العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

إقرار بالذَّنْب!

إميل توما والتقسيم الذي لم يحدث

النسخة الورقية

لا يسعى هذا المقال إلى تناول الموقف الذي اتّخذته عصبة التحرّر الوطنيّ حيال التقسيم عام ١٩٤٧، بل إلى إتاحة الفرصة لإميل توما، القائد البارز في عصبة التحرّر الوطنيّ في الأربعينيّات في فلسطين، لتفسير موقفه السياسيّ المُعارِض للتقسيم مع اندفاعه في الوقت ذاته إلى التنصّل من موقفه هذا، وهو موقفٌ أُرغم على اتّخاذه بهدف استعادة مكانه ضمن الصفوف الشيوعيّة. كما تهدف الوثائق المعروضة هنا إلى التحدّث عن نفسها بنفسها؛ ولن تُطلَق أحكامٌ أخلاقيّة أو قِيَميّة. وسيكون على القرّاء استنتاج خُلاصاتهم بأنفسهم. سنعرض ثلاث وثائق؛ الأولى هي خطاب إميل توما أمام مؤتمر الأحزاب الشيوعيّة في بلدان الإمبراطوريّة البريطانيّة الذي عُقد في لندن في شباط / فبراير - آذار / مارس من العام ١٩٤٧ وحضره توما بكونه ممثّلاً عن عصبة التحرّر الوطنيّ١. وقد ألقى شمويل ميكونِس خطاباً أمام المؤتمر ممثّلاً عن الشيوعيّين اليهود في فلسطين، إضافةً إلى خطاب لخالد بكداش٢. الوثيقة الثانية هي خطاب غروميكو أمام الجلسة الخاصة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في أيار / مايو - نيسان / أبريل ١٩٤٧، حيث أعلن الموقف السوفييتيّ حيال التقسيم للمرة الأولى٣. وبالرغم من حقيقة أنّ الإحالة إلى التقسيم كان يُراد منها أن تبدو مشروطةً، إلا أنّنا نعلم اليوم بأنّها كانت حيلةً تكتيكيّة٤. كانت تلك إشارةً مبكرة إلى أن الدبلوماسيّة السوفييتيّة كانت منخرطةً أساساً في الشرط الأوسط كمنطقة نزاعات. أما الواجب الأساسيّ الذي ينبغي على تحالف الحرب الاضطلاع به فهو إضعاف الإمبرياليّة البريطانيّة على نحو أكبر. وقد قدّمت فلسطين نفسها فعلياً بكونها حلبةً عملت فيها حملة العنف التي تشنّها جماعة الاستيطان اليهوديّة ضد الحُكم البريطانيّ المستمر على تقديم الفرصة السانحة. أما الوثيقة الأهم من أجل غاياتنا هنا فهي إقرار بالذَّنْب من إميل توما، كتبه بعد عودته إلى حيفا في نيسان / إبريل عام ١٩٤٩، بعد أن أمضى عاماً في لبنان٥. وكما تُبيِّن السطور الأولى من النص، كان هذا الإقرار بأمر من رفيق قديم اسمه «إميل»٦، وكان الهدف هو إعادة توما إلى صفوف العصبة، التي كانت قد حُلّت نهائياً بعدما اتّحد من تبقّى من أعضائها العرب مع الشيوعيّين اليهود في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨، وأسّسوا للمرة الأولى منذ عام ١٩٤٣ حزباً شيوعيّاً عربياً يهودياً موحّداً. ومع أنّه لم يعد يحمل اسم الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ، إلا أنّ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ المُؤسَّس حديثاً اعتبر نفسه خلفاً للحزب الفلسطينيّ وبات يمتلك نسباً ممتداً إلى عام ١٩١٩، عام تأسيس الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ.

تقترح هذه الورقة، من حيث المبدأ، إطاراً يُحدّد موقع عصبة التحرّر الوطنيّ داخل فضاء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بين منتصف الأربعينيّات وأواخرها، وموقع إميل توما بكونه القائد البارز في العصبة. وكذلك تشير إلى سمات السياق الدوليّ الأكبر الذي يعرض مشهد انحسار القوة البريطانيّة، والإدراك السوفييتيّ للقوى التي ستُسهّل نهاية الهيمنة البريطانيّة. ولا ينبغي أن ننسى أنّ الهيمنة البريطانيّة كانت جليّةً في جميع الدول العربيّة «المستقلة» اسمياً التي لعبت دوراً محورياً في النضال من أجل فلسطين، تحديداً، العراق، مصر، وشرق الأردن. كانت هذه الدول الثلاث تابعةً لبريطانيا مع كونها في الوقت ذاته متنافسات شرسات من أجل الهيمنة على المنطقة حيث كان نوري السعيد في العراق والملك عبد الله في الأردن هما المُرشَّحين الأساسيّين.

ومع أنّه أحد أقدم الأحزاب الشيوعيّة في المنطقة، إلا أنّ للحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ ماض مضطرب. إذ تأسّس على يد مجموعة من العمال اليهود اليساريّين الذين تلاشت أوهامهم عن الصهيونيّة حالَ وصولهم إلى فلسطين، ولكنّهم واصلوا برغم هذا إدراك أنفسهم بكونهم جزءاً من حركة ثوريّة اشتراكيّة عالميّة وسارعوا مباشرةً إلى الانضمام إلى الأمميّة الشيوعيّة التي تأسّست في وقت قريب. وكانت شروط الانضمام إلى عضويّة هذه الجماعة تشدّد على الحاجة إلى تحويل أنفسهم إلى «حزب إقليميّ»؛ بهدف معالجة واجبات التنظيم الثوريّ والقلق من أنّهم سيصبحون حزباً عربياً يهودياً. ومنذ العام ١٩٢٤ فصاعداً، وهو التاريخ الرسميّ الذي يشير إلى التزام الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ بالكومنتيرن حتى عام ١٩٤٣، حينما تفكّك الحزب بعدما كان تنظيماً أممياً موحَّداً وأنتج انشقاقات «قوميّة» عديدة، واصل الحزب صراعه من أجل واجب صون وحدته الأمميّة مع التزامه بتوجيهات الكومنتيرن الدائمة كي يصبح حزباً بأغلبيّة عربيّة، بحيث تنعكس هذا الأغلبيّة في عضويّته وقيادته على السواء. وبعد تعرُّبه رسمياً مع أوائل الثلاثينيّات، وانتخاب عضو عربيّ كسكرتير عام للحزب للمرة الأولى عام ١٩٣٤، صمد الحزب في مواجهة النزاع المرير الحتميّ بين السكّان العرب الأصليّين والمستوطنين الأوروبيّين الوافدين، ولكنّه عجز عن عبور الهوّة المتّسعة بازدياد التي تفصل بين الجماعتين.

بداية الخلافات

مع اندلاع الثورة العربيّة عام ١٩٣٦، وإعلان الحزب دعمه الكامل للموقف الذي تبدّى بوضوح في الوثائق الحزبيّة بكونه «نضالاً مناهضاً للإمبرياليّة ضد الكولونياليّة البريطانيّة»، بدأت الصُّدوع بين أعضاء الحزب العرب واليهود بالاتّساع. وتفاقم هذا الوضع مع اندلاع الحرب العالميّة الثانية عام ١٩٣٩ والموقفين المتباينين للجماعتين حيال طلب بريطانيا منهما دعمها في المجهود الحربيّ والانضمام إلى صفوف الجيش البريطانيّ للمشاركة ضمن المجهود الحربيّ للحلفاء ضد قوى المحور. وسواء كان هذا على مستوى النيّات أو الأهداف، بات الحزب الآن بمثابة قسمين منفصلين ينشغل كلٌّ منهما بأمور جماعته. ومع تفكّك الكومنتيرن عام ١٩٤٣، تفتَّت الإسمنت الذي يثبّت أعضاء الأحزاب معاً. وفي سائر الأحوال، وخلال سنوات عديدة، كان الحزب قد فقد اتصاله أساساً بالمركز في موسكو. ولم تعد جامعة كادحي الشرق الشيوعيّة، التي كانت مركز التدريب الأساسيّ للكوادر الحزبيّة، تستقبل كوادر جدداً من فلسطين (ربما كانت آخر دفعة قد سافرت إلى موسكو عام ١٩٣٥ وضمّت بولس فرح، الذي سيلعب دوراً جوهرياً في تأسيس عصبة التحرّر الوطنيّ بعد عقد من الزمن)٧. وبينما كان أعضاء الحزب اليهود قادرين على مواصلة نشاطهم في البنى المتنوّعة للجماعة اليهوديّة على اختلاف مستوياتها (الييشوڤ بحسب المصطلح الصهيونيّ)، كان الأعضاء العرب مُشتَّتين. إذ لم يلعبوا يوماً دوراً شرعياً في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة التي كان قادتها يميلون إلى اعتبار الشيوعيّين «منحدرين من الطبقات الدنيا» علاوةً على كونهم صهاينة متخفّين في آن. وفي جميع الأحوال، كانت القيادة التقليديّة تُبطن رؤيةً ازدرائيّةً أوروبيّةً سائدة حيال الشيوعيّين تُماثل تلك الرؤية المنتشرة في صحف العواصم العالميّة. كانت القيادة الفلسطينيّة حركةً نخبويّةً، تحالفاً متناثراً من قيادات مُعيَّنة ذاتياً تتكوَّن في الغالب من إقطاعيّين، وأعيان، ورجال دين يعتبرون الفلّاحين والعمّال أتباع ثانويّين، في حال تنبّهوا إلى وجودهم أساساً. وبعد فترة سكون قصيرة قرابة العام ١٩٤٣، ظهر «حزب وطنيّ» عربيّ، بنية حديثة متباينة كلياً عن الأحزاب العربيّة القائمة، وكان قادته أعضاء شباباً متعلّمين من الطبقتين الوسطى والدنيا. وقد ساهمت وجهة نظره الحداثيّة حيال العالم والتنظيم السياسيّ على السواء في تمييزه عن الأحزاب القوميّة القديمة التي كانت أقرب إلى أتباع شخصيّين لقادة إقطاعيّين، ورجال دين، وأعياناً يسعون إلى تكريس رعايتهم. كانت حداثة العصبة تتركّز في جوهر تقدميّتها فعلياً. موقفها حيال التنظيم الحزبيّ، محاولاتها تأسيس نقابات عماليّة، وتجمّعات طلّابيّة، وتجمّعات مهنيّة، إلخ، وفتوّة أعضائها الفاعلين (معظمهم أصغر من الثلاثين) الذين كانوا كلّهم قد نشأوا وتعلّموا خلال سنوات الانتداب، بخلاف الأعضاء الأكبر سناً الذين كانوا عثمانيّي النشأة والولادة والذين كانوا - بهذا المعنى - ينتمون إلى حقبة سالفة. وانضم عدد من الأعضاء القدامى في الحزب الشيوعيّ الميت إلى صفوف التنظيم الجديد الذي كان يهدف، كما يدل اسمه عصبة التحرّر الوطنيّ، إلى الاستقلال وبناء الدولة، لا إلى الصراع الطبقيّ أو الثورة العالميّة. وعلى عكس الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ القديم، لم تكن العصبة تنظيماً أممياً. كان أعضاؤها من العرب حصراً.

أخذ الحزب على عاتقه واجبين، أن يُشيّد بناه الداخليّة وأن يحظى باعتراف القيادة التقليديّة كجزء شرعيّ من الحركة الوطنيّة العربيّة. وقد أبلى بلاءً جيّداً في الواجب الأول، ولكنّه أخفق في الثاني بالرغم من محاولاته الحثيثة. ففي سعيه نحو «الوحدة الوطنيّة» تخلّى الحزب عن مواقفه السياسيّة المستقلة في كل مفصل من المفاصل والتزم بالمواقف التي تناصرها الزعامة الوطنيّة المُنصَّبة ذاتياً متجنّباً أيّ محاولة صراع مع الزعامة المُكرَّسة (كما في موقفه من لجنة التقصّي الأنكلو - أميركيّة بشأن فلسطين، اليونسكوپ [لجنة الأمم المتحدة الخاصة بشأن فلسطين]). ومنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية حاولت العصبة إمالة الحركة الوطنيّة إلى رؤيتها حيال النضال بكونه في المقام الأول نضالاً من أجل حق تقرير المصير والاستقلال. وقد كان الخصم الأبرز هو الحُكم البريطانيّ في فلسطين، وليس جمهور المستوطنين اليهود في البلاد كما حاولت الزعامة التقليديّة تصويرهم. وبهدف تحقيق هذا، كان الأمران لازمين، بناء جسور مع السكّان اليهود وطمأنتهم أنّهم سيمتّعون بحقوق متساوية في الدولة الفلسطينيّة الديمقراطيّة المستقلة في فلسطين٨، والسعي نحو اكتساب دعم القوى الدوليّة المُعارِضة لهيمنة الإمبرياليّة البريطانيّة المتواصلة. وتبعاً لرؤية العصبة، كان هذا الأمر يستلزم أخذ القضيّة الفلسطينيّة إلى المحافل الدوليّة، أي منظمة الأم المتحدة المتأسسة أخيراً حيث كان الاتحاد السوفييتيّ وكتلته يتمتّعان بعضويّة دائمة فيها٩. أما الزعامة الوطنيّة، من الجهة المقابلة، فقد ألقت بمرساتها مع الجامعة العربيّة المتأسسة أخيراً، والتي كانت لبريطانيا دور جوهريّ في تأسيسها، وكانت تعتبر الإمبراطوريّة البريطانيّة «صديقاً» وأملت بتحقيق تسوية للنزاع لصالح العرب من خلال علاقتها الوطيدة بها.

وطوال العقد الأخير قبل إعلان بريطانيا نيّتها إنهاء الانتداب، كانت سياسة العصبة تهدف إلى دمقرطة الحركة الوطنيّة مع إحداث زخم وطنيّ للضغط على الزعامة التقليديّة للمفتي وأعوانه من أجل التقارب مع المنظمة الدوليّة الجديدة، ومع أعضائها الراديكاليّين على الأخص. ولم تُخفق العصبة في هذا المسعى فحسب، بل أقدمت كذلك، بعدما أنشأت الأمم المتحدة لجنة اليونسكوپ لدراسة المشكلة الفلسطينيّة واقتراح حلول لها، على التمسّك بقرارات الزعامة التقليديّة لمقاطعة اليونسكوپ، بالرغم من إدراك العصبة بأنّ هذا الموقف سيضرّ بها. وخلال السنوات الخمس تقريباً من وجودها، نأت العصبة عن التخلّي عن زعامة المفتي وظنّت أنّ فرصها ستكون أكبر في التأثير على القراءات الوطنيّة العربيّة من الداخل وليس من الخارج١٠.

إميل توما: سيرة موجزة

ولد توما في حيفا عام ١٩١٩، والتحق بجامعة كمبردج في بريطانيا عام ١٩٣٧ ولكنّ إقامته في الخارج انقطعت عام ١٩٣٩ بسبب اندلاع الحرب العالميّة الثانية. وقبل عودته إلى حيفا شارك في نيسان / أبريل من العام نفسه في مؤتمر عُقد في باريس نظّمته المنظّمة الطلّابيّة العالميّة بشأن المسألة الكولونياليّة١١. وإثر عودته إلى فلسطين انضمّ إلى جماعة غير رسميّة بزعامة بولس فرح، انتظمت لاحقاً في نادي شعاع الأمل الذي أسّس اتّحاد النقابات في منافسة مباشرة مع جمعيّة العمّال العربيّة الفلسطينيّة في حيفا، والتي كانت ذات جذور أقوى. وكان هذا الاتّحاد هو الحاضنة التي أدّت إلى تأسيس عصبة التحرّر الوطنيّ عام ١٩٤٤ بعد تفكّك الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ. ومنذ البداية، ومع تأسيس جريدة الاتحاد، لسان حال الحركة العماليّة العربيّة، سيصبح إميل توما الوجه الأبرز للمنظمة الجديدة. وقد تعزّز هذا الأمر بفعل رحلاته العديدة إلى لبنان للقاء بكداش وفرج الله الحلو، وإلى أوروبا لتمثيل عصبة التحرّر الوطنيّ. وقد كانت أولى تلك الرحلات في شباط / فبراير ١٩٤٧ حين شارك في مؤتمر لندن للأحزاب الشيوعيّة في بلدان الإمبراطوريّة البريطانيّة. وزار لاحقاً باريس وبراغ وبلغراد، حيث التقى بقادة شيوعيّين عديدين بمن فيهم تيتو وموريس توريز١٢. وبعد عودته إلى فلسطين في أيار ١٩٤٧ نظّمت عصبة التحرر الوطنيّ استقبالاً حاشداً، حيث تجمّع أكثر من خمسة آلاف شخص لاستقباله في حيفا، من بينهم حمدي الحسيني، وهو زعيم يساريّ سلميّ من غزة، والشاعر الشهير أبو سلمى١٣. وفي تشرين الثاني من العام ذاته سافر إلى عاليه في لبنان برفقة زعماء آخرين في عصبة التحرر الوطنيّ للقاء المفتي الحاج أمين الحسيني، في اعتراف علنيّ بزعامته للحركة الوطنيّة١٤. ولكنّ موقع توما لم يبق بلا منافس. إذ زاحمه كلٌّ من فؤاد ناصر، الذي كان تركيزه الأساسيّ منصبَّا على قضايا اتحاد النقابات والجمعيات العربيّة، وهو بمثابة نقابة العمال المرتبطة بالعصبة، ومخلص عمرو، رئيس رابطة المثقفين العرب، وهي منظمة فرعيّة أخرى للعصبة١٥. وحينما صوّتت الأمم المتحدة دعماً لقرار التقسيم في تشرين الثاني ١٩٤٧، كان رد الفعل الأول لجريدة الاتحاد برئاسة تحرير توما هو رفض التقسيم ومواصلة المطالبة بدولة ديمقراطيّة في فلسطين١٦ (أغلقت السلطات البريطانيّة الجريدة في ٢٣ كانون الثاني / يناير ١٩٤٨، ما جرّد العصبة من وسيلتها لإيصال سياساتها إلى الرأي العام؛ وستعاود الجريدة الصدور في تشرين الأول ١٩٤٨ بعد أن سمحت لها بذلك الإدارة الإسرائيليّة الجديدة التي باتت المسيطرة على حيفا).

عُقدت سلسلة من الاجتماعات الحزبيّة في تلك الظروف المضطربة التي تخيّم على البلاد، ولكن لم يحضرها سوى عدد قليل من الأعضاء؛ وفي بادئ الأمر بدا بأنّ عصبة التحرر الوطنيّ بقيادة توما ستواصل سياستها الثابتة المديدة في معارضة التقسيم، ولكنّ القسم الذي تبقّى في فلسطين عانى من عدة انشقاقات. فبينما واصل مخلص عمرو المتواجد في منطقة الخليل مسيرته مع جماعة صغيرة من الأعضاء وألقى بأسهمه مع القوى المصريّة التي كانت تحتل الأجزاء الجنوبيّة من البلاد آنذاك، تمكَّن فؤاد ناصر من اكتساب جماعة من الأعضاء الفاعلين إلى صفّه لدعم التقسيم وقدّم نفسه بكونه الصوت الشرعيّ لعصبة التحرر الوطنيّ (ولكنّه رحل من الناصرة إلى غزة ومنها لاحقاً إلى المنطقة التي باتت تُعرَف باسم «الضفة الغربيّة»، حيث حوّل بقايا عصبة التحرر الوطنيّ إلى الحزب الشيوعيّ الأردنيّ). أما رفيقا توما السابقان، إميل حبيبي وتوفيق طوبي (ولكن ليس بولس فرح) اللذان كانا مواليين لنصّار، فقد تسلّما قيادة العصبة ليتّحدا في تشرين الأول ١٩٤٨ مع الشيوعيّين اليهود لتشكيل الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ. وحتى قبل هذا التاريخ، غاب توما، الذي كان غير قادر أو غير راغب بالدخول في صراع، عن الاجتماع الذي عُقد في الناصرة في شباط ١٩٤٨ الذي دعم موقف نصّار الداعم للتقسيم١٧. وفي نيسان من العام نفسه، اعتُقل توما في بيروت، ثم أُودع في سجن بعلبك حيث أعلن إضرابه عن الطعام ليُطلق سراحه أخيراً في أيلول من العام ذاته. وفي نيسان ١٩٤٩، بات قادراً أخيراً على العودة إلى حيفا، بفضل مساعي أعضاء حزب مپام الذين كانوا آنذاك جزءاً من الحكومة الإسرائيليّة وكانوا يأملون ضم الأعضاء العرب في عصبة التحرر الوطنيّ إلى صفوف حزبهم١٨.

مؤتمر لندن

حضر «مؤتمر لندن للأحزاب الشيوعيّة في بلدان الإمبراطوريّة البريطانيّة» الذي عقد بين ٢٦ شباط / فبراير و ٢ آذار / مارس ١٩٤٦ كلٌّ من شموئيل ميكونيس وإميل توما كمندوبين فلسطينيّين. ومع أنّ كليهما تحدّث عن مصالح جماعة العمال العرب واليهود، وكان كلاهما راغباً بتحقيق الاستقلال وإنهاء الحكم الكولونياليّ، كان ثمة اختلافات في طروحاتهما. تحدّث ميكونيس من جهته عن «المرارة المبرّرة للييشوف حيال الحكم الكولونياليّ» والحاجة إلى تعزيز وحدة القوة التقدميّة لدى العرب واليهود. واعتبر أنّ وحدها الجهود المشتركة للعرب واليهود في نضال مشترك من أجل حريّة البلاد ستُفضي إلى قيام دولة فلسطينيّة ديمقراطيّة ومستقلة، ونظام ديمقراطيّ ومساواة كاملة في الحقوق المدنيّة للعرب واليهود. وشجب الدوائر الشوفينيّة الصهيونيّة «المتعامية حيال وجود الشعب العربيّ والتي تدعو إلى وجوب تحويل فلسطين إلى دولة يهوديّة، والتي تقابل شوفينيّين عرب بعينهم يتناسون الواقع الجديد في البلاد ويطالبون بدولة عربيّة صرفة». ولم يكن في خطابه أدنى إشارة إلى التهجير، أو بيع الأراضي أو التقسيم١٩.

أما إميل توما، فقد شجب الصهيونيّة والإمبرياليّة البريطانيّة، ورفض كذلك الافتراض السائد بأنّ النزاع كان بين العرب واليهود. فالنزاع الجوهريّ كان بين الشعب العربيّ وجموع اليهود من جهة، والإمبرياليّة البريطانيّة من الجهة المقابلة. ومع ذلك، لا يمكن فصل النضال ضد الإمبرياليّة عن النضال ضد الحركة الصهيونيّة التي كانت «تُضلِّل وتُضيع جموع اليهود في فلسطين». وشدَّد على أنّ «النضال ضد الانتداب وضد الإمبرياليّة البريطانيّة لا يمكن أن ينفصلا عن النضال ضد الصهيونيّة والتهجير وبيع الأراضي. ولا يمكن أن يتحقق التحالف بين القوتين والحاجة إلى عزل اليهود عن الصهيونيّة والإمبرياليّة إلا على هذا النحو». كانت المطالبة الصهيونيّة بهجرة اليهود تقف في طريق التعاون الشعبيّ بين العرب واليهود في نضال مناهض للإمبرياليّة، وكذلك فإنّ الحركة الصهيونيّة التي ينتمي إليها اليهود المُضلَّلون لا تقاتل من أجل الاستقلال والتحرّر من الإمبرياليّة البريطانيّة. وتناول خطابه الاحتلال الصهيونيّ للأرض وما تبعه من تهجير لاحق للفلّاحين العرب، ولكنّه تركّز خصوصاً على شجب الإدارة الكولونياليّة البريطانيّة لأنّها تعيق التنمية الاقتصاديّة العربيّة ولكونها لا تقتصر على معاملة «الرأسماليّين اليهود كجماعة ذات امتيازات بحد ذاتها فحسب، بل تسحب التصنيف ذاته على العمال اليهود أيضاً». وأشار إلى أنّ الزعامة الفلسطينيّة التقليديّة عانت من إخفاق صارخ، «... لم تكن قادرةً أبداً على اتخاذ موقف إيجابيّ حيال السكّان اليهود لتمييزهم عن الصهيونيّة ...» ويعود سبب خطأ هذا الموقف إلى التآمر الصهيونيّ الإمبرياليّ علاوةً على المكانة المميَّزة للجماعة اليهوديّة في البلاد. ومع أنّ الزعامة التقليديّة كانت تُقرّ على الدوام بـ«الحقوق المدنيّة لليهود»، إلا أنّها لم تعتبر يوماً أنّ جزءاً من هدفها يتمثل في الحاجة إلى العون اليهوديّ في النضال من أجل التحرّر٢٠. وتجدر الإشارة إلى أنّ كلاً من خالد بكداش وفرج الله الحلو شاركا في المؤتمر، وبرغم عدم وجود دليل ملموس على أيّ لقاء مشترك بين المندوبين الفلسطينيّين والسوريّين إلا أنّ عدة تقارير أشارت إلى أنّ هذا اللقاء تمّ، وإلى أنّ تفضيل ميكونيس المُعلَن - حتى في تلك المرحلة - كان باتّجاه تأسيس دولة ثنائيّة القوميّة، بل وإلى التقسيم ربما، مع أنّ هذه النقطة لم ترد في خطابه أمام المؤتمر٢١. ومع اختتام المؤتمر صدر إعلان بشأن فلسطين يشدّد على دعمه للمطالبة بإنهاء فوريّ للانتداب البريطانيّ ولقيام دولة مستقلة موحّدة وديمقراطيّة في فلسطين. ووقّع جميع المشاركين على الوثيقة مؤكّدين دعم أحزابهم لهذا الموقف٢٢.

خطاب غروميكو في الأمم المتحدة

في عام ١٩٤٥، مع المؤتمر التأسيسيّ للاتحاد العالميّ لنقابات العمال في لندن، صوّتت البعثة السوفييتيّة دعماً لقرار مُقدَّم إلى المؤتمر يؤكّد على وجوب «تمكين الشعب اليهوديّ من مواصلة تأسيس فلسطين بكونها وطنهم القوميّ»٢٣. ولكن من الصعب تحديد ما إذا كانت هذه المبادرة إشارة إلى سياسة خارجيّة سوفييتيّة ملموسة حيال الصراع القائم في فلسطين أم مجرد محاولة لتيسير فعاليات المؤتمر في وقت كان فيه السوفييت والقوى الغربيّة لا يزالون متحالفين إثر انتصارهم الأخير على قوى المحور. وبعد سنتين، حينما أعلنت بريطانيا قرارها بشأن إنهائها للانتداب وتسليم القضيّة إلى الأمم المتحدة لحلّها، كان المناخ الدوليّ قد تغيّر. كانت الحرب الباردة في أشدّها الآن (ألقى تشرتشل خطابه بشأن «الستار الحديديّ» في آذار ١٩٤٦)، وبدأ الشرق الأوسط يبرز كمنطقة أساسيّة لتنافس القوى العظمى. أما بالنسبة إلى السوفييت، بدا الشرق الأوسط منطقة نفوذ بريطانيّة. ومع أنّ القوة البريطانيّة باتت في مرحلة انحسارها، كان ثمة خشية من أنّ الولايات المتحدة ستحل محلّها لتصبح القوة المهيمنة الجديدة. ولكن لم تكن تلك هي الحال فعلاً. إذ بدا أنّ ثمة فرصة لتسريع عمليّة خروج البريطانيّين من إحدى مناطق سيطرتهم في العالم العربيّ. وفي ما يتعلق بفلسطين، بات النزاع يُقرأ الآن بكونه نزاعاً بين حركة صهيونيّة متعاظمة القوة ودولة كولونياليّة ضعيفة. أما السكّان العرب الفلسطينيّون فلم يُعتبروا أكثر من لاعبين صغاراً، في حال انتُبه إلى وجودهم أساساً. كانت دور الجامعة العربيّة تتحدث باسمهم وتوجّه تحرّكاتهم. أما بالنسبة إلى السوفييت، فلم تكن الجامعة العربيّة أكثر من مجرد أداة تابعة للسلطة البريطانيّة. كما أنّ تسريع عمليّة رحيل بريطانيا من فلسطين سيمثّل ضربةً للموقع البريطانيّ في المنطقة وإضعافاً لوكلائها المحليّين؛ ولم تكن الإجراءات المحليّة في فلسطين ذات موقع متقدّم في سلم أولويّات الأجندة.

وبالرغم من حالات الإنكار المتكررة، كانت السياسات الخارجيّة للدول مدفوعةً بمصالحها الشخصيّة لا بالأيديولوجيا السياسيّة. ولم يكن الاتحاد السوفييتيّ استثناءً لهذه القاعدة، بالرغم من الادّعاءات الصاخبة لكلّ من داعميه ومناهضيه القائلة إنّه كان مدفوعاً بالأيديولوجيا. وثمة مثال بارز للدلالة على أنّ الاتحاد السوفييتيّ أيام حُكم ستالين مارس هذا النوع من السياسة الخارجيّة منذ العشرينيّات (في تركيا والصين على سبيل المثال)، وأنّ الأحزاب الشيوعيّة المحليّة كانت مُلزَمةً باقتفاء هذا الخط. ولم تكن فلسطين ستصبح استثناءً، ولم تكن استثناءً فعلاً.

ألقى أندريه غروميكو في ١٤ أيار ١٩٤٧ أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في خلال جلسة خاصة باللجنة الأمميّة الخاصة بشأن فلسطين خطاباً طويلاً. أشار إلى لجنة پيل التي تشكّلت عام ١٩٣٧ كدليل على أنّ بريطانيا بحد ذاتها أقرّت باستحالة مواصلة الانتداب. وقد كانت هذه الإحالة مثيرة للتشاؤم، لأنّ التقسيم ورد أول مرة في تقرير پيل كوسيلة لتحقيق آمال وتطلّعات العرب واليهود على السواء. وقدّم دليلاً آخر عبر اقتباس طويل من خُلاصات لجنة تقصي الحقائق الأنكلو - أميركية (١٩٤٦)، إلى الدرجة التي باتت فيها فلسطين «معسكراً مسلّحاً»، والانتداب غير فعّال. وقد تأكَّد هذا الأمر أيضاً عبر حقيقة أنّ السكّان العرب واليهود في البلاد كانوا متّفقين كلياً في رغبتهم بوجوب إنهاء الحُكم البريطانيّ. وبعد هذا التمهيد مباشرةً، أشار غروميكو إلى صلة مباشرة بين المحرقة النازيّة التي يُقدَّر عدد ضحاياها من اليهود بـ«ستة ملايين تقريباً»، ومليون ونصف المليون ممن نجوا من الحرب، ومئات الآلاف ممن باتوا اليوم لاجئين بلا دولة. ومضى بالقول إنّ من واجب الأمم المتحدة «إبداء الاهتمام بالحاجات الملحّة لهؤلاء الناس» الذي قاسوا هذه المعاناة الكبيرة نتيجةً لسياسات هتلر. وعلاوةً على ذلك، أشار إلى صلة مباشرة بين المصير الذي لحق باليهود الأوروبيّين خلال الحرب وعجز الدول الأوروبيّة عن «تقديم مساعدة كافية للشعب اليهوديّ في الدفاع عن حقوقه وجوهر وجوده ضد عنف الهتلريّين وحلفائهم». وهذا يفسّر، على حدّ قوله، تطلّعات اليهود لتأسيس دولتهم، ثم تابع حديثه بالقول «إنّه سيكون من الظلم أن لا نأخذ هذه القضيّة بالاعتبار أو أن ننكر حق الشعب اليهوديّ في تحقيق هذه التطلّعات. وسيكون من غير المُبرَّر إنكار هذا الحق على الشعب اليهوديّ بخاصة في ضوء كلّ ما قاساه خلال الحرب العالميّة الثانية». ثم تناول غروميكو مجدداً خُلاصات اللجنة الأنكلو - أميركيّة لتقصّي الحقائق ووصف بدقّة الحلول الممكنة التي اقترحتها اللجنة، ابتداء بدولة واحدة يهوديّة عربيّة، إلى التقسيم، وصولاً إلى تأسيس دولة تكون محصورةً باليهود أو العرب. وبرغم تأكيده أنّ من المبكّر جداً التصريح بالموقف السوفييتيّ النهائيّ إلا أنّه شدَّد على أنّ هذا الموقف سيرتكز على حقيقة أنّ «سكّان فلسطين يضمّون شعبين، العرب واليهود. ولكلّ منهما جذور تاريخيّة في فلسطين. وباتت فلسطين وطناً لكلا الشعبين ...» وأنّ الماضي التاريخيّ أو الظروف الحاليّة لا يبرّران أيّ «حل من طرف واحد بشأن المسألة الفلسطينيّة»، مُستبعداً قيام دولة عربيّة أو يهوديّة خالصة لأنّ أياً منهما ستُنكر «الحقوق المشروعة» للسكّان العرب واليهود. وينبغي على الحل المُنصِف أن يأخذ بالحُسبان المصالح المشروعة لكلا الشعبين، ولا يمكن لهذا الأمر أن «يتحقّق ... إلا عبر قيام دولة عربيّة يهوديّة ديمقراطيّة مستقلة متجانسة ... ترتكز على مساواة الحقوق بين السكّان اليهود والعرب...». ثم يلطّف هذا بالقول إنّ قيام دولة يهوديّة عربيّة واحدة «قد يُعتَبر واحداً من الاحتمالات وواحداً من أبرز الطرق من أجل حل هذه المشكلة المعقّدة...» ولكن «لو ثبت أنّ هذه الخطة مستحيلة التنفيذ، في ضوء تدهور العلاقات بين اليهود والعرب ...» سيكون من الضروريّ وضع التقسيم بعين الاعتبار». ويُنهي كلامه بإلقاء العبء على الأطراف المعنيّة بذاتها. «... إذ إنّ حلاً كهذا ... لن يكون مُبرّراً إلا إذا باتت العلاقات بين السكّان اليهود والعرب ... سيئةً جداً بحيث يصبح من المستحيل تشويتها وضمان تعايش سلميّ للعرب واليهود».

وقد بيّنت الوثائق السوفييتيّة المنشورة حديثاً أنّ غروميكو كان منافقاً. إذ كان السوفييت قد حسموا قرارهم معتبرين أنّ التقسيم هو النتيجة الأفضل، وأنّ ذكر «دولة عربيّة - يهوديّة واحدة» ما هو إلا حيلة تكتيكيّة. وفي اتصال بين ف. مولوتوف وزير الخارجيّة السوفييتيّ إلى أ. فيشنسكي المندوب السوفييتيّ في الأمم المتحدة، يطلب فيه الوزير من المندوب التصويت دعماً لقرار التقسيم، يفسّر الوزير أنّ تصريح غروميكو في أيار / مايو الماضي «كان لاعتبارات تكتيكيّة» في اقتراحه قيام دولة واحدة، وأنّ «قيام دولة يهوديّة مستقلة سيعبّر عن موقفنا على نحو أفضل»٢٤. وبالطبع، لم يكن هذا الأمر معروفاً بالنسبة إلى إميل توما أو الشيوعيّين في فلسطين، عرباً ويهوداً. وعلى أيّة حال، كان خطاب غروميكو نقطةً فاصلةً أشّرت إلى التخلّي عن الموقف الشيوعيّ الأرثوذكسيّ المعادي للصهيونيّة، ولفكرة إيجاد وطن قوميّ لليهود في فلسطين. ولكن، وبلا أدنى شك، كان خطاب غروميكو قد نبّه توما الذي لجأ إلى [المنظّر الشيوعيّ البريطانيّ] پالمه دَتْ كي يساعده٢٥، وكذلك نصيحته أيضاً حيال ما بدت بكونها حركة غير مسبوقة، كي يتواصل مع السوفييت ويُسجّل احتجاجه على ما حدث٢٦.

إقرار الذَّنْب

عاد إميل توما إلى حيفا بعد إطلاق سراحه من سجنه في لبنان في نيسان ١٩٤٩. كان خارج البلاد منذ اثني عشر شهراً، وكان الوضع على الأرض خلال هذه الفترة قد تغيّر بشدّة. أما بقايا عصبة التحرر الوطنيّ المكوّنة ممن بقوا في البلاد، فقد انضمّوا للشيوعيّين اليهود في تشرين الأول ١٩٤٨ لتأسيس الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، ليوافيهم لاحقاً أعضاء عصبة التحرر الوطنيّ الذين اعتقلتهم السلطات المصريّة جنوب البلاد وأطلق سراحهم الإسرائيليّون لاحقاً بعد أن قضوا فترة اعتقال إضافيّة. ليس ثمة تاريخ واضح في الوثيقة الموجودة، ولكن من الممكن افتراض أنّها كُتبت في وقت ما بعد عودة توما إلى حيفا. الوثيقة مُوجَّهة إلى اللجنة المركزيّة في عصبة التحرر الوطنيّ، وهذه مفارقة غريبة بما أنّ العصبة كانت قد تفكّكت، على الأقل ليس في المناطق التي تسيطر عليها القوات الإسرائيليّة، مع أنّها استمرت بالعمل نظرياً في المناطق التابعة للدولة العربيّة بحسب بنود قرار التقسيم (ولم يصبح اسمها الحزب الشيوعيّ الأردنيّ إلا عام ١٩٥١). والإشارة الوحيدة التي يذكرها توما، هي الإحالة إلى «الرفيق إميل»، والذي هو - بقدر كبير من التأكيد - إميل حبيبي الذي بات يشكّل مع توفيق طوبي الآن العضوين العربيّين الأبرز في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ (كان طوبي أساساً عضواً في الكنيست الإسرائيليّ حيث انتُخب في كانون الثاني ١٩٤٩ للكنيست الأول وواصل شغل منصبه في كل كنيست إلى حين استقالته عام ١٩٩٠، أي طوال واحد وأربعين عاماً). ويمكن التخمين فحسب، برغم عدم وجود دليل دامغ، بأنّ هذا «النقد الذاتيّ» كان شرط إعادة توما إلى صفوف الحزب العربيّ - اليهوديّ المُؤسَّس حديثاً. ولكن، وكما ستبيّن حياته الحزبيّة اللاحقة، لم يبدُ أنّ هذه الخطوة كافية بالنسبة إلى قيادة الحزب، إذ لم يدخل توما إلى الدوائر الداخليّة للقيادة٢٧.

صرّح توما في السطور الأولى أنّه منذ رحيله عن البلاد لم يتدخل في عمل اللجنة المركزيّة، ولذا فهو سيتناول القضايا التي يظنّ أنّها على الأرجح هي «الأخطاء» التي طلب منه حبيبي الكتابة عنها. ويبيّن السجلّ التاريخيّ المثبت أنّ توما عارض التقسيم وصوّت ضدّه في الاجتماع الأول لقيادة اللجنة المركزيّة حيث كان المعارضون للقرار هم الأكثريّة، وأنّه تغيّب عن الاجتماع الثاني للجنة المركزيّة حينما انقلب القرار السابق وصوّت الحاضرون دعماً لقرار التقسيم، وبأنّه أصبح عضواً في اللجنة الوطنيّة في حيفا في الشهور الأخيرة من الانتداب، وبأنّه غادر حيفا وسافر إلى لبنان في نيسان ١٩٤٨ ٢٨. وهذه هي القضايا التي يتناولها النقد الذاتيّ. نص توما مزيجٌ، يجمع الإصرار الذاتيّ على الالتزام الصارم بالمعتقدات الشيوعيّة التاريخيّة مع إقرار بعجزه عن فهم الطبيعة والدور المتغيّرين للسكّان اليهود في فلسطين، والالتزام بالمبادئ الستالينيّة، وتأييد الجدانوفيّة، وشجب «خيانة تيتو» والقيادة الشيوعيّة اليوغسلافيّة، مع مطالبته في الوقت ذاته الأعضاء الآخرين في عصبة التحرر الوطنيّ كي يقرّوا بأخطائهم وكتابة نقد ذاتيّ مماثل. وطوال هذا الأمر، كان توما متشبّثاً بموقفه بأنّه في وقت تقلّده منصبه في العصبة، كان على تواصل مستمر للتشاور مع قيادتي الحزبين الشيوعيّين السوريّ واللبنانيّ، مُلْمحاً إلى حدوث لقاءات مع بكداش والحلو، وأنّ قراراته كانت تحظى بموافقتهما. وحينما كان عضواً في لجنة حيفا الوطنيّة لعدة أشهر عام ١٩٤٨، كان يشدّد بالقدر ذاته على أنّه تابع نشاطاته ضمن روح مبادئ عصبة التحرر الوطنيّ. وكان سفره إلى بيروت (قبل يوم من سقوط حيفا) مرتبطاً بعمله الحزبيّ السياسيّ وليس لسبب شخصيّ، وأنّ اعتقاله وسجنه كان نتيجة التزامه بالخط الحزبيّ في معارضة الحرب «التي تؤجّجها الإمبرياليّة الأنكلو أميركيّة»، ومعارضته لـ «العدوان العسكريّ العربيّ».

يفتتح توما كلماته بالإقرار بأنّ قرار التقسيم لم يكن مفاجئاً لعصبة التحرر الوطنيّ وبأنّ اللجنة المركزيّة منذ خطاب غروميكو أما الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في أيار ١٩٤٧ كانت تُدرك أنّ التقسيم بات الحل الممكن الوحيد كنتيجة للتعارضات القوميّة العميقة بين العرب واليهود. ولكن، وفي الوقت ذاته، لم يكن يمكن الإنكار أنّ هذا الإدراك يُناقض الموقف التاريخيّ لعصبة التحرر الوطنيّ حيال السكّان اليهود في فلسطين والذي يرتكز على عداء الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ التام وغير المشروط للصهيونيّة، ورفضه للاعتراف بـ «القوميّة اليهوديّة». وقد أكّدت فعاليّات مؤتمر لندن للأحزاب الشيوعيّة في بلدان الإمبراطوريّة البريطانيّة صحّة هذا الموقف. ثم واصل توما كتابته في الإشارة إلى أنّه وبرغم موقفه المُعلَن المُعارض للتقسيم إلا أنّ آمن في الوقت ذاته باستحالة إيجاد أيّ حل آخر، إذ كان التقسيم هو الحل العمليّ الوحيد، وأنّ تنفيذه أمر حتميّ. ويفسّر جذور معارضته بكونها تعود إلى «فهم غير صحيح» للقضية القوميّة اليهوديّة وارتباطه المتواصل بالخط القديم للحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ. لم يكن قادراً على إدراك ارتفاع الشعور القوميّ مقابل الكولونياليّة ضمن جموع اليهود والدور المتعاظم للطبقة العاملة اليهوديّة داخل الجماعة اليهوديّة. وقد تشكّل هذا الأمر بفعل فهم غير صحيح للشعار المتعلق بحق تقرير المصير. وتحوّل الشعار القائل بوجود دولة يهوديّة من شعار رجعيّ يخدم الكولونياليّة إلى شعار ديمقراطيّ يجمع اليهود في نضالهم لطرد الكولونياليّة البريطانيّة من فلسطين. وقد تجاهل الأبعاد العالميّة للقضيّة، حيث أنّ قيام دولة يهوديّة مستقلة سيُسهم في هزيمة الكولونياليّة البريطانيّة وسيُضعف بالتالي المعسكر الإمبرياليّ. كما بالغ في تقدير القوى الثوريّة القائمة داخل القوميّة العربيّة، معتبراً إياها حركة ديمقراطيّة ثوريّة بالرغم من زعامتها التقليديّة الرجعيّة، وتجاهل تاريخ هذه الزعامة حين تعاونت في الماضي مع القادة النازيّين في ألمانيا. وفي قلب ما سمّاه «هذا الانحراف» كانت تكمن الرغبة في إدخال عصبة التحرر الوطنيّ داخل الحركة القوميّة العربيّة واحتلال موقع في قيادة تلك الحركة. ويفسّر هذا الأمر، بالإضافة إلى المخاوف من «العزلة»، السياسة «الذيليّة» التي اتّبعتها عصبة التحرّر الوطنيّ كما حدث عند قبول العصبة بقرار الزعامة العربيّة بشأن مقاطعة لجنة اليونسكوپ.

وحينما تناول مؤهّلاته الشيوعيّة، أصرّ توما على أنّه لم يقم يوماً بنقد علنيّ للاتحاد السوفييتيّ وموقفه، وأنّ مسيرته كمحرّر لجريدة الحزب، الاتحاد، في السنوات التي سبقت قرار التقسيم تشهد على دفاعه المستمر عن الاتحاد السوفييتيّ ودوره الدوليّ. ولكنّه اختلف بالفعل مع موقف الاتحاد السوفييتيّ حيال فلسطين، وآمن أنّه - استناداً إلى التجربة الأوروبيّة - ثمة احتمال مُتاح أن يكون هناك اختلاف سياسات بين الاتحاد السوفييتيّ والأحزاب الشيوعيّة. ويطرح مثالاً عن هذا، اختلاف الفرنسيّين مع السياسة السوفييتيّة في ألمانيا، والخلافات بشأن تريسته بين الحزبين الشيوعيّين اليوغسلافيّ والإيطاليّ. وبالعودة مجدداً إلى جذور هذا الموقف، يُحيل توما إلى الخط السياسيّ الذي تبنّته الحركة الشيوعيّة الأمميّة قبل عصر جدانوف، أي قبل أن يقدّم جدانوف تقريره بشأن «المعسكرين». وإنّ كلاً من وحدة القوى الديمقراطيّة التي كانت لازمةً خلال سنوات الحرب، والوحدة القوميّة التي سعى إليها الحزب الشيوعيّ السوريّ اللبنانيّ بهدف تحقيق الاستقلال من الحُكم الفرنسيّ، دفعاه إلى هذا المسار. وولم يكن توما قادراً على تمييز وتحديد أخطائه إلا بعد تقرير جدانوف (الذي صدر في أيلول ١٩٤٧).

ومع أنّ خالد بكداش لا يُذكَر بالاسم صراحةً، إلا أنّ نص توما يشدّد على أنّ تجربة الحزب الشيوعيّ السوريّ اللبناني كانت في ذهنه بقدر كبير في تعاملاته مع الأحزاب «القوميّة البورجوازيّة». وعند مناقشة غياب الوحدة بين الشيوعيّين العرب واليهود في تلك الفترة، يكتب توما بأنّ هذا الموقف كان متأثّراً بموقف الزعماء الشيوعيّين في سوريا ولبنان ويُشير إلى مشاركتهم المشتركة في مؤتمر لندن للأحزاب الشيوعيّة في بلدان الإمبراطوريّة البريطانيّة في شباط ١٩٤٧. وقد ساعدوه في قراره بحيث سيكون من الملائم أكثر تأسيس لجنة تنسيق بدلاً من الاندفاع إلى وحدة تامة بين عصبة التحرر الوطنيّ والحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ. ولأكثر من مرة، أشار توما إلى مؤتمر لندن ونشاط الشيوعيّين السوريّين واللبنانيّين لتفسير مسعاه إلى الوحدة الوطنيّة، والتشجيع الذي واصل تلقّيه في سعيه إلى هذه الاستراتيجيّة. ويقتبس في دفاعه من رسالة وصلته من ر. پالمه دت، العضو البارز في الحزب الشيوعيّ في بريطانيا العظمى والمسؤول عن الشؤون الكولونياليّة، والذي كتب إليه يفسّر المشروعيّة التامة في أن يتّبع كلٌّ من السوفييت والأحزاب الشيوعيّة الأخرى مسارات مختلفة. فالحزب الشيوعيّ السوفييتيّ مُقيَّد ومُلزَم بخط دبلوماسيّة الدولة، وفي المثال الخاص المتعلق بتصريحات غروميكو في ما يخص اعتبار التقسيم حلاً ممكناً، لم تكن هناك حاجة لوضع هذا الموقف بالتعارض مع المطالبة بدولة ديمقراطيّة موحّدة٢٩.

أما في ما يتعلق بالجانب التنظيميّ من القضيّة، عبّر توما عن مفاجأته بسبب «التُّهم» الموجَّهة ضده. كتب عام ١٩٤٨ بانّه هجر موقفه المعارض لقرار التقسيم، وانّه أُودع ثقة الحزب لصياغة الخط السياسيّ للحزب. كان كلّ ما قاله وفعله بالتشاور مع الأعضاء البارزين (من الواضح أنّه يشير إلى فؤاد نصّار، وإميل حبيبي وتوفيق طوبي، مع انّه لم يذكرهم بالاسم صراحةً). وعليهم هم أيضا القيام بنقد ذاتيّ في ما يخص مواقفهم السياسيّة. وفي تحوّل غريب، يهدف إلى إظهار ولائه المستمر لموسكو، يشير إلى أنّ بيان الكومنفورم [مكتب الإعلام للأحزاب الشيوعيّة والعماليّة] الذي شجب تيتو وقيادة الحزب اليوغسلافيّ كان جوهرياً في جعل توما يرى ويدرك أخطاءه٣٠. وضمن هذا السياق، يصرّح أنّه لم يعد ضمن قيادة عصبة التحرر الوطنيّ منذ منتصف عام ١٩٤٧، وبأنّ مواصلته لمهامّه كمسؤول كانت بفعل إصرار رفاقه في العصبة؛ وبأنّ جميع أفعاله وتصريحاته كانت بالتشاور معهم، وعلى الأرجح بأنّه يعني هنا فؤاد نصّار الذي يبدو بأنّه أصبح المسؤول الأقوى غير الرسميّ في العصبة. وبالنتيجة، كان يدّعي أنّ من المفروض أن تقع المسؤوليّة عن نشاط العصبة وخطها السياسيّ على جميع أعضاء القيادة بالتساوي. أما الاتهامات المضادة التي وجّهها من تبقّى من قادة عصبة التحرر الوطني في وقت تأسيس الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ بشأن «إظهار انحراف قوميّ عربيّ»، وعم الاعتراف بوجود جماعة قوميّة يهوديّة في فلسطين قبل قرار التقسيم، وعدم الاعتراف بالاختلاف الطبقيّ القائم داخل الجماعة اليهوديّة والخط السياسيّ الصحيح اللاحق الذي ينبغي اتّباعه، كل هذا كان مسؤوليّة القيادة بأكملها لا مسؤوليّته وحده. وكان توما حازماً في تأكيده بأنّ العصبة أيام تسلّمه مسؤوليّة القيادة لم تتوان عن مناصرة سياسات لم تفز بموافقة الزعامة التقليديّة. ودعوا طوال تلك الفترة إلى أخذ القضيّة الفلسطينيّة إلى الأمم المتحدة وإلى بناء جسور مع القوى الجديدة التي برزت بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية، أي السوفييت والكتلة الشرقيّة. وعلى نحو أهم، فإنّهم ناصروا سياسة تعاون مع السكّان اليهود، وأصدروا تصريحات علنيّة واضحة بأنّ على الدولة المستقلة أن تكون وطناً قومياً لجميع سكّانها، العرب واليهود على السواء. كما دعموا تعاوناً عربياً يهودياً في اعتصامات يهوديّة وعربيّة في أماكن العمل ووقفوا في وجه جمال حسيني عندما هاجمهم بسبب تلك السياسات. وبرغم التهديدات بالاغتيال التي لم تكن قيادة الحركة الوطنيّة تأنف من اللجوء إليها، إلا أنّهم صمدوا، ولكنّ هذا الأمر لا ينفي وجود حالات اضطروا فيها إلى التخلّي عن مواقفهم المبدئيّة، إما من أجل صون الوحدة الوطنيّة أو لأسباب متعلقة بالأمن الشخصيّ٣١.

التقسيم: جائر ومحتوم، عدة خُلاصات موقّتة

وهذا يتركنا مع تركيبة توما. كان، كما يكتب، يعارض تقسيم فلسطين وقيام دولتين، فيما كان مقتنعاً في الوقت ذاته بأنّ هذا التقسيم محتوم. إذ لم تسمح الظروف المحليّة أو البيئة الدوليّة بتنفيذ أيّ حل آخر. وثمة مسألة يتناولها توما على نحو شخصيّ، ولكنّها تبقى بلا حل، ألا وهي سمة الحركة القوميّة العربيّة الواسعة، والشيوعيّين أنفسهم، في الفترة التي سبقت قرار التقسيم، وسمة طبيعة السكّان اليهود في فلسطين. ما الذي يمثّله هؤلاء السكّان؟ هل يمتلكون سمات جماعة، وإن كانوا كذلك فما نمط تلك الجماعة؟ هل هم مجرّد تجمّع لأفراد متناثرين يسعون إلى إكمال حياتهم الشخصيّة في منطقة كولونياليّة خارجيّة؟ خلال فترة تمتد إلى ثلاثين عاماً، كان عددهم قد تضاعف من عدة آلاف إلى نصف مليون تحت رعاية الحُكم البريطانيّ الكولونياليّ، مع أنّ العلاقة بينهم وبين العرب ساءت وتحوّلت إلى عداء عنيف. كانوا قد ابتكروا لغة خاصة بهم، ومؤسسات تمثيليّة، ومجتمعاً متمايزاً طبقياً واقتصاداً متأرجحاً، عدا عن تأسيسهم لجيش. وما هي ردة فعل الحركة القوميّة العربيّة على هذا؟ ما الذي كانت تعنيه المطالبة بدولة عربيّة في فلسطين عام ١٩٤٨ بالمعنى الواقعيّ؟ الاستيعاب؟ التدمير؟ التهجير؟ أم تشارك البلاد، بالرغم من صبغة الخطيئة الأصليّة التي كانت تسم وصولهم إلى البلاد واستيطانهم فيها تحت حماية الحِراب البريطانيّة وبرغم معارضة السكّان المحليّين؟ كان الحديث (ولا يزال) عن التعايش بين ثلاثة أديان وعن تاريخ من التسامح في فلسطين العثمانيّة خارج سياق الواقع. إذ لم تعد الجماعة اليهوديّة في فلسطين مجرّد تجمّع دينيّ صغير آخر. فعصر التسامح، في حال وجوده أصلاً، يفترض - في أيّة حالة من الحالات - تفاوتاً وتبعيّة، ويمهّد لصعود القوميّة التي لا تضمّ تسامح التعدديّة الإثنيّة بين سماتها الأساسيّة. كما أنّ الدولة العربيّة المُخطَّط لها في فلسطين عام ١٩٤٨ لا يجمعها أيّ شيء مشترك بمنظومة الحُكم العثمانيّ المستندة إلى نظام الملّة قبل الحرب العالميّة الأولى، الذي كان بعيداً كلّ البعد عن الدولة - الأمة الحديثة التي كان يتطلّع الفلسطينيّون لتأسيسها. لم تكن ثمة إجابة واضحة ومنطقيّة قبل عام ١٩٤٨، وربما لا يزال هناك إلى اليوم غياب لمثل هذه الإجابة الواضحة والحاسمة. فمنظومة الدولة العربيّة التي عارضت التقسيم تحت مظلّة الجامعة العربيّة قد عايشت الكثير من التغيّرات. إذ قدّمت إجابة مختلفة عن طريق قبولها قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ وصولاً إلى عام ١٩٦٧، وكذا فعل الفلسطينيّون عام ١٩٨٨، ومن ثمّ ذلك الحماس الذي انخرطوا فيه في عمليّة اتفاقيّة أوسلو. كما أبدت جميع الدول العربيّة استعداداً للتعايش مع دولة إسرائيل التي رسّمت حدوداً تفوق بكثير تلك الحدود التي حدّدها قرار التقسيم عام ١٩٤٧، بحسب بنود خطة السلام التي طرحها الملك فهد عام ١٩٨١. وفي الواقع، فإنّ كلّاً من مصر والأردن تعترفان بإسرائيل كدولة ذات سيادة (أياً تكن الحدود التي ترتئيها) قبل أيّ حل للقضية الفلسطينيّة أو انسحاب إسرائيل من المناطق السوريّة المُحتلَّة في الجولان. ومع ذلك، وبرغم الاعتراف الدبلوماسيّ والتقدّم البطيء - ولكن المتواصل كما يبدو - لتطبيع العلاقات مع دول عربيّة أخرى، إلا أنّ هذا الواقع الجديد لم يدخل بعد إلى الوعي الوطنيّ الخاص بكثير من الفلسطينيّين علاوةً على قطاعات كبيرة من الرأي العام السياسيّ العربيّ.

وغالباً ما يُشار في الأدبيّات إلى قبول الشيوعيّين العرب باقتراح التقسيم عام ١٩٤٨، في ظل تصويت الاتحاد السوفييتيّ دعماً له، بكونه السبب الجوهريّ في إخفاق الشيوعيّين في وضع دمغتهم المؤثّرة في العالم العربيّ. كُتب الكثير حول الثمن الذي كان على الشيوعيّين العرب دفعه من أجل دعمهم للتقسيم (بينما كان الكتّاب القوميّون، في الفترة التي أعقبت النكبة مباشرةً، صارمين في شجبهم للأحزاب الشيوعيّة العربيّة). وبصرف النظر عن مدى شعبيّة هذه الفكرة، إلا أنّ من غير المُؤكَّد أنّ السجّل التاريخيّ يدعمها. إذ لا يمكن إنكار أنّ الشيوعيّين، في الفترة التي تبعت اندلاع النزاعات المسلحة بين عامي ١٩٤٩ / ١٩٤٨ مباشرةً، كانوا ضحية عزلة واضطهاد الأنظمة العربيّة، ففي حالة العراق انتهز نوري السعيد الوضع ليمضي في إعدام فهد ورفاقه. وهذا لا يعني إنكار أنّ ثمة حالات غضب شعبيّ قد حدثت ضدّ شخصيّات شيوعيّة معروفة وهجمات على مقرات الأحزاب، بتحريض رسميّ في أغلب الأحيان. ولكنّ بالعودة إلى الفترة التي أعقبت عام ١٩٤٨ في فلسطين نفسها، وفي البلدان المجاورة، لن نجد دليلاً بأنّ الشيوعيّين المناصرين لقرار التقسيم عانوا كثيراً من نتائج سلبيّة على شعبيّتهم أو نشاطهم السياسيّ. ففي جميع تلك البلدان، شهدت فترة الخمسينيّات درجةً كبيرة من الدعم الشعبيّ بل ونجاحاً انتخابياً نسبياً (خالد بكداش في سوريا، يعقوب زيادين وفايق ورّاد في الأردن، والشيوعيّين العراقيّين، وبالطبع داخل فلسطين / إسرائيل نفسها) إلى أن تسبّب صعود الناصريّة المترافق مع اضطهاد الدولة إلى تحطيم مكانتهم وإرغامهم على التخفّي.

ومع ذلك تبقى مسألة قرار التقسيم، إجحافه أو العكس، صحّته، عمليّته أو العكس، بلا إجابة إلى اليوم، وبقي عصيّاً على الاختفاء. وبعد تسعة وستين عاماً، حان الوقت للإتيان بإجابات لعدد من الأسئلة الصائبة. هل كان يمكن على الإطلاق للفلسطينيّين في الظروف السائدة محلياً ودولياً على السواء أن ينتصروا عسكرياً على القوات المسلحة التي جنّدتها الحركة الصهيونيّة أم كانت الهزيمة محتومة؟ هل تعافت الحركة الوطنيّة عام ١٩٤٨ من الهزيمة على يد البريطانيّين إبّان قمع ثورة عام ١٩٣٦، وهل كانت قادرة في الأعوام التي سبقت ١٩٤٨ على إعادة تنظيم صفوفها داخل فلسطين؟ هل امتلكت الموارد لتجنيد حملة عسكريّة للرد على مذابح الهاغانا والبالماخ عام ١٩٤٨؟ ما كانت رؤية الحركة الوطنيّة بشأن أكثر من نصف مليون يهوديّ يعيش في البلاد؟ هل كان هناك أيّ دعم بين النخب السياسيّة العربيّة من أجل قيام دولة ديمقراطيّة؟ ما الذي قدّمته الحركة الوطنيّة تحديداً للسكّان اليهود مقابل تركهم لمشروع بناء الدولة الصهيونيّة؟ ما نوع العلاقات التي تصوّرتها الحركة الوطنيّة العربيّة بين الجماعتين، العربيّة واليهوديّة في فلسطين وما نوع العلاقات التي كانت قائمة وصولاً إلى التقسيم؟ هل كانت قيادة الحركة الوطنيّة التي أُجبرت على الرحيل إلى المنفى على يد البريطانيّين علاوةً على كونها تحت رحمة الأنظمة العربيّة المجاورة في موقف يمكّنها من العمل باستقلاليّة عن تلك الدول؟ هل كانت رهينة للنزاعات العربيّة البينيّة؟ وإن كان هذا ما عليه الوضع فعلاً، فإنّ العراق، والأردن، ومصر كانت تابعة لبريطانيا وعاجزة عن اتّخاذ سياسات تتعارض مع رغبات بريطانيا، فما الذي يعنيه هذا الأمر بالتوازي مع ما كان يعنيه شنّ حرب للحيلولة دون التقسيم عام ١٩٤٨؟ هل كانت ثمة إمكانيّة أن تسمح بريطانيا بقيام دولة عربيّة حتى ولو ضمن اشتراطات قرار التقسيم؟ إذ، ومنذ لجنة پيل عام ١٩٣٧، كان ثمة مشروع لضم أجزاء فلسطين ذات أغلبيّة سكّانيّة طاغية من العرب ودمجه مع شرقيّ الأردن، وكان جزء من النخبة الفلسطينيّة السياسيّة والاقتصاديّة ميّالاً لهذا المشروع، إذاً لمَ كان هذا سبباً في اندلاع الحرب التي بدت موجَّهة ضد قرار التقسيم بعد الانسحاب البريطانيّ في أيار ١٩٤٨؟ سيُسهم تقديم إجابات لهذه الأسئلة في وضع مسألة التقسيم في إطارها الملائم. ومن المفيد تذكُّر أنّ الحركة الصهيونيّة أشارت في مؤتمر بلتمور عام ١٩٤٢ إلى أنّ هدفها المباشر بعد انتهاء الحرب كان إعلان قيام دولة يهوديّة على كامل أراضي فلسطين. وقد وافقت على خطة التقسيم التي طرحتها الأمم المتحدة والتي منحتها ٥٥٪ من كامل مساحة الأرض، ثم تمكّنت خلال الحرب من احتلال ٧٧٪ من كامل أراضي فلسطين أثناء الانتداب. وفي حزيران عام ١٩٦٧، مع احتلال الضفة الغربيّة، كان وعد برنامج بلتمور قد تحقّق أخيراً. وربما حان الوقت أخيراً لاستخلاص بعض الدروس من الأحداث التي جرت قبل تسعة وستين عاماً. إذ لم يكن قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة هو السبب الذي أفضى إلى الهزيمة الفلسطينيّة. لم يكن التقسيم خياراً مطروحاً بين الأوراق. بل إنّ مصائر الحرب هي التي قرّرت نتيجة الصراع، ولم يكن السكّان العرب في فلسطين مستعدّين أو منظَّمين من أجل هذه الحرب. وضمن هذا السياق، كانت الهزيمة مُتوقَّعةً. وكما كانت العصبة قد حذّرت، كانت تجزئة فلسطين هي النتيجة الحتميّة.

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
إميل توما والتقسيم الذي لم يحدث

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.