، التّرجمة الإنكليزيّة، موسكو ١٩٦٥، ص ٤٥). بناءً عليه، وضع ماركس منفرداً الصّيغة النهائيّة لـ«البيان الشيوعيّ» مطْلع العام ١٨٤٨.
تعاليم الماركسيّة (١٨٤٧)
ما هي الشّيوعيّة؟
الشّيوعيّة هي مجموعة التّعاليم حول ظروف تحرّر البروليتاريا.
ما هي البروليتاريا؟
البروليتاريا طبقة من طبقات المجتمع تعتاش كلّيّاً من بيع عملها١ ولا تجني الأرباح من أيّ نوعٍ من أنواع رأس المال، وتتوقّف حياتها أو موتها، بل وجودُها بأسره، على الطلب على عملها وترتهن بالتّالي بتعاقب الأزمات مع الازدهار الصّناعي وبتقلّبات المنافسة المنفلتة من عقالها.
البروليتاريا، أو طبقة الشّغّيلة هي الطّبقة العاملة المعاصرة.
هل كان البروليتاريّون موجودين مذ وجد العالم؟
كلّا، كان دائماً يوجد طبقات فقيرة وكادحة. وفي العادة، كانت الطّبقات الكادحة هي الطّبقات الفقيرة. ولكن لم يوجد دائماً شغّيلة وفقراء يعيشون في ظروف كالّتي أشرنا إليها أعلاه. لم يكن يوجد دائماً بروليتاريّون ولا كانت توجد دائماً منافسة منفلتة من عقالها.
كيف ظهرت البروليتاريا؟
يعود أصل البروليتاريا إلى الثّورة الصّناعية في إنكلترا في القرن الماضي (القرن الثّامن عشر). منذ ذلك الحين، قامت الثّورات الصناعيّة في كلّ البلدان المتمدّنة في العالم٢. وقد مهّد للثّورة الصّناعية اكتشاف آلة البخار وآلات الغزل على أنواعها والنّول الآليّ (الميكانيكيّ) وسلسلة كاملة من الأدوات الميكانيكيّة الأخرى. وكانت هذه الآلات باهظة الثّمن لا يستطيع شراءها إلا كبار الرّأسماليّين، فأدّت إلى تغيير نمط الإنتاج السّائد برمّته وأزاحت الحرفيّين السّابقين، لأنّها بدأت تنتج سلعاً أرخص وأفضل من التي ينتجها هؤلاء بأنوالهم اليدويّة وطارات الغزل البدائيّة التي يملكون. وهذا ما يفسّر لماذا أدّى دخول الآلات إلى تسليم الصّناعة كلّيّاً إلى يد كبار الرّأسماليّين وإلى إفقاد الملكيّة الحرفيّة الصّغيرة (أدوات، أنوال، إلخ) كلّ ما لها من قيمة. فسيطر الرّأسماليّون على كلّ شيء. ولم يبقَ للشّغيلة شيء.
دخل نظام المانيفاتورة٣، أوّل ما دخل، إلى صناعة الغزل والنّسيج. لكنّه بعدما خطا الخطوة الأولى، اتّسع ليشمل كلّ الفروع الصناعيّة الأخرى وبخاصّة الطّباعة والفخّار والصّناعات المعدنيّة. فتنامى توزيع العمل بين مختلف فئات العمّال بحيث إنّ العامل الّذي كان في السّابق يؤدّي عملاً كاملاً، صار لا يؤدّي إلّا جزءاً من العمل فقط، وسمحت قسمة العمل هذه بإنتاج السّلع بوتيرةٍ أسرع، وبالتّالي بكلفةٍ أدنى. وهكذا تقلّص دور العامل إلى ترجيع حركة ميكانيكيّة بسيطة، تستطيع الآلة أداءها على نحوٍ أفضل منه على كلّ حال. فسيطرت الآليّة (المكننة) والإنتاج الصّناعيّ الكبير على فروع الصناعة جميعها، الواحدة تلو الأخرى، بالطّريقة ذاتها التي سيطرتْ فيها أصلاً على فرعَي الغزل والنّسيج، فوقعت الصّناعات بين أيدي كبار الرّأسماليّين وحُرم الشّغّيلة من بقايا الاستقلال الّذي كانوا ينعمون به. وانخرطت المانيفاتورة في النّظام الصّناعيّ شيئاً فشيئاً يرافقها انخراط الحِرَف اليدويّة. وراح كبار الرّأسماليّين يزيحون المنتجين المستقلّين الصّغار إذ أسّسوا المشاغل الكبيرة الّتي توفّر الكثير من الأكلاف وتسمح بتوزيعٍ أدقٍّ للعمل.
هذا يفسّر ما نشاهده الآن في البلدان المتمدّنة حيث انخرطت كلّ فروع الإنتاج تقريباً في نظام الصّناعة الكبيرة الّذي حلّ محلّ الحرَف اليدويّة والمانيفاتورة. كما يفسّر الانهيار المتسارع للطّبقة الوسطى الحرفيّة السّابقة، والتّحوّل الكامل في وضع الشّغّيلة، وتكوّن طبقتين جديدتين سرعان ما انصهرت فيهما سائر الطّبقات، وهما:
طبقة كبار الرّأسماليّين الّذين يحتكرون، في كلّ الأقطار المتمدّنة، المعاش والموادّ الأوّليّة والأدوات (آلات، مصانع) اللازمة لإنتاج هذا المعاش. وإنّها طبقة البرجوازيّين أو البرجوازيّة.
طبقة المُعدمين الّذين لا يملكون شيئاً من متاع هذه الدّنيا، فيضطرّون إلى بيع عملهم للبرجوازيّين مقابل المعاش اللازم لإبقائهم على قيد الحياة. إنّها طبقة البروليتاريّين أو البروليتاريا.
ضمن أيّ ظروف يبيع البروليتاريّون عملهم للبرجوازيّة؟
إنّ العمل سلعة كغيره من السّلع. يتحدّد سعره بالتّالي على أساس القوانين الّتي تتحكّم بسعر مثيلاته من السّلع. إنّ سعر سلعة ما - في ظلّ منافسة الصّناعة الكبيرة والمنافسة الحرّة (والواحدة منها رديفة للثّانية، كما سيظهر بعد قليل) - يساوي، كمعدّل، كلفة إنتاج هذه السّلعة. من هنا إنّ سعر العمل يساوي هو أيضاً كلفة إنتاج العمل. وكلفة إنتاج العمل هي ذلك القدَر من المعاش الضّروريّ لمواصلة العامل لعمله ولإبقاء الطّبقة العاملة على قيد الحياة. لذا، فإنّ العامل لا يتقاضى في مقابل عمله غير الحدّ الأدنى الضّروريّ لتأمين هذا الهدف. فيكون سعر العمل، أو الأجر، هو الحدّ الأدنى الضّروريّ لإبقاء العامل على قيد الحياة. وبما أنّ الأحوال الاقتصاديّة قد تسوء أو تتحسّن، فإنّ العامل يتقاضى أقلّ من هذا الحدّ أو أكثر، تماماً مثلما يتقاضى ربّ العمل لقاء بيع سلعه مبلغاً من المال قد يزيد أو ينقص حسب الأحوال. ولكنْ مثلما أنّ ربّ العمل، بعد استخراج المعدّل الوسطيّ من الأحوال الجيّدة والعاطلة، يتقاضى مقابل سلعته ما يعادل إنتاجها لا أكثر ولا أقلّ، فالعامل لا يتقاضى، كمعدّلٍ وسطيّ، إلّا الحدّ الأدنى الضّروريّ لإبقائه على قيد الحياة. ومع تغلغل الصّناعة الكبيرة في كافّة فروع الإنتاج، يتعاظم فعل هذا القانون الاقتصاديّ المتحكّم بالأجور.
ما هي الطّبقات الكادحة التي عرفها التّاريخ قبل الثّورة الصّناعيّة؟
عرفت الطّبقات الكادحة ظروفاً متباينة وشغلت مواقع مختلفة في مواجهة الطّبقات المالكة والمسيطرة تبعاً لتباين واختلاف مراحل تطوّر المجتمع. في العصر القديم، كان الشّغيلة هم العبيد، كما لا يزال الحال حتّى الآن في عددٍ من البلدان المتّأخّرة وحتّى في الولايات الجنوبيّة من أميركا الشّماليّة٤. كان الشّغّيلة في القرون الوسطى هم الأقنان الّذين تملكهم أرستقراطيّة الأرض، كما هو الحال حتّى الآن في المجر وبولونيا وروسيا. وعرفت المدن، طوال القرون الوسطى وصولاً إلى الثورة الصناعيّة، الزّملاء العاملين في خدمة حرفيّين برجوازيّين صغار. ثمّ برز عمّال المانيفاتورة تدريجيّاً مع نموّ المانيفاتورة، إلى أن أخذوا يستقلّون في خدمة كبار الرّأسماليّين.
كيف يختلف البروليتاريّ عن العبد؟
العبد يباع مرّةً واحدة. العامل مضطرّ لأن يبيع نفسه كلّ يوم وكلّ ساعة. العبد الفرد، الّذي يملكه سيّدٌ واحد، وجوده مضمون، رغم بؤس هذا الوجود، لأنّ لسيّده مصلحة في ذلك. أمّا البروليتاريّ الفرد، الّذي تملكه الطّبقة البرجوازيّة بأسرها، فوجوده ليس مضموناً لأنّ الّذي يشتري عمله لا يفعل ذلك إلّا عند حاجته إليه. والطّبقة البرجوازيّة لا تضمن البقاء إلّا للطّبقة العاملة برمّتها، بما هي طبقة. العبد لا يدخل المنافسة، البروليتاريّ غارقٌ فيها لأذنيه، يتكوّى من أدنى ذبذبة من ذبذباتها. المجتمع يعتبر العبد شيئاً، ويرفض الاعتراف به عضواً فيه. وعلى العكس من ذلك، فالمجتمع يعترف بالبروليتاريّ ككائنٍ بشريّ وكعضوٍ في المجتمع. لذا قد ينعم العبد بمستوى معيشة أرفع من مستوى معيشة البروليتاريّ. لكنّ البروليتاريّ، مع ذلك، ينتمي إلى مستوى أعلى من مستويات تطوّر المجتمع ويعتبر نفسه أعلى منزلةً من العبد. يتحرّر العبد إذا قضى على علاقة العبوديّة - من بين جملة علاقات الملكيّة الفرديّة القائمة - فيتحوّل من هو ذاته إلى بروليتاريّ. أمّا البروليتاريّ فلا يتحرّر إلّا إذا قضى على الملكيّة الفرديّة ذاتها.
كيف يختلف البروليتاريّ عن القنّ؟
القنّ يملك أداة إنتاج أو قطعة أرض، أو هو يتمتّع بحقّ التّصرّف بهذه أو تلك، لقاء تسليم حصّة من المحصول أو بذل عملٍ معيّن. البروليتاريّ يعمل عند آخرين مستخدماً أدوات إنتاج ليست له، ويتقاضى لقاء عمله حصّةّ من المنتوج. القنّ يعطي بينما البروليتاريّ يأخذ. القنّ وجوده مضمون. البروليتاريّ وجوده على كفّ عفريت. القنّ يقع خارج علاقات المنافسة. البروليتاريّ في صميمها. القنّ يتحرّر إذا التجأ إلى المدينة حيث يتحوّل إلى حِرفيّ، أو إذا قدّم المال لسيّده عوضاً عن المنتجات أو العمل فيتحوّل بذلك إلى مزارع حرّ، أو إذا طرد سيّدَه وتحوّل هو بنفسه إلى بروليتاريّ. باختصار، يتحرّر القنّ إذا انخرط بطريقةٍ أو بأخرى في الطّبقة المالكة أو إذا دخل علاقات المنافسة. أمّا البروليتاريّ فليس له من أمل في التحرّر إلّا إذا قضى على المنافسة ذاتها وعلى الملكيّة الفرديّة والتّمايزات الطّبقيّة.
كيف يختلف البروليتاريّ عن الحِرَفيّ؟
في المحترفات القديمة، لم يكن الحِرفيّ الشابّ أكثر من عاملٍ مأجورٍ حتّى بعد أن ينهي فترة تدريبه. لكنّه يتحوّل بدوره إلى معلّم بعد عددٍ معيّن من السّنوات. هذا في حين أنّ البروليتاريّ يبقى عاملاً مأجوراً طوال حياته. الحِرفيّ، قبل أن يكون معلّماً، يكون زميلاً للمعلّم، يعيش في بيته ويأكل على مائدته. أمّا العلاقة الوحيدة بين البروليتاريّ وربّ عمله فهي مجرّد علاقة ماليّة. الزميل في المحترف ينتمي إلى الفئة الاجتماعيّة ذاتها التي ينتمي إليها معلّمه ويشاركه عاداته والتقاليد. البروليتاريّ يفصله اجتماعيّاً عن ربّ العامل الرّأسماليّ عالمٌ كامل من التّمايزات الطّبقيّة. إنّه يعيش في بيئةٍ أخرى، ويسلك نمط حياةٍ يختلف جذريّاً عن نمط حياته. ومفاهيمه مختلفة كلّيّاً عن مفاهيم الرأسماليّ. ثمّ إنّ الحرفيّ يستخدم في عمله أدواتٍ تكون عادةً ملكه أو يسهل عليه امتلاكها. أمّا البروليتاريّ فيستخدم آلةً أو جزءاً من آلةٍ ليستْ ملكه ويستحيل عليه امتلاكها. الحرفيّ يُنتج منتوجاً كاملاً في معظم الأحيان وتلعب مهارته في استخدام أدواته دائماً الدّور الحاسم في إنتاج هذا المنتوج. البروليتاريّ، من جهته، لا يُنتج إلا جزءاً من سلعة، أو هو يساهم فقط في أداء عمليّة جزئيّة من مجمل مسار العمل المطلوب لإنتاج ذاك الجزء، وتأتي مهارته الشّخصيّة في المرتبة الثّانية بعد عمل الآلة. وعلى كلّ حال، غالباً ما تكون الآلة أجدى منه من حيث كمّيّة المنتجات أو تركيبها. كان الحِرفيّ، مثله كمثل معلّمه، محميّاً من المنافسة طوال أجيالٍ عبر القيود الحرفيّة والأعراف السّائدة، بينما البروليتاريّ مضطرٌّ إلى الالتحام مع زملائه أو الالتجاء للقانون حتّى لا تسحقه المنافسة. ذلك أنّ الفائض في اليد العاملة يسحق البروليتاريّ، لا سيّده الرّأسماليّ. الحرفيّ، مثله كمثل معلّمه، كائنٌ محدودٌ، ضيّق الأفق، خاضع للعصبيّة الفئويّة وخصمٌ لكلّ جديد. البروليتاريّ، في المقابل، مضطرّ لأن يتذكّر في كلّ لحظة التّعارضَ الكبير بين مصالح طبقته ومصالح الطّبقة الرّأسماليّة. عند البروليتاريّ، يحلّ الوعي الطبقيُّ محلّ العصبيّة الفئويّة، فيدرك أنّ تحسين أحوال طبقته لا يتمّ إلّا بتقدّم المجتمع بأسره. الحرفيّ، في نهاية الأمر، رجعيّ عندما يتمرّد - لا بل إنّه رجعيّ لكونه يتمرّد - بينما البروليتاريّ مجبَر باطّراد على أن يكون ثوريّاً. إنّ أوّل تقدّمٍ اجتماعيّ تمرّد عليه الحرفيّون هو بروز نظام المانيفاتورة، أي عمليّة إخضاع الحرفة - بما فيها المعلّم والزّميل معاً - لرأس المال المركنتيلي الّذي انقسم فيما بعد إلى رأس مالٍ تجاريٍّ ورأس مالٍ صناعيٍّ.
كيف يختلف البروليتاريّ عن عامل المان يفاتورة؟
بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، كان عامل المانيفاتورة لا زال يملك، في معظم الأحيان، نَول الحياكة ودولاب الغزل العائليّ وحقلاً صغيراً يزرعه في ساعات الفراغ. البروليتاريّ لا يملك أيّاً من هذه. عامل المانيفاتورة يعيش، في معظم الأحيان، في الرّيف ويرتبط بربّ عمله أو مالك الأرض بعلاقات عشائريّة. البروليتاريّ يعيش في المدن الكبيرة ولا تربطه بربّ عمله إلّا العلاقة الماليّة البحتة. عامل المانيفاتورة تنتزعه الصّناعة الكبيرة من علاقاته العشائريّة، فيخسر كلّ ما تبقّى له من ملكيّة صغيرة ويتحوّل بالتّالي إلى بروليتاريّ.
ما هي النّتائج المباشرة للثّورة الصناعيّة ولانشطار المجتمع إلى برجوازيّين وبروليتاريّين؟
أولاً: قضي نهائيّاً على نظام المانيفاتورة القديم وعلى الصّناعة المعتمدة على العمل اليدويّ على أثر انخفاض أسعار المنتجات الصّناعيّة في كافّة البلدان نتيجة دخول الآليّة. فإذا بالبلدان شبه البربريّة، حيث الصّناعة تعتمد بالدّرجة الأولى على نظام المانيفاتورة، تُنتزع بعنفٍ من عزلتها بعدما كانت على هامش التّطوّر التاريخيّ. فراحتْ تشتري السّلع البريطانيّة الرّخيصة وتركت عمّال المانيفاتورة المحلّيّين يتضوّرون جوعاً. هكذا عرفت العلاقات الاجتماعيّة تحوّلاً ثوريّاً شاملاً في أقطارٍ لم تكن قد خطتْ خطوةً واحدة في طريق التّقدّم كالهند مثلاً. وهذا يفسّر لماذا تجد الصّين نفسها الآن على عتبة الثورة. ذلك أنّ اختراع آلة جديدة في إنكلترا قد يؤدّي في غضون سنواتٍ قليلة إلى الحكم بالمجاعة على ملايين العمّال الصينيّين. بهذه الطّريقة صهرت الصّناعة الكبيرة جميع شعوب الأرض في بوتقة واحدة، محوّلةً الأسواق المحلّيّة إلى سوقٍ عالميّة واحدة شاسعة، حاملة التقدّم والحضارة إلى كلّ مكان بحيث بات كلّ ما يجري في البلدان المتمدّنة ينعكس حكماً على البلدان الأخرى. من هنا إنّ تحرّر العمّال حاليّاً في إنكلترا وفرنسا سوف يؤدّي إلى انتفاضات عمّاليّة في البلدان الأخرى.
ثانياً: أدّى حلول الصّناعة الكبيرة محلّ الإنتاج المانيفاتوري إلى نموّ منقطع النّظير للطّبقة البرجوازيّة ولثرواتها وقوّتها، الأمر الّذي جعل منها الطبقة الأولى في المجتمع. وحيثما تمّ ذلك، تسلّمت البرجوازيّة السّلطة السياسيّة بعدما قضتْ على طبقات العهد القديم: الأرستقراطيّة والأشراف ومثلهما - الملكيّة المطلقة. لقد قضت البرجوازيّة على سلطة الأرستقراطيّة والنّبلاء بإلغائها حقّ الابن البكر، أي عدم قابليّة الملكيّة العقاريّة للتّحويل، وغيره من الامتيازات الإقطاعيّة الأخرى، كما قضتْ على سلطة الأشراف بإلغائها الحرَف والامتيازات الحرفيّة. وأحلّت محلّ هذه وتلك المنافسة الحرّة، أي أحلّت وضعاً اجتماعيّاً يحقّ لكلّ امرئ فيه أن يمارس النّشاط الاقتصاديّ الّذي يروق له، فلا يعيقه عائق سوى عدم توافر رأس المال الضّروري للقيام بهذا النّشاط. ومن هنا فإنّ طغيان المنافسة الحرّة هو بمثابة الإعلان الرّسمي أنّ أفراد المجتمع باتوا غير متساوين بالقدر الّذي تكون فيه رؤوس أموالهم غير متساوية، وأنّ رأس المال إنّما هو القوّة الحاسمة في المجتمع. والمنافسة الحرّة هي التي سمحت للرّأسماليّين، للبرجوازيّين، بأن يصيروا الطّبقة الأولى في المجتمع. وهي ضروريّة في البدء لنموّ الصّناعة الكبيرة، لأنّها النّظام الوحيد الّذي يمكن هذه الصناعة من تحقيق غلبتها على سائر أنماط الإنتاج الاقتصاديّة. وما أن تطيح البرجوازيّة بالسّلطة الاجتماعيّة للأشراف والنّبلاء حتّى تنتقل للإطاحة بسلطتهم السياسيّة. وما أن تصبح الطّبقة الأولى اقتصاديّاً حتّى تطمح لاكتساب الأولويّة السياسيّة كذلك. ويتحقّق لها ذلك عندما تدخل النّظام التّمثيليّ الّذي يرتكز على المساواة البرجوازيّة أمام القانون والتّكريس القانونيّ للمنافسة الحرّة. ويتّخذ النّظام التّمثيليّ في البلدان الأوروبيّة شكل الملكيّة الدّستوريّة حيث لا يملك حقّ التّصويت إلّا من كان يملك كمّية معيّنة من رأس المال، ممّا يعني اقتصار هذا الحق عمليّاً على البرجوازيّين أنفسهم. النّاخبون البرجوازيّون ينتخبون نوّاباً برجوازيّين، وهؤلاء يستخدمون حقّهم في رفض التّصديق على التّشريعات الضّريبيّة لانتخاب حكومة برجوازيّة.
ثالثاً: تنمو البروليتاريا وتتطوّر مع نموّ وتطوّر البرجوازيّة نفسها. فما أن يتراكم رأس المال بيد الرّأسماليّين حتّى يتكاثر عدد البروليتاريّين. بما أنّ رأس المال هو الّذي يشغّل العمّال، وبما أنّ نموّ رأس المال هذا رهنٌ بدوره بتشغيل العمّال، فإنّ تكاثر عدد البروليتاريا يسير جنباً إلى جنب مع تراكم رأس المال. كذلك فإنّ نموّ الرّأسمالية يؤدّي إلى حشد البرجوازيّين والبروليتاريّين معاً في تجمّعات سكنيّة كبيرة حيث تعمل أعدادٌ متزايدة من البشر في الصّناعة، الأمر الّذي يسمح للبروليتاريا بأن تعي قوّتها من جرّاء تمركزها بأعداد كبيرة على رقعة محدودة. ومن جهة أخرى، بالقدر الذي ينمو فيه رأس المال ويتقدّم اختراع الآلات التي تؤدّي إلى مزيدٍ من الاستغناء عن العمل اليدويّ، تنزع الصناعة الكبيرة إلى تخفيض الأجور إلى حدّها الأدنى، فتتردّى أوضاع البروليتاريا. وهكذا فإنّ تعزيز قوّة البرجوازيّة، إذ يزيد التّذمّر ويعزّز قوّة البروليتاريا، إنّما يشكّل تمهيداً للثّورة الاجتماعيّة البروليتاريّة.
ما هي النّتائج الأخرى للثّورة الصناعيّة؟
وفّرت الصّناعة الكبرى، عبر آلة البخار وغيرها، وسائل لتنمية الإنتاج الصّناعيّ إلى ما لا نهاية وبسرعة فائقة وكلفة زهيدة. وبسبب من سهولة الإنتاج هذه، اكتست المنافسة الحرّة التي أطلقتها الصّناعة الكبيرة طابعَ العنف الشّديد. فتراكض عددٌ كبير من الرّأسماليّين لتوظيف أموالهم في الصّناعة، وسرعان ما صاروا ينتجون من السّلع أكثر من قدرة المجتمع على الاستهلاك. فتراكمت السّلع المصنوعة وبرزت أزمة تجاريّة. فاضطرّت المصانع إلى التّوقّف عن العمل فأشهِر إفلاس بعض الصناعيّين، وحُكم على العمّال بأن يتضوّروا جوعاً وعمّ البلادَ بؤسٌ عظيم. ولكن بعد مرور فترة من الزّمن، أمكن بيع المنتجات الزّائدة، فعاودت المصانع عملها وارتفعت الأجور وعادت الأعمال إلى مجراها الطّبيعي. لكنّ الأمر لم يطُل على هذا النّحو، فالصّناعة ما لبثت أن أنتجت فائضاً من السّلع، فبرزتْ أزمةٌ جديدة سلكت المسار ذاته لسابقتها. وهكذا فإنّ الأوضاع، منذ بداية هذا القرن، كانت تراوح دائماً بين فترات التّأزّم والرّكود من جهة وفترات الازدهار من جهة ثانية. فإذا بأزمة دوريّة تظهر كلّ خمس أو سبع سنوات تحمل معها للعمّال في كلّ مرّة بؤساً فظيعاً، لكنّها تنفث فيهم أيضاً روحاً ثوريّة عارمة وشاملة أخذت تهدّد بتقويض أركان النّظام القائم.
ما هي نتائج هذه الأزمات التّجاريّة الدّوريّة؟
أولى هذه النّتائج أنّ الصّناعة الكبيرة، التي ولّدت نظام المنافسة الحرّة في المرحلة الأولى من مراحل نموّها، لم تعدْ تتوافق مع هذا النّظام. فاضطرّت إلى القضاء على علاقات المنافسة وعلى تسيير الصّناعة من قبل أفراد معزولين. وهذا ما تمّ فعلاً. فطالما أنّ الصّناعة الكبيرة مرتكزة على القاعدة الرّاهنة، فإنّها ستظلّ عاجزةً عن البقاء إلّا لقاء قيام اضطرابات شاملة تعصف بها كلّ خمس أو سبع سنوات وتهدّد الحضارة نفسها بالدّمار في كلّ مرّة. وهذه الاضطرابات لا ترمي بالبروليتاريّين إلى مهاوي البؤس وحسب، وإنّما تستجلب أيضاً إفلاس عدد كبير من البرجوازيّين. وعليه، فالصّناعة الكبيرة إمّا أن تندثر، وهذا أمر مستحيل، وإمّا أن تؤدّي إلى إعادة تنظيم جديدة كلّ الجدّة للمجتمع تنتزع تسيير الصناعة من يد قلّةٍ من الصناعيّين المتنافسين فيما بينهم لتضعها في يد المجتمع بأسره وفق خطّة مرسومة وتلبيةً للمصلحة العامّة.
ثانياً: إنّ الصناعة الكبيرة وما تتيحه من نموٍّ لا متناهٍ للإنتاج، تسمح ببناء نظام اجتماعيّ ينتج من المعاش ما يكفي كلّ فردٍ من أفراد المجتمع لتنمية قدراته ومؤهّلاته الخاصّة وأن يوظّفها بحرّية حيثما يشاء. وهكذا، فإنّ الصناعة الكبيرة التي تولّد البؤس والأزمات التّجاريّة على أنواعها في المجتمع الرّاهن، تملك القدرة على القضاء على هذا البؤس وتلك الأزمات إذا ما توافر تنظيمٌ اجتماعيّ آخر. من هنا يتّضح ما يلي:
أنّ سبب كلّ هذه الأمراض كامنٌ في النّظام الاجتماعيّ القائم الّذي لا يستجيب للحاجات الرّاهنة.
أنّ الوسائل باتت متوافرة للقضاء نهائيّاً على هذه الأمراض ببناء نظام اجتماعيّ جديد.
كيف يكون هذا النّظام الاجتماعيّ الجديد؟
ينبغي على المجتمع الجديد، أوّلاً بأوّل، أن ينتزع الصّناعة وفروع الإنتاج الأخرى من أيدي الأفراد المعزولين والمتنافسين ليضعها في يد المجتمع الّذي يسيّرها خدمةً للمصلحة العامّة وفق خطّةٍ مشتركة يساهم فيها الجميع. هكذا يُقضى على المنافسة ويحلّ التّعاون محلّها. ولكن بما أنّ تسيير الصّناعة من قبل أفراد معزولين يفترض بالضّرورة وجود الملكيّة الفرديّة، وبما أنّ المنافسة مجرّد وسيلة تسمح لهؤلاء الأفراد المعزولين بتسيير هذه الصّناعة، فإنّ الملكية الفرديّة لا تنفصم عن تسيير الأفراد المعزولين للصّناعة كما لا تنفصم عن المنافسة. لذا يتوجّب إلغاء الملكيّة الفرديّة هي أيضاً وإيجاد وضعٍ تكون فيه المنتجات بتصرّف الجميع، أي ما يسمّى «جماعيّة الخيرات». والواقع أنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة إنّما يختزل، على نحو نموذجيّ ومبتسر، عمليّة التحويل الاجتماعيّ الشّاملة النّاتجة من نموّ الصناعة.
وهذا ما يفسّر لماذا يعتبر معظم النّاس أنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة هو المطلب الرئيسيّ للشيوعيّين.
هل كان يمكن إلغاء الملكيّة الفرديّة من قبل؟
كلا. إنّ كلّ تحوّل في النّظام الاجتماعيّ وكلّ تغيير في علاقات الملكيّة إنّما هو نتيجة ضروريّة لظهور قوىً إنتاجيّة جديدة باتت متعارضة مع علاقات الملكيّة القديمة. هكذا ظهرت الملكيّة الفرديّة ذاتها، ذلك أنّها لم تكن موجودة منذ بدء التّاريخ. ففي نهاية القرون الوسطى، ظهر نمطُ إنتاج جديد في الصّناعة أخذ يتعارض باطّراد مع الملكيّة الإقطاعيّة والملكيّة الجزئيّة السّائدتين في تلك الحقبة. وبما أنّ هذا الإنتاج المانيفاتوريّ لم يعد يتوافق مع علاقات الإنتاج القديمة فقد أدّى إلى ولادة شكلٍ جديد للملكيّة هو الملكيّة الفرديّة. والواقع أنّ المجتمع القائم على الملكيّة الفرديّة هو الشّكل المجتمعيّ الوحيد الذي يسمح بقيام المانيفاتورة والمرحلة الأولى من الصّناعة الكبيرة.
طالما أنّ المجتمع لم يصل بعدُ إلى مرحلة ينتج فيها سلعاً لا تسدّ حاجات الجميع وحسب، وإنّما يفيض عنها أيضاً فائضٌ معيّن يسمح بتراكم رأس المال الاجتماعيّ وبتنمية القوى الإنتاجيّة، فمن الضروريّ أن يكون ثمّة طبقة مسيطرة تتصرّف بالقوى الإنتاجيّة في المجتمع، وطبقة فقيرة ومضطهدة. إنّ تركيب كلٍّ من هاتين الطّبقتين وطابعهما يتوقّف على مرحلة تطوّر الإنتاج. فمجتمع القرون الوسطى القائم على فلاحة الأرض يعطينا السيّد الإقطاعيّ والقنّ، ومدن نهاية القرون الوسطى تعطينا رئيس الحرفة (شيخ الكار) والزّميل والمياوم، والقرن السابع عشر يعطينا المانيفاتورة والعامل، والقرن التاسع عشر يعطينا الصناعيّ الكبير والبروليتاريّ. ومن الواضح أنّ القوى الإنتاجيّة لم تبلغ حتّى الآن درجةً من التّطوّر تسمح بإنتاج كمّيّة من السّلَع تسدّ حاجات الجميع، مثلما هو واضح أنّ الملكيّة الفرديّة أصبحت عقبة في وجه تطوّر القوى الإنتاجيّة.
أمّا اليوم، حيث يتكاثر عدد الرأسماليّين والقوى الإنتاجيّة من جرّاء نموّ الصناعة الكبيرة على نحوٍ لم يسبق له مثيل، وحيث توافرت وسائل تنمية القوى الإنتاجيّة بسرعةٍ وبلا حدود، وحيث هذه القوى الإنتاجيّة آخذة بالتّمركز في يد عددٍ قليلٍ من الرأسماليّين بينما تتساقط غالبيّة الشعب بسرعةٍ متزايدة إلى مصاف البروليتاريا، وحيث يصبح هذا الشّعب أكثر بؤساً وإدقاعاً في الوقت الّذي تتضاعف فيه ثروات الرأسماليّين، وحيث قوى الإنتاج الجبّارة، المتكاثرة بسرعةٍ فائقة، قد تجاوزتْ إطار الملكيّة الفرديّة والنظام البرجوازيّ الرّاهن إلى درجةٍ باتتْ تولّد الاضطرابات الخطيرة الدّوريّة في النّظام الاجتماعيّ - بسبب ذلك كلّه، فإنّ إلغاء الملكيّة الفرديّة ليس ممكناً وحسب وإنّما بات ضروريّاً أيضاً.
هل يمكن إلغاء الملكيّة الفرديّة بالوسائل السلميّة؟
نرجو أن يكون ذلك ممكناً. والشّيوعيّون هم من آخر من يتذمّر لو حدث ذلك، لأنّهم يعلمون جيّداً أنّ المؤامرات السرّيّة ليست عديمة الجدوى وحسب وإنّما هي مضرّة أيضاً. كما أنّهم يعلمون تمام العلم أنّ الثّورات لا تقوم بناءً على أمرٍ يصدر، وإنّما هي دائماً وأبداً المحصّلة الضروريّة لظروف مستقلّة كلّيّاً عن إرادة وقيادة الأحزاب، وحتّى الطّبقات. لكن الشيوعيّين يرون، من جهةٍ أخرى، أنّ تطوّر البروليتاريا يتعرّض للقمع الوحشيّ في كلّ البلدان المتمدّنة تقريباً، وأنّ أعداء الشيوعيّة إذ يفعلون ذلك إنّما يساهمون بكلّ قوّتهم في اندلاع الثّورة. فإذا ما أدّى ذلك إلى دفع البروليتاريا إلى إعلان الثّورة، فإنّنا، معشرَ الشيوعيّين، سوف ندافع عن قضيّة البروليتاريّين بالأفعال مثلما ندافع عنها بالأقوال.
هل يمكن إلغاء الملكيّة الفرديّة دفعةً واحدة؟
كلّا، مثلما تتعذّر مضاعفة القوى الإنتاجيّة الرّاهنة دفعةً واحدة لكي تبلغ درجة من التّطوّر تسمح ببناء المجتمع الشيوعيّ بين ليلة وضحاها، كذلك يتعذّر إلغاء الملكيّة الفرديّة دفعة واحدة. والأرجح أنّ الثّورة البروليتاريّة سوف تحوّل المجتمع الرّاهن تدريجيّاً. وهي لن تتمكّن من إلغاء الملكيّة الفرديّة كلّيّاً إلّا بعد تأمين الكمّيّة الضّروريّة من وسائل الإنتاج.
ما هو المسار الّذي ستسلكه الثّورة؟
إن الثورة ستعلن، ابتداءً، دستوراً ديمقراطيّاً سوف يؤدّي إلى سيطرة البروليتاريا سياسيّاً، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. تسيطر البروليتاريا سياسيّاً بشكلٍ مباشر في إنكلترا حيث يشكّل البروليتاريّون غالبيّة السكّان. بينما تسيطر بشكل غير مباشر في فرنسا وألمانيا حيث غالبيّة السكّان لا تقتصر على البروليتاريّين وإنّما تشتمل أيضاً على الفلّاحين الصّغار والبرجوازيّين الصّغار الّذين لم يستكملوا بعدُ عمليّة التحوّل إلى بروليتاريّين. وبما أنّ المصالح السياسيّة لهؤلاء تعتمد إلى حدٍّ ما على البروليتاريا، فإنّهم مجبرون على الانصياع فوراً لمطالب الطّبقة العاملة. وقد يقتضي ذلك افتتاح مرحلة جديدة من النّضال لن تُختتم إلّا بانتصار البروليتاريا النّاجز.
لا جدوى من الديمقراطيّة بالنّسبة إلى البروليتاريا إلّا إذا استخدمتها فوراً لاتّخاذ إجراءاتٍ تسدّد ضربات مباشرة للملكيّة الفرديّة وتكفل ضمان وجود واستمرار البروليتاريا. وأهمّ هذه الإجراءات، كما تظهر كنتيجة حتميّة للوضع وهي في ما يلي:
1 تقليص الملكيّة الفرديّة عبر ضريبة الدّخل التصاعديّة، وفرض الضّرائب المرتفعة على الإرث، وإلغاء حقّ الوراثة بالنسبة إلى خطّ الوراثة غير المستقيم (الأخ وأبناء الأخ، الأخت وأبناء الأخت، إلخ)، إلغاء القروض الإلزاميّة، إلخ.
2 مصادرة أملاك الملّاك العقاريّين والصناعيّين وأصحاب سكك الحديد وأصحاب مصانع الأسلحة والذّخيرة، إما بواسطة منافسة صناعة الدّولة لهم وإمّا بالمصادرة المباشرة لقاء تعويضات.
3 مصادرة أملاك جميع المهاجرين وأعداء الشّعب.
4 تنظيم العمل وتشغيل العمّال على أراضي الدّولة وفي المصانع والمشاغل الوطنيّة بعد إلغاء المنافسة بينهم وإجبار من تبقّى من الرأسماليّين على دفع الأجر المرتفع المساوي لما تدفعه الدّولة.
5 إلزاميّة العمل لجميع أفراد المجتمع إلى حين القضاء نهائيّاً على الملكيّة الفرديّة، وإنشاء الجيوش الصّناعيّة وبخاصّة بالنّسبة إلى الزّراعة.
6 احتكار الدّولة لنظام النّقد والتّسليف عن طريق إنشاء مصرف وطنيّ برأس مال تقدّمه الدّولة وبعد إلغاء كلّ المصارف الخاصّة.
7 زيادة عدد المصانع الوطنيّة والمشاغل وسكك الحديد والنّقل البحريّ، واستصلاح الأراضي، وتحسين الأراضي المزروعة بالقدر الّذي يسمح فيه تراكم رؤوس الأموال ونموّ القوى العاملة في الأمّة.
8 تعليم جميع الأطفال في المؤسّسات الوطنيّة على حساب الأمّة حالما يتمّ انتزاعهم من أحضان أمّهاتهم (التّعليم والصّناعة).
9 بناء القصور الضّخمة على الأملاك العامّة لإسكان المواطنين العاملين في الصّناعة والزّراعة بحيث يجمع نمط حياتهم أفضل ما في حياة المدينة والرّيف ويتخلّص من كلّ سيّئات هذه وتلك.
10 تهديم كلّ المساكن والأحياء التي لا تتوافر فيها شروط المتانة والصّحة.
11 حقّ الإرث المتساوي للأطفال الشرعيّين وغير الشرعيّين.
12 احتكار الدّولة لكلّ وسائط النّقل.
طبعاً، لا يمكن تطبيق كلّ هذه الإجراءات دفعةً واحدة. لكنّ كلّ واحدة منها تستجرّ التّالية بالضّرورة. فما إن تسدّد البروليتاريا أوّل ضربة قويّة للملكيّة الفرديّة حتّى تضطرّ للتّقدّم خطوات جديدة إلى أمام وتعزيز احتكار الدّولة لكلّ رأس المال ولكلّ الزّراعة والصّناعة والنّقل والمبادلات.
هذا هو الهدف الّذي ترمي إليه كلّ هذه الإجراءات. وإنّها سوف تتحقّق وتلعب دورها المركزيّ بالقدر الّذي تتنامى فيه القوى الإنتاجيّة بفضل العمل الّذي تؤدّيه البروليتاريا.
أخيراً، عندما يتمركز كلّ رأس المال والإنتاج والمبادلات بيد الدّولة، تنهار الملكيّة الفرديّة تلقائيّاً، ويُمسي المال عديم الجدوى ويتضاعف الإنتاج ويبلغ البشر درجةً من التّطوّر تسمح لهم بالقضاء على آخر العلاقات المتبقّية من المجتمع القديم.
هل ستتحقّق الثورة في بلدٍ واحد؟
كلّا، فالصّناعة الكبيرة، بخلقها السوق العالميّة، قرّبت الشعوب بعضها من بعض، وبخاصّة أكثرها تمدّناً، بحيث بات كلّ شعب يتأثّر إلى حدٍّ كبير بما يجري عند الشّعب الآخر. ثمّ إنّ هذه الصّناعة الكبيرة قد وحّدت التّطوّر الاجتماعيّ في كلّ البلدان المتمدّنة بحيث باتت البرجوازيّة والبروليتاريا أهمّ طبقتين وبات التّناقض بينهما هو التّناقض الأساسيّ في المجتمع. لذا، لم يعد بمكنة الثورة الشّيوعيّة أن تكون ظاهرة محدودة بالحدود الوطنيّة. وإنّما هي ستندلع في كلّ البلدان المتمدّنة في آنٍ واحد، أي في إنكلترا وأميركا وفرنسا وألمانيا على الأقلّ. وإنها سوف تتطوّر في كلّ بلدٍ بوتيرةٍ سريعة أو بطيئة حسب مقدار تطوّر صناعة ذلك البلد وحجم ثروته الأهليّة وضخامة قواه الإنتاجيّة. ولهذا السّبب بالذّات، سيكون مسار الثّورة بطيئاً وشاقّاً، بينما يكون سريعاً وسهلاً في إنكلترا. ثمّ إنّه لا بدّ لهذه الثّورة أن تترك أثرها في سائر بلدان العالم وأن تغيّر نمط تطوّرها تغييراً كاملاً. إنّها ستكون ثورة عالميّة ولا بدّ لها بالتّالي من أن يكون مسرحها العالم بأسره.
ما هي نتائج إلغاء الملكيّة الفرديّة؟
إنّ انتزاع كلّ القوى الإنتاجيّة ووسائط النّقل وتبادل وتوزيع السّلع من يد الرأسماليّين الأفراد وتسييرها وفق خطّة مرسومة بالاعتماد على الموارد والحاجات المشتركة، يسمح للمجتمع أوّلاً بالقضاء على كافّة الآثار السلبيّة النّاجمة عن الصّناعة الكبيرة، فتزول الأزمات ويقصّر الإنتاج الموسّع عن سدّ حاجات المجتمع - بعدما كان سبباً هامّاً من أسباب البؤس - وتبرز الحاجة إلى زيادته بما فيه الكفاية للجميع. لكنّ الإنتاج الفائض عن حاجات المجتمع والحالة هذه، بدلاً من أن يولّد البؤس، يضمن سدّ حاجات الجميع، ويستظهر حاجات جديدة في الوقت ذاته الّذي يؤثّر فيه وسائل سدّ تلك الحاجات. فيتحوّل فائض الإنتاج إلى شرطٍ للتّقدّم دون أن تعصف به الاضطرابات، كما كان يحصل سابقاً. وبعد أن تتحرّر الصّناعة الكبيرة من نير الملكيّة، تشهد توسّعاً من الضّخامة بحيث إنّ توسّعها الرّاهن سيبدو أمامه بتفاهة المانيفاتورة إذا ما قيست بالصّناعة الكبيرة الحديثة. إنّ تطوّر الصّناعة سوف يوفّر للمجتمع كمّية من المنتجات تكفي لسدّ حاجات جميع أفراده. كذلك، فإنّ الزّراعة التي تعذّر عليها الاستفادة حتّى الآن من التّطويرات والاكتشافات العلميّة، في ظلّ نظام الملكيّة الفرديّة والتّفتّت، سوف تشهد حقبة تطوّر جديدة وتمدّ المجتمع بما يحتاج إليه من منتجات. وهكذا ينتج المجتمع ما يكفي من المنتجات لتنظيم توزيعها على نحوٍ يسدّ حاجات أفراده جميعاً، فيصبح انشطار المجتمع إلى عدّة طبقات متناحرة أمراً بلا معنى، لا بل إنّه يصبح متناحراً مع النّظام الاجتماعيّ الجديد. ذلك أنّ وجود الطّبقات سببه قسمة العمل. لكنّ قسمة العمل بأشكالها القديمة، معرّضة للزّوال كلّيّاً في المجتمع الجديد. ذلك أنّ الوسائل الميكانيكيّة والكيميائيّة ليست كافية بمفردها لرفع الإنتاج الصناعيّ والزراعيّ إلى المستوى المطلوب. بل يجب أن تتمّ تنمية موازية لقدرات البشر الّذين يستخدمون هذه الوسائل. ومثلما عدّل الفلّاحون وعمّال المانيفاتورة في القرن الماضي مجمل نمط حياتهم بعد انخراطهم في الصّناعة الكبيرة، وباتوا بشراً مختلفين كلّ الاختلاف عمّا كانوه من قبل، كذلك فإنّ الإنتاج الجماعيّ يتطلّب بشراً مختلفين هم أيضاً عن البشر الحاليّين المشدود كلّ منهم إلى فرعٍ مخصوص من فروع الإنتاج والمقيّد به والعاجز بالتّالي عن تنمية أكثر من مقدرة واحدة من مقدراته على حساب المقدرات الأخرى، وعن معرفة أكثر من فرع واحد من فروع الإنتاج، أو حتّى أكثر من جزء من هذا الفرع. إنّ الصناعة، في وضعها الراهن، قد تدنّت حاجتها لمثل هؤلاء البشر. فالصناعة الجماعيّة المبرمجة تفترض بشراً نمتْ مقدراتهم وكفاءاتهم في شتّى الاتّجاهات فباتوا ملمّين بمجمل نظام الإنتاج. بذلك، تزول قسمة العمل كلّيّاً، بعد أن يكون تقدّم المكننة (الآليّة) قد أمعن فيها نخراً - قسمة العمل هذه الّذي كانت تجعل من الواحد فلّاحاً والثّاني حذّاءً والثالث عاملاً في مصنع والرابع مضارباً في البورصة. ثمّ يوجّه التّعليم بحيث يؤهّل الشباب لأن يحيطوا بمجمل نظام الإنتاج بسرعة وأن ينتقلوا من فرعٍ إنتاجيٍّ لآخر وفق حاجات المجتمع أو وفق ميولهم الشّخصيّة. بذلك تنتفي عنهم أحاديّة الجانب التي تفرضها عليهم قسمة العمل. إنّ المجتمع المنظّم على أساسٍ شيوعيّ يتيح لأفراده المجال لكي يوظّفوا مقدراتهم المصقولة على نحوٍ فعّال في جميع الاتّجاهات. فتكون النّتيجة زوال جميع الفوارق الطّبقيّة. هذا يعني أنّ المجتمع الشيوعيّ لا يتوافق مع وجود الطّبقات من جهة، وهو يوفّر بذاته وسائل إلغاء الفوارق الطبقيّة من جهة أخرى.
مع إلغاء الملكيّة الفرديّة، سيزول أيضاً التّناقض بين المدينة والرّيف. ذلك أنّ ممارسة مجموعة من البشر للصّناعة والزّراعة في آن معاً، بدلاً من أن تقوم بذلك طبقاتٌ متعدّدة، يشكّل لأسباب محض مادّية، شرطاً ضروريّاً من شروط التّنظيم الشيوعيّ. ثمّ إنّ تبعثر السكّان الريفيّين في مقابل تمركز السكّان الصناعيّين في المدن، ظاهرة تمثّل مرحلةً دنيا من مراحل تطوّر الزراعة والصناعة على حدٍّ سواء، وعقبةً في وجه التّقدّم بدأنا نستشعرها منذ الآن.
إنّ تعاون جميع أفراد المجتمع على الاستعمال الجماعيّ والعقلانيّ للقوى الإنتاجيّة، وزيادة الإنتاج بحيث يستطيع سدّ حاجات الجميع وإلغاء التّنظيم الاجتماعيّ حيث تشبع حاجات البعض على حساب البعض الآخر، وإزالة الطّبقات وتناقضاتها، والتّنمية الشّاملة لمؤهّلات وكفاءات جميع أفراد المجتمع عن طريق إلغاء قسمة العمل - كما عرفناها حتّى الآن على الأقلّ، وعن طريق التّعليم المرتكز على العمل وتنويع النّشاطات التي يساهم فيها البشر وإشراك الجميع في الرّفاه الّذي يخلقه الجميع، تلك هي النّتائج الرئيسيّة لإلغاء الملكيّة الفرديّة.
ما هو موقف النّظام الشيوعيّ من الأسرة؟
إنّ النّظام الشيوعيّ سوف يحوّل العلاقات بين الجنسين إلى مجرّد علاقاتٍ شخصيّة تخصّ المعنيّين بالأمر ولا يحقّ للمجتمع أن يتدخّل فيها. ويتحقّق هذا التحوّل عند إلغاء الملكيّة الفرديّة والبدء بالتّربية الجماعيّة للأطفال، الأمر الّذي يطيح بالدّعامتين الرّئيسيّتين لمؤسّسة الزّواج الحاليّة: تبعيّة المرأة للرّجل وتبعيّة الأطفال للأهل. هذا هو الجواب على كلّ تخرّصات فلاسفة الأخلاق البرجوازيّين الّذين ينسبون للشّيوعيّة عزمهم على إطلاق مشاعيّة النساء. إنّ مشاعيّة النساء علاقة لا يعرفها إلّا المجتمع البرجوازيّ وهي تتمثّل حاليّاً بالبغاء. غير أنّ البغاء يرتكز على الملكيّة الفرديّة، ويزول بزوالها. هذا يعني أنّ التنظيم الشيوعيّ للمجتمع سوف يقضي على مشاعيّة النّساء بدلاً من أن يغذّيها.
ما هو موقف النّظام الشيوعيّ من القوميّات؟
إنّ الفوارق القوميّة والتّناقضات بين الشعوب آخذة بالزّوال تدريجيّاً مع نموّ البرجوازيّة وحرّيّة التّجارة وقيام السوق العالميّة وتوحيد الإنتاج الصناعيّ والظّروف المعيشيّة المقابلة له. وهذه عمليّة سوف تستكملها البروليتاريا عندما تستولي على السلطة. إنّ وحدة نضال البروليتاريا، في الأقطار المتمدّنة على أقلّ تقدير، تشكّل شرطاً من أوّل شروط تحرّرها. وما إن يزول استغلال الإنسان للإنسان حتّى يختفي معه استغلال أمّة لأمّة أخرى. كما يزول التّناحر والعداء بين الأمم مع زوال التّناحر بين الطّبقات فيها.
ما موقف النّظام الشيوعيّ من الدّين؟
(هل من حاجةٍ إلى نفاذ بصيرة لكي يدرك المرء أنّ تغيّر معاش البشر وعلاقاتهم الاجتماعيّة ووجودهم الاجتماعيّ يستتبع تغيّراً في تمثّلاتهم ومفاهيمهم وأفكارهم، باختصار، في وعيهم؟ عندما كان العالم القديم يُحتضَر، تمكّنت الدّيانة المسيحيّة من الانتصار على الديانات القديمة. وعندما تقهقرت الأفكار المسيحيّة أمام هجمة الأفكار التّقدّمية في القرن الثامن عشر، كانت آخر قلاع الإقطاع تهوي تحت ضربات البرجوازيّة الزّاحفة، التي كانت تشكّل طبقةً ثوريّةً آنذاك. ذلك أنّ شعارات حرّيّة الفكر وحرّيّة المعتقَد الدينيّ لم تكن إلّا إيذاناً بحلول ملكوت المنافسة الحرّة في حقل المعرفة. إنّ الثورة الشيوعيّة سوف تعلن القطيعة الكاملة مع علاقات الملكيّة القديمة. فما العجب إذن إن هي أعلنت القطيعة الجذريّة الكاملة، في سياق تطوّرها، مع الأفكار التّقليدية؟).
بماذا يختلف الشيوعيّون عن الاشتراكيّين؟
إنّ الاشتراكيّين (الّذين يستحقّون هذه التسمية) ينقسمون إلى فئاتٍ ثلاث:
تتكوّن الفئة الأولى من أنصار المجتمع الإقطاعيّ والعشائريّ الآخذ بالانهيار يوميّاً تحت ضربات الصّناعة الكبيرة والتجارة العالميّة ووليدهما - المجتمع البرجوازيّ.
هذه الفئة من الاشتراكيّين تستخلص من أمراض المجتمع الحاليّ ضرورة الارتداد إلى المجتمع الإقطاعيّ والعشائريّ.
وكلّ ما يطالبون به يتّجه، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، نحو هذا الهدف. إنّ الشيوعيّين يناضلون دائماً وبعناد ضدّ هذه الفئة من الاشتراكيّين الرّجعيّين، على الرّغم من عطفهم المفتعل على العمّال والدّموع الّتي يذرفون على بؤسهم.
وذلك للأسباب الآتية:
لأنّهم يسعون إلى هدفٍ مستحيل التّحقّق.
لأنّهم يجهدون لإعادة سيطرة الأرستقراطيّة ومعلّمي الحرف وأصحاب المانيفاتورات وما يرتبط بهم من ملوك مطلقين وإقطاعيّين وموظّفين وجنود وكهنة - أي بعث مجتمع إذا كان لا يشتمل على عين أمراض المجتمع الراهن إلّا أنّه يحمل من الأمراض الأخرى ما لا يقلّ عنها، فضلاَ عن كونه لا يقدّم للعمّال المضطهدين إمكانيّة التّحرّر عن طريق الشيوعيّة.
لأنّهم يفصحون عن أهدافهم الحقيقيّة في كلّ مرّة تعتنق فيها البروليتاريا العقيدة الشيوعيّة وتسير في طريق الثورة، فيتهاتفون للتّحالف مع البرجوازيّة لمناهضتها.
تتكوّن الفئة الثانية من الاشتراكيّين من أنصار المجتمع الراهن ممّن أثارتهم الأمراض الناتجة حتماً منه، فأصابتهم الخشية على وجوده واستمراره، فراحوا يسعون للحفاظ على المجتمع الرّاهن عن طريق تخليصه من الأمراض المرتبطة به. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يقترح البعض منهم اللّجوء إلى إجراءات الإحسان العاديّة، بينما يقترح البعض الآخر إصلاحات جبّارة تتذرّع بإعادة تنظيم المجتمع في الحين الّذي ترمي فيه فعلاً إلى المحافظة على القواعد التي يقوم عليها المجتمع الرّاهن، وبالتّالي المحافظة على هذا المجتمع نفسه. إنّ الشيوعيّين يناضلون بحزم وعناد هنا أيضاً ضدّ هؤلاء الاشتراكيّين والبرجوازيّين لأنّهم يعملون في الواقع في خدمة أعداء الشيوعيّين ويدافعون عن المجتمع الّذي يسعى الشيوعيّون إلى تغييره.
أخيراً، تتكوّن الفئة الثالثة من الاشتراكيّين الديمقراطيّين الّذين يشاطرون الشيوعيّين تأييدهم لقسمٍ من المطالب الواردة أعلاه، ليس بوصفها وسيلةً للانتقال إلى الشيوعيّة وإنّما بوصفها وسيلةً للقضاء على بؤس المجتمع الرّاهن وأمراضه. وهؤلاء الاشتراكيّون الديمقراطيّون إمّا أن يكونوا بروليتاريّين ينقصهم استكمال وعي شروط تحرّر طبقتهم وإمّا يكونوا ممثّلين عن البرجوازيّة الصغيرة، تلك الطّبقة التي تملك مصالح مشابهة، في أكثر من وجه، لمصالح البروليتاريا إلى حين تحقيق الديمقراطيّة والشروع بتطبيق الإجراءات الاشتراكيّة النّاجمة عنها. لذا فإنّ الشيوعيّين يتحالفون مع هؤلاء على الصّعيد العلميّ، ويسعون للتّوصّل معهم إلى سياسة مشتركة، ولكن بالقدر الّذي يمتنع فيه هؤلاء الاشتراكيّون عن تقديم الخدمات للبرجوازيّة الحاكمة ومهاجمة الشيوعيّين. وواضحٌ أنّ هذا العمل المشترك لا يستبعد نقاش الخلافات التي تفصل بيننا وبينهم.
ما هو موقف الشيوعيّين من الأحزاب الأخرى؟
يختلف هذا الموقف باختلاف البلدان. ففي إنكلترا وفرنسا وبلجيكا، حيث تسيطر البرجوازيّة، يلتقي الشيوعيّون حول مصالح مشتركة مع مختلف الأحزاب الديمقراطيّة، وتتوطّد هذه المصالح المشتركة بالقدر الّذي تقترب فيه الإجراءات الاشتراكيّة التي ينادي بها هؤلاء الاشتراكيّون من الهدف الشيوعيّ، أي بقدر ما يتصاعد دفاعهم الواضح والحازم عن مصالح البروليتاريا وتأييدهم لها. ففي إنكلترا مثلاً يمكن اعتبار حركة «الشارتريّين» ذات القاعدة العمّاليّة أقرب بكثير إلى الشيوعيّين من الدّيمقراطيّين البرجوازيّين الصّغار أو أولئك الذين يسمّون أنفسهم راديكاليّين.
في أميركا، المتمتّعة بدستور ديمقراطيّ، ينبغي على الشيوعيّين أن يتحالفوا مع الحزب الرّامي إلى قلب هذا الدّستور ضدّ البرجوازيّة وإلى تحويله لخدمة مصالح البروليتاريا. ونعني بهذا الحزب «الإصلاحيّين الزّراعيّين الوطنيّين».
في سويسرا، لا يجد الشيوعيّون رفقة طريق غير الراديكاليّين، رغم عدم تجانسهم، وأكثرهم تقدّماً المجموعات الراديكاليّة في «الفودوا» و«جينيف».
أخيراً، فإنّ ألمانيا تمهّد للمعركة الفاصلة ضدّ البرجوازيّة والملكيّة المطلقة. ولكن، بما أنّ الشيوعيّين لم يصلوا بعد إلى مرحلة المجابهة الحاسمة بينهم وبين البرجوازيّة، لأنّ هذه لم تتسلّم السلطة السياسيّة بعد، فإنّ من مصلحتهم أن يساعدوا البرجوازيّة على الاستيلاء على السلطة بأسرع وقتٍ ممكن.
لذا، ينبغي على الشيوعيّين أن يساندوا باستمرار البرجوازيّين الليبراليّين ضدّ الحكومات الاستبداديّة، ولكن دون أن يشاطروا أولئك البرجوازيّين أوهامهم ودون تغذية أضاليلهم عن العهد المتألّق الّذي سيفتتحه للبروليتاريا انتصار البرجوازيّة. إنّ الفوائد الوحيدة التي سيحملها انتصار البرجوازيّة للشيوعيّين تتلخّص:
أوّلاً، في التّنازلات العديدة التي ستسمح للشيوعيّين بأن يدافعوا عن آرائهم ويناقشوها ويدعوا لها، فيساهمون بالتالي في تحويل البروليتاريا إلى طبقة موحّدة ومنظّمة شديدة التّماسك ومتحفّزة للنّضال، وثانياً، في اليقين بأنّ الصّراع بين البرجوازيّة والبروليتاريا سوف ينشب في اليوم ذاته الّذي تتهاوى فيه الأنطمة الملكيّة الاستبداديّة. ابتداءً من ذلك اليوم، تصبح سياسية الشيوعيّين الألمان مطابقة لسياسة رفاقهم الحاليّة في البلدان التي استولت البرجوازيّة فيها على السّلطة السّياسيّة.
- ١. يستخدم أنغلز في هذا الكتاب - شأنه وماركس في «الإيديولوجيّة الألمانيّة» و«بؤس الفلاسفة» - تعبير «العمل» بدلاً من «قوّة العمل» الّذي أخذا يستخدمانه ابتداءً من الخمسينيّات (المترجم).
- ٢. يستعمل أنغلز (ومعه ماركس) صيغة البلدان أو الشّعوب «المتمدّنة» وفي مقابلها الشعوب «البربريّة» أو «الهمجيّة». «التّمدّن» هنا قياس تاريخيّ مرتبط بالتّطوّر الاقتصاديّ الصناعي بالدّرجة الأولى. و«الهمجيّة» أو «البربريّة» - كما يفسّرها أنغلز نفسه - تعيينللعنف الّذي تبديه هذه الشّعوب. ويعكس هذا العنف القهر الّذي ترزح تحته، كما يعبّر عن معاناتها من الاستغلال ومن قسوة ظروف المعيشة (المترجم).
- ٣. لمانيفاتورة هي المرحلة الانتقاليّة بين نظام الإنتاج الحرفيّ وبين الرّأسماليّة الحديثة القائمة على الإنتاج المصنعيّ الآليّ الّذي يسمّيه انغلز هنا «الصناعة الكبيرة». نظام الحرف هو الإنتاج الحرفيّ في مدن القرون الوسطى الذي يتولّاه حرفيّون مستقلّون يملكون أدوات الإنتاج ويساعدهم في عملهم المياومون والزّملاء المتدرّبون. أما المانيفاتورة، فيتولّاها عمّال منزليّون يملكون أدوات الإنتاج في معظم الأحيان لكنّهم، في المقابل، يعملون لحساب تجّارٍ رأسماليّين وتقوم المانيفاتورة - في أطوارها المتقدّمة - على تجميع عمّالٍ وحرفيّين في مشاغل كبيرة يملكها أرباب العمل الرّأسماليّون. (المترجم).
- ٤. كُتب هذا النّصّ قبل ٢٦ سنة على اندلاع «حرب الانفصال» التي قضت على الرّقّ في أميركا الشّماليّة. حينها كان الرّق لا يزال سائداً في بعض المستعمرات الفرنسيّة وفي البرازيل، ولم يتمّ إلغاؤه هناك إلّا في عام ١٨٨٧ (المترجم).
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.