«على نغمات الأوتار»١ عنوان لرواية صغيرة للصحافيّ أسعد عقل نشرت ضمن عدد من الروايات التي كانت تنشرها الجريدة البيروتيّة «المعرض» في عشرينيّات القرن العشرين. ليس عنوان هذه الرواية الذي قد يجذبنا فقط، إنّما وصفها لبيروت والمنطقة خلال الثورة السوريّة الكبرى ضدّ الاستعمار الفرنسيّ الذي يخال القارئ أنّه كُتب في بيروت اليوم:
«الحرب قاعدة في جارتنا سورية أمّا لبنان فهادئ ولولا الأزمة الاقتصاديّة الخانقة لما ميّز بين الحياة في باريس وبيروت. ويتجلّى السلام بأحلى مظاهره في العاصمة اللبنانيّة بأعيادها وحفلاتها الشتائيّة، ليليّة كانت أم نهاريّة، وإن كانت قد خسرت الكثير من رونقها بسبب شعور الناس وآلام جيرانهم ونكبات سكّان الحدود. ومن أبهى الحفلات الأسبوعيّة التي يحييها الموسيقيّون الروس ظهر كلّ أحد في نادي (الكاريون). وفي الحقيقة إن هؤلاء الفنّانين الذين قذفتهم العاصمة البولشفيّة إلى ديارنا قد خلقوا عندنا نهضة خصوصاً في ذوق قومنا»٢.
فهذه بيروت كما هي اليوم بتناقضاتها ومشاكلها، باختلاط تقاليدها بعصريّتها، بانفتاحها واجتذابها لمختلف اللاجئين. منذ نهاية القرن التاسع عشر، عرفتْ بيروت تغييرات سياسيّة، واجتماعيّة وفكريّة، حوّلتها لمدينة منفتحة ومتمدّنة والميناء الأهّم في بلاد الشّام. لم تكن الموسيقى بمنأى عن هذه التغييرات، إذ شهدت في بيروت والمنطقة تحوّلات عدّة على صعد أماكن وأساليب الغناء والذوق الموسيقيّ، نتيجة رغبات متعدّدة محلّية لمواكبة تغيّرات العصر واللحاق بالتمدّن الاجتماعيّ والثقافيّ. تستعرض هذه المقالة أبرز التغييرات التي شهدتها البلاد على الصعيد الموسيقيّ خلال فترة الانتداب الفرنسيّ (١٩٢٠ - ١٩٤٣) بعد موجز سريع للحياة الموسيقيّة حتى بداية الحرب العالميّة الأولى.
المشهد الموسيقىّ المشرقيّ في العهد العثماني
كانت بيروت تقع بين قطبين موسيقيّين أساسيّين خلال القرن التاسع عشر، هما القاهرة وحلب اللتان أثّرتا على باقي مدن المنطقة. فاتّسمت مدن بلاد الشّام بالميراث الموسيقيّ التقليديّ ذاته المتأثّر بالموسيقى التركيّة والمصريّة والفارسيّة. فعرفت الموشّحات والقدود والأغاني الشعبيّة (المواليا، الزجل)، ومن ثمّ القصيدة والدور المصريّ، وكافة القوالب الشرقيّة (الدولاب، التحميلة، السماعي والبشرف). كما عرفت بلاد الشّام ما يسمّى التنزيلات، وهي منظومات على أسلوب الموشّحات، من تلحين الناظم نفسه، أو على ألحان الأغاني التي كانت شائعة في تلك الفترة. وكثرت تلك العادة للاستفادة من رواج تلك الأغاني وبالتالي سهولة حفظها٣. ولم تعرف بلاد الشّام نظام التخوت التي كانت بمثابة مدارس يتعلّم فيها المنشدون أسرار الفنّ وقواعده، إنّما من المرجّح أنّ التخوت المصريّة والمدارس الصوفيّة الحلبيّة قد أثّرت على كافة المدن المشرقيّة لناحية التقاليد والتنظيم.
ظهرت في تلك الفترة أولى المحاولات الموسيقيّة التنظيريّة، خصوصاً مع الاحتكاك المتزايد بالغرب، بحثاً عن هويّة موسيقيّة وثقافيّة. كتب ميخائيل مشّاقة (١٨٠٠ - ١٨٨٨) «الرسالة الشهابيّة في الصناعة الموسيقيّة» (١٨٥٠)، وفيها أوّل تصنيف وتوصيف شامل للمقامات العربيّة، للنّظام اللحني، وللآلات الموسيقيّة المعتمدة في التقليد الموسيقي الفنّي الخاصّ بالمشرق العربيّ. ووضع نظريّة موسيقيّة تنقد تقسيم الدّرجة الموسيقيّة إلى أرباع الدّرجات المتساوية. أمّا مقالة أحمد فارس الشدياق عن الموسيقى فتجسّد بداية الوعي عند متنوّري العصر للحاجة إلى وضع تعريفٍ للموسيقى الشرقيّة يثبت تميّزها عن الموسيقى الغربيّة، وتحديداً تحضّرها وذلك من خلال التّشديد على أهمّيّة اختلاف أذواق الشعوب٤. فقد حاول الشرقيّون منذ أواخر القرن التاسع عشر وضع تعاريف موسيقيّة رغبةً منهم بتقليد أوروبا كنموذج أعلى لحضارة متقدّمة ثقافيّاً، مع إصرارهم على الدفاع عن هذه الموسيقى الشرقيّة والاعتراف بجماليّتها الخاصّة بها. بالنّسبة إلى الشدياق، تتميّز الموسيقى الغربيّة بالتّدوين والهارمونيا، في حين ترتكز الموسيقية الشرقيّة على التنوّع المقاميّ والإيقاعيّ، أمّا الاختلاف الأساسيّ بينهما فهو التأثير الموسيقيّ في الجمهور. يشدّد الشّدياق على أنّ الموسيقى الأوروبيّة تعبّر عن الصّوَر والمفاهيم، في حين أنّ الشرقيّة متخصّصة في إثارة العواطف. صحيح أنّ توصيفاته ذاتيّة وغير علميّة، إلّا أنّها تظهر الاهتمام المتزايد بالموسيقى لدى مفكّري النّهضة العربيّة وأدبائها، وتعبّر عن مدى أهمّيّة العاطفة كأساس يمّيز الهويّة المشرقيّة بالنّسبة إليه وإلى كثير من منظّري تلك الفترة حيث تعتبر من أهمّ ركائز المجتمع الشرقيّ وموسيقاه.
من جهة أخرى، لم تكن نظرة المجتمع البيروتيّ وسائر مدن بلاد الشام منفتحة على فنّ الغناء والموسيقى، فمنعت الضغوطات الاجتماعيّة دخول النّساء عالم الغناء والتمثيل (حضوراً ومشاركةً)، واقتصرت مشاركتهّن على الحفلات الشعبيّة من خلال الزلاغيط. بقيت النّظرة الدونيّة للمغنّيات في المقاهي هي الطاغية، ومن المرجّح أنّ أولى المغنّيات الشاميّات كنّ يهوديّات، إذ توجّهت العديد من يهوديّات ومسيحيّات بلاد الشام إلى مصر حيث الظروف الاجتماعيّة والفنّيّة متقبّلة أثر للوجود النسائيّ، خصوصاً أنّ الموسيقى كانت تعتبر مهنة كسائر مهَن الصناعات اليدويّة، لكنْ إلى حدٍّ ما متدنيّة المستوى الاجتماعيّ، على الرغم من أنّ بعض المطربات استطعن اختراق بعض الحواجز، كالمغنّية البيروتيّة ليلى، التي اشتهرت في نهاية القرن التاسع عشر. اذ استحقّت هذه «المطربة المتفنّنة» التّقدير وذكر اسمها في الجرائد المحليّة، من خلال إحيائها مع جوقتها العديد من الحفلات في المقاهي وفي أعراس العائلات الغنيّة (كعائلة فرعون)٥، كما شاركت في مسرحيّات أبي خليل القبّاني.
المسارح والملاهي
ظهرت في بيروت خلال تلك الفترة مقاهي وملاهي الخلاعة أو المقاصف٦، عُرِفت «كمراسح للخلاعة والبطر والفساد»٧، منها قهوة لوكا أو المرصد التي اشتهرت ببراعة بناتها الأوروبيّات اللاتي تسمّين «بنات القهوة» أو «بنات الموسيقى» لأنّهن كنّ يلعبن الموسيقى. أمّا المسؤولة عنهّن فكانت تسمّى «كومبانيّة». كان القانون يمنع مجالسة «بنات الموسيقى» للرّجال، وغالباً ما كانت تلك الملاهي ممنوعة على المسلمين٨.
أمّا بالنّسبة إلى المسرح، فلم تكن بلاد الشّام قد اكتشفت فعلاً الفنّ المسرحيّ حتى منتصف القرن، واقتصرت وسائل التسلية على نوعين أساسين من الفنون الشعبية في المقاهي والساحات: الحكواتي وعروض كركوز وعواظ وخيال الظّلّ، الذين شكّلوا بذور المسرح فيما بعد. ومع انتصاف القرن وتزايد التأثير الأوروبيّ، ظهرت ملامح المسرح، فعرفت بيروت مسرحيّات مارون النقّاش (أرزة لبنان) الذي ترجم أولى النصوص المسرحيّة الغربيّة وعرضَها في دارته (١٨٤٨). كانت المسرحيّات تُمثَّل في منازل أعيان ووجهاء الطبقات الميسورة والغنيّة وفي الصالونات الأدبيّة. وعرفت المدارس، خصوصاً الإرساليّات منها، نشاطاً مسرحيّاً مهمّاً، ممّا دفع عدداً منها إلى افتتاح مسارحها الخاصّة والتي ما لبثْ أن استعملتها فرق خاصّة. مع الوقت، انتقلت المسرحيّات من صحون الدُّور وإيواناتها إلى المقاهي، ومن ثمّة الى المسارح التي بُنيت وانتشرت في بداية القرن العشرين على نمط المسرح الغربيّ (كمسرح زهرة سورية أو الكريستال) حيث تقام المسرحيّات وتُعرض مختلف أنواع الموسيقى والرقص. وكانت تسمّى مرسح في البداية أو صالة، ومن ثمّة انتشر اسم تياترو أو كازينو.
الموسيقى والغناء
ذكرت بعض الجرائد البيروتيّة أسماء موسيقيّين من بيروت ظهروا على مسارح المدينة في بداية القرن، منهم الموسيقيّ والعوّاد شكري السودا والمطرب فيليب الشوشاني. وكان السودا من أشهر موسيقيّي بيروت، فقد أحيا العديد من الحفلات والمسرحيّات، وتوفّي حوالي عام ١٩٢٠. وكثيراً ما ذُكر اسمه في الصحافة كموسيقي مجلٍّ يحاضر عن الموسيقى، ومَنشئها وتنظيم نظريّاتها الموسيقيّة ونطاق نظام التّدوين. مثال على ذلك المحاضرة التي ألقاها عن الموسيقى العربيّة، بمشاركة عدد من الموسيقيّين، منهم «المنشد الفنّي والبلبل العربيّ بولس أفندي صلبان»، و«أمهر المغنّين في البغدادي والمعنّى والقرّادي والعتابة». أثنت جريدة «لسان الحال» على هذه الحفلة النّادرة التي جمعت «اللذة والإحسان»٩، لكنّها انتقدتْ بعد يومين صاحب الدّعوة الذي لم يكتف بالبطاقات التي وُزِّعت، بل استمر بالبيع «على الباب»، فكان الحضور كثيفاً نظراً لشهرة الاثنين، ممّا أعاق الاستمتاع بالحفلة. وعلى الرغم من هذه الملاحظة، كانت الحفلة مشوّقة، إذ إنّ السودا كان يعطي أمثلة عن كلّ تفسيراته للموسيقى «المعروفة قديماً وحديثاً»١٠. كما شارك السودا في وضع ألحان مسرحيّة «عروس ليالي الطّرَب» لشبلي ملّاط والتي عُرضت سنة ١٩٠٣ على المرسح البيروتي «زهرة سورية»، تمثيل وغناء «المطربين الأصوليّين المشهورين الحاج عبد الرحيم أفندي الصفح وحليم أفندي النّحّاس» والممثّلة رحلو. وشارك في الحفل بعد عدة أيّام فيليب أفندي الشوشاني١١ والجوق المصري١٢. ومن الطريف أنّ إعلان المسرحيّة يعطي بعض المعلومات عن المشاكل التي كانت تواجهها المسرحيّات في تلك الفترة كالملل والضجر والحَرّ، ويَعِد من يحضر بعدم النّدم، «فلا يمكن لزيد مثلاً أن يقول (بَلَصُونا) ولا لعمرو أن يتأفّف ولا لخالد أن يشكو ويتبرّم»١٣.
كذلك اشتهر في بيروت الموسيقي والمغنّي بولس صلبان «بلبل سورية» مع عازف العود المرافق له سليم عوض. كان فنّاناً ذا طباع خاصّة، يرفض الغناء في الحفلات الخاصّة بالأغنياء. يُتّهم بأنّه «لئيم، مغنَّج وأعْوَج»، يأتي دائماً متأخّراً على الحفلات. من أخباره الطّريفة أنّه في سنة ١٩٠١ كان مدعوّاً إلى حفل زفاف ابن جلال باشا، فطُلب منه الغناء، إلّا أنّه أنشد دوراً واحداً، ثمّ توقّف. وعلى الرّغم من إصرار المدعوين ورجاء صاحب الدّعوة، رفض الغناء وغادر الحفلة، متّهماً الحاضرين بأنّهم غير مهتمّين أبداً بالموسيقى ولا يستذوقونها، لا يهمّهم إلّا المظهر، والمأكل والمشرب. وتوجّه إلى منزل صديقه حبيب سعادة المجاور للقصر ليحتفل بعرس ابن جلال باشا في منزله، «فليس لجدران بيت الباشا آذانٌ تسمع رنّات العود والأناشيد»١٤. كان بولس الصلبان يرفض نظرة المجتمع إلى الموسيقيّين ووضْعهم الذي فرَض عليهم أن يُنشدوا بالأعراس والمآتم والحفلات. فيلوم المجتمع والفنّانين أنفسهم على هذا الوضع الاجتماعيّ الصعب والوضيع.
تحوّلات الحياة الموسيقيّة في ظلّ الانتداب
مع بزوغ القرن العشرين، أضحت بيروت مركزاً ثقافيّاً ومدينة كوزموبوليتيّة منفتحة أكثر فأكثر على الغرب١٥. وتكوّنت تدريجيّاً طبقة وسطى مدنيّة و«عصريّة» مؤلّفة من مثقّفين ومتعلّمين، تجّار وموظّفين، تبلورت لاحقاً في عهد الانتداب الفرنسيّ وأصبحت ذات تأثير واضح في الحياة اليوميّة البيروتيّة. تكوّنت هذه الطّبقة من رجال ونساء متعلّمين يتشاركون مستوىً اقتصاديّاً وثقافيّاً مماثلاً ونمطَ حياة مرتبطاً بالتسلية والترفيه١٦، فاجتمعتْ هذه الطبقة في أماكن اللهو والصالونات الأدبيّة، في المسارح والمقاهي، حيث كانت تتشارك الأحاديث والأفكار والقراءات والاستماع للموسيقى. واعتمدت هذه الطبقة حياة كوزموبوليتيّة جمعت ما بين الثّقافة المتمدّنة والممارسات التقليديّة.
مع ظهور هذه الطبقة الجديدة وزيادة النفوذ الأوروبيّ، شهدت بيروت افتتاح حانات ومطاعم ومسارح ومقاهي غناء جديدة، استقدمت العوالم والفرق المصريّة والراقصات العربيّة والأجنبيّة، سُمعت من خلالها الموسيقى والمحادثات والضّحك. كذلك عرفت بيروت باكراً احتكاكاً مباشراً مع الموسيقى الأوروبيّة من خلال وجود موسيقيّين وعازفين أوروبيّين أحيوا حفلات خاصّة وأعطوا دروساً خصوصيّة في المدينة منذ أوائل القرن العشرين، تحديداً في مدرسة الأحد التّابعة للكلّيّة السوريّة الإنجيليّة (الجامعة الاميركيّة لاحقاً). وأصبح تعلّم الموسيقى علامة الحداثة، فاشترت العديد من العائلات البيروتيّة الميسورة آلة البيانو نموذجاً لرقيّها وتمدّنها، وأصبح تعلّم هذه الآلة محبَّذاً، خصوصاً للبنات١٧.
شكّل مجيء الفرنسيّين بعد الحرب العالميّة الأولى نقطة مفصّلية، إذ شهدت العشرينيّات والثلاثينيّات تغييراً جذريّاً لأنماط التّسالي تزامَنَ مع كافّة التغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة التي شهدتْها البلاد، وذلك «نتيجة الاختلاط بالأجانب والسّعي إلى تقليدهم»١٨. تطوّر نوعٌ جديد من الحانات متغرّب يُعرف باسم بار أو كازينو أو دانسينغ، «أرتيستاته» أوروبيّات يُسمح لهنّ بمراقصة الرجال ومجالستهنّ، على شرط تقديم الشراب لهنّ١٩. فتغيّر تدريجيّاً الذَّوق البيروتيّ الذي أضحى يستهويه كلّ ما هو غربيّ. وأصبحت أهمّ وسائل التسلية التي يُقبل عليها البيروتيّون والشاميّون هي السينما والحانات الراقصة وسباق الخيل.
وقد آثّر انتشار وسائل الترفيه المستوردة من أوروبّا، مثل قاعة الموسيقى والمسرح والسينما، على المشهد الموسيقيّ خلال فترة الانتداب، خصوصاً على الجماليّة والإنتاج الموسيقيّ، التي حلّت مكان الملاهي - المقاصف القديمة وأماكن الترفيه السابقة في الحدائق الخاصّة أو الشوارع، فشهدت بيروت التحوّل التدريجيّ من المقهى القديم إلى المقاهي الراقصة والحفلات الموسيقيّة المتأثّرة بالنّموذج الباريسيّ، بينما كان صاحب المقهى القديم يدفع مباشرة للمغنّي، أضحى ذلك الأخير في المسارح الحديثة اكثر استقلالاً، معتمداً على حفلاته الخاصّة في تلك الأماكن الاستهلاكيّة الجديدة، إذ يدفع الجمهور بدلاً لشراء بطاقات الدّخول. لذلك، لم يعد الاستماع إلى الموسيقى مخصّصاً للاحتفالات الرسميّة أو الخاصّة، إنّما أضحى مرتبطاً بنشاط اقتصاديّ.
باشرتْ بعض المسارح بتقديم مسرحيّات وحفلات موسيقيّة لجمهور متنوّع من أوروبيّين وبيروتيّين، وعُرضت أفلام أجنبيّة متحرّكة، لتصبح دور السينما من أكثر الأماكن عصريّة خلال الانتداب٢٠. امتلأت المدينة القديمة بعروض متنوّعة من مسرح وبهلوانات وسحَرة وفنّاني إيماء، فضلاً عن موسيقيّين ومغنّين بعضهم من المدن المجاورة، إنّما أغلبهم وأهمّهم من مصر وأوروبّا (كمنيرة المهديّة وفرقة كشكش بك). وقد حضر بيروت العديدُ من العازفين الروس هرباً من الثّورة البولشيفيّة خلال العشرينيّات تركوا بصمتهم على الموسيقى في بيروت، مثل عازف البيانو اليهوديّ أركادي كوغيل (١٨٩٨ - ١٩٨٥) الذي أسّس معهداً للموسيقى (١٩٢٩ - ١٩٤٩) في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والتحق به اثنان من أبرز موسيقيي لبنان لاحقاً، زكي ناصيف (١٩١٦ - ٢٠٠٤) وتوفيق الباشا (١٩٢٤ - ٢٠٠٥).
امتلأت شوارع بيروت بصياح فتيان في الشوارع معلنين وصول هؤلاء الفنّانين الأجانب. أصبحت بيروت مدينة صاخبة أكثر فأكثر، خصوصاً خلال الليل حيث الحانات والمسارح تمتلئ بالحشود التي تحاكي المدينة. أسهم افتتاح أماكن الترفيه على الطراز الأوروبيّ، ولا سيّما مسرح التياترو الكبير (١٩٢٧)، في تحويل بيروت إلى مدينة حديثة. وكان افتتاح المسرح الكبير حدثاً مهمّاً في تاريخ الحياة الثقافيّة، حيث شكّل جزءاً من عمليّة إعادة البناء والتجديد الرسميّة في وسط بيروت، وهي عمليّة أجرتها السلطات الفرنسيّة بهدف جعل بيروت مدينة حديثة تتماشى مع مشروعهم الاستعماريّ. سريعاً أصبح هذا المسرح من الرموز الرئيسة للحياة الثقافيّة الحديثة، تحديداً منطقة وسط المدينة التي تحوّلت خلال الليل إلى منطقة ترفيهيّة حيث تتعايش التقاليد الترفيهيّة المحليّة مع الموسيقى والعروض الأوروبيّة. لعبت هذه الأماكن الجديدة دوراً أساسيّاً في تغيير الذّوق المحليّ حيث عرضت أنواع موسيقيّة جديدة متأثّرة بالموسيقى الترفيهيّة الأوروبيّة لتلائم أذواق طبقة اجتماعيّة جديدة تبحث عن موسيقى «معاصرة» تستهويها وتناسب نمط حياتها الجديد. في الوقت نفسه، استمرّت التقاليد الشعبيّة إلى جانب أشكال التعبير الثقافيّ الجديدة.
دفع ذلك الصّحافي أسعد عقل المفاجأ بسرعة التغيّرات والمتحسّر على بيروت إلى القول:
«لقد نُحِرت الموسيقى الشرقيّة ورُمِس الغناء العربيّ واندثر المرسح الوطنيّ وقامت على أنقاضها دولة الموسيقى الأوروبيّة والأغاني الإفرنجيّة، والألحان المختلطة، ألم تبصرهم يرقصون رقصة العبيد؟ سِرْ في الأسواق واقطعْ الشوارع هل ترى على الجدران غير إعلانات الملاهي والمسارح وقصص الأشباح المتحرّكة؟ [...] هذا تقدّم بيروت «الغربيّة» وهذا رقيّها وعمرانها، هي تكره الجمود وتسير دائماً، ولكن خطوة إلى الأمام... وعشرين إلى الوراء»٢١.
بدأ الاهتمام المتزايد بالآلات الغربيّة والأنواع الموسيقيّة الغربيّة. وانتشرت الأناشيد والمونولوجات (الاجتماعيّة الانتقاديّة والرومنسيّة) مع عمَر الزعنّي ويحيى اللبابيدي والأغاني ذات الإيقاعات الغربيّة (كالتانغو، الرومبا، السامبا، والفالس). وتطوّرت الموسيقى التغريبيّة مع افتتاح أولى المدارس والمعاهد الموسيقيّة التي تتّبع المناهج الغربيّة (كمدرسة وديع صبرا). كان الاهتمام في تعلّم الموسيقى الغربيّة وتذوّقها، وخصوصاً الكلاسيكيّة منها، أكثر شيوعاً بين الطبقة المتوسطة - الغنيّة والنخبة المثقّفة في المدن السوريّة. وعرفت البلاد أفكاراً جديدة في الموسيقى، وبداية التدوين الموسيقيّ التغريبيّ وما تلاه من نقاشات حول كيفيّة التدوين والتدريب الموسيقيّ وآلياتهما. في هذا الجوّ، ظهرت محاولات متعدّدة لتأسيس معاهد وأندية موسيقيّة نواتُها طبقة من البرجوازيّين (كالنادي الموسيقيّ لألكسي اللاذقان، ١٩٠٧ - ١٩٧٣)٢٢، لحماية حقوق الموسيقيّين والترويج لموسيقى شرقيّة و/أو عربيّة حديثة، إنّما مع التركيز غالباً على الأنواع والآلات الموسيقيّة الغربيّة. فلاقت صعوبة بالاستمرار، حيث غاب التمويل الرسميّ وغابت معه الاستمراريّة.
عصر شركات التسجيل
ساهم وصول أولى شركات التسجيلات مطلع القرن العشرين بالتأثير في المشهد الموسيقيّ، إذ دخلت بيروت وبلاد الشّام والمنطقة كلّها عصراً جديداً، فخلقت جمهوراً أوسع من خلال نشر الأسطوانات والإعلانات، كما عزّزت إلى حدّ كبير من شعبيّة بعض المطربين، فاشتهر بعض مغنّي وموسيقيّي بلاد الشام في جميع الأقطار العربيّة، ممّا غيّر في وضع ومكانة المغنّي والموسيقيّ.
ظهرت أوّل شركة تسجيل عربيّة «بيضافون» في بيروت بعد الاتفاق مع شركة تسجيل ألمانيّة في برلين حوالي سنة ١٩٠٧، على يد عائلة بيضا البيروتيّة٢٣، وذلك للتسجيل لفرج الله بيضا٢٤ مغنّي العائلة مع عازف العود قاسم الدرزي، الذي سجّل العديد من المواويل البغداديّة، إذ كان الموّال البغداديّ رائجاً في بداية القرن في بلاد الشام، وتحديداً في بيروت. لكنّ الأفق المشرقيّ محدود، وسرعان ما انتشرت أعمال الشركة وتوسّعت. ساعدت تلك الشركة على انتشار وشهرة أبرز موسيقيّي المشرق ومطربيه، منهم أحمد أفندي المير (توفّي في الخمسينيّات)، والدمشقيّ محمّد العاشق (١٨٨٥ - ١٩٢٥) الذي لُقّب ببلبل الزّمان، وجميل الإدلبي (١٨٧٩ - ١٩١٩)٢٥، والشيخ أحمد الشيخ (١٨٦٨ - ١٩٣٨)٢٦، ولاحقاً يوسف تاج٢٧. كما سجّل العديد من رجال الكنيسة كالمرتّل متري المرّ (١٨٨١ - ١٩٦٩) والأبَوان الأنطونيّان يوسف العرموني وبولس الأشقر أصواتهم.
غير أنّ أشهر مطرب عرفتْه بيروت في الربع الأوّل من القرن العشرين هو من دون شكّ محيي الدّين بعيون (١٨٦٨ - ١٩٣١/١٩٣٤؟)، المغنّي وعازف البزق البيروتيّ «فارع القامة، الأسمراني»، تلميذ القانونجي أحمد البدويّ، ذو الأصل المصريّ من سكّان طرابلس الشام٢٨. مثّل بعيون في العشرينيّات المدرسةَ الموسيقيّة المدينيّة السوريّة - اللبنانيّة والتي كانت تعتمد تحديداً على غناء القصائد، فلقّب بسلطان البزق، وأمير القصائد، والمتفنّن بالغناء البغدادي. عرف شهرة واسعة وأحيا عدّة حفلات في القاهرة، وذُكر أنّه يوم وفاته أقاموا له حفلة تأبينيّة موسيقيّة كبيرة في دمشق اشترك فيها أكثر من مئة موسيقيّ كان من بينهم أمير الكمان سامي الشوّا.
من جهة أخرى، شكّل دخول التسجيلات عالم الشرق مرحلة مفصليّة: فقبل عصر الفونوغراف، كانت الحفلات الموسيقيّة للمطربين المحترفين حكراً على النخبة وللمناسبات الخاصة فقط. مع ازدياد صناعة التسجيلات وانتشار الفونوغراف، امتدّت هذه الموسيقى تدريجيّاً إلى سائر طبقات المجتمع لتشكّل ثقافة جماعيّة لم تعد محصورة في الطبقة الغنيّة، وهي عمليّة مماثلة لما حدث في مصر٢٩. أصبحت الأسطوانات أقلّ تكلفة خلال العشرينيّات، ومع سهولة الحصول عليها أضحت متوافرة لجمهور أوسع بكثير. ساهم الفونوغراف وصناعة الأسطوانات في تغيير وضع الموسيقيّين والذّوق الموسيقيّ العام. كما لعب دوراً في تأكيد هويّة الطبقة الوسطى الناشئة الجديدة. لم يعد مهنيّو الموسيقى يعتمدون على الرعاية الموسيقيّة واتّبعوا شركات التسجيل. وازدادت شعبيّة فنّانين مختلفين، وارتفعت مكانتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
كذلك ساهم انتشار الفونوغراف في المنازل الخاصّة أيضاً في تحويل الحدود بين الجنسين: انضمت المزيد من النّساء إلى المشهد الموسيقيّ ودخلت أصوات النساء إلى بيوت الخاصّة من خلال الفونوغراف، والراديو لاحقاً، فعرفت بعض مطربات بلاد الشام الشهرة وتحسّن موقعهنّ. فاشتهرت مغنّية يهوديّة اسمها حسيبة موشى لقبت بالسّت وسميت «بلبل الرياض الشاميّة»، هي من أوائل المطربات الشاميّات اللاتي سجّلن أسطوانات لشركة «غرامفون» في بدايات القرن العشرين. وقد لحّن لها كبار الملحّنين المعاصرين ومنهم أنطوان الشوّا. وعُرفت أيضاً بدريّة سعادة، ولاحقاً ثريّا قدّورة ونجيّة الشاميّة وعلياء الأطرش (والدة أسمهان) التي سجّلت مع يوسف تاج العديد من العتابات في الثلاثينيّات.
من الصعب تحديد هويّة تلك المغنّيات ومعرفة أصولهنّ. كنّ يتنقّلن بين المدن المشرقيّة والقاهرة ليغنّين في مقاهيها مجموعة مشتركة من الأغاني والطقاطيق. وبطبيعة الحال لم يتركن أثراً كبيراً في صحف تلك الفترة. لكنّ المؤكّد أنّ عهد الانتداب شهد ظهور فئة جديدة من الفنّانات عرفْن تقدّماً اجتماعيّاً وبعضاً من الاحترام المهنيّ كالمطربة لور دكّاش (١٩١٧ - ٢٠٠٥) التي لقّبت بأمّ كلثوم الصغيرة لصغر سنها آنذاك وجمال صوتها. لكن سرعان ما توجّهت لور دكّاش إلى مصر، فرغم تحسّن مكانة بعض الفنّانات في بلاد الشام، بقيت مصر وجْهة أساسيّة ومركز نجاح للعديد منهنّ كالمطربة نور الهدى، نجمة الأربعينيّات، ولاحقاً المغنّية صباح خلال الخمسينيّات.
علاوة على ذلك، تأثّرت الموسيقى نفسها بصناعة التسجيل، فشهدت فترة العشرينيّات والثلاثينيّات انتشار أشكال موسيقيّة جديدة في بيروت مستوردة بشكل رئيسيّ من مصر: كالطقاطيق المصريّة، والأوبريت والمونولوجات والحوارات الساخرة التي شكّلت النّوع الوحيد، إلى جانب الأناشيد الوطنيّة، الذي تمّ تطويره على نحو أساسيّ من قبل فنّانين محليّين أمثال عمر الزعنّي والأخوين فليفل ومتري المُرّ. مثّلت هذه الأنواع الثلاثة الموسيقى الشعبيّة التسويقيّة في بيروت خلال الانتداب التي اعتمدت على أشكال لحنيّة بسيطة مع نصوص بسيطة ولكنّها متنوعة، معبّرة عن المطالب الاجتماعيّة والسياسيّة في لغة جدليّة. غالباً ما تميّزت هذه الموسيقى بألحانها المستوحاة من الموسيقى الغربيّة واستخدام البيانو أو آلات غربيّة أخرى.
الموسيقيّ - الأديب وتعليم الموسيقى
مع ظهور الحفل من الطراز الأوروبيّ، أصبح الفنّانون أكثر استقلاليّة من خلال تقديم موسيقاهم إلى جمهور أوسع وبأسعار محدّدة مسبقاً. وهكذا، تحسّن وضع الموسيقيّين والمغنّين الذين تحوّلوا من حرفيّي ترفيه إلى فنّانين محترفين. بالإضافة إلى ذلك، ومع الظهور التدريجيّ لنخبة جديدة، تشكل جمهور جديد ذو مصالح وقيَم موسيقيّة جديدة. على عكس مجتمع القرن التاسع عشر، كان هذا الجمهور الجديد أكثر انفتاحاً على الموسيقى وممارسيها، وأكثر اهتماماً بالموسيقى التي أصبحت «فنّاً».
ظهر وتطوّر خلال تلك الفترة مفهوم جديد، هو شخصيّة الموسيقيّ - الأديب. يشير مصطلح «أديب» إلى الأخلاق الحميدة للشّخص وعلمه ومركزه، ويمثّل استعماله لوصف بعض الموسيقيّين إعادة تقييم لوضع المغنّي ضمن المجتمع. وقد شهدت بيروت تحت الانتداب انتشار التجمّعات الأدبيّة التي تجمع بين الموسيقى والأدب والفنّ. وكان نجوم هذه الاجتماعات الأدبيّة مغنّين وملحّنين غالباً ما اعتبروا من ضمن أدباء المدينة، منهم الكانتور والموسيقيّ وملحّن العديد من الأناشيد الوطنيّة متري المرّ (١٨٨٠ - ١٩٦٩) الذي قدّم حفلات موسيقيّة على الطّراز الأوروبّي في المسارح البيروتيّة، والأخَوان فليفل ووديع صبرا. حتى الشاعر والمونولوجيست عمر الزعنّي (١٨٩٥ - ١٩٦١) كان يعدّ من أدباء بيروت، على الرّغم من أنّه شكّل حالة استثنائيّة، اذ لاقى نجاحاً شعبيّاً ونخبويّاً في آن معاً، فأضحى هؤلاء الموسيقيّون جزءاً من دائرة النخبة الفكريّة والمثقّفة، يقدّمون عروضهم لتلك النخب. وقد شاركوا جميعاً في الحياة الفكريّة والثقافيّة في بيروت، وبدأوا بنشر أغانيهم وتدوينات موسيقاهم في الصحف والمنشورات الخاصّة. وبدأ عدد قليلٌ من الموسيقيّين بإلقاء محاضرات عن الموسيقى، ولا سيّما عن أصل الموسيقى الشرقيّة أو الفرق بين الموسيقى الشرقيّة والغربيّة، كما فعل وديع صبرا (١٨٧٦ - ١٩٥٢).
درس ذلك الأخير الموسيقى في باريس، فظهر اسمه غالباً في الصحافة كموسيقيّ ماهر تخرج من كونسرفتوار باريس الذي كان هدفه التوفيق بين الموسيقى الغربيّة والشرقيّة. وأشادت الصحافة بصبرا الذي اعتبرتْه بمرتبة الموسيقيّين الأوروبيّين خصوصاً بفضل جمعه «بين المعرفة الكاملة للموسيقى الفرنسيّة وجماليّة الموسيقى الشرقيّة»، واصفة إيّاه بأنّه «رمز الاتّحاد الروحيّ بين فرنسا ولبنان». يعبّر هذا الإعجاب، المبالغ به، بصبرا عن الافتتان بالغرب والرغبة الدائمة بالوصول إلى دمج ما بين الشرق والغرب الذي غالباً ما تُرجم موسيقيّاً بالاستغناء تدريجيّاً عن أسس الموسيقى الشرقية، والاستعانة بأنماط موسيقية أوروبيّة على كلمات عربيّة.
عدّ وديع صبرا وكثرٌ غيره أنّ آلة البيانو هي علامة على الحداثة. لذلك عمَدَ العديد من الموسيقيّين من مؤيّدي خطاب الحداثة والتغريب، مثل صبرا والأخوين فليفل،إلى استخدامه وإدخاله في المشهد البيروتيّ الموسيقيّ. ومن الغريب أنّ هؤلاء المؤيّدين لتغريب الموسيقى لم يُتّهموا بمحو تقاليدهم أو المساس بموسيقاهم. بل كان يُنظر إليهم على أنّهم قوميّون يطمحون لتهذيب موسيقاهم وتحويلها إلى عِلم، مساعدين بذلك على تحديث مجتمعهم، وبالتالي الإسهام في تقدّم الأمّة. إذ إنّ الموسيقى نفسها لم تكن معياراً للأصالة، إنّما استخدام اللغة العربيّة والمواضيع الوطنيّة والاجتماعيّة. من هنا يمكن تفسير هذا التناقض من خلال اختيارهم للّغة العربيّة الفصحى أو العاميّة التي تعبّر عن مواضيع من الحياة اليوميّة.
لقد أدّى إعجاب صبرا وافتتانه بالتعليم الموسيقيّ الأوروبيّ وسعيه إلى هدفه المتمثّل في التوفيق بين الموسيقى الغربيّة والشرقيّة إلى افتتاح دار الموسيقى (بيت الموسيقى) في عام ١٩١٠، الذي أصبح المدرسة الوطنيّة للموسيقى في عام ١٩٢٥ والكونسرفتوار الرسمي في عام ١٩٢٩. أصبح صبرا خلال فترة الانتداب أحد الشخصيّات الرئيسّيين في الحياة الموسيقيّة في بيروت، وحصل على دعم السلطات الفرنسيّة والمحليّة وشارك في مختلف الفعاليّات الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة، إذ إنّ أهمّ ما ميّز فكر ومشروع صبرا هو رغبته بتغريب الموسيقي الشرقيّة، وذلك لتهذيبها، فعمد في مدرسته إلى تدريس النظريّات الموسيقيّة الأوروبيّة وطرقٍ جديدة للتعليم الموسيقيّ. التقى مشروع صبرا بمشروع بناء لبنان الجديد «المتمدّن الفرنكفونيّ» من قبل السلطات الفرنسيّة والبرجوازيّة المحليّة التي دعمت وموّلت هذه المدرسة، فمثّل افتتاح هذا المعهد الموسيقيّ المحليّ والتغريبيّ تحوّلاً في التاريخ الموسيقيّ لبيروت مع بدء التغريب الرسميّ للتعليم والتقاليد الموسيقيّة. كما أدخل الطابع المؤسّساتيّ والمهنيّ على المشهد الموسيقيّ الحديث ومعه بدأت محاولات محليّة مختلفة لتعريف «فنّ الموسيقى الشرقيّة الحديثة» بالاستناد في الدرجة الأولى إلى الموسيقى الغربيّة. فقبل افتتاح هذا المعهد، كان التعليم الموسيقيّ يستند إلى التقاليد الشفهيّة ويقتصر على القطاع الخاصّ، لكن مع افتتاحه وتمويله من قبل السلطات الرسميّة، تمّ تأسيس تعليم موسيقيّ تغريبيّ رسميّ وإرساء مهنيّة الموسيقيّ المتعلّم.
المجتمع والفنّ
على الرّغم من كلّ التغييرات بقيت النظرة إلى الموسيقى والمسرح خلال الانتداب متناقضة في المجتمع. فخلال زيارة الممثّل المصريّ بمسرح رمسيس قاسم وجدي لبلاد الشام سنة ١٩٢٦، وجد صعوبة كبيرة بالحصول على معلومات أو أحاديث من البيروتيّين عن المسرح. حتى إنّه أراد تصوير بعض المسارح لكنّ اصحابها لم يرفضوا مباشرة، إنّما ماطلوه واخترعوا الحجج كي لا يتمكّن من التصوير٣٠.
وبحسب بعض الذين يعملون في المسرح والغناء والذين تكلّم معهم وجدي، لم تعرف تلك الفنونُ الأهميّة التي عرفتْها بمصر. فالمجتمع البيروتيّ والسوريّ عموماً محافظ والمسرح بالنسبة إليه مكان للتسلية فقط. لذا فهو يفضّل الروايات الشرقيّة والغنائيّة التي ترتبط بثقافته والتي تتعاطى بأموره اليوميّة، على تلك الغربيّة المُعرّبة. وغالباً ما كانت تُسمع من البيروتيّين بعد عرض رواية لفرقة جورج أبيض التعاليق التالية: «شو هيدا، شو بهمّنا نحنا من ها اللويس (لويس الحادي عشر)، ولّا ها المتعوس اللي بيتجوّز إمّه (أوديب الملك) مثل الجاج (الدجاج)، شو وينه صلاح الدين؟ وينه عنترة؟ العمى! شو بيسووا ما لهم ذكرى هلّق»٣١.
من الصعب تكوين فرق مسرحيّة غنائيّة محترفة في بيروت خصوصاً، وبلاد الشام عموماً. فبحسب متعهّد جرائد سورية خضر نحّاس، المتعهّد الأوّل للحفلات التمثيليّة والغنائيّة في بيروت، أنّ فكرة تكوين فرقة من الممثّلين والمغنّين المحترفين سابقة لأوانها وتُعتبر مخاطرة، ذلك لأنّ المجتمع والفنّانين لم يكن لديهم الاستعداد ولا المؤهّلات الكافية.
وكانت الروايات الأكثر رواجاً ونجاحاً تلك «الفكاهيّة الممتزجة بالألحان» كروايات كشكش بك، التي كانت تغصّ بالحضور، فكان على الجمهور أن يأتي قبل ساعتين من الافتتاح ليجد مكاناً للجلوس٣٢. أمّا الروايات الأدبيّة فكانت تستهوي الطبقة الغنيّة (كعائلات سرسق وبَيْهم) والمثقّفة (كالأدباء والصحافيّين). ولكي تنجح الرواية، كان عليها الاعتماد على مطرب أو مطربة للغناء بين الفصول، لأنّ الشعب يفضّل التمثيل مع الغناء. وكان على المطرب أن يؤدّي قبل بدء الرواية، في خلال كلّ فصل من فصولها، وحتى في النهاية، وإلّا ملأ الجمهور «الدنيا صياحاً وضجيجاً»، وذلك بغضّ النظر عن مدى إتقان المطرب وبراعته. فالجمهور يفضّل المغنى «حتى لو لم تتوافر فيه كلّ شروط الطرب»٣٣، فيستمع أكثر إلى الغناء في الروايات.
وكانت المسارح البيروتيّة تتميّز عن المصريّة باستمرار الأكل والشرب خلال العرض. فالبيروتيّ «لا يتمتّع بلياقات المسرح»، إذ يعتبر المسرح مثل بيته الخاصّ يستطيع أن يقول ويفعل فيه ما يشاء»٣٤، ولا يستغني عن «الأرجيلة» طوال مدّة العرض ويحضر معه البزور والفول السوداني ليأكلها و«يقزقزها» خلال العرض. وغالباً ما كانت الفوضى تعمّ المسارح بسبب بعض الحضور، فالأندية «على صغرها لا تخلو من صيحات وصفير قويّين» للتعبير عن الاستحسان او الاستهجان»٣٥. ونختم حديثنا بوصف توفيق عواد للمسرح خلال عرض مسرحيّة لكشكش بك يلخّص فيها كل ذلك: «وإذا جئت أحدّثك عن الصفير، وضرب الأرجل والعصيّ في الأرض، وعن قرقرة الأراكيل، وتصويت البزر والفستق بين الأسنان، وعن صراخ الكرسونات ونداءات الساعة، وضجّة الأقداح على طاولات العرق، لطال بي المجال، وساء المآل»٣٦.
إذاً وفي لحظة مفصليّة، تحديداً خلال الانتداب الفرنسيّ، وجدتْ بيروت نفسها أمام مشروع بناء مجتمع جديد يسعى الى التحضّر والتمدّن. فتأثّرت الحياة الموسيقيّة والثقافيّة والفنيّة بتلك التغييرات السياسيّة والاجتماعيّة وبرزت الموسيقى إلى جانب أدوات أخرى كوسيلة للتقدّم والتنمية. في ظلّ هيمنة فرنسا على الصعيد السياسيّ والاقتصاديّ وهيمنة مصر على الصعيد الفنيّ الموسيقيّ، أضحى إيجاد هويّة موسيقيّة محليّة أمراً ملحّاً وأساسيّاً لبناء هويّة لبنانيّة مختلفة عن محيطها المشرقيّ والعربيّ. هذه الأفكار التي ظهرت في ظلّ الانتداب، ستتبلور تدريجيّاً لتصبح مشروعاً واضحاً بعد الاستقلال عمَدَ إلى بناء موسيقى لبنانيّة، مع جيل الخمسينيّات والستينيّات (الرحابنة وفيروز، زكي ناصيف، صباح ووديع الصافي...) متلقّياً بذلك دعماً رسميّاً وشعبويّاً.
- ١. هذه المقالة صيغة منقّحة ومزيدة من مقدّمة كتّيب أسطوانة «رواد الطرب في بلاد الشام» التي أصدرتها مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة في العام ٢٠١٤
- ٢. المعرض، ١٤ آذار / مارس ١٩٢٦، عدد ٤٧٧
- ٣. عبد اللطيف فاخوري، « رحلة في دواوين الشيوخ عمر اليافي، أحمد الأغرّ وعمر الأنسي: الأغاني الشعبيّة والتنزيلات الدينيّة البيروتيّة»، اللواء الثقافي، ٣ أيار / مايو ٢٠١٣
- ٤. احمد فارس الشدياق، «في موسيقى اهل مالطا وغيرهم»، كنز الرغائب في منتخبات الجوائب، ١٨٨٢
- ٥. لسان الحال، ١٦ آب ١٨٩٧، عدد ٢٥٨٢
- ٦. لسان الحال، ٢ تموز ١٩٠٠، عدد ٣٤٦٠
- ٧. لسان الحال، ٢٩ ايار ١٨٩٩، عدد ٣١٢٦
- ٨. لسان الحال، ٣١ كانون الثاني ١٩٠٣، عدد ٤٣٢٣
- ٩. لسان الحال، ١٢ اذار ١٩٠٣، عدد ٤٢٤٥
- ١٠. لسان الحال، ١٦ آذار / مارس ١٩٠٣، عدد ٤٢٤٨
- ١١. لسان الحال، ٢٣ أيار / مايو ١٩٠٣، عدد ٤٣٠٦
- ١٢. وقد احيا «الجوق المصري» بقيادة طانيوس واكد عّدة مسرحيّات غنائيّة في بيروت يقوم بأهمّ ادوارها الشيخ حسن صالح «المطرب الشهير» و رحمين أفندي المصري «أستاذ التمثيل و التلحين ... الحائز قصب السبق بهذا الفنّ».
- ١٣. لسان الحال، ١٩ أيار ١٩٠٣عدد ٤٣٠٢
- ١٤. جبران خليل جبران، العواصف، «مسرحيّة الصلبان»، ١٩٢٠
- ١٥. عن التغييرات التي شهدتها بيروت خلال تلك الفترة، مراجعة: سمير قصير، تاريخ بيروت، دار النهار، بيروت، ٢٠٠٦ Sehnaoui, Nada, L’occidentalisation de la vie quotidienne à Beyrouth, 1860–1914, Beirut: Dar an-Nahar, 2002 Hanssen, Jens, Fin de Siècle Beirut: The Making of an Ottoman Provincial Capital, Oxford: Oxford University Press, 2005
- ١٦. للمزيد عن نشأة هذه الطبقة مراجعة: Abou-Hodeib, Toufoul, «Taste and class in late Ottoman Beirut », International Journal of Middle East Studies, 43⁄3, 2011, pp. 475–92
- ١٧. وخير دليل على ذلك افتتاح أوّل معهد للموسيقى في بيروت عام ١٩١٠ المتخصّص بتعليم البنات، دار الموسيقى لوديع صبرا، الذي أصبح لاحقاً المعهد العالي للموسيقى. عام ١٩١١ حقّق وديع صبرا تغييراً مهمّاً في المدينة: وذلك من خلال إرساء مسابقة بيانو سنويّة لطالباته تختبر من قبل لجنة من الخبراء المحلّيّين والأجانب يحضرها عدد من أعيان المدينة ومثقّفيها
- ١٨. كرم البستاني، مجلّة العواصف، ١٤ أيار / مايو ١٩٣٢، عدد ٨
- ١٩. كاظم الداغستاني، «المسرح والمقصف»، مجلّة الثقافة، (١٩٣٣-١٩٣٤)
- ٢٠. عن أهمّيّة السينما خلال فترة الانتداب وتأثيرها، مراجعة: Thompson, Elizabeth, «Cinema: Gendering a New Urban Space», in Colonial citizen, Republican Rights, Paternal Privilege, and Gender in French Syria and Lebanon, Columbia: Columbia University Press, 2000
- ٢١. أسعد عقل، «بيروت تعدو نحو الغرب، غرام مدينتنا الجديدة بالحياة العصريّة»، المعرض، ٢٦ كانون الثاني / يناير ١٩٢٧، عدد ٥٥٤
- ٢٢. لسان الحال، ١٢ آب / أغسطس ١٩٢٢، عدد ٨٦٩٨
- ٢٣. أّسّسها الأخَوان جبران وفرج الله، مع أبناء عمّهم بطرس وجبران وميشال
- ٢٤. يذكر سعيد فريحة انّه سنة ١٩١٨ بمناسبة عيد مار الياس، أحيا فرج الله بيضا احتفالاً للطائفة الأورثوذكسيّة في كنيسة مار الياس بطينا. وكان يتصدّر حلقة كبيرة، يغنّي المواويل البغداديّة وإلى جانبه عازف بزق. كانت الحشود كبيرة، كلٌّ يحاول الاقتراب للاستماع. وكانت العادة خلال تلك الفترة لتحيّة المطرب والتعبير عن الفرح بالحفل هي بإطلاق الرصاص. فلم يكن يكفي التطييب للمغنّي بالآه فقط، بل «بالتقويص بالهواء»، فـ «كل سحبة أوف... بألف طلقة». كانت الاحتفالات إذاً تزخر «بالطرب والرجولة والرصاص»، وكان حلم الفتى سعيد فريحة أن يملك مسدّساً ليعبّر به عن فرحه وإعجابه بفرج الله! (سعيد فريحة، الغناء البغدادي، ١٩٧٢)
- ٢٥. تعلّم الموسيقى على يد عبد الرزاق البيطار في دمشق، حاول الغناء في مصر، ولكنّه فشل، مات من الحمّى التيفوئيديّة
- ٢٦. «عندليب الغوطة» ينتمي إلى أسرة منشدين مشهورة بالشام. انضم إلى فرقة ابي خليل القبّاني. هاجر إلى يافا وفيما بعد إلى مصر. وكان من بين الخبراء الذين ساعدوا المستشرق الفرنسي الأب كولانجيت في دراسة الموسيقى العربيّة
- ٢٧. انتمى إلى الحزب القومي السوري، وكان من مؤسّسيه. أحيا عدّة حفلات للحزب
- ٢٨. قال عنه جرجي نخلة حين أحيا مع عازف القانون زاكي أفندي حفلة بمناسبة زواج جرجي أفندي عطا الله (البرق، ١ كانون الثاني / يناير ١٩١٤، عدد ٢٥٧): «يا صاحب الصوت الرخيم جرحتنا و شفيت قلب الواله المجروح سموك محيي الدين عن خطاء ولو هم أنصفوا سمّوك محيي الروح»
- ٢٩. لمزيد من المعلومات عن دخول شركات التسجيل إلى مصر والشرق عموماً مراجعة: Lagrange, Frédéric, Musiciens et poètes en Égypte au temps de la Nahda, thèse de doctorat, Université Paris VIII, 1994 Al-Racy, Ali-Jihad, Musical Change and Commercial Recording in Egypt, 1904 - 1932, doctoral thesis, University of Illinois, Urbana-Champaign, 1977
- ٣٠. قاسم وجدي، «المسرح في بلاد الشام»، مجلة المسرح، أكتوبر / تشرين الأوّل ١٩٢٦
- ٣١. قاسم وجدي، «المسرح في بلاد الشام»، مجلة المسرح، أكتوبر ١٩٢٦
- ٣٢. توفيق عواد، «في دور التمثيل: رواية رسول الشمس على مسرح الكريستال»، البيان، ٢٣ آذار / مارس ١٩٣٠، عدد ٣١٨
- ٣٣. قاسم وجدي، «المسرح في بلاد الشام»، مجلة المسرح، أكتوبر ١٩٢٦
- ٣٤. توفيق عواد، «في دور التمثيل: رواية رسول الشمس على مسرح الكريستال»، البيان، ٢٣ اذار ١٩٣٠، عدد ٣١٨
- ٣٥. نوح، «اداب المسرح»، البيان، ١٢ شباط ١٩٢٨، عدد ٢٤٥
- ٣٦. توفيق عواد، «في دور التمثيل: رواية رسول الشمس على مسرح الكريستال»، البيان، ٢٣ اذار ١٩٣٠، عدد ٣١٨
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.