العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

تاتلين و«نصْبٌ للأمميّة الثالثة»

أو رؤيويّة الثورة

النسخة الورقية

يمثّل «نصب للأمميّة الثالثة» أحد أبرز معالم فنّ البُنيانيّين ورائعة أعمال تاتلين. وهو نموذجٌ معبّرٌ عن الجمع بين الفنّ والتكنولوجيا - جماليّة الآلات - والالتزام الاجتماعيّ والسياسيّ للفنّان.

وُلد فلاديمير تاتلين (١٨٨٥ - ١٩٣٥) لوالد يعمل مهندساً في شركة لسكك الحديد وأمّ تقرض الشعر توفّيت وهو بعدُ طفل فتولّت تربيتَه زوجةُ أبيه التي لم يحمل لها أيّ عاطفة. غادر المنزل الأبويّ باكراً وعمل لفترة بحّاراً قبل أن ينتقل إلى موسكو لدراسة الفنّ التشكيلي (١٩٠٢ - ١٩٠٤). ومارس الرسم (بدأ برسم الأيقونات) وتزيين القصائد وتصميم الأزياء للمسرح.

تأثر تاتلين في تلك الفترة بالشاعر الجوّال فكتور خليبنيكوف وانشغل معه في السعي لتوليد فنّ روسيّ يستلهم الأيقونات والرسوم الشعبيّة والفولكلور الروسيّ عامّة. في تلك الفترة كانت روسيا تتعرّض أيضاً لتيّارات ومدارس الحداثة الفنّيّة الأوروبيّة. ومثّلتْ زيارة مارتينيتي مؤسّس التيّار المستقبليّ الإيطالي لموسكو سنة ١٩١٦ مَعلماً في تطوّر فنّ تاتلين وتكوّن الحركة المستقبليّة الروسيّة. وبالأهمية ذاتها بدأ اطّلاع الفنّانين الروس في تلك الفترة على أعمال التكعيبيّين في فرنسا.

انتقل تاتلين من هاجس توليد فنٍّ روسيّ خالص، إلى محاورة علوم الغرب وفنونه انطلاقاً من انتماءٍ راسخ إلى التراث الثقافيّ والحضاريّ الروسيّ. ومن جهةٍ أخرى، بقدْر ما كان مهووساً بمبتكرات الحياة الحديثة والتكنولوجيا - الكهرباء والسيّارات والطيّارات والجرّارات، إلخ. - بذاك القدْر سعى إلى أن يعبّر في فنّه عن رؤى طوباويّة وصوفيّة.

الثورة والابتكار

عشيّة ثورة أكتوبر، أعلن تاتلين «موت الفنّ» وتخلّى عن العمل على اللوحة الفنيّة. أخذ يجرّب بتجهيزات بالـ«كولّاج»، بوحيٍ من أعمال بيكاسو في مرحلته التكعيبيّة ثمّ انتقل إلى لوحاتٍ ثلاثيّة الأبعاد، قبل أن يستقلّ التجهيز عن اللوحة، ويتخلّى عنها ليتحوّل عملاً فنيّاً قائماً بذاته: تجهيزات مستقلّة، تصاميم معماريّة، ديكورات للمسرح والسينما، أثاثات منزليّة وتصاميم لأزياء وكتب ومجلّات.

عند قيام الثورة علّق تاتلين قائلاً «لقد عزّزت الثورة الحافز على الابتكار». وقد صمّم على أن يضع الفنّ في خدمة الحياة اليوميّة، ولسان حاله أنّ النظام الجديد يوجب أن تُستخدِم في الأعمال الفنيّة موادّ جديدة وأشكال تعبير جديدة. فكان التجريب عند تاتلين في استخدام المعادن والخشب والزّجاج.

انضمّ تاتلين إلى إدارة الدولة بدعوةٍ من مفوّض الشعب لشؤون التنوير، أناتولي لوناتشارسكي، وشغل منصب رئيس فرع موسكو في وزارة الثقافة. ولمّا قرر لينين نَصب صروح وتماثيل في الساحات العامّة لذكرى أبطال الثورة وشهدائها تولّى تاتلين تنظيم حملة لتشييد خمسين صرحاً وتمثالاً. وفي العام ١٩١٩ تولّى رئاسة «المحترَفات الفنيّة الحرّة» في موسكو، وأطلق مجلّة «الفنّ في العالم».

وجهته نجمة القطب

صمّم تاتلين «نصب للأمميّة الثالثة» أصلاً بتكليفٍ من «مفوضيّة الشعب لشؤون التنوير» ليكون مركزاً لقيادة الأمميّة الثالثة. وأوّل ما يلفت في مظهره الخارجيّ انحناؤه الذي يجمع التماسك والتوازن إلى زخم الاندفاع إلى أمام. وقد تقصّد الفنّان أن تكون وجهة النّصب نحو نجمة القُطب. وإن كان لا بد من مقارنة «برج تاتلين»، كما سمّي العمل، بعمارة أخرى فهو أشبه ببرج المَلويّة، في سامراء العراق، أكثر منه بأيّ عمارة أخرى. ليس معروفاً ما إذا كان تاتلين قد شاهد صوراً عن الملويّة، لكنّنا نعرف أنّ الشاعر خليبنيكوف كان معجباً بثقافة فارس وبلاد الرافدَين وحضارتهما، وقد وردتْ إشارات في شعره لقرّة العين وزرادشت.

تُرفرف فوق البرج راية تعلن «مجلس سوفيات عمّال وفلاحي العالم». وفي داخله ثلاث كتل معماريّة هي كناية عن قاعاتٍ ضخمة مغطّاة بالنّوافذ الزجاجيّة، متراكبة الواحدة فوق الأخرى، لكنّها تتحرّك وفْق آليّات خاصّة بكلٍّ منها وبوتائر زمنيّة متفاوتة. الكتلة الدنيا مخروطيّة الشكل، مخصّصة للنشاطات التشريعيّة للأمميّة وتدور على محورها بمعدّل دورةٍ واحدةٍ في السنة. والكتلة الثانية هي الوسطى، هرميّة الشكل وتخدم كمقرّ للنشاطات التنفيذيّة وتضمّ مكاتب اللجنة التنفيذيّة للأمميّة والسكرتاريا وسائر الأجهزة واللجان. وتدور هذه الكتلة حول محورها بمعدّل مرّة كلّ شهر. أمّا الكتلة الثالثة والأعلى فهي أسطوانيّة الشكل تدور حول نفسها بمعدّل مرّة واحدة في اليوم. وهي مركز للإعلام والدعاية والتحريض يحوي مكتبةً ومكاتب تحرير للصّحف ومطبعةً وأجهزة تلغراف وآلاتٍ وشاشات عرض سينمائيّة ومحطّة إذاعيّة وغيرها. وللبرج مصعدان للانتقال إلى هذه الكتل وفيما بينها. وتعلو البرج لاقطات راديو وتلغراف وأنوار كاشفة وشاشات سينما للعروض الدعائيّة المتواصلة.

عرَضَ تاتلين نموذج «نصب للأمميّة الثالثة» في ٨ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٢٠ لمناسبة المؤتمر الثامن لمجالس السوفيات في بتروغراد، وانتقل منها في الشهر التالي إلى موسكو. بسبب الحرب الأهليّة والضغط الهائل للنّفقات الحكوميّة، في فترة الحرب الأهليّة والتدخّل الخارجيّ، لم تتوفّر ميزانيّة لبناء النّصب.

في كلّ الأحوال، لم يُعرَف تماماً كيف كان تاتلين ينوي تنفيذ تصميمه وإنتاج الآليّات التي ستتولّى رفع العناصر المعماريّة الثلاثة وتحريكها. فقد كان التصميم يثير من المشكلات الميكانيكيّة والتكنولوجيّة ما يجعله مستحيل التحقيق عمليّاً. ولكنْ لعلّه لم يكن مصمَّماً أصلاً من أجل أنْ يُنفّذ. فعلى الرّغم من نوايا تاتلين «الانتفاعيّة» وتصوّره لوظيفة البرج الدعائيّة والإعلاميّة والتحريضيّة، يمكن النظر إليه على أنّه عملٌ فنّيّ صادر في زمن رؤيويٍّ تصوّر فيه كثيرون إمكان تحقيق الطوبى وبناء حياة جديدة هي الجنّة على الأرض.

المراجع

John Milner, Vladimir Tatlin and the Russian Avant-Garde, London, 1983

Christina Lodder, Russian Constructivism, London, 1983

David Elliot, Rodchenko and the Arts of Revolutionary Russia, New York, 1979

Harrison Salisbury, La Russie en Révolution, 1900-1930, Paris, 1979

Centre Pompidou, Art et Poésies Russes, 1900-1930, Textes Choisis, Paris, 1979

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
أو رؤيويّة الثورة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.