شهدت الساحة الأدبيِّة اليمنيّة، خلال السنوات العشر الأخيرة طفرة هائلة ملحوظة في الإنتاج السرديّ، جانب الرواية على وجه الخصوص. وحصل ذلك عبر كميّة غير قليلة من الأعمال الروائيّة أتت من خلال كُتّاب رواية بالأساس أو من خلال كُتّاب عُرف عنهم وأصدروا أكثر من مجموعة قصصيّة لكنّهم التفتوا بصورة كليّة إلى الرواية وأصدروا عدداً منها. كما يمكن الانتباه إلى تجربة أخرى تشكّلت على نحو بارز بسبب انتقال أصحابها من الشعر، ولهم إصدارات عديدة مشهودة محليّاً وعربيّاً وتمّت ترجمتهم بشكل جيّد إلى أكثر من لغة أجنبية، لكنّهم دخلوا، على نحو فجائيٍّ منطقة الرواية بقوّة وأصدروا أكثر من عمل روائيّ وعبْر دور نشر عربيّة كبيرة.
في حالة الذين انتقلوا من إنتاج القصّة القصيرة إلى الرواية مثال وجدي الأهدل وأحمد زين (المقيم في المملكة العربيّة السعوديّة)، ومحمّد الغربي عمران ونادية الكوكباني وياسر عبد الباقي وبشرى المقطري، يمكن هنا إدراك السبب في القول الشهير المعلن بأنّ فعل كتابة القصّة القصيرة ما هو إلّا تمرين أوّليّ لكتابة الرواية. لكنْ ماذا يمكن القول حول من ترك كتابة الشعر وإصداره وانتقل إلى الرواية مثال الشاعر مروان الغفوري (الخزرجي، دار أزمنة - عمّان)، الشاعرة نبيلة الزبير (زوج حذاء لعائشة - دار الساقي - بيروت) والشاعر علي المقرّي (طعم أسود، رائحة سوداء؛ اليهودي الحالي؛ حرمة، وجميعها من دار الساقي - بيروت). هل يمكن هنا، لتبرير ما حدث من انتقال، الحديث عن الانتقال الكبير الذي يفعله شعراء كبار نحو الرواية باعتبارها صارت موضة العصر الحديث واللافتة الأكبر على النطاق الأدبيّ في العالم كلّه والمنطقة العربيّة على وجه الخصوص؟ ويمكن هنا التوقّف عند حالتين عربيّتين تتمثلّان في اللبنانيّين عبَّاس بيضون وعبده وازن، حيث أصدر بيضون حتى الآن ثلاث روايات في حين أصدر وازن روايتين.
لكن مع هذا قد يبدو أمر محاولة تفسير ما حدث غير ذي أهمّيّة كبيرة، فما يهمّ في نهاية الأمر هو القيمة التي أضافتها تلك الانتقالات من عدمها على صعيد إثراء المشهد الروائيّ اليمنيّ وتأهيله لكي يبدو قادراً على فعل تمثيل جيّد لهذا الأدب على مستوى المشهد الروائيّ العربيّ. كذلك وقبل كلّ شيء فعله إضافة ملحوظة ومختلفة على صعيد الرواية اليمنيّة ذاتها ومغايرتها لما سبق إنتاجه عبر أسماء الرواية اليمنيّة الكبار مثال زيد مطيع دمّاج أو محمّد عبد الولي.
حالة علي المقرّي
يبدو الكاتب علي المقرّي حالة ثريّة يمكن الارتكاز عليها لتشكيل لوحة مكثفّة الألوان تشير باتّجاه إحداث تغيير واضح التأثير في صيغة الرواية اليمنيّة. لقد خرج المقرّي من تعليم علميّ متوسّط لاقى بسببه وظيفة حكوميّة لكن ما لبث أن تركها وتفرّغ للكتابة. اشتغل في الصحافة التي كان قد بدأها عبر المراسلة ليصبح بعدها، ومع مرور الوقت أحد أكبر الأسماء اليمنيّة العاملة في مجال التحرير الثّقافي في الصحف المحليّة. وإلى هذا ساهم المقرّي في الكتابة الصحافيّة النقديّة للأعمال الأدبيّة العربيّة الصادرة حديثاً وقتها، وكانت تصله بحكم علاقاته الواسعة مع عدد غير قليل من الأسماء العربيّة الشهيرة. وبذلك ظهر ما كان يفعله المقرّي كتابةً كحلقة وصل بين القارئ المحلّيّ وبين ما يحدث خارج اليمن من إصدارات أدبيّة وفكريّة على حدٍّ سواء.
لكنْ ما لبث أن أعطى علي المقرّي وقته كاملاً لإنتاج كتابٍ بحثيّ توثيقيّ حمل عنوان «الخمر والنبيذ في الإسلام». في هذا الكتاب «يتناول مسألة الخمر والنبيذ في الإسلام، من خلال النّصوص القرآنيّة والمصادر والمراجع التاريخيّة، ويعرض لاختلاف الفقهاء والباحثين في مسألة تحريم الخمر... الكتاب يبدأ بتعريف الخمر والنبيذ، مروراً بمكانة الخمر قبل الإسلام وصولاً إلى تناول الخمر والمجون في العصرين الأمويّ والعبّاسيّ. واللافت أنّ المؤلّف يرى في الدّين جوهره، إعمال العقل والفكر والعلم. وهو بذلك أقرب إلى الدّين من حرّاسه المزعومين» حيث «لا تكاد سورة في القرآن تخلو من الدّعوة إلى التعقّل والتعلّم والتفكّر».
سبّب له هذا الكتاب إزعاجاً كبيراً ومضايقات كثيرة على مستوى أطراف لم يرُقْها أن يتطرّق هو أو غيره إلى موضوع كهذا يُعتبر فكرةً مفروغاً منها ولا داعي إلى الإضافات أو الشروح والتأويلات. وحصل هذا كلّه بسبب ما أتى به الكتاب من أقوال مسكوتٍ عنها بشأن الخمر وشؤونه في مجتمع غير متسامح مع فكرة مثل هذه. لكن يمكن اعتبار هذا الكتاب نقطة في سجلّ علي المقرّي الساعي نحو التطرّق إلى غابة الأفكار المسكوت عنها والقصص المُهملة التي لا يتجنّب كثيرون الخوض فيها. وسيظهر هذا الأمر لاحقاً عندما يخرج لنا، على التوالي، بأعماله الروائيّة الثلاثة التي تأخذ من فكرة المُهمل والمهمّش سنداً لها وقوّة وزاداً لتسجيل هذه السرديّات المشاكسة.
«طعم أسود، رائحة سوداء»
لم يهبط علي المقرّي على الرواية والكتابة عموماً من طبقة مرتفعة ومنعزلة بعيدة عن القاع. بل جاء من القاع ذاته، استطاع تعبئة ذاكرته وخزانته الشخصيّة بتفاصيل كانت له بعد سنوات لاحقة زاداً جيّداً لإنتاج رواية حقيقيّة تحكي عن طبقة القاع تلك وتسرد تفاصيلها وألوانها ومناخاتها بلسان الشاهد كليّ العلم العارف بماهيّة ما سوف يقوم بحكايته لأنّه قد عُجن بداخل تلك التفاصيل وأصبح عليماً بسرّ تلك الخامة وعناصرها التي سيصبّها في قالب روائيّ في أوّل أعماله «طعم أسود، رائحة سوداء». وهي الرواية التي أحدث فيها خضّة قويّة في الوعي الجمعيّ الذي اكتشف أنّه، من خلال رواية المقرّي إنّما يعيد اكتشاف تلك البيئة التي تعيش بالقرب منه لكنّه لا يعلم عنها شيئاً. أو أنّه وعي جمعيّ، بتواطؤ مشترك، تعامل مع تلك الطبقة الاجتماعيّة الأدنى (طبقة الأخدام ذوات البشرة السوداء) كأنّهم كائنات غير موجودة أصلاً أو غير مرئيّة بالعين المجرّدة. أو، بتعبيرٍ أدقّ، إنه وعي جمعيّ تعامل مع طبقة الأخدام مثلما جرى التعامل مع الجنون في العصر الكلاسيكي، بحسب تعبير ميشيل فوكو، على اعتبار تلك الطبقة المتدنيّة في التراتب الاجتماعيّ، طبقة مجنونة تعبّر عن اللاعقل من خلال تصرّفاتها الشاذّة عن السلوك الجمعيّ المتّفَق عليه في العرف العام، وتصل بجنونها إلى مرتبة الحيوانيّة، «ولهذا لم يترك المجانين يمارسون جنونهم بكلّ ما أمكن من حريّة، بل شيّد بيوتاً للعزل ليصبح المجنون مرادفاً للمذنب وتكبّل يداه بالقيود ويوضع خلف القضبان من أجل حماية محيطه الاجتماعيّ من تلك الشراسة والعنف اللذين يتميّز بهما وسلوكيّاته التي تعتبر غالباً مصدراً لخطر كبير».
وتظهر فكرة فوكو عن تقاطع المجتمع مع الفرد المجنون بشكل واضح ومعمول به بالنّظر إلى حالة العزل التي تعرّضت لها طبقة الأخدام في اليمن أو فئة المهمّشين من ذوي البشرة السوداء، بشكل جعل أصحابها مقموعين بقوّة ممّا دفعهم إلى تكوين حياتهم الخاصّة إلى جوار الحياة الأخرى التي تدور في منطقة مجاورة لهم. وعلى الرّغم من حقيقة تشكّل المجتمع اليمنيّ على هيئة طبقات اجتماعيّة متفاوتة بسبب التراتب المذهبيّ والقبليّ والمناطقيّ، وأخيراً بسبب التراتب المادّي، وهي تراتبيّة فئة جديدة طرأت بسبب نشوء ظاهرة الأثرياء الجدد الذين طلعوا إلى سطح الحياة الاجتماعيّة مستغلّين حالة الفساد السياسيّ والماليّ التي حصلت في اليمن ولا تزال خلال الثلاثين سنة الأخيرة. لكنْ، في واقع الأمر تبدو هذه الطّبقات الاجتماعيّة، جميعها في حالة وفاق وتناغم كأنّما قد وقّعتْ فيما بينها وثيقة عيش مشترك تحترم بموجبها كلّ طبقة حدود الطبقات الأخرى ومصالحها، ممّا خلق حالة اتصال فيما بينها. لكنْ تبدو طبقة الأخدام فئة غير موجودة تماماً على الرّغم من وجودها الفعليّ ككتلة بشريّة ولو كانت وضيعة (في نظر الآخرين)، هي طبقة غير مرئيّة ولا أثر عمليّاً لها.
ليس هذا فقط، إذ خلقت هذه العزلة، التي تُركت طبقة الأخدام بداخلها لقيام الطبقات المجتمعيّة الخارجيّة، حالة سمحت باختراع قصص وحكايا غير منطقيّة تتحدّث عنهم. وأصبحت بسبب غياب العقل والمنطق أو تراخيهما قصصاً وحكايات متبادلة بين أفراد المجتمع الأصحّاء، وعلى مختلف مستوياتهم مثل حكايات تقول أنّ طبقة الأخدام لا يقومون بدفن موتاهم ولكنّهم يأكلون جثثهم. حكاية كهذه لم تخضع، كما هو ظاهر، لأيّ فحص أو اختبار عقليّ لأنّ أفراد المجتمع بالأساس يريدون تصديقها بغرض خلق وسائل للتسلية وإزهاق الوقت، وهذا لا يمكن أن يحدث إلّا في عقول كسولة لا تريد تنشيط حالها. فكيف يمكن تصديق خرافة تقول إنّ هناك، في هذا الزمن الذي يشاع عنه أنّه قد صار زمناً حديثاً والعالم قد صار قرية واحدة، كيف يمكن تصديق خرافة تقول أنّ هناك كائنات بشريّة، تقيم في منطقة مجاورة لنا، تأكل جثث موتاها! كلّ هذا لأنّ أهل الطّبقات الاجتماعيّة الأخرى لم يروا في حياتهم حالة جنازة واحدة تقام في ضوء النهار لواحد من موتى طبقة الأخدام! لم تذهب عقول تلك الطبقات الاجتماعيّة الطارئة لتحليل المسألة بناءً على نظريّة العزل وتبعاتها، العزل الذي يحصل بصلافة ونزَق في حقّ طبقة الأخدام وجعلهم يترفّعون عن ممارسة طقوسهم الاجتماعيّة أمام أعين الطبقات الاجتماعيّة الأخرى خشية التعرّض للاستهزاء والسخرية. لقد وجدوا، بحكم التجربة، أنّ تلك الطبقات الاجتماعيّة، القديمة منها والطارئة على حدٍّ سواء، لا تخجل من إظهار سخريتها من طبقة الأخدام حتّى في حالات الموت. ولهذا وجد الأخدام أنفسهم مجبرين على جعل الليل وقتاً مناسباً وفرصة لتنفيذ طقوس دفن موتاهم التي لا تختلف عن طقوس الآخرين. سواد الليل هنا يلعب دور حمايتهم من سخرية الآخرين وألسنتهم التي لا تحترم موتاً ولا تضع قدراً من العناية بأمور الإنسانيّة. وهو، في نهاية الأمر تصرّف يشير إلى أنّ طبقة الأخدام قد ارتضت لنفسها هذه الوضعيّة التي وجدت نفسها، رغماً عنها، محصورة بداخلها، ولهذا أوجدت لنفسها حياتها الخاصّة التي تمتلك دستورها الخاصّ وقوانينها الخاصّة.
إنّ علي المقرّي في «طعم أسود، رائحة سوداء» يقوم، من خلال سرد هذه التفاصيل غير المرئيّة، بتفكيك هذين المجتمعَين المتواجدين فعلياً على الجغرافيا ذاتها على نحوٍ عمليٍّ، ويتمّ هذا التفكيك عبر طبقة الأخدام وإظهارها في قالب حكائيّ يهدف في الأساس إلى إزالة الغموض الذي يعتريها في نظر الآخرين وإزالة الغشاء الذي يمنع النظر إليها بوضوح واكتشافها على ما هي عليه.
لكنْ، والحال هذه، ومع استمرار حالة العزل المفروضة على طبقة الأخدام، كان لا بدّ للطّبقات الأخرى القابعة على الضفّة الأخرى على تنوعّاتها، من استغلالها، استغلال الأخدام واستخدامهم غطاءً لمجموع الجرائم التي تحدث لدى مجتمع الطبقات الأخرى. استغلال تمّ اكتشافه عبر السلطة التنفيذيّة التي لم تعد قادرة على كبح التراكم المتزايد الحاصل في مختلف الطبقات الاجتماعيّة الأخرى بسبب تفاقم الفساد السياسيّ والماليّ والإداريّ وظهور فجوة كبيرة على الصعيد الاقتصاديّ وبروز ظواهر سلوكيّة استثنائيّة، على أيدي أبناء كبار رجال الدولة ويمارسونها علانيةً كأنّما يتباهون بالمال الذي يسرقه آباؤهم من جيوب أفراد الطبقات المتدنيّة الأخرى. حالة كهذه أثمرت ظهور أنواع وأشكال جديدة من الجرائم لم تكن معهودة ومتواجدة على قائمة الجرائم المعروفة. وهو الأمر الذي أوقع السلطة التنفيذيّة في معضلة الإمساك بالفاعلين الحقيقيّين. النجاح في هذا الأمر كان ليضع السلطة العليا، رأس النظام، في إشكاليّة كبرى سوف تفضح حالة التشظّي والتفكّك والانفلات الذي صارت تعيشه مختلف الطبقات الاجتماعيّة التي من المفترض أنّه يحكمها ويضبطها، ما يعني ظهوره في العراء والانكشاف. هو أمر استوجب البحث عن ضحايا غير مألوفين من خارج المساحة التي يسيطر عليها ومن خارج تكوين الطبقات الاجتماعيّة الواقعة تحت عيونه لأنّها، بحسب نظره، طبقات صالحة بحكم كونها ناتجة من تربيته. إذاً، فليكن الحلّ في إحداث حالة بحث في ثنايا ذلك المجتمع غير المرئيّ، الذي لا يراه الآخرون، مجتمع الأخدام.
سوف يصدّق الجميع بسهولة وببال مرتاح وعقول كسولة أيّ شيء يقال عن أفراد طبقة الأخدام. سيكون من الطبيعي أن يقوم أفراد هذا المجتمع المتدنّي بأيّ شيء وأيّ فعل وأيّ جريمة مهما كان شكلها. سيكون من السهل تصديق أيّ شيء عن أفراد طبقة يأكلون جثث موتاهم. سيكون من الطبيعي هنا، عندما يجد أفراد طبقة الأخدام وقد وقعوا ضحايا جرائم لم يقترفوها مدفوعين للخروج من عزلتهم ومواجهة طبقات المجتمع المقيمين على الضفّة الأخرى من البلد. هو شكل من أشكال المقاومة أو ردّ الفعل. إنّ السجن والعقاب، بحسب ميشيل فوكو أيضاً، في نهاية الأمر لا يعمل سوى على إعادة خلق الانحراف على نحو مستمرّ ولانهائيّ. إنّ قيام السلطة العليا بتعريض حياة كبير أيّ عائلة من طبقة الأخدام للعقاب والسجن وهو مسؤول عن إعالة أفراد عائلته ورعاية شؤونهم، سوف يجعل تلك العائلة تعيش حالة من البؤس الحقيقيّ، دفعها، خصوصاً جنس البنات فيها إضافة إلى زوجة الأب، إلى الخروج من طبقة الأخدام والانخراط في الطبقات الاجتماعيّة الأخرى المقيمة في المكان الثاني بغرض التسوّل، ولكلّ هذا تبعاته المنعكسة على تلك الفئة المتماسكة بداخل بيئتها المعزولة والنجاح بتفكيكها. وهذه نقطة يمكن كشفها، بحسب حليم بركات، بالنظر من مستوى تاريخيّ، أنّ بعض الطبقات والفئات والجماعات الشعبيّة المرهقة بالحرمان والقمع قد تسوّغ واقعها أو تضطرّ إلى تقبّله معتبرة أنّ ذلك من الحكمة والتروّي، فتنصرف عن المطالبة بحقوقها والمشاركة في تغيير الواقع. وقد تذهب أبعد من ذلك، فتعتبر القبول بمكانتها والاستكانة والتمسّك بفضائل الصمت والصبر إمّا تجنّباً للمشاكل، أو نتيجة قناعة دينيّة بالتخلّي أو التنازل عن حقوقها.
كلّ هذه الجزئيّات المكوّنة للرواية الكبرى التي تؤلّفها سرديّة «طعم أسود، رائحة سوداء» نرى وقد أتقن علي المقرّي تشكيلها في قالب فائق التماسك يشير إلى أنّ صاحبها، كما أوردنا سابقاً، قد انخرط وعاش على نحوٍ فعليّ في ثنايا تلك الفئة الاجتماعيّة المُهمَلة والمعزولة وانخرط فيها كي يخرج لنا بتلك التفاصيل التي لم يكن أحدٌ على علمٍ بها. ليس هذا فقط، بل إنّه يقوم بخلق روابط بين الوضعيّة التي صارت إليها تلك الطبقة والعلاقة غير السويّة التي ربطتها بالطبقات الاجتماعيّة الأخرى وكان أن أدّت، في نهاية الأمر إلى حالة العقاب الواقعة عليها من قبل السلطة التنفيذيّة من جهة، ومن جانب أفراد المجتمع من جهة أخرى. إنّهما عقوبتان على تهمة واحدة للأخدام، على افتراض أنّهم مذنبون، وهو ما يتعارض مع أيّ قانون في العالم يشدّد على عدم فرض عقوبتين على جريمة واحدة.
اليهودي الحالي
في عمله الروائيّ الثاني (رُشّح للقائمة الأولى لجائزة البوكر العربيّة)، أظهر علي المقرّي مجالاً مختلفاً عن المجال الذي ظهر فيه في «عرق أسود، رائحة سوداء». ترك أسلوب العيش والمخالطة الاجتماعيّة كي ينُتج رواية يذهب فيها هذه المرّة باتّجاه الكتب والتّراث. هو كان قد أثبت قدرته الجيّدة التي أنتجت كتابه «الخمر والنبيذ في الإسلام» المكثّف والمكتظّ بالأرشيف التراثيّ وبالمراجع المختلفة والمتفاوتة مرجعيّاً وزمنيّاً. لقد فَرضتْ عليه حالة «اليهودي الحالي» العودة مجدّداً لرواية حكاية لم يسمح له الظّرف الزمنيّ بالتّقاطع معها.
يعطي الشاعر اليمنيّ علي المقرّي، مجدّداً، قصيدته إجازة مفتوحة ليذهب باتجاه الرواية مرّة أخرى. هو يقول أنّ هذا مشروع حياته وبقي يشتغل عليه بصمت طوال العشرين عاماً الفائتة. ربّما يكون مبالغاً في هذا الرقم لكنّ الأكيد أنّ قارئ الروائي الحاليّ علي المقرّيسيخرج، بعد قراءة روايتيه «طعم أسود، رائحة سوداء» و«اليهودي الحالي»،بانطباع أنّ الكاتب قضى مساحة كبيرة من عمره في الشغل الروائي، وأنّ ما قام بإصداره لم يكن بضربةٍ واحدة والأسباب كثيرة، بدايةً من قفزه على عثرات البدايات الأولى مستقرّاً على أرضيّة روائيّة متينة خلتْ، إلى حدّ بعيد من الثرثرة والرطانة والجُمل الزائدة، والشعر، وليس انتهاءً بنجاحه في التقاط الموضوع الذي بنى عليه روايتيه معاً، الأقلّيّات المنبوذة في المجتمع اليمنيّ والمسكوت عنها تماماً، السود أو «الأخدام» كما يُطلق عليهم في اليمن في رواية «طعم أسود، رائحة سوداء» وفئة اليهود اليمنيّين. وهما موضوعان يكاد الحديث عنهما يكون محرّماً أو غير مرغوب فيه في هذه البيئة الاجتماعيّة المعادية للاختلاف والمجبولة بعبادة الشكل الواحد وتأليهه كما والبقاء عليه زمناً طويلاً بلا حركة أو تبديل. واللافت في هذين العملين، كما تحدّثنا عن الأخدام سابقاً، أنّ الكاتب علي المقرّي لم ينزلق فيهما تحت تأثير حساسيّة الفكرة التي اشتغل عليها إلى مصيدة البحث الاجتماعيّ التقريريّ وتقديم تبريرات أيدلوجيّة أو تاريخيّة تقول بالأسباب التي وضعت تلك الفئتين في عزلتهما التامّة عن كلّ المحيط اليمنيّ. لا يبدو المقرّي هنا مشغولاً بكلّ هذا قدْر انشغاله بتقديم نصّ أدبيّ صرف لا يُحاكم خارج إطاره، وكان هذا عن طريق اشتغاله على شخصيّاتٍ من لحمٍ ودمٍ ولها الحقّ في العيش مثلها مثل غيرها من اليمنيّين في هذا المحيط الذي لا يزال يرفض فكرة اندماجها فيه.
في عمله السرديّ «اليهودي الحالي» يعاود علي المقرّي بحثه عن فكرة الانتماء والهويّة وحدودهما بالنسبة إلى الأقليّات. يختار بقعة من التاريخ اليمنيّ ليحطّ فيها وتأتي ما بين الفترة الممتدّة من ١٠٥٤ هجريّة و١٠٧٧: «قرّرت أن أدوّن هذه الأخبار من أيّام فاطمة، وزمنها، حتى هذه السنة، التي تزوّجت فيها حلماً لننجب توأمين: أملاً وفجيعة». الراوي وبطل العمل هو سالم بن يوسف اليهوديّ، يعمل في صيانة النوافذ والأبواب الخشبيّة كأبيه. يسمح له هذا بالذّهاب إلى بيت مفتي البلدة المسلم وهناك يجد فاطمة. هو ابن الثانية عشرة وهي تكبره بخمسة أعوام. هناك إذاً فارقُ العمر واختلاف الديانة. يتعلّم على يديها قواعد العربيّة وبدوره يعلّمها العبريّة. تسأله «ألا يعلّمونك يا يهوديّ الحالي؟». تخطو هي خطوةً أخرى، تعلّمه بعض الآيات القرآنيّة كوسيلة منها لدعم تعلّمه العربيّة، ولم تكن تعلم أنّها سوف تشعل حريقاً. يعلم أهله بالأمر فيمنعونه عنها. غياب اليهوديّ الحالي (الحلو، المليح في اللهجة اليمنيّة الدّارجة) عنها سيؤكّد أنّها وقعت في غرامه. يلتقيان بعد فترة من المنع لتطلب الزواج منه بعدما رجعت لبعض النّصوص الدينيّة التي تبيح ما تنويه. ويكون زواجهما سرّاً وهروبهما عن القرية تالياً باتّجاه بلدة أخرى أهلُها من أقرباء سالم اليهوديّ. تتخفّى فاطمة وراء ديانة زوجها، وهو ما سيتمّ فضحه أثناء ولادتها، الأمر الذي يدفع أبناء القرية إلى طرده مع وليده بعد وفاة فاطمة أثناء ولادتها. يعهد سالم رضيعه لزوجين هما صَبا اليهوديّة وعليّ المسلم، وكانا قد هربا أيضاً من القرية نفسها بعدما تزوّجا سرّاً. يقرّر سالم اعتناق الإسلام، إسلام فاطمة، مع أنّه صار يمقت كلّ دين وملّة. هو يفعل هذا «ليس لأنّني أعتقده ديناً، بل لأنّي أردت حمل صفة منها، صفة دلّتْها إليّ، فاختارتني زوج حياة وأمل».
يكبر الرضيع حاملاً اسم سعيد، ويتزوّج ابنة صبا اليهوديّة وعليّ المسلم ويكون اسمها أيضاً فاطمة... لتمضي بنا الرواية بين ثلاثة أجيال متعاقبة تحمل وصمة على ظهرها: الحبّ، ويكون لها المصير نفسه حيث لا قبر أيضاً يتّسع للعشّاق. فاطمة لا تجد لها مكاناً في مقابر اليهود على أساس أنّها في الأصل مسلمة، وعند أهلها لا تجد مكاناً لها فقد بدّلت دينها، في حين يكون الأمر مماثلاً لسالم، وهو ما يجعل ابنهما سعيداً يهذي على طول قائلاً: «اليهودي الحالي وفاطمة لم يجتمعا حتى في مقبرة واحدة».
في هذا العمل يبدو علي المقرّي لاهثاً بسردٍ نابضٍ غير مترهّل ولا مثقل بالتفاصيل. ينهض على نحو عموديّ متصاعد بلا خوض تفاصيل جانبيّة تعريفيّة بجغرافيا المكان. كما يبدو مستعرِضاً ثقافته التاريخيّة لكن من دون أن يحيد عن فكرته الأساسيّة التي تنتقل زمنيّاً بسلاسة من الجدّ إلى الابن فالحفيد. وهو من وراء هذا كأنه يريد فقط أن يقول أنّ بالإمكان اتّخاذ الحبّ كفكرة وراية في مجتمع متباين وغارق في صراعات دينيّة ومذهبيّة على الرّغم من استحالة تحقّق الأمر على أرض الواقع. لكنّنا حال القراءة نتجاهل كلّ هذا آملين من الرواية أن توجد لنا نهاية سعيدة. وحتى إذا لم نجد هذه النهاية المرجوّة والمشتهاة، نكتفي بمتعة السّرد ومتانته.
حرمة
اكتفى علي المقري في باكورته الروائية «طعم أسود رائحة سوداء» بنزع قشرة أولى عن واقع جماعة يمنية تعيش على هامش الحياة بسبب سواد بشرتها. رواية صادمة وضعت قراءها أمام حقيقة الألم الذي تعيشه تلك الجماعة في بيئة اجتماعية تحتقر اللون الأسود. في روايته الثانية «اليهودي الحالي»، نزع قشرة ثانية من واقع اجتماعي محكوم بقيود العرق والطائفة والدين عبر حكاية حب مستحيلة بين مسلمة وصبيّ من يهود اليمن. أمّا في روايته الثالثة «حُرمَة»، فنجد الروائي والشاعر اليمني وقد ذهب متمادياً في نزع القشرات، فلم يعد هناك أي شيء يغطّي الواقع الذي يحاول الجميع إنكاره رغم معرفتهم بأنه حقيقي يحدث فعلاً ولو وراء ستائر وجدران.
ولهذا، نجد المقري مُصرّاً على الذهاب بعيداً في فعل عمل روائي يعيد سرد حياة سريّة/ معلومة تخص مجتمعاً يعيش تحت وطأة الكبت والحرمان وأثقال رغبات لا تعرف حدوداً وشهوات غير قادرة على لمس انطفاءاتها لتجد في الدين حلاً، ولو موقّتاً.
يرتكز الكاتب على أحوال فتاة لا نعرف لها اسماً طوال الرواية. مجرّد حُرمة لا تستحقّ أن تمتلك اسماً: «لم ينادني أحد في البيت باسمي، أمّي تناديني: أميمتي، وأحياناً: أمّي الصغيرة... فيما أسمع أبي يقول: يا بنت... أين البنت؟ أعرف أنّه يقصدني».
بالتوازي مع هذه الـ«حُرمة» التي لا يحقّ لها امتلاك اسمٍ ولا هويّة ولا صوت، نجد شقيقتها الكبرى لولا التي تمتلك اسماً وحياة سرّيّة خاصّة بها و«أفلام بورنو» تخوض فيها بشراهةٍ وبتواطؤٍ من أسرتها التي لا يهمّها سوى الأموال التي تأتي من ابنتها الكبرى من دون السؤال عن مصدرها. إنّه الفقر هنا وما يفعله في حياة اليمنيّين، فالمهمّ ألّا ينكشف شيء ويبقى الأمر طيّ الكتمان.
وعليه، تسير حياة لولا، تقوم بإعادة تركيب (رقْع) غشاء بكارتها، لأنّ مدير الشركة (وليّ نعمتها) الذي تعمل معه يرغب بأن يجدها بكراً في كلّ مرّة يدخلها. لكن عندما يتقدّم بها العمر، يتركها الجميع لتجد نفسها مضطرّة إلى إغواء أحد الشباب وجلبه إلى غرفتها في بيت والدها من طريق إلباسه زيّاً خاصّاً بالنّساء. يعود الأب من عمله باكراً بسبب وعكة ألمّت به، يسمع أصواتاً صاخبة آتية من غرفة ابنته، يفتح الباب الذي لم يكن موصداً ليجدها غارقة في لذّتها: «كنت تعلم كلّ شيء وتتصرّف كأنّك لا تعرف» تقول البنت لأبيها.
في المقلب الآخر، كانت الـ«حُرمة» قد خاضت كثيراً في الحياة، لكن من دون تذوّق لذّاتها الكاملة. تُرغم على الالتحاق بمعهد سلَفيّ لا يُسمح فيه بالاختلاط، رغم أنّه يضمّ محاضرين شيوخاً يعلّمون كيف «تكون المعاشرة الزوجيّة مليئة بالإشباع العاطفيّ». حالةٌ تكاد تكون تكثيفاً لواقع هذه الجامعات الدينيّة التي تعيش كبتاً مضاعفاً داخل بيئة مكبوتة أصلاً. كبت يدفع الـ«حُرمة» إلى القبول بزوج (مجاهد) جلَبه لها شقيقها، الماركسيّ السابق والأصوليّ الحالي، لكنّها تكتشف لاحقاً أنّها قد تزوّجت عنّيناً عاجزاً عن فعل شيء. يتواصل الحرمان بينما يتقدّم الجهاد عندما تقرّر الذّهاب مع زوجها إلى أفغانستان لمحاربة «الملحدين الكفّار». إنّه استرجاعٌ لوقائع سفر آلاف الشباب اليمنيّين والعرب إلى أفغانستان أيّام الاتّحاد السّوفياتي السّابق. لاحقاً، تعود الـ«حُرمة» إلى اليمن بعدما عاشت أهوالاً وعبَرَت سجوناً كثيرة. لكنّها تعود من دون زوجها الذي وقع في الأسر. ويطول غيابه بينما يرتفع مستوى الرّغبة عندها. يدفعها ذلك إلى أخذ «فتوى شرعيّة» تتيح لها الطلاق من الـ«بعل» الذي لا يُعرف مصيره. تتزوّج ذلك الشّيخ الذي أعطاها الفتوى، لكنّ ليلةً واحدة كانت كافية لتعرف الـ«حُرمة» أنّ زوجها المفتي «لا يستطيع»، ليقع الطّلاق فيما يواصل الحرمان تقدّمه والجنون أيضاً.
اللافت في الرواية أنّ علي المقري يسرد كل هذه الوقائع والحياة المكبوتة لأبطاله مع تركيزه على «حُرمة»، لكن من دون اللجوء إلى التنظير وطرح أحكام قيمية على تصرفاتهم. كأنّه أراد تبسيط تلك الحيوات المركبة وإعادة تركيبها بواقعية قصوى من دون الوقوع في التقريرية والمباشرة والوعظ، حتى في طريقة تعمده وصف العمليات الجنسية التي احتواها العمل بإفراط قد يجده بعضهم استفزازياً وفجاً. إلا أنّ هذا لا يحجب حقيقة أنّ هذا يحدث في حياة سرية يعلم الجميع بوجودها، لكن لا أحد يستطيع الكلام عليها بصوت مرتفع.
خلاصة
العام ٢٠٠٩ صدرت الرواية الجديدة الرواية الجديدة للمقري بعنوان «بخور عدنيّ» (دار الساقي بيروت)، وهي تسير في اتّجاه الهامشيّين وإن ظهرت خلفها فكرة «عدن للعدنيّين» على خلفيّة الاستعمار البريطانيّ للجنوب طوال قرن من الزّمان. وتبدو واضحةً الانتقالةُ التي يصرّ عليها المقرّي حين سافر إلى عدن لإنجاز عمله. أقام هناك وصرف من جيبه. سكن في فندق جوار هيئة المكتبة الوطنيّة وراح يُقلّب في الجرائد القديمة. لكنّ هذه حكاية أُخرى.
إنّها رغبة في مواصلة السَّير في طريق النّاس العاديّين، من يهود وهنود وأحباش ومهاجرين من كلّ مكان، من تعزّ الشماليّة ومن وضواحيها، ومن فقراء عدن، وكلّ النّاس المنسيّين.
ومن خلال كلّ ذلك يبدو علي المقرّي وكأنّه يواصل إمساك نقاط عدّة في الصيغة التي يسير عليها في وضعيّة الاشتغال على أعماله السرديّة الروائيّة. يبدو واضحاً انهماكه الشّديد بضرورة إرجاع الأفكار والإشكاليّات الاجتماعيّة المتروكة والمُهملة والمسكوت عنها إلى الواجهة وإعادة تعريضها للضّوء والتّشريح والتّفكيك مرّةً تلو أُخرى، وكلّ ذلك من أجل تمكين المجتمع الذي يحتويها لإيجاد خلاصه من التّبعات المَرَضيّة التي يعاني منها جرّاء الصمت المُمارس عليها. ولعلّ الظرف الحالي، المؤلم والحزين الذي تمرّ به اليمن قد ساعد في إظهار القيمة الأدبيّة التي اشتغل عليها المقرّي طوال سيرته الأدبيّة. تعميق فكرة التشظّي الحاصلة في بنية المجتمع نفسه. ظهوره على حقيقته مع كمّ الانقسامات الطبقيّة والمذهبيّة على حدّ سواء. يبدو صاحب «اليهودي الحالي» قد استبق الحالة الحاضرة بوقت طويل حين هجر الشّعر وانتقل إلى الرواية. كأنّه، بقلب العارف، قد أخذ علماً بما سوف يكون. لا عنصرية ولا طائفيّة تظهر فجأة في أيّ مجتمع كان، هي أشياء تبقى تحت الجلد وفي القلب وتنتظر الفرصة فقط كي تظهر. وقد وجدت وقتها لتظهر. الحرب تفعلها. وقد نجحت في ذلك، كما نجح علي المقرّي في شغله وكتابته ونظرته الاستباقيّة. حطّ قلمه على الجرح اليمنيّ العامّ، وقبل وقت طويل من حصوله. أخذ وقتاً من حياته و... كتب.
المراجع
علي المقرّي، الخمر والنبيذ في الإسلام، دار رياض الريّس، بيروت، ٢٠٠٧
علي المقرّي، طعم أسود، رائحة سوداء، دار الساقي، بيروت، ٢٠٠٧
علي المقرّي، اليهودي الحالي، دار الساقي، بيروت، ٢٠٠٩
علي المقرّي، حرمة، دار الساقي، بيروت، ٢٠١١
جيجيكة إبراهيمي، حفريات الإكراه في فلسفة ميشال فوكو، منشورات الاختلاف، الجزائر، ٢٠١١
حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ٢٠٠٦
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.