في تلك الفترة انتقلتْ علاقتي بالمسؤولين في الحزب إلى مرحلة أعلى. صرتُ أرى نقولا الشاوي وحسن قريطم وصوايا صوايا، هذا الأخير كان وافداً جديداً على الحزب وما زال شابّاً. تأخّرتْ معرفتي بفرج الله الحلو لأنّ تلك الفترة شهدتْ قصّة فرج الله و«رسالة سالم»١. حينها جلد الحزب فرج الله جلداً. كالَت الاجتماعات له الشّتائم. صحيحٌ أنّي لم أكن منظّماً في هيئة حزبيّة لكنّني سمعتُ بالحملة على فرج الله. أكثر من ذلك، في إحدى المرّات وبينما أنا داخلٌ إلى أحد المنازل الّتي لا يُفترض بي الدخول إليها سمعتُ كلاماً يدين فرج الله. خُصّص ذاك الاجتماع لإدانة الرّجل. سمعت أغلب الحديث. سمعتُ من يقول: «اعترف يا رفيق اعترف». وأشرس المتكلّمين يوسف خطّار حلو. قرّرتُ المغادرة لأنّي لم أشأ الاستماع إلى المزيد. سمعتُ الكلام بينما أنا جالسٌ في المطبخ وذلك لأنّني كنتُ ذاهباً إلى الشخص متسلِّم المنزل ولم أعلم بأنّ اجتماعاً يُعقد. كان البيت من البيوت السرّية التي لا تُعقد عادةً فيها اجتماعات، إلّا أنّهم قرّروا ذلك الاجتماع في حينها. والمنزل قريب من منزلنا في فرن حايك السفليّ في الأشرفيّة، وهو منزلٌ كبيرٌ في الطّابق الرابع، تركناه عندما بدأ الوالد يعاني من مرض القلب.
شاهدت اغتيال نسيب المتني
تمّ تكليفي بكثير من الأمور لها علاقة بالعمل السرّي. كثرت الاستفادة منّي. على سبيل المثال، استخدمتُ سيّارة فريد قزما ابن عمّ والدتي، أصبحتُ صديقاً لسائقه واستخدمته بإيصالي إلى أماكن يجهلها، أحياناً كثيرة لم يكن يعرف وجهتنا. تميّزتُ بإمكانات كثيرة استفاد منها الآخرون، منها سيّارة كبيرة من نوع «كورونيه دودج فرساي».
من ضمن مهمّاتي كان نقلُ رسائل خطّية وشفهيّة وإجراء اتّصالات شخصيّة. جاء ذلك نتيجة الثّقة التي اكتسبتُها. من مهمّاتي أيضاً كانت قضايا لها علاقة بالسّوفييت. على سبيل المثال في إحدى المهمّات تبيّن أنّ الضّابط السوفييتي اللعين يعمل على نحو مبتذل ليحوّل الضابط اللبنانيّ إلى عميل، فغضب منّي الضابط اللبنانيّ قائلاً: أريد إقامة علاقة مع السوفييت قائمة على النّصح والصداقة لا على العمالة. أحياناً يقومون بهذه المهمّات المخابراتيّة بحكم العادة.
وقد أصبحتُ قريباً من المسؤولين الحزبيّين وحزتُ ثقتهم. يُطلب منّي مثلاً بيع كتب أو كتابة منشور وتدبير طباعته بمكان ما. واظبتُ على هذا العمل من دون أن أنتسب إلى أيّ هيئة تنظيميّة حتّى العام ١٩٥٧. في تلك السّنة كنّا نسكن في منطقة الخندق الغميق، ويقع منزلنا على الزاوية بين «شارع سوريا» والشّارع المؤدّي إلى الباشورة. في الطابق السادس. مقابل غرفتي، شارعٌ يصل شارع سوريا بشارع بشارة الخوري، في منتصفه دائرة سير وبالمقابل بيت صاحب صحيفة «التلغراف» نسيب المتني.
وأنا عائدٌ من سهرة حوالي الساعة الثانية أو الثانية والنّصف بعد منتصف الليل، وقفتُ على الشبّاك أدخّن سيجارةً كي لا تمتلئ الغرفة برائحة الدّخان، شاهدتُ اغتيال نسيب المتني. منزله مقابل دائرة الشّرطة. قدّرتُ أنّه تعرّض للاغتيال لأنّ الضوء لم يكن كافياً للرؤية بشكل جيّد. شاهدتُ وصول سيّارة من نوع فولسفاغِن توقفَت وترجّل منها شخصٌ (هو نسيب المتني). أطلقوا عليه الرصاص. لم أرَ إطلاق النار، سمعتُ صوته فقط، كما لمحتُ شخصاً ترجّل من سيّارة نسيب نفسها حمله ونقله إلى المستشفى. عرفتُ على الفور ما حصل. أخبرتُ المتواجدين في المنزل أنّ نسيب المتني تعرّض لإطلاق نار. اتّصلتُ بعنصر من جماعتنا لم أعد أذكر من هو. اتّفقنا أن أراه في اليوم التالي على اعتبار أنّ الوضع في البلد سينفجر. ذهبتُ لمراجعة «مرجع» لنرى ما العمل. كان ثمّة إمكانيّة لقاء أحد من قادة الحزب في مكتب إدمون عون ونخلة مطران في شارع المصارف على «السور» في وسط البلد بحجّة أنّ أنطون ثابت أو إدمون عون محاميان، فهناك دائماً مكتبٌ يكون فيه حسن قريطم أو صوايا صوايا أو نقولا الشاوي. أمّا فرج الله فكان لا يزال «تحت الأرض».
اكتشاف جورج حاوي
وصلنا إلى المكتب والتظاهرات قد بدأت، وعناصر الدّرك يطلقون النار على الحرج الّذي خرجت منه تظاهرة. وعندما سألتهم: ما العمل؟ قالوا لي: «على رأس التظاهرات!» (طلبوا منّي أن أتسلّم قيادة التّظاهرات). لاقاني حسن فسألني عمّا أفعله هنا في قيادة التظاهرة. كنت مع كريم مروّة ومحمّد دكروب. مشينا حتّى وصلنا إلى أمام الباشورة، رأينا النّاس يقعون بين أقدامنا بسبب إطلاق النار من قبل الجيش. اختبأنا لأنّ الأمر لا يحتمل العنتريّات. وصلتُ إلى أحد الأماكن فرأيتُ شباناً يقطعون الأشجار لمنع آليّات العسكر من التحرّك. وبينما أنا أراقب قاطعي الأشجار، وجدتُ شخصاً يبلغ من العمر حوالي تسعة عشر عاماً يقوم بالمهمّة بكثير من العزم. أعجبتُ به. شاهدني رفيق يُدعى رياض بيضون (أصبح فيما بعد مدير ثانويّة وعضو مكتب سياسيّ)، كان حينها مسؤول الطلاب وطالباً في الجامعة اللبنانيّة. تقدّم رياض نحوي بصفته أحد قادة التظاهرات. قال لي: أراك معجباً بهذا الشاب، هذا رفيقٌ لنا في ثانوية الحرج ويُدعى جورج حاوي. تعرّض جورج للطّرد من البكالوريا لأنّه قدّم الامتحان نيابةً عن شخص آخر، فأخرّوه. ولم يقدّم جورج امتحان البكالوريا القسم الثّاني حتّى بلغ العشرين أو الثانية والعشرين من العمر. أخبرني رياض أنّ جورج حاوي من بلدة بتغرين. أجبته بأنّي أنظر إلى هذا الشاب ومن الواضح أنّه حطّاب. بعد ذلك سارت الأمور على النّحو المعروف إلى أن اندلعت الحرب...
أياماً عدّة قضيتُها على رأس الجماهير، لا نملك سلاحاً أو أيّ شيء آخر. في ذلك الحين بدأ الزّعران بحمل السّلاح، من لا يملك رشّاشاً حمل «جفتاً» ونحن لم نكن نملك شيئاً. غضبت وقلت لنديم عبد الصمد: ما رأيك بالذّهاب إلى الجبل والتّوجه إلى كمال جنبلاط؟ لأنّنا هنا لا نستفيد شيئاً، نتنزّه في الشّوارع وقد نروح ضحيّة لأنّ من الواضح أنّ الحزب متأخّر عن باقي العالم. أقنعت نديم بأن نتّجه إلى الشوف ونرى ما يمكننا أن نقوله لكمال جنبلاط، وقلت له: اذهب إلى بلدك، ما الّذي تفعله هنا؟
الخروج من بيروت لم يكن أمراً يسيراً لأنّ المدينة انقسمت، يجب عليكَ المرور من حيّ إلى حي. طريق الدّامور مقطوعة. ذهبنا إلى جسر القاضي، ووصلنا إلى كفرحيم، وَجدنا جماعة جنبلاط يتشاجرون بسبب خلاف على سرقة سلاح. بتنا الليلة في منزل المختار فأكل جلودَنا البقّ.
الاستعانة بكمال جنبلاط
في اليوم التالي توجّهنا أنا ونديم إلى المختارة وذهبنا مباشرةً إلى القصر. وجدنا كمال جنبلاط واقفاً وإلى جانبه شوكت شقير. اقتربنا منه مسرعين. أنا أعرفه لأنّني كنتُ على صلة بفؤاد رزق. خلال معركة المحامي فؤاد رزق [الانتخابيّة] ذهبتُ إلى الشوف، أوّلاً لقرابة مع آل رزق وثانياً لأنّهم طلبوا المساعدة. حينها ذهبتُ أنا وشخص اسمه جوزيف رزق. في تلك المعركة أراد فؤاد أن يكون معنا شخص آخر من عنده وليس فقط من الدروز. كان مرشّح الكاثوليك مع كمال جنبلاط في العام ١٩٥٣ وأعرفه منذ ذلك الحين، وهو من مؤسّسي الحزب الاشتراكي. والرّجل عصاميّ، صنع نفسه بنفسه كما أنّه محترمٌ جدّاً.
اقتربنا من كمال جنبلاط وألقينا عليه السّلام. على الفور، بادرتُ بالقول: أنا قادمٌ من بيروت، ونحن كما تعرف شيوعيّون، قد أكون أكثر إفادةً لكَ هنا، جئنا كي نضع أنفسنا تحت تصرّفك. أجابني بلؤم «يا عمّي إنتو شاطرين بالمظاهرات وبكتابة العرائض والبيانات بس ما بتعرفوا تقوّصوا». انزعجتُ أنا وابتسم هو. اقترب منه شوكت وأخذه جانباً ثمّ قال: «غير صحيح يا كمال بيك، أنا أعلم أنّ الشيوعيّين يجيدون إطلاق النّار كثيراً». وفي ذلك الحين كان للشيوعيّين تنظيمٌ عسكريٌّ مهمّ يعمل لمواجهة تهديدات تركيّا باسم «الحرس الشعبي في سوريا». اقترب الاثنان منّا وقالا إنّهما بحاجة إلى خدماتنا، ماذا تستطيعون أن تفعلوا لنا؟ كان السّؤال. أجبنا: يجب أن نعرف أوّلاً إلى ماذا تحتاجون. تحدّث كمال جنبلاط عن مشكلة في منطقة الغرب داخل القرى المسيحيّة مثل شملان وسوق الغرب، حيث مسيحيّوها يهربون منها عندما يلمحون «شراويل» من جماعتنا. وسألني عمّا إذا كنّا نستطيع إحضار شباب «نازيك» من المسيحييّن لنضعهم على الحواجز، فيتوجّهوا إلى جورج وحنّا وآرتين ويطمْئوا الناس. أجبته فوراً بإمكانيّة ذلك لكنّي اشترطتُ أن يقوم بإيصالي إلى بيروت. تولّى الجيش إيصالي إلى العاصمة فيما توجّه نديم صوب عمّاطور.
افترضنا أنّ الجوّ المشحون انكسر مع كمال جنبلاط لأنّه أصبح بحاجة إلينا، فتوجّهتُ فوراً إلى بيروت وطلبت أن أرى أحد مسؤولي الحزب ممّن يتّخذون القرارات. قالوا لي إنّهم سيعطونني جواباً بعد حوالي السّاعة، وبعد ساعة أبلغوني أنّ نقولا سيلاقيني «غداً عند السّاعة كذا في بيت عادل عبد الصّمد». الحديث عن نقولا يعني أنّ الوضع أصبح جدّيّاً. كنتُ أعرف نقولا معرفة سطحيّة، ومنذ ذلك الحين بدأت صداقتي معه. ونقولا شابّ ذو سمرة مهيوبة وشعر أبيض على الرغم من أنّه كان يبلغ حينها من العمر اثنين وخمسين عاماً. جلسنا معاً، وأنا كنتُ قد أطلعتهم مسبقاً على الموضوع. أخبرني نقولا أنّ شيئاً أصبح جاهزاً وأنّ أبو علي سيتّصل بي في الغد (وأبو علي رفيق أرمني يُدعى كيفورك وهو عضو لجنة مركزيّة تعرّض للخطف بالقرب من المركز ثمّ وجدناه مرميّاً على الرملة البيضاء في فترة الثمانينيات خلال العدوان الإسرائيلي). اتّفقنا وقتها على طريقة اتّصال أبو علي بي. وبالفعل التقيت أبو علي كما أخبرني نقولا، وقد أحضر لي عدداً من الأشخاص نصفُهم أرمن ونصفهم عرب، ومن الأسهل على كيفورك التعامل مع الأرمن، منهم خليل الدبس وداوود بشارة ومخايل عون، أسماءٌ أصبحت جميعها فيما بعد كوادر حزبيّة.
الجميع من أبناء بيروت لأنّ أبو علي كان عضو منطقة بيروت، وأنا أردتُ أخذهم إلى الشوف. في بيروت كنّا محشورين بالناس لكثرتهم ولم نملك السلاح. أعطوني لائحة واتفقت مع الشباب على الذّهاب. أخبرتهم عن كيفيّة التّسلّل لأنّ الشّباب جاهزون هناك لاستقبالهم بمجرّد الاتصال بأحد المعنيّين. انطلق ثلاثون رفيقاً ثمّ طلبوا منّي وقف إرسال متطوّعين، متذرّعين بعدم وجود أماكن كافية للمبيت. كان من المفترض أن يذهبوا إلى سوق الغرب لكن عندما وجدهم كمال جنبلاط يرتدون جينزات ويتحدّثون لغات اجنبية ومهذّبين، لأنّهم جميعهم طلاب، قرّر إبقاءهم لديه خصوصاً أنّ المدارس كانت قد توقّفت حينها. صاروا يسمّونهم «الكومندوس» وصار كمال جنبلاط يتنقلّ وإيّاهم بدلاً من التّنقّل مع أصحاب السراويل. تدرّبوا على السّلاح لكنّهم لم يقاتلوا، لأنّ عدداً منهم كانوا مهندسين مثلاً ولديهم معرفة بكيفية تحديد الإحداثيّات فنقلهم جنبلاط على مطير عبيه فوق المطار. أمّا سائر أفراد المجموعة فظلّوا يرافقون كمال جنبلاط ومن بينهم خليل الدبس وإدمون بعقليني. كان اسم جورج حاوي على اللائحة لكنّه لم يكن من الدفعة الّتي ذهبت إلى عند جنبلاط.
نقل السلاح
بعد مرور بعض الوقت اتّصل آرتين من الحزب، وكنّا في ذلك الوقت قد عملنا معاً على عدد من الأمور. قال لي إنّه يريد السيّارة. أخبرني عندما ناولته المفاتيح أنّه يريد تحويلها إلى مخزن لنقل السلاح وطلب منّي العمل في قطاع التسليح. قلتُ له إنّي عملتُ في الكثير من الأمور فما المانع في ذلك؟ غابت السيّارة حوالي ثلاثة أو أربعة أيّام. عندما عادت أصبحتُ أعرف كيفيّة وضع السلاح فيها لكنّي رغبتُ بتفتيشها بنفسي لمعرفة ما إذا كان هناك إمكانيّة لكشف السّلاح لأنّي لم أجد فيها تغييرات مهمّة. بدأتُ بتحميل السلاح. في المرحلة الأولى أقمنا صلة لترتيب قِطع السلاح. ذهبنا سيراً على الأقدام انا ونديم عن طريق دير العشائر. ومنها انتقلنا بإحدى السيّارات إلى دمشق حيث التقينا فرج الله، وقد طُلب منه تأمين سلاح. وفعلاً، اتّفق فرج الله مع أشخاص هناك يوفّرون سلاحاً للثّورة لأنّ ثورة ٥٨ تدخّل فيها جمال عبد النّاصر مباشرةً.
أخبرني فرج الله أنّ أفضل طريق هي طريق بعلبك، وأنّه يجب عليّ أن أتّفق هناك مع شبلي حيدر وفواز المعلوف اللذين يتولّيان تأمين السّلاح، ثمّ يضعون القطع في أحد الأماكن فأتولّى أنا نقلها إلى بيروت.
بقي نديم في الشوف إلى أن انتهت الحرب. أمّا أنا فتركت الشّوف نهائيّاً لأنّي باشرتُ مهمّةً جديدةً هي تأمين السّلاح للحزب، وهذه مهمّة تهمّني شخصيّاً كثيراً كي يقاتل الحزب ويحصل على مراكز.
وبدأتُ بنقل السلاح. ارتكزت خطّة شبلي حيدر على وضع السّلاح في أحد الكروم. تطلّب النّقل وقتاً طويلاً، ساعات وساعات، لأنّ العمل السرّيّ يتطلّب الخفاء، من الضروريّ ألّا يرى أحدٌ العمل وإلّا سيطر القلق على الشّخص. صرت أقوم بتعبئة السلاح وأسلك طريق الكروم. تلك الكروم كانت لآل المعلوف الّذين انطلق دورهم من هنا. بدأتُ بالتعاون مع آل المعلوف لأنّها عائلة شعرتُ معها بالثّقة، وكان معهم بناتٌ منهنّ إحداهنّ متزوّجة من بتغرين وما زالت كلّما تراني تذكرني وتقول لي: تحت العريشة.
داومتُ على إحضار السلاح ونقله لمدّة أربعين يوماً. وكنت أمرّ في ثكنة أبلح على حواجز الجيش وعلى حاجز الأمن العام في شتورا. ألهيتُ الحواجز دائماً. كلّما وجدتُ قطعة سلاح وضعتها إلى جانبي، ثمّ كنت أشغلهم وألهيهم، ولم أضطرّ مرّةً إلى فتح الصندوق كي يروا ما يحويه. بمعنى آخر لم يحرجوني ولو لمرّة واحدة بتفتيش السيّارة. قمتُ بتهريب حوالي مئتين أو ثلاثمائة قطعة سلاح عبر هذه الطريق، ثمّ هّربت عبر طريق ثانية هي طريق طرابلس. طريق طرابلس أخطر لأنّه يجب عليكَ المرور عبر حواجز القوميّين، والقوميّون أشرس من الجيش ومحفّزون لأنّهم طرفٌ، بعكس الأمن العام. وعلى الرّغم من ذلك تمكّنتُ من تمرير سلاح مهمّ عن طريق طرابلس. لكنّ الطريف أنّ رسولي في طرابلس، مساعدي حينها في نقل السلاح، أصبح مفتش عام القضاء في لبنان، وهو قاض كبير اسمه وليد غمرة: كان يسلّمني السّلاح في ساقية طرابلس. حينها، كانت بساتين طرابلس على مدّ عينك والنظر.
في إحدى المرّات جلسنا أنا ووليد غمرة طويلاً وقد تأخّر السلاح بالوصول. لم يكن لدينا طعامٌ أو شراب. صرنا نأكل قشر ليمون حامض! وبقينا حوالي أربع وعشرين ساعة قابعين في الساقية، والليل بارد، ونحن لا نملك ملاحف، حتّى وصل السلاح. أسماءٌ كبيرة تولّت مهمّة تأمين السلاح، من بينهم فاروق معصراني. كنتُ أسلّم السلاح لنقولا الشاوي مباشرةً. وفي كلّ مرة نتّفق معاً على مكان نلتقي فيه. في إحدى المرّات حصل معنا حادثٌ طريف. قال نقولا يجب أن نضع السلاح في الغبيري. عندما وصلنا فتح نقولا كاراجاً كان يملك مفتاحه. الكاراج صغير وبالكاد يتّسع للسيارة، فاضطررتُ إلى الرجوع بها وإخراجها. لمح نقولا دوريّة أميركية داخل الحرج في الغبيري. نقولا رجلٌ شجاع. بمجرّد أن لمح الأميركيّين من بعيد طلب منّي رفْع غطاء محرّك السيّارة، وشمّر عن زنوده، وكان يرتدي قميصاً أبيض، وبدأ يمرّغ نفسه بالشّحم. أعصابه كالحديد. عندما وصلت الدوريّة الأميركيّة التي كانت تبعد عنّا حوالي عشرين متراً بدأ عناصرها بالضحك على هذا الختيار القادم لإصلاح السيّارة. توقّفوا للنّظر إليه. لكنّ قلبي في الحقيقة أصبح بين رجليّ وصرتُ أقول بيني وبين نفسي: أين علقنا؟ ومع مين؟ مع الأميركيّين!
عايشتُ نقولا في مناسبات كثيرة. مررتُ وإيّاه عبر الحدود مستخدمين جوازات مزوّرة، ودائماً كان هناك خطر أن يُلقى القبض علينا. تنظر إلى وجهه فترى الثّقة بحيث لا يمكن لأحد أن يشكّ فيه. لكن فرج الله الحلو لم يكن كذلك. كان يخوّفني فرج الله كجميع أهل حصرايل، أمّا نقولا فكان وجهه كالبلاطة لا تصدّق أنّه يخاف.
- ١. الإشارة الى رسالة النقد الذاتي التي أجبر فرج الله الحلو على كتابتها بسبب موقفه المعارض لتأييد الاتحاد السوفييتي قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتّحدة العام ١٩٤٧ وما أملاه من تأييد الأحزاب الشيوعيّة العربيّة، بما فيها الحزب اللبنانيّ، لذاك القرار.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.