في حزيران / يونيو ١٩٤٩، رفع كاتب إنكليزيّ اسمه جورج أورويل في رواية صدرت له بعنوان «١٩٨٤»، الشعارات الآتية:
«الحرب هي السلام
الحريّة هي العبوديّة
الجهل هو القوّة»
في نهاية عام ٢٠١٣، كان عشرات الملايين من الناس قد قرأوها في أكثر من ٧٠ لغة، العربية واحدة منها.
«١٩٨٤»، تروي ببساطة قصة وينستون سميث، الموظّف الصغير في دولة «أوشايانيا» الديكتاتوريّة. هذه الدولة في حرب شبه مستمرّة - باردة وساخنةـ مع القوّتين العظميين الأخريين في العالم: «يوراسيا» و«إيستاسيا». ظروف الحرب والتحالفات تتغيّر باستمرار. سميث يعمل في وزارة الحقيقة، يعيد كتابة مقالات الصحف حتى تتناسب مع عقيدة الحزب الحاكم المتغيّرة باستمرار. الحميميّات انتهت. الحياة الخاصّة أُلغيت. سميث وكلّ أعضاء الحزب يخضعون للمراقبة في مشْيهم ونومهم وبيوتهم بواسطة عين «إلكترونيّة» تلفزيونيّة. لافتات في كلّ مكان ترفع شعار الدولة: «الأخ الكبير يراقبك». الأخ الكبير هو زعيم الحزب الحاكم.
فجأة يرتكب سميث خطيئة فكريّة. يصيح في فكره: «يسقط الأخ الكبير». في الوقت نفسه يرتكب سميث خطيئة أكبر. يقع في حبّ جوليا، زميلته في وزارة الحقيقة. الحبّ ممنوع في دولة «أوشايانيا». الحزب يدعو إلى العفّة الجنسيّة. الأطفال يولدون فقط بواسطة التلقيح الاصطناعي. كلّ ولاء شخصيّ هو للحزب. البوليس الفكريّ يلقي القبض على وينستون وجوليا ويقودهما إلى وزارة الحبّ. ويُخضع البوليس سميث لأقصى درجات التعذيب. يحقّق معه في الغرفة ١٠١ لأيّام طويلة، حتى يصل التحقيق والتعذيب به إلى إدخال وجهه في قفص يحتوي على فئران. عندئذٍ ينهار سميث ويتوسّل أن يخضعوا جوليا لهذا التعذيب بدلاً منه. وتُنهي هذه الخيانة كلّ ما بقي عنده من احترام للذّات وكرامة. لقد أصبح عضواً كاملاً في الحزب. هنا فقط يُعترَف به كحزبيّ جيّد.
هكذا تصوّر جورج أورويل العالم عام ١٩٨٤. وعندما كتب أورويل هذه الرواية في نهاية الأربعينيّات، كان العالم قد خرج لتوّه من الحرب العالميّة الثانية. كانت هزيمة هتلر والنازيّة لا تزال ضاربة في أذهان الناس. وكانت الحرب الأهليّة الإسبانيّة قد انتهت بانتصار الجنرال فرانكو والفالانج. وكان ستالين سيّد روسيا والاتحاد السوفييتي. وكانت بريطانيا دولة طبقيّة فقيرة. وكانت الولايات المتّحدة لم تطمح بعد إلى زعامة العالم الغربيّ. وكانت فرنسا تلعق جراح هزيمتها على أيدي النازيّة واحتلالها لأكثر من أربع سنوات. وكانت ألمانيا خراباً. وكانت أوروبا مهدّمة. وكانت الأفكار والعقائد السائدة في تلك السنوات تتعرّض لزلزال خيبة أمل المثقّفين الغربيّين بالمسلَّمات التي تعلّموها في المدارس. وكان الفكر السياسيّ الأوروبيّ كلّه يخضع لإعادة نظر شاملة.
كان أورويل يحتقر المثقّفين، إلّا أنّه كان واحداً منهم. كان مجموعة متناقضات تسير على قدمين. كان ناقداً أدبيّاً وثقافيّاً استطاع بأسلوبه المبسّط ولغته الإنكليزيّة السلسة أن يُفهمَ النقد للعامّة. كان صحافيّاً أحال الكتابة السياسيّة إلى فنٍّ راقٍ. كان أفضل كتّاب المقال بالإنكليزيّة - بشهادة النقّاد - في هذا العصر. وكان أوّل من جعل الرواية السياسيّة تصل إلى مرتبة الفنّ الخلّاق المميّز. لقد جعل مهمّته أن يقول الحقيقة في زمن كان معاصروه قد صدّقوا أنّ التاريخ هو الكذب.
لكنّ جورج أورويل لم يكن جورج أورويل. كان اسمه أريك بلير. ولد في الهند عام ١٩٠٣ من أبٍ كان يعمل موظّفاً في حكومة الهند، مثله مثل آلاف الإنكليز الذين كانوا يديرون شؤون الإمبراطوريّة البريطانيّة مترامية الأطراف في حينه. وكانت أمّه من طبقة ريفيّة متوسّطة. وعندما يتطلع أريك إلى طفولته، لا يذكر إلّا كيف كان همّ والديه الحفاظ على المظاهر فقط. «حتى دخْل العائلة كلّه كان يُصْرَف على المظاهر». وعندما بلغ الثامنة من عمره، وأخذت بذرة التمرّد تنمو في داخله، كتب يقول: «أنا ضعيف، ليس عندي مال. أنا بشع. أنا مكروه. مصاب بسعال مزمن. أنا جبان. أنا ولد غير مقبول». كانت حاسّة النقد الصّارم لذاته قد بدأت تكبر، على عكس عادة المتمرّدين، الذين يقعون في غرور حبّ الذات.
عندما أصبح أريك بلير شاباً نال منحة دراسيّة بسبب تفوّقه تخوّله الالتحاق بمدرسة «أيتون» الشهيرة معقل الأرستقراطيّة البريطانيّة والطبقة الحاكمة في البلاد. ولم يخفّف نجاحه في الالتحاق بـ«أيتون»، كطالب متفوّق لا يدفع الأقساط (فوالده موظّف صغير وفقير)، من نقده الذاتي الصارم وتشاؤمه السوداويّ. فبدلاً من الشعور بالانتصار كتب يقول: «الفشل، الفشل، الفشل. الفشل ورائي. الفشل أمامي. هذه هي القناعة العميقة التي أحملها».
قضى أريك أربع سنوات ونصف سنة في «أيتون» من دون أن يحقّق أيّ نجاح. حقّق نبوءته بالفشل، وكان الكسل مهمّته، إلّا في القراءة. قرأ كثيراً، قرأ كلّ كتّابه المفضّلين من ديكنز إلى ثاكاري إلى ولز إلى كيبلينغ، أعمدة الأدب والفكر الإنكليزيّ. وكتب الشعر. لكنّ القراءة والشعر لم توصلاه إلى النجاح. وفشل في الحصول على مقعد في جامعتي أوكسفورد أو كامبردج حيث يذهب عادة متخرّجو مدرسة «أيتون». ولم يفز بأيّة منحة. أبوه الفقير لا يستطيع أن يدفع أقساط الجامعات الأرستقراطيّة. كان الفشل وراءه فعلاً، وأمامه قولاً.
أغلقت أبواب الوظيفة في إنكلترا في وجهه، وفتحت لأقرانه في «أيتون» الذين دخلوا الجامعات. قرّر أن يلحق بأبيه ويترك إنكلترا. التحق ببوليس الهند الإمبراطوريّ، وأُرسل للخدمة في بورما. وهناك أمضى خمس سنوات. بعدها استقال من البوليس وعاد إلى بلاده. عاد محملاً بأطنان من الشعور بالذنب. عاد ليكتب. لقد قرر أن يبدأ مساراً جديداً ويتّخذ اسماً جديداً. لقد قرّر أن يصبح كاتباً.
في مقال له بعنوان «الإعدام» (١٩٣١) ومقال آخر بعنوان «قتل الفيلة» (١٩٣٦) صوّر أعمال الإمبراطوريّة القذرة عن قرب (صدرا فيما بعد في كتاب بعنوان «أيّام بورما»). وبين هذين المقالين كان الكاتب الشابّ قد أعلن للناس نهائيّاً أنّ مكانه هو إلى جانب المضطهدين والمستضعفين. وفي السنوات العشر التي تلت عودته من بورما إلى إنكلترا، بدأت رحلة الكاتب الدونكيشوتيّة إلى الشهرة وأصبح اسمه جورج أورويل. لقد غيّر اسمه حتى لا يحرج أهله وقيَمهم البورجوازيّة - الطبقية - المتوسطة.
بدأت رحلة أورويل البوهيميّة في غرفة صغيرة في لندن في حي من أحيائها الفقيرة، يختلط بالمتسكّعين والسكارى والفقراء والبوهيميّين، محاولاً إخفاء لهجته «الأتيونيّة» الأرستقراطيّة حتى لا تفضحه مع رفاقه الجدد من المعذّبين في الأرض. وأغرته الحياة البوهيميّة في لندن بالسفر إلى باريس، التي كان قد قرأ وسمع عنها في العشرينيّات. في باريس عمل في غسل الصحون في مطعم ثلاث عشرة ساعةً في اليوم. وبين غسل الصحون وكتابة المقالات التي لا تنشر كان الطموح يتأجّج في داخله ليصبح روائياً. وكتب كتابه الأوّل عام ١٩٣٣ عن باريس ولندن. وعندما عاد إلى بلاده مجدّداً بعد نشر كتابه بدأت مشاكل إنكلترا الاقتصاديّة والسياسيّة تقلقه. وكتب كتابه الثاني عن البطالة والفقر في إنكلترا عام ١٩٣٦ وعن ضحايا الطبقيّة والتفاوت الاعتقادي.
لقد كان هذا الكتاب المعنون «الطريق إلى رصيف ويغان»، دعوة إلى الاشتراكيّة لإزالة كلّ ظروف عدم المساواة في بلاده. كان وعيه السياسيّ قد بدأ يتفتّح. كذلك أخذ يتساءل عن ماهيّة الرأسماليّة والطبقيّة وظروف كلٍّ منهما. كانت اشتراكيّته المثاليّة تنتقد بعنف كلّ الاشتراكيّين الإنكليز، من سياسيّين ومفكّرين وكتّاب. وخاف أورويل أن ينتقل الفقراء والمضطهدون من ديكتاتوريّة الرأسماليّة إلى ديكتاتوريّة الاشتراكيّة. خاف على المستضعفين من كذب نظريّات أدعياء الاشتراكيّة، حتى كتب يقول:
«الحقيقة أن عدداً كبيراً من الناس الذين يقولون عن أنفسهم اشتراكيّين، لا تعني الثورة لهم تحرّك الجماهير الذين يطمحون إلى أن ينتسبوا إليهم. إنّها تعني مجموعة إصلاحات نفرضها «نحن» الأذكياء على: «هم الأغبياء» من الطبقة الدنيا».
مع تفتّح مثاليّة أورويل الاشتراكيّة، لم يستطع أن يقاوم الانضمام إلى «فيلق الاشتراكيّة الدوليّة»، ويذهب إلى إسبانيا ليحارب قوات الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي قلب الحكومة اليساريّة المنتخَبة في مدريد، بادئاً الحرب الأهليّة الإسبانيّة. لقد كانت بالنسبة إليه فرصة أخيرة لكي «تقف الديمقراطيّة في وجه الفاشيّة». وعندما وصل إلى برشلونة عام ١٩٣٦، كتب يقول إنها «المرّة الأولى التي أجد نفسي في مدينة تتولّى الطبقة العاملة فيها الحكم». لقد سُحِرَ أورويل «باستنشاق هواء المساواة».
لكنّ برشلونة خدعته. فقد وجد أورويل نفسه بعد أن انضمّ إلى مليشيا برشلونة المحليّة، أنّ الشيوعيّين هم الذين يطلقون النار عليه لا فالانج فرانكو وعسكره. وجرح أورويل برصاص الشيوعيّين الذين جاء أصلاً للدفاع عن الجمهورية التي كانوا يشاركون فيها. وعلم خلال القتال أنّ الحكومة الاشتراكيّة التي حمل السلاح من أجلها قد أعلنت أنّ مليشيا برشلونة التي انضمّ إليها، والتي تضمّ شتات العمّال والفلّاحين والكادحين، غير شرعّية.واكتشف أنّ ما تريده موسكو هو غير ما يريده المستضعفون. ووجد أورويل فجأة أنّ رفاق السلاح قد أصبحوا يُسمَّون «الفاشيست» و«مرتزقة فرانكو» من قبل الصحافة الشيوعيّة في أوروبا والعالم. وعندما سيطر الشيوعيّون على برشلونة وبدأت عمليّات التصفيات، هرب أورويل من المستشفى واختبأ ستّة أشهر حتى عاد إلى بلاده.
تركت برشلونة والحرب الأهليّة الإسبانيّة علاماتٍ فارقة في شخصيّة أورويل، صاحبت كلّ كتاباته من بعدها. لقد كان الحسّ بالخيانة التي تعرّض لها يفرض نفسه باستمرار على تفكيره وقلمه. وصدر كتابه الشهير «تحيّة وفاء إلى كتالونيا» عام ١٩٣٦ الذي يروي فيه قصّة الحرب. ودفعه هذا الكتاب إلى واجهة الشهرة وواجهة الخلاف وتعدّد الآراء حول كتاباته وآرائه. وفتح عليه النار، الشيوعيّون والماركسيّون والتروتسكيّون والاشتراكيّون بكلّ فروعهم. لقد فضح أورويل كذبة الحرب عندما قال:
«لقد رأيت معارك كبيرة يُكتب عنها، عندما لم يكن هناك معارك. وصمتاً كبيراً عندما كان يقتل مئات الرجال. لقد رأيت القوّات التي كانت تحارب بشجاعة تدان بالجبن والخيانة. وآخرين لم يحاربوا قطّ ولم تطلق عليهم طلقة واحدة يَحْيَون كالأبطال في معارك وهميّة».
لقد أخافت ظاهرة الكذب هذه أورويل إلى أبعد الحدود، لأنّها كما كتب «تعطيني الشعور بأنّ كل مفهوم الموضوعيّة والحقيقة والصِّدقيّة قد بدأ ينحسر ويغيب عن هذا العالم».
ومن هنا بدأت فكرة رواية «١٩٨٤» تختمر في رأسه. ومنذ ذلك الحين كرّس أورويل كتاباته ضدّ ظاهرة الكذب، فتصدّى للستالينيّة، وتصدّى للفاشيّة، وتصدّى للرأسماليّة. حتى مقالاته في النقد الأدبي، كانت تقوم على مفهوم الخوف من الكذبة التي تروّج. لكنّ أورويل كان يحارب على كلّ هذه الجبهات عدوّاً واحداً، هو الديكتاتوريّة في جميع صوَرها وأشكالها وعقائدها وأساليبها. كان يحارب كذب الكتّاب المثقّفين وخيانة السياسيّين وسيطرة الحزبيّين وتسلّط العسكريّين. كان يحارب الرقابة على الفكر واللغة والفنّ والكتابة. كان يحارب تدجين الجماهير بالإرهاب والإقناع. كان يحارب إلغاء الفرد والفرديّة. كان يعتبر ستالين ظاهرةً يجب محاربتها. كذلك هتلر. كذلك فرانكو. كان يعتقد أنّ الديمقراطيّة في خطر أمام جحافل الإرهاب الفكري. السياسيّ الذي يهدّدها. كانت خطوط رواية «١٩٨٤» قد بدأت تنضج، وكانت شعاراتها قد بدأت تظهر على الجدران:
«الحرب هي السلام
الحريّة هي العبوديّة
الجهل هو القوّة»
لكن رواية «١٩٨٤» لم تظهر. لقد طرقت الشهرة القابلة للجدل باب أورويل من دون أن يتركه الفقر، فظلّ يكتب في الصحف والمجلّات، ورجع كاتب مقال أسبوعي في صحيفة «متربيون» الاشتراكيّة العماليّة، وعمل ناقداً في عدد من الصحف، وأخذ يذيع من محطّة الإذاعة البريطانيّة الموجّهة إلى الهند وآسيا، ولم يكتب بعد رواية «١٩٨٤».
كتب رواية قصيرة بعنوان «مزرعة الحيوان»، (ترجمها إلى العربيّة جبرا إبراهيم جبرا في عام ١٩٦٧) التي أصبحت فيما بعد أشهر أعمال أورويل، وأصبحت تدرَّس في المدارس. ولم تكن رواية بالمعنى الحقيقيّ. كانت خرافة أسطوريّة على لسان الحيوان. في هذه الرواية تثور الحيوانات المرهقة والعاملة بجد ليلاً ونهاراً على صاحب المزرعة المستغِلّ. لكنّ قائد الثورة - الخنزير - سرعان ما خانها، بعد أن رفع شعاراً أصبح من مقوّمات الأقوال الإنكليزيّة الشهيرة: «كلّ الحيوانات متساوية، لكنّ هناك بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها».
ورفض عدد كبير من الناشرين «مزرعة الحيوان»، لأنّهم وجدوا في الخنزير شبهاً بجوزيف ستالين. وكان ستالين حليفاً لإنكلترا وأميركا ضدّ هتلر في ذلك الحين، كذلك وجدوا في الرواية نقداً جارحاً للنّظام الستالينيّ في الاتحاد السوفييتي. إلى أن غامر ناشر بقبولها، وحقّق من ورائها كسباً «كبيراً». وجاء مردود «مزرعة الحيوان» بشيء من الراحة الماليّة لأورويل، فاستغنى عن الكتابة الصحافية، وبدأ يكتب روايته الأخيرة والأشهر «١٩٨٤»، وكان مرض السلّ الذي أصيب به منذ مطلع شبابه قد أخذ ينهشه، وكانت زوجته قد توفّيت قبل ذلك بأربع سنوات. وصارع المرضَ حتى أنهى روايته. وتزوّج للمرّة الثانية وهو على فراش المرض. وصدرت «١٩٨٤». وعاش سبعة أشهر بعد صدورها، ومات بعد ثلاثة أشهر من زواجه الثاني. مات جورج أورويل في ٢١ كانون الثاني / يناير ١٩٥٠.
استطاع أورويل في الأشهر السبعة التي عاشها بعد صدور «١٩٨٤»، أن يدرك أنّها ستصبح رواية شهيرة، ولكنّها ستظلّ رواية يُساء فهمها من النقّاد والقرّاء معاً. فحاول قبل موته بأسابيع أن يكتب توضيحاً لها، فقال:
«ليس المقصود بروايتي الأخيرة أن تكون هجوماً على الاشتراكيّة وحزب العمّال البريطاني (الذي أؤيده)، ولكنّها تعريض للشذوذ والتشويه الذي يمكن الاقتصاد المركزيّ أن يعير نفسه إليه كما تطبّقه الشيوعيّة والفاشيّة. إنّني لا أعتقد أنّنا سنصل إلى نوع المجتمع الذي أصفه في روايتي. لكنّني أعتقد أنّنا قد نصل إلى شيء شبيه به».
ولم يصدّق أحد الكاتب. لكنّهم صدّقوا الرواية.
هذا ما يبشّرنا به «١٩٨٤»
أين كان يقف أورويل في نهاية المطاف؟ كان يعتبر نفسه «رجل اليسار»، مدركاً أنّ الكثيرين من رفاقه في الاشتراكيّة لا يشاركونه آراءه «المتطرّفة» - أو غير التقليديّة، بينما اعتبر اليمين أنّ روايتيه «مزرعة الحيوان» و«١٩٨٤»، هما إدانة للثوريّة ومفهوم اليسار لها. لكنّ هذه المصطلحات - يسار ويمين - تتغيّر مع الزمن. أكثر من ٦٠ عاماً مرّت اليوم على صوت أورويل، ومع مرورها أثبت صاحبها أن إدانة الأنظمة الديكتاتوريّة والعقليّة التوتاليتاريّة تطاول اليمين واليسار معاً. فمفهوم الحرّيّة كلٌّ لا يتجزّأ.
لم يكن جورج أورويل منظّراً سياسيّاً جيّداً. لعلّ أهمّ إنجازاته ككاتب أنّه جعل الناس العاديّين يُفكّرون جدّيّاً في قضيّة الحرّيّات. جعلهم يتساءلون عن ماهية العقائد والأفكار التي يطرحها السياسيّون والمنظّرون عليهم. دعا الناسَ إلى التفكير وحدهم من دون ملقِّن، في العصر الذي كانت فيه الإنسانيّة تريد من يفكّر عنها، بل مَن يأمرها بالسَّير من دون تحديد وجهة معيّنة. لقد أدان العقائد على حساب القيَم. كانت قيَم الحريّة بكامل مفهومها وأقانيمها فوق كلّ الإيديولوجيّات والأحزاب والزعماء عنده. حاول أن يجعل من الاشتراكيّة لفظة محترمة ذات مفهوم إنسانيّ شموليّ، مبعداً إيّاها عن تشويه السياسيّين والحزبيّين لها. ربّما لم ينجح.
كان إنساناً متشائماً. بل كان مغرقاً في التشاؤم. إلّا أنّه، رغم كلّ هذا التشاؤم، كان يؤمن إيماناً حقيقيّاً لا حدود له بقدرة الإنسان، ذلك المخلوق الهشّ الضعيف، على تصحيح مسار أقداره والتغلّب على صعاب حياته بعمليّة راديكاليّة جذريّة بسيطة: أن يفكّر. أن يمارس التفكير وحده. ألّا ينساق وراء دعاة المذاهب والعقائد من دون أن يشكّك فيها ويتساءل عنها. كان يخاف الفوضى السياسيّة، إلّا أنّه كان يخاف أكثر على ضياع الحريّة.
اختصر أورويل موقفه من التسوية بالنّسبة إلى الحريّات والتقويم الأدبيّ والفكريّ عندما كتب عام ١٩٤٣:
«أن تقول إنّ فلاناً كاتب موهوب، لكنّه عدوٌّ سياسيٌّ لي وسأبذل جُهدي لإسكاته، أمر مقبول. حتى لو نجحت في إسكاته بقوّة السلاح، فأنت لم ترتكب ذنباً حقيقيّاً تجاه الفكر. الخطيئة المميتة أن تقول إنّ فلاناً عدوٌّ سياسيٌّ لي، لذلك فهو كاتب سيّئ».
كان أورويل فوق التسوية على حساب الفكر.
كان الغضب صفة أورويل الأساسيّة. كان غاضباً من نوعية الحياة التي كانت تعيشها الطبقة العاملة البريطانيّة. كان غاضباً على الفقر المستشري في المجتمع البريطانيّ. كان غاضباً على نظام الطبقات المعمول به في بريطانيا. إلّا أنّ غضبه الحقيقيّ كان على الطبقة العاملة لأنّها كانت بلا صوت، وبلا أفكار وبلا طاقة. كانت طبقة من دون ضمير. كانت طبقة منحطّة. وسبب انحطاطها أنّها فشلت في أن تخلق لنفسها الصوت والقاعدة والطاقة لتخرج من تعاستها ولترفع السَّيف في وجه الظلم المحيط بها. كان يريد من الجماهير المسحوقة أن تستعمل عقلها لا قلبها ولا كسلها ولا استسلامها.
ليس مهمّاً أن يدّعي اليوم أيٌّ من اليمين أو اليسار أبوّته لأورويل وأفكاره بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته. المهمّ أنّ أفكار أورويل ما زالت صالحة للاستعمال ومثيرة للجدل وأصيلة الهدف بعد كلّ هذه السنين. الأهمّ من ذلك أنّ نبوءة أورويل في رواية «١٩٨٤» في خلق المجتمع التعسّفيّ الرقابيّ التوتاليتاريّ في العالم قد تحقّقت.
إنّ الضجّة التي تثيرها صحافة العالم وإذاعاته وتلفزيوناته ليست حول أفكار أورويل، وهي الأساس. بل إنّ الضجّة كلّها هي أنّ أورويل قد حدّد عام ١٩٨٤ في عنوان روايته، على أنّه العام الذي سيشهد قيام الدولة الديكتاتوريّة التوتاليتاريّة في العالم، التي ستسلب كلّ الحريّات وتقلب القيِم وتعيد تحديد المفردات وتخلق لغة المتناقضات وتتعامل بالإرهاب وتلغي الفرديّة وتمنع الحبّ وترفض الخصوصيّات وتكره الجمال وتزيد من بناء السجون وتغلق المدارس وتحْجر على الفكر وتحتقر المروءة والوفاء.
هل اقترب العالم عام ١٩٨٤ من أفكار رواية «١٩٨٤» وأحداثها؟ هناك مَنْ يقول: نعم، ويعطي عشرات الأمثلة. وهناك مَنْ يقول: لا، ويؤكّد أنّ أورويل كان مبالِغاً ومتشائماً. مأساة أورويل أنّ الناس تذكّروه لأنّه ارتبط في أذهانهم بهذا التاريخ. ولو حافظ أورويل على عنوان الرواية الأصلي - «الرجل الأخير في أوروبّا» - ولم يرتبط بتحديد موعد زمنيّ لنبوءته، لما ضجّ العالم اليوم باسمه وبأفكاره.
ماذا تعني «١٩٨٤»، وماذا يعني جورج أورويل للقارئ العربيّ أو للمواطن العربيّ اليوم أو في الأمس؟ الجواب بكلّ أسف: لا شيء.
لا شيء لأنّ ليس هناك في رواية أورويل شيء لم يعرفه المواطن العربيّ طوال الخمسين سنة الأخيرة، ولم تمارسه الأنظمة التي تعاقبت على امتداد الوطن العربيّ، عليه. لا جديد في رواية أورويل بالنّسبة إلى العربيّ الفرد المقهور والمحروم الكرامة والحريّة. ولا جديد في أفكار أورويل لم يُطبَّق على الجماهير العربيّة المسحوقة، ولا مفاجأة في «١٩٨٤» تخصّ العرب من المحيط إلى الخليج. فعندما كتب أورويل روايته لم يكن العرب في الحسبان.
لكنّ أورويل وأعماله الكثيرة يجب أن تعني كلّ قارئ عربيّ ما زال يجهل ضرورة التفكير وحده ومتعة الرفض ومقاومة الانسياق وراء الملقِّن، أيّاً كان اسمه ونوعه. ميزة كتابات أورويل أنّها كلها ذات دلالة مباشرة تكاد تكون تفصيليّة - عن معاناة المواطن العربيّ وعلاقته بالعقائد والأفكار والسلطة. كلّ ما في كتب أورويل يجب أن يشدّ القارئ المواطن إلى البحث عن الذّات والتّساؤل عن الخبز والكرامة. بل لا خبز يمكن أن تعطيه السلطة من دون كرامة. إنّ قراءة أورويل هي عمليّة تحريض على الذات.
عرفت أورويل كقارئ وأنا على مقاعد الدراسة، عندما كانت روايته «مزرعة الحيوان» مقرّرة في البرنامج الدراسيّ. قرأتها كلغة وأدب وأسلوب. لم أفهمها في حينه كفكر سياسيّ. كانت مجرّد خرافة أسطوريّة مملّة على لسان الحيوانات. وعندما كبرنا وبدأ تفتّحنا السياسيّ، ازددت معرفة بأورويل الكاتب والناقد. وفي رأيي المتواضع أنّ مقالاته ونقده أهمّ بكثير من رواياته، وأكثر دلالةً على أوضاع المواطن العربيّ وهمومه ومتاعبه وطموحاته وقصوره.
أهمّيّة أورويل أنّه يفتح عيوننا على أشياء كثيرة نعيشها ونعرف أنّها معنا منذ أن وُلدنا. لكنّه على الأقل سيدفعنا إلى التفكير فيها، والتساؤل حولها وإعادة النظر فيها. إنّ النفس العربيّة عطشى دائماً إلى القليل من التشاؤم البنّاء.
لقد دَهمَنا عصرُ الحرب وعصر الكراهية وعصر الجهل، ونحن لم نعرف حتى الآن السلم ولا الحبّ ولا العلم، فما بالك بالحريّة.
وداعاً جورج أورويل، وأهلاً «١٩٨٤». فعلى الأقلّ نعرف أنّك لن تحمل إلينا أيّة مفاجأة. حتى عصر المفاجآت لم يمرّ من هنا!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.