في ٩ آب / أغسطس ٢٠١٧، توفّي أحد أبرز السينمائيّين اللبنانيّين الملتزمين بالسينما الوثائقيّة وبقضيّة الإنسان وهو جان شمعون. ينتمي شمعون إلى جيلٍ من السينمائيّين والسينمائيّات الذين أحدثوا تغييراً جذريّاً في مسار السينما في لبنان وتزامن ظهورهم مع بدء الحرب الأهليّة اللبنانيّة في العام ١٩٧٥. يضمّ هذا الجيل أسماءً مؤسّسة للسّينما اللبنانيّة الجديدة، من أبرزها برهان علويّة ومارون بغدادي وجوسلين صعب ورندة الشهال، وغيرهم. درس هؤلاء في معظم الأحيان السينما في فرنسا أو بلجيكا، وعادوا إلى لبنان لإنجاز أفلامهم. عُرفوا بيساريّتهم من حيث التوجّه السياسيّ والاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة والقرب من «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة».
بدأ هؤلاء بإنجاز أفلامهم خلال فترة التّحوّلات على الساحة العربيّة وبروز الحركات الثوريّة والتغييريّة، وهي الفترة التي بدأ فيها الحديث عن السينما العربيّة البديلة أو السينما الملتزمة بقضايا مجتمعها والتي تتمتّع بوعيٍ سياسيّ واجتماعيّ.
مع اندلاع الحرب اللبنانيّة أخذ الفيلم الوثائقي حيّزاً مهمّاً من عمل الجيل الجديد، فلم يعد مجرّد فيلم سياحيّ أو مؤسّساتي، بل أصبح فيلماً سينمائيّاً يكشف عن مشاكل الواقع وتعقيداته (الطائفيّة، المخيّمات الفلسطينيّة، الاختلاف بين الطبقات الاجتماعيّة، الوضع في الجنوب اللبنانيّ، تمزّق الكيان اللبنانيّ وتدمير بيروت، المعاناة اليوميّة للمواطنين، إلخ...).
سينما الواقع
تغيّر كلّ التوجّه الطّاغي منذ الخمسينيّات، وبالأخصّ الستينيّات، على السينما في لبنان. كان هذا ترفيهيّاً يفتقر غالباً إلى الهويّة. تغيّر ليصبح سينما مباشرة من أرض الواقع تتخطّى الناحية الإخباريّة والفولكلولوريّة لتقترب أكثر من الإنسان ولتفسّر أكثر أسباب الحرب.
في هذا الإطار، عاد شمعون (مواليد البقاع، سنة ١٩٤٤) إلى لبنان سنة ١٩٧٤ بعد إنهاء دراسته السينما بين بيروت وباريس، عشيّة اندلاع الحرب اللبنانيّة. بعد مرور عامٍ على اندلاع الحرب أخرج فيلماً وثائقيّاً بعنوان «تلّ الزعتر» وذلك بالتّعاون مع مصطفى أبو علي وبينو أدريانو. والفيلم عن مخيّم «تلّ الزعتر» الفلسطيني الذي سقط في ١٢ آب / أغسطس ١٩٧٦ على يد المليشيات اليمينيّة المسيحيّة بعد حصارٍ طويل.
الالتزام بالقضيّة الفلسطينيّة
نشطت «مؤسّسة السينما الفلسطينيّة» في بيروت منذ مطلع السبعينيّات بإنتاج أفلام وثائقيّة عن القضيّة الفلسطينيّة والعمل النضاليّ والوضع في المخيّمات. قام بإخراج هذه الأفلام مخرجون فلسطينيّون مثل مصطفى أبو علي، رئيس المؤسّسة بين ١٩٧١ و١٩٨٠، ومخرجون عرب كالسينمائي العراقيّ قاسم حول، ومخرجون لبنانيّون كجان شمعون. يبرز في هذا الإطار التعاون الفلسطينيّ اللبنانيّ في إخراج فيلم «تل الزعتر» بين أبو علي، الذي يمكن اعتباره مؤسّس سينما الثورة الفلسطينيّة، وشمعون، وهو من انتاج «مؤسّسة السينما الفلسطينيّة» و«يونيتل فيلم».
يستند «تل الزعتر» إلى شهاداتٍ من المواطنين والمقاتلين والمسؤولين السياسيّين والعسكريّين والأطبّاء الذين كانوا داخل المخيّم منذ بدء المعارك الطاحنة في ١٧ حزيران / يونيو حتى ١٢ آب / أغسطس ١٩٧٦. تتقاطع مع الشهادات مشاهد من قلب المخيّم الذي تأسّس سنة ١٩٥٠ وضمّ مجموعة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيّين المهجّرين من أرضهم إثر نكبة ١٩٤٨، إلى جانب الكثير من الفقراء اللّبنانيّين الّذين قدموا إليه من جنوب لبنان.
بدأ حصار المخيّم في نيسان / أبريل ١٩٧٥ بعد حادثة بوسطة عين الرمّانة التي قُتلت فيها مجموعة من الفلسطيّنيين وكلّهم من سكّان مخيّم «تلّ الزعتر». ساهم دخول الجيش السوريّ إلى لبنان في العام ١٩٧٦ وإعطاؤه الضّوءَ الأخضرَ لمليشيات اليمين بتسريع حتميّة إنهاء وجود المخيّم في منطقة مسيحيّة (المنطقة الشرقيّة) كان يتمّ «تنظيفها» (حسب اللغة المستعملة في ذلك الوقت) من جميع «البؤر المسلّحة العدوّة»، فسقطت الكرنتينا والنبعة ومخيّما «ضبيّه» و«جسر الباشا» وكانت الخاتمة مع مخيّم «تلّ الزعتر».
الفيلم وليد اللحظة ومشاعرها ووجهة نظر الناجين من المجازر الذين شاهدوا الفظاعات: تصفية الرّجال واغتصاب النساء والموت الجماعيّ. نحن نعلم كيف أصبحت هذه المجازر عمليّات تتنقّل بين المناطق وتجسّد الحقد المطلق. وقد طبعت حرب السنتين (١٩٧٥-١٩٧٦) من «السّبت الأسود» إلى الكرنتينا والنّبعة وصولاً إلى الدّامور، ولم تفرّق بين لبنانيّ وفلسطينيّ وبين مسيحيّ ومسلم. لكن في ظلّ اللحظة، لا يمكن رؤية الواقع بشكلٍ أوسع، فالحرب محتدمة وهذا ما تؤكّده أدبيّات المرحلة في صوت المعلّق والمقابلات: حربٌ تُواجه فيها المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة متّحدةً القوّات الانعزاليّة (كما كانت تسمّى مليشيات اليمين المسيحيّ) مع تدخّلٍ عربيّ وسوريّ تحديداً، وإسرائيلي وخلطٌ في التحالفات.
يحمل شمعون الميكروفون ويجري بعض المقابلات مظهراً تعاطفاً واضحاً سيكون تعبيراً صادقاً في جميع أفلامه. جثثٌ تملأ الأرض وتحضّرنا للمزيد منها مع «تحت الأنقاض» (١٩٨٣). امرأة جميلة تصل مع المسلّحين لتلقي نظرة على الجثث وكأنّها تزور متحفاً للبطولات. أولادٌ يحملون السّلاح وسنرى تحوّلاتهم منذ بدء الحرب وحتى أيّامها الأخيرة في «بيروت جيل الحرب» (١٩٨٩).
هي أفلامٌ تشهد على اللحظة، ووثائق للبحث في تاريخنا الذي لا يُكتب رسميّاً. في هذا الإطار،تشكّل الأفلام الوثائقيّة للجيل الذي ينتمي إليه شمعون والأجيال اللاحقة فصولاً من كتاب تاريخيّ يتخطّى مادّة الاستظهار للوصول إلى مادّة أكثر حيويّة تستعمل الصّورة والصّوت. تأتي الأهمّيّة القصوى لهذا الأمر لناحية حفظ الذّاكرة في وطن النسيان ويأتي الاهتمام بأفلام شمعون من هذا المنظار التأريخيّ.
بعد «تلّ الزعتر»، جاء الفيلم الوثائقيّ القصير: «أنشودة الأحرار» (١٩٧٨) وهو أيضاً من إنتاج «مؤسّسة السينما الفلسطينيّة» وانطلق من المهرجان الحادي عشر للشبيبة والطلبة الذي أُقيم في كوبا في صيف ١٩٧٨ تحت شعار «التضامن ضدّ الإمبرياليّة من أجل السّلم والصّداقة». نرى الوفود المشاركة في المهرجان ومنها الوفدان الفلسطينيّ (المُمَثل بياسر عرفات) واللبنانيّ، ويتخلّل الفيلم عمليّة توليف لمشاهد من الأرشيف تُظهر الحركات الثوريّة في بلدانٍ عدّة في أميركا اللاتينيّة وأفريقيا والعالم العربيّ وإيران، وتدخّل وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة بتصفية العديد من الرموز منهم تشي غيفارا وسالفادور ألليندي.
تابع شمعون مسيرته، وهو من القلائل من جيله الذي بقي في لبنان طوال الحرب. وتمكّن هكذا من تغطية مراحل عديدة من تاريخنا الحديث تمتدّ من السبعينيّات حتى عام ٢٠٠٩.
سينما شمعون - مصري: علاقة لبنان - فلسطين
بعد «أنشودة الأحرار» ومع الاجتياح الإسرائيليّ للبنان سنة ١٩٨٢، بدأت مرحلة جديدة من الأفلام الوثائقيّة التي سيوقّعها جان شمعون مع السينمائيّة الفلسطينيّة ميّ مصري التي تزوّجها سنة ١٩٨٦. نستطيع الحديث عن خصائص مسيرة تمتدّ على ثلاثة عقود وتشكّل توثيقاً تاريخيّاً عن مجموعة الحروب التي يعيشها الوطن:
العمل المشترك بين شمعون وزوجته تعاونٌ بنّاء وفريد يؤكّد في كلّ فيلم على العلاقة اللبنانيّة - الفلسطينيّة. يصبح ما رأيناه في فيلم «تلّ الزعتر» مشروع حياة. إذا كانت هذه العلاقة معقّدة جدّاً منذ ظهور المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة وبدء العمليّات العسكريّة الفلسطينيّة من جنوب لبنان واتفاق القاهرة وصولاً إلى اندلاع الحرب اللبنانيّة حيث لعب الفلسطينيّ دوراً فعّالاً، تبدو مقاربة العلاقة اللبنانيّة - الفلسطينيّة مختلفةً في أفلام شمعون - مصري حيث تتشارك شخصيّات الأفلام، مهما كانت هويّتها، المعاناة نفسها من حربٍ واعتقالٍ وتهجير.
التعاون الوثيق بين شمعون ومصري على تغطية المهامّ التقنيّة ضمن فريق العمل الصغير للفيلم الوثائقيّ، فبالإضافة إلى الإخراج المشترك، تقوم مصري بالتصوير («زهرة القندول» (١٩٨٥)، «بيروت جيل الحرب» (١٩٨٩)). ويجب هنا التنويه بدورها المميّز وإحساسها الذي سنفتقده في بعض الأفلام في ما بعد. كما تقوم مصري بالمونتاج («تحت الأنقاض» (١٩٨٣)، «زهرة القندول»، «بيروت جيل الحرب») وتتعاون مع شمعون في تسجيل الصوت («تحت الأنقاض») أو يقوم شمعون بالتسجيل وحيداً («زهرة القندول»). وعندما يكون شمعون هو الكاتب والمخرج المطلق للفيلم، تكون زوجته المنتجة المنفّذة.
أهمّيّة التصوير السينمائيّ بتقنية ١٦ملّم في الأفلام التي أخرجها الثنائيّ في الثمانينيّات، بحيث تصبح صورة الواقع مختلفة عن الصورة الإخباريّة الباهتة التي تحوّلت بمعظمها إلى الفيديو. وتبدو هذه الصورة السينمائيّة أكثر جودة من الأفلام التي أخرجها في ما بعد شمعون في التسعينيّات، إذ طغت في بعض الأحيان أساليب التحقيقات التلفزيونيّة من حيث استعمال «الزّوم» وإضاءة الشخصيّات بشكل مباشر واللجوء إلى مونتاج تعدّد المشاهد بدل تطوير المشهد الواحد وجعله وحدة زمانيّة ومكانيّة.
ابتداءً من فيلم «زهرة القندول» تصبح الشخصيّات النسائيّة أساسيّة في الأفلام، وندخل من خلالها إلى موضوع الفيلم الذي يتناول غالباً محاور المقاومة بكافّة أنواعها.
تلعب شخصيّات الأفلام دور الوسيط لولوج موضوع الفيلم. ومع تتالي الأفلام نقترب من الشخصيّات أكثر فأكثر، ولكن يبقى الموضوع هو الأهمّ فتأتي مداخلات ومقابلات مع شخصيّات أخرى.
يشكّل فيلم «بيروت جيل الحرب» (١٩٨٩) فيلماً مهمّاً وكأنّه آخر الأفلام المصوّرة خلال الحرب. بينما يفتتح «أحلام معلّقة» (١٩٩٢) مرحلةً جديدةً من فترة ما بعد الحرب والسّلام غير المؤكّد.
تبدو العلاقة مع الشخصيّات الأساسيّة في الأفلام وطيدة وتعبّر عن الثّقة بالمخرج، ويشكّل آخر فيلمين لشمعون لقاءً مع شخصيّاتٍ من أفلامه السّابقة وكأنّ «حنين الغوردل» (٢٠٠٨) هو الجزء الثّاني من «زهرة القندول» (١٩٨٥) و«مصابيح الذّاكرة» (٢٠٠٩) هو الجزء الثّاني من «أحلام معلّقة» (١٩٩٢). وكما تشير مي مصري١: «جان شمعون لديه شخصيّة يحبّها النّاس ووجودنا كثنائيّ ساعد في بناء علاقة ثقة مع النّاس».
نقسّم هنا الأفلام إلى قسمين: «بيروت بين الأنقاض والأحلام المعلّقة»، وهي أفلام توثّق واقع المدينة بين فترة الحرب وفترة السلام مؤكّدةً استمرار آثار الحرب؛ «الجنوب الصّامد والمقاوم»، وهي أفلام نكتشف من خلالها وقع الاحتلال على المجتمع الجنوبي خاصّةً. تُوثّق هذه الأفلام مراحل أساسيّة من الصراع مع إسرائيل من اجتياح ١٩٨٢ وانسحاب ١٩٨٥ إلى عدوان ١٩٩٣ فالتحرير سنة ٢٠٠٠ وحرب ٢٠٠٦.
بيروت بين الأنقاض والأحلام المعلّقة
يمثّل فيلم «تحت الأنقاض» (١٩٨٣) وثيقة مهمّة عن الاجتياح الإسرائيليّ للبنان وبالأخصّ بيروت في العام ١٩٨٢. نسمع منذ البداية صوت شمعون وقد أصبح معلّقاً لفيلم مدّته ٤٠ دقيقة. كتب نصّ التّعليق المؤلّف والمخرج المسرحيّ روجيه عسّاف.
يوثّق الفيلم معاناة النّاس وموجات التهجير المستمرّة من تلّ الزعتر والنبعة والشيّاح وقرى الجنوب. لكنْ تبدو سنة ١٩٨٢ مزلزلة مع كثافة الغارات الجوّيّة الإسرائيليّة والقذائف المحظّر استعمالها دوليّاً والدّمار الهائل الذي يحلّ ببيروت الغربيّة وبكلّ بقعة يمرّ بها الإسرائيليّون.
عدد الضحايا مخيف: ١٢ ألف طفل، تسعة آلاف امرأة وثمانية آلاف رجل. في بيروت الغربيّة، خليطٌ من اللبنانيّين والفلسطينيّين، من الفقراء والأغنياء يتابعون تدمير مدينتهم تحت الحصار.
كلّ شيء مهدّد بالزوال وها إنّ بنايةً من ثماني طبقات تختفي مع تعرّضها لقنبلة فراغيّة رمتها طائرة إسرائيليّة. في المبنى ١٣٧ شخصاً. أخبرني جان شمعون٢ عن صعوبة تصوير هذه اللحظة وكيف أصيب بالشّلل. يجب تصوير «الآثار» المباشرة للتّاريخ ولكن ماذا يحلّ بالعين التي تشاهد الجثث المبعثرة تحت الأنقاض وكيف يمكن التّعامل مع هذه المادّة؟ ثمّ يقول جان لاحقاً في التعليق: «في جنوب لبنان تتراكم الصّوَر وتبحث عن كتاب تاريخ يضمّها»، وكأنّ الفيلم يصبح هذا الكتاب الذي ينقل صور الأحياء والأموات وحتى مَن هم داخل المقابر عندما تصرخ فرنسيّة مقيمة في بيروت: «إنّها حربٌ ضدّ الأموات» وهي تجول داخل مقبرة دمّرتها الدبّابات.
تكمن أهميّة «تحت الأنقاض» في نقل الواقع بلحظته مع إبراز وقع التّدمير الذي يطاول الإنسان بكلّ تكوينه والذي سيؤدّي إلى تحوّلاتٍ جذريّة في المجتمع نتابعها من خلال الأفلام التالية.
جيل العبث
«بيروت - جيل الحرب» (١٩٨٩) من الأفلام البارزة خلال فترةٍ تقلّص فيها جدّاً عددُ الأفلام المصوّرة في لبنان. وهو وثيقة أخرى تاريخيّة مهمّة لفهم ما خلّفته الحرب في الأجيال المتعاقبة ومدى عبثيّتها وإفلاس العمل السياسيّ التدريجيّ.
يبدأ الفيلم سنة ١٩٨٨ بلقطاتٍ لمعبر المتحف الذي يربط بين بيروت الغربيّة والشرقيّة. ومن اللافت أن نشاهد فيما بعد أولاداً يقومون بتقليد المليشيات من حيث إقامة الحواجز واستعراض السلاح. نتعرّف إلى مجموعة من الأولاد أُجبروا على العمل باكراً (ميكانيك سيّارات، بائع متجوّل) ونتابع من خلالهم صعوبة الحياة في مدينةٍ يسيطر عليها مَن حمل السلاح للدّفاع عن قضايا الشعب والفقراء.
المشهد داخل سينما سارولا في شارع الحمرا هو من أجمل اللحظات في الفيلم. فيه نرى أحدَ الأولاد يشاهد فيلم «آكشن» أميركيّاً فتتفاعل الصالة، لينتقل بعدها الأولاد إلى تنفيذ فيلمهم الحربيّ على أرض الواقع من خلال استعادة المشاهد السينمائيّة ومشاهد الواقع.
من الصّغار، نصل إلى المراهقين مع مقاتلٍ مسيحيٍّ ينتمي لمليشيا «القوّات اللبنانيّة». يستعمل بندقيّته كلعبةٍ وتبدو لائحةُ الأعداء طويلةً إذ تشمل الفلسطينيّ والشيعيّ والدرزيّ والاشتراكّي والكرديّ وهو مستعدّ لأكلهم إذا ما حاولوا الدخول إلى المنطقة الشرقيّة. لكنّه يؤكّد أنّه مؤمنٌ بالله وبشفيعه مار الياس الذي تحوّل وشماً على صدره يُضاف إلى شعار السّلام على يده.
تزداد الصّورةُ عبثيّةً وسوداويّةً مع تبادل سيجارة الحشيش بين الشّباب على خطّ التّماس والأولاد الذين يسبحون بين الأوسخة في منطقة النورماندي. ثمّ نصل إلى من كبروا في ظلّ الحرب وحملوا السّلاح بحثاً عن تحقيق الأحلام في تغيير النّظام وكردّة فعلٍ على واقعٍ اجتماعيّ واقتصاديّ، فكانت فرحتهم كبيرة عند حرق فندق «السان جورج» و«الهوليداي إن» خلال معركة الفنادق (١٩٧٥-١٩٧٦).
نهاية الفيلم معبّرة، مشهدٌ على خطوط التماس بين شطرَي بيروت نتابع فيه الحديث على الجبهة بين «الأعداء»: من التخاطب السلميّ نعود إلى تجدّد الاشتباكات.
أخبرني شمعون أنّهم أمضوا خلال التصوير أربعة أيّامٍ ينتظرون التقاط الحديث بين المتقاتلين على الجبهة. ومع بدء الاشتباكات أصيب ميكروفون فريق التصوير فاقتصرت الأضرار على المادّيّات! يرينا هذا الفيلم مدينةً تلفظ أنفاسها وهي مقبرةٌ للأحلام، ويحضّرنا مباشرةً لأفلامٍ أخرى عناوينها معبّرة مثل: «أحلام معلّقة» و«طيف المدينة».
مخطوفون وأسرى
من المفيد مشاهدة «أحلام معلّقة» (١٩٩٢) مباشرةً بعد «بيروت جيل الحرب». لقد رأينا كيف ينتهي «بيروت» مع مشهد الحديث السلميّ والحربيّ على خطوط التّماس، وها إنّ «أحلام معلّقة» يبدأ مع لقاءِ نبيل (المحارب المسلم) مع رامبو (المحارب المسيحيّ). فبعدما تحاربا، أصبحا اليوم صديقين يقومان بتصليح المنازل المدمّرة وكأنّهما صورة مصغّرة عن البلد. لكنّ هذه الصورة ليست بهذه المثاليّة. وهذا ما نتابعه مع الشخصيّة النسائيّة وداد حلواني. اختُطف زوجها عدنان سنة ١٩٨٢ ولم يعد، فأصبحت مع الوقت رئيسة «لجنة المخطوفين والمفقودين في الحرب اللبنانيّة» البالغ عددهم ١٧ ألفاً.
تعود وداد إلى منزلها في رأس النّبع المُصاب بسبب الحرب، ويقوم نبيل بعمليّة التّرميم فيقول لها: «خرّبت بلدي وهلّق عم صلّحها». لكن هل ترميم الحجر وإعادة البناء يكفيان لإعادة ترميم البلد والمواطنين؟ كيف تُعالج قضيّة المخطوفين والمفقودين في ظلّ قانون عفوٍ عامٍّ أدّى إلى محي المسؤوليّة ووصول أمراء الحرب على نحوٍ واسع إلى الحكم؟ كيف تجري عمليّة المحاسبة؟
إنّ هذه الأسئلة الجوهريّة تترافق مع خوفٍ مستمرّ من أن تكون فترة السّلام هي مجرّد هدنة فيما البلد ملوٌثٌ بتاريخه الدمويّ ووضع شاطئه الذي أصبح مكبّاً للنّفايات المتراكمة مع الحرب.
يؤسّس الفيلم لجميع التساؤلات والمخاوف التي عشناها وما زالت مستمرّة. وهذا ما دفع ربّما شمعون إلى تصوير شخصيّات «أحلام معلّقة» من جديد عام ٢٠٠٨ في فيلمه الأخير «مصابيح الذّاكرة» (٢٠٠٩). يبدأ هذا الفيلم مع عودة سمير القنطار ورفاقه من السجون الإسرائيليّة بعد سنواتٍ من الاعتقال. خلال الحفل الرسميّ للاستقبال على مدرج مطار بيروت، تتوجّه وداد حلواني إلى زعماء البلد، وأكثرهم من أمراء الحرب، سائلةً عن مصير المخطوفين والمفقودين في الحرب اللبنانيّة. ومن اللافت أنّ الوحيد الذي يقترب منها ويعانقها هو وزير الداخليّة حينها المحامي الشابّ والناشط زياد بارود.
لكنّ هذه الانطلاقة القويّة للفيلم لا تُستكمل كما يجب برغم اللجوء إلى مشاهد من «أحلام معلّقة» على سبيل «الفلاش باك» أو العودة إلى الوراء ومقارنة الشخصيّات بين الماضي والحاضر. وتطغى اللغة التلفزيونيّة على الفيلم من حيث الإضاءة واستعمال الموسيقى بشكلٍ متواصل لإضفاء الدراما وجعل الصورة فقط تفسيريّة فتفقد الشخصيّات اللافتة من وداد ونبيل ورامبو، من وقعها مقارنةً بفيلم «أحلام معلّقة». وإذا كان شمعون قد بدأ بتصوير الحرب منذ السبعينيّات، فإنّ فيلمه الأخير يُظهر بوضوح استمرار آثار الحرب وكم تخفي هذه البلاد من مقابر جماعيّة.
الجنوب الصّامد والمقاوم
ما زالت انعكاسات الاجتياح الإسرائيلي المزلزلة عام ١٩٨٢ مستمرّة. تمّ تصوير «زهرة القندول» (١٩٨٥) بعد الانسحاب الإسرائيلي من قسمٍ من الجنوب عام ١٩٨٥. مع هذا الفيلم، نبدأ مع الثنائيّ شمعون / مصري بمتابعة شخصيّات (أبرزها شخصيّات نسائيّة) نكتشف من خلالها الواقع والموضوع المحوريّ وهو دور المرأة في مقاومة الاحتلال.
هذا الفيلم وثيقة أخرى تاريخيّة مهمّة نفهم من خلاله مدى تأثير الاحتلال في المجتمع الجنوبيّ والشيعيّ تحديداً. نلاحظ كيف أصبحت معظم النساء محجّبات وكأنّ البحث عن هويّة دينيّة هو بحدّ ذاته مقاومة للاحتلال وتثبيت للخصوصيّة يترافق مع مشاركة نسائيّة في العمل المقاوم المباشر. في حين نشاهد صور النساء الشهيدات من طوائف وأحزاب مختلفة (شيوعيّة وقوميّة) قامت بعمليّات ضدّ الاحتلال. نتابع مشاهد من القرى الجنوبيّة مثل معركة تذكّرنا بفيلم «معركة» تحديداً الذي أخرجه روجيه عسّاف سنة ١٩٨٥.
«زهرة القندول» نافذة على مجتمع مقاوم تُسجن فيه المرأة مع زوجها من قبل المحتلّ، ويتوقّف الفيلم عند زهرة طريّة تخترق الأرض الحجريّة لتثبت إرادة الحياة وتختزل صورة المرأة المقاومة. لكنّ الفيلم يعرف الاحتفاظ بمقاربةٍ إنسانيّة بعيدةٍ عن استغلال الأحزاب السياسيّة للصورة بغية الترويج واحتكار العمل المقاوم.
وبما أنّنا نحكي عن الصورة، من اللافت ذكر سحر صورة الـ١٦ملم (من توقيع مصري) التي تجعل الشخصيّات، خصوصاً في البداية، وكأنّها شخصيّات فيلم روائيّ نتابعها في يوميّاتها. وتبدو هذه الصورة جليّةً وسينمائيّةً في فترة بروز الفيديو كوسيلة تصوير التّحقيقات التلفزيونيّة وحتّى العمليّات الاستشهاديّة كعمليّة حسن قصير ضدّ قافلة إسرائيليّة. لكنّنا نفتقد الالتصاق بأّي شخصيّة أساسيّة إذ سرعان ما يطغى الموضوع وكأنّ الشخصيّات في خدمة الموضوع. من هنا تأتي مقابلات عدّة تجعلنا نبتعد عن الشخصيّة الأساسيّة.
في «حنين الغوردل» (٢٠٠٨) نلتقي من جديد بشخصيّة «زهرة القندول» خديجة بعد أكثر من عشرين عاماً وإثر حرب جديدة مع إسرائيل (٢٠٠٦) أدّت إلى استشهاد ابنها حسن المنتمي إلى «حزب الله» والذي يتابع الخطّ المقاوم الذي سلكه أهله. نشاهد في «حنين الغوردل» كيف أصبح المجتمع الشيعيّ أكثر تنظيماً ولديه مؤسّساته وقد تمرّس بالحرب مع إسرائيل. كما نتابع شخصيّاتٍ نسائيّةً أخرى فنيّة مثل الرسّامة سوزان غزّاوي التي فقدت منزلها ولوحاتها مع الغارات الإسرائيليّة على ضاحية بيروت الجنوبيّة. ويشكّل مشهد انتزاع جثث اللّوحات من تحت الأنقاض من أبرز اللحظات في الفيلم خصوصاً عندما ينتزع زوج سوزان لوحة رسمها تمثّل جدّته التي «مزّقها» الاجتياح الاسرائيليّ سنة ١٩٧٨ وقضى حتى على رسمها سنة ٢٠٠٦ فأصبحت ممزّقة كما قضى على متحف ذاكرة الاحتلال والتعذيب وهو معتقل الخيام في الجنوب. وبرغم أهميّة الشخصيّات، يفتقر الفيلم إلى صورةٍ تنطق من دون الحاجة إلى الكلام وإلى صوتٍ يتخطّى الكلمة والموسيقى.
«رهينة الانتظار»
بعد «زهرة القندول»، نعود إلى الجنوب اللبنانيّ الذي ما زال يواجه الاحتلال الإسرائيليّ ونتابع ليلى، الطبيبة التي تحرص على صحّة الجنوبيّات. من خلال يوميّات الطّبيبة، نشهد على المعاناة ودور المقاومة والإسلام السياسيّ من خلال نموذج الثّورة الإسلاميّة في إيران المجسّد بـ«حزب الله» (شخصيّة شقيق ليلى الأصوليّ)، وتظهر الطّبيبة أنّها المرأة العلمانيّة غير المحجّبة شبه الوحيدة في مجتمعٍ معظم النّساء فيه محجّبات.
بما يتعلّق بالشّكل، يغلب النّمط التلفزيونيّ الذي يحرم الفيلم من لحظاتٍ أكثر تأمليّةً يغيب فيها استعمال الموسيقى الميلودراميّة وتعطي للشخصيّة مساحةً أكبر تجعلنا نراقب الواقع ونستنتج تفاصيله من دون الحاجة إلى صوت التعليق.
«أرض النساء»
نستكمل مع «أرض النّساء» (منتج منفّذ: مي مصري، ٢٠٠٤) مسار نساءٍ مقاوماتٍ من خلال متابعة كفاح عفيفي، وهي مقاوِمةٌ فلسطينيّة أمضت ست سنواتٍ في معتقل الخيام. وعبر كفاح نتعرفّ إلى نماذج مختلفة من النّساء الفلسطينيّات المقاوِمات قبل أن نلتقي بزميلات كفاح في معتقل الخيام، وسهى بشارة واحدة منهنّ.
في المشهد الأخير، نرى كفاح مع زوجها الذي كان أيضاً معتقلاً ويدور بينهما حوارٌ مفتعل وكأنّه يجري فقط للكاميرا، ومن اللافت أنّه ينتهي مع كفاح تنظر إلى الكاميرا سائلةً المخرج عمّا إذا انتهى التصوير. نظرة كفاح الأخيرة وضحكتها تُخرج المشهد من قالبه المفتعل ونحن نعرف مدى أهمّيّة تجنيب شخصيّات الوثائقي التحوّل إلى ممثّلين ومدى الحاجة إلى وقتٍ لجعل الكاميرا شبه مخفيّة تسجّل الواقع بعفويّته من دون افتعاله.
تظهر كفاح عفيفي من جديد في «حنين الغوردل» لتزور، بعد حرب ٢٠٠٦ الإسرائيليّة المدمّرة، ما تبقى من معتقل الخيام حيث سُجنت وحيث صُوّر «أرض النساء» قبل عامين. قام الإسرائيليّون مرّةً جديدة بمحو المكان، لكنّ روح النّصر تسيطر على الشخصيّات وفعل المقاومة مستمرّ.
شمعون وطَيف المدينة
تظهر بوضوح آثار الإرث الوثائقيّ على الفيلم الروائيّ الوحيد لجان شمعون أي «طيف المدينة» (٢٠٠٠) الذي تغطّي أحداثه ثلاثة عقود من التاريخ اللبناني من خلال متابعة عائلة جنوبيّة تلجأ إلى بيروت سنة ١٩٧٤ فيشهد أفرادها على التحضيرات للحرب ومن ثمّ اندلاعها، ومن ثَمّ الاجتياح الاسرائيليّ سنة ١٩٨٢ لنصل أخيراً إلى فترة ما بعد الحرب واستلام زعماء المليشيات مشاريع إعادة الإعمار والسيطرة على الاقتصاد. وكأنّ الفيلم خلاصة التّجربة الوثائقيّة ومشاهدات شمعون للواقع.
تتكوّن هذه الخلاصة في «طيف المدينة» من لقطاتٍ أرشيفيّة عن موجات التّهجير والغارات الإسرائيليّة والدّمار وقد سبق أن شاهدناها في الأفلام الوثائقيّة. كما أنّ هناك شخصيّات تابعناها على أرض الواقع وجاء الممثّلون لإعادة لعب دورها في إطار الفيلم الروائيّ كبعض المسلّحين والمدنيّين خصوصاً شخصيّة سهام التي تؤدّي دورها كريستين شويري وهي مستوحاة مباشرةً من «بطلة» فيلم «أحلام معلّقة» وداد حلواني. من اللافت في هذا الإطار وجود وداد في الفيلم ضمن المظاهرة التي تقودها سهام للمطالبة بمعرفة مصير المفقودين فيكون اللقاء مباشراً بين شخصيّة الفيلم الروائيّ وشخصيّة الفيلم الوثائقيّ لخدمة القضيّة.
يضعنا تحويل المخزون والإرث الوثائقيّ إلى مادّةٍ روائيّةٍ وكأنّنا أمام نموذجٍ من الوثائقيّ الدراميّ ولكن ضمن قالب الفيلم الروائيّ من حيث حركة الكاميرا واستعمال الإضاءة والبحث عن جماليّة الصورة واختيار الممثّلين، فتصبح الحرب وكأنّها حكايةٌ مبسّطةٌ تُختصر فيها المراحل. كما قال لي شمعون، فإنّه لا يبحث عن تأريخ الحرب في «طيف المدينة» وهذا الأمر واضحٌ وربّما أنّ فقدان التّفاصيل المتشعّبة وعدم توفّر عفويّة اللحظة مقابل الإحساس بإعادة تركيبها يجعل وقع الوثائقيّ أكبر بكثيرٍ من الرّوائي. فالأوّل عاش الأحداث فيما الثّاني يحاول نقلها بصعوبةٍ وبوسائل تجعلها استعراضاً أكثر منها حقيقة. تؤكّد أفلام شمعون الالتزام بالإنسان، بيوميّاته ومشاكله وطموحاته ومقاومته وتحترم مفهوم السّينما التي يعتبر شمعون أنّها «يجب أن تساهم في تطوير المجتمع. فنحن من واجبنا مساعدة الإنسان وإلّا فما هي مسؤوليّة الفنّان؟». كما تغطّي أربعة عقودٍ من تاريخ لبنان الحديث وحروبه جاعلةً من سينما الحرب سينما مستمرّة تتفاعل مع الحاضر ومع رواسب الماضي الذي لم يمت.
بعد مارون بغدادي ورندة الشهّال، يغادرنا فردٌ آخر من هذا الجيل الذي نزع عنّا حالة اليتم السينمائيّ خاصّةً في مجال الفيلم الوثائقيّ فتتواصل التّجربة وتبقى الأفلام حيّةً وشاهدةً على تاريخنا المعلّق.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.