العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

السينما في الثورة

سيرغي آيزنشتاين وفن المونتاج

النسخة الورقية

«من بين كلّ الفنون، الأكثر أهمّية لنا هو السينما». هذا ما قاله قائد الثورة البلشفيّة في روسيا، فلاديمير لينين، وهذا تماماً ما تعكسه الأفلام السوفياتيّة الأولى، كوسيلة «هامّة» و«لنا». وضمير المتكلّم هنا يعود على الاتّحاد السوفياتي الوليد، وقالها في مقابلة بالتزامن مع أفلامٍ سنتناول أمثلة منها هنا، إذ كانت السينما السوفياتيّة تتبلوَر بما يخدم مصالح الدولة، أو المصالح الطبقيّة التي تأسّست عليها الدولة السوفياتيّة، قبل أن تتحوّل سريعاً إلى بيروقراطيّة. ومن أهمّ الأفلام «الهامّة» آنذاك أفلام المخرج سيرغي أيزنشتاين، والحديث هنا عن عشرينيّات القرن الماضي.

لكن قبل الوصول إلى أيزنشتاين، وإلى اثنين من أفلامه، سنمرّ أوّلاً على أفلام أخرى يمكن أن تعطي فكرة عن الطبيعة التقنيّة / الفنّيّة لهذه السينما، إضافة إلى كونها «هامّة» بالمعنى الدعائيّ. وكلمة «الدعائي» لا تقصد الذمّ بهذه الأفلام ولا المديح، إنّما التوصيف، ففيلم «المدرّعة بوتمكين» لأيزنشتاين، هو دعائيّ تماماً، إنّما، في الوقت ذاته، يُعدّ من بين أهمّ الأفلام في تاريخ السينما العالميّة ومن بين أوّلها موضوعاً للدراسة. ليست المسألة إذن حمل الشعارات من عدمه، أي «الدعاية» لصالح أفكار معيّنة من عدمها، بل هي في الكيفيّة التي تُنقل بها هذه الأفكار، والكلام للروائيّ (الشيوعيّ) الفلسطينيّ إميل حبيبي.

موضوعات الأفلام بأربعة أمثلة

فيلم «سقوط سلالة رامونوڤ» (١٩٢٧) للمخرجة إسفير شوب مبنيّ تماماً على لقطات أرشيفيّة، واقعيّة، جمّعتها المخرجة وقطّعتها وولّفتها مضيفة إليها كلاماً متخلّلاً المَشاهد، لتصنع من خلالها حكاية هي، كما يشير العنوان، حكاية سقوط القيصر الروسيّ الأخير، مظهرةً المأساة التي كان فقراء روسيا، الغالبيّة الساحقة من الشعب، يعيشونها. فكان محتوى الفيلم مقدّمة للثّورة، أو ربطاً سببيّاً بينها وبين ما يحويه الفيلم من حكاية وصور. ويعتبر هذا الفيلم فيلماً طليعيّاً مبنيّاً، تماماً، على التوليف / المونتاج.

يروي فيلم «نهاية سانت بطرسبرغ» (١٩٢٧) للمخرج فسيفولود بودوفكين حكاية فلّاح روسي يترك أرضه ويذهب للعمل في مصنع بالمدينة. يُضرِب العمّال، فيَشي العامل الجديد بصديقه الذي استضافه في بيته، بأنّه أحد قادة الإضراب. في هذا الفيلم أيضاً شغلٌ أساسي على المونتاج، وإن كان بواسطة الممثّلين والأداء، وهو كذلكُ يظهر العلاقة بين الرأسماليّة والحرب وحاجة الرأسماليّة للحرب كي تبقى.

فيلم آخر هو «موسكو في أكتوبر» (١٩٢٧) للمخرج بوريس بارنيت، ويحكي باختصار استيلاء البلاشفة على السلطة باقتحام «قصر الشتاء» في سانت بطرسبرغ عام ١٩١٧، وهو وثائقيّ بنَفَسٍ روائيّ، أو هو توليف روائيّ لأحداث ومَشاهد واقعيّة.

والأمثلة عديدة هنا، وذلك لاهتمام السلطات السوفياتية بالسينما كفنّ «هام» يخدم مصالحها، أو كأداة دعائيّة أخرى، لكنّ الشكل بدأ يتغيّر مع الزّمن، إذ ازداد عدد الأفلام الروائيّة على حساب الأفلام الوثائقيّة. ونورد هنا مثالاً واحداً هو «لينين في أكتوبر» (١٩٣٧) للمخرج ميكايل روم، وهو فيلم روائيّ بامتياز، يجسّد فيه ممثلٌ شخصيّة لينين العائد إلى سانت بطرسبرغ من فنلندا ليبدأ بتنظيم الثورة المسلّحة مع رفاقه. والفيلم الذي صدر بعد عشر سنين من الأفلام السابقة المذكورة، تأثّر بسطوة ستالين الذي يظهر في العديد من المشاهد التي حذفها المخرج، بعد وفاة الدكتاتور، وقد أدرجها دون رغبة منه.

هذه أمثلة يمكن إيجاد العديد مثلها، أو تكرار لها، في نتاج السينما السوفياتية الباكرة التي تشترك مع الأفلام المذكورة هنا في الشكل والمضمون، من الكيفيّة التي يُصنع بها الفيلم، باعتمادٍ أساسيّ على المونتاج، إلى الموضوع الذي ينقله الفيلم، وهو متعلّق بالثورة البلشفيّة، وما قبلها إذ كان مسبّباً لها، وما بعدها إذ كان نتيجة لها، وبما لا يخالف رغبة السلطات السوفياتية بطبيعة الحال. إنّما الأبرز من بينها جميعها كانت أعمال المنظّر السينمائي والمخرج سيرغي أيزنشتاين، صاحب أفلام نتناول منها هنا «المدرعة بوتمكين» و«أكتوبر».

سيرغي أيزنشتاين

قبل الحديث عن أفلامه، سنأتي على ذكر أيزنشتاين نفسه، كمخرج ومنظّر، وكما مررنا قبل أشهر بالذكرى المئة لثورة أكتوبر ١٩١٧، مررنا في ٢٢ كانون الثاني / يناير بذكرى مرور ١٢٠ عاماً على ولادة أحد أعظم السينمائيّين عبر كلّ الأزمنة وأكثرهم «استقراراً» لدى «السينيفيليّين»، هواة السينما، وذلك بفضل أفلامه كما بفضل نظريّاته السينمائيّة، في المونتاج تحديداً، وهو كتب كذلك عن الصّوت والألوان وحتى أبعاد الشاشة البيضاء.

رحل أيزنشتاين باكراً، بعمر الخمسين في ١١ شباط / فبراير ١٩٤٨. وقد استطاع خلال عمر قصير ليس أن يكون سينمائياً عظيماً وحسب، بل أن يكون مؤسّساً لسينما عظيمة، نظريةً وأفلاماً، وأكثر ما يمكن أن يُعرف به، نظريّاً، هي طرائق المونتاج لديه، إذ يقول بأنّ المونتاج هو الفيلم بأكمله، وهذه الطرائق هي الآتية:

المونتاج المتريّ (القياسي) الذي يقوم على طول المشاهد.

المونتاج الإيقاعيّ الذي يقوم على محتوى الصورة وحركات الصّور.

المونتاج النغميّ الذي يقوم على المضمون العاطفيّ للصور.

المونتاج المافوق - نغمي، وهو المرحلة المتقدّمة من المونتاج النغميّ.

المونتاج الفكريّ والمعني بالأثر الفكري الذي يمكن أن يُترك على المُشاهد، وهو الأهمّ من بين الطرائق لدى أيزنشتاين.

كتب آيزنشتاين عن رؤيته الفنّية وقد كان يتحدّث عن فيلمه الطويل الأوّل «إضراب» (١٩٢٥): «بخصوص الأساسات الفنّية لديّ، فنحن لا ننطلق من الحدس الإبداعيّ، إنّما من البنية العقليّة للعناصر العاطفيّة، فعلى كلّ عاطفة أن تكون مسبقاً مادّة مبنيّة على تحليل عميق وعلى حسابات، وهذا هو الشيء الأهمّ». فأيزنشتاين الذي جاء إلى السينما من الهندسة مارّاً بالجيش الأحمر وبعده بالمسرح، كانت العلوم والرياضيّات والعمليّات العقليّة أساس إبداعه السينمائيّ الخاصّ. وكانت حامل تعريفاته وتطبيقاته لما هو الإبداع في الفنون، فيكون العمل الفنّي لديه مادّة تحليليّة عقليّة، واجتماعيّة سياسيّة في الوقت ذاته، تعكس انتماءه للشيوعيّة ولانعكاس فهمه للماركسيّة في سينماه، فكانت أفلامه مُحكمة وتجريبيّة ونقيّة وإنسانيّة وكذلك ثوريّة وبالتالي طليعيّة، وكانت مقرونة بالنّظريّة، وذلك لا على المستوى السوفياتي، بل العالميّ في زمنه، والتاريخيّ إلى زمننا الحالي بعد ٧٠ عاماً على رحيله.

أيزنشتاين ابن ثورة ١٩١٧، كتب مرّة أنّ «السينما هي في جانب منها صناعة، وفي جانبها الآخر فنّ، وعلى الأبعاد التجاريّة والاقتصاديّة لهذا الفنّ أن تكون خاضعة تماماً للمهامّ الاجتماعيّة والاقتصاديّة الموضوعة من قبل ثورة ١٩١٧... إنّ غاية السينما السوفياتيّة قبل أيّ شيء هي تعليم الجماهير، منحهم الثقافة العامة والمعرفة السياسيّة، فهي تقود حملة دعاية ضخمة لصالح الدولة السوفياتيّة وإيديولوجيّتها... بالنسبة لنا، الفنّ ليس مجرّد كلمة، إذ لا نرى فيه سوى آلاتٍ تُستخدم في ساحة القتال في صراع الطّبقات وفي النضال من أجل بناء الاشتراكيّة، كما هو الحال، مثلاً، في صناعة المعادن».

وهذا اقتباس مجتزأ من مشاركة له في عمل جماعي عن الفن في الاتّحاد السوفياتيّ، نلمس فيه رؤيته لدور السينما في المجتمع، في حديث باكر من القرن الماضي، في عشرينياته حين كانت الدولة السوفياتيّة في طور التأسيس، وكان ذلك مزامناً لفيلمه «أكتوبر» الذي مجّد فيه الثورة البلشفية، ولفيلم «الخط العام» الذي تلاعبت به السلطات السوڤييتية.

كانت أفلام آيزنشتاين أمينة لأفكاره، وهي ما عكسها هذا الاقتباس، فكانت، مثلاً، أفلاما عن البطولة جماعيّة، بطولة الجماهير، وكانت أفلاما إرشاديّة، تحريضيّة، تنقل الصراع الطبقي في السياق الروسيّ. تحمل شعارات ولا يضيرها ذلك. وإن كان لا بد من تساؤل فسوف يختصّ بالكيفية التي يتم بها حمل هذه الشعارات، وهو سؤال يحيلنا إلى الأسلوب الفنّي لأيزنشتاين، أسلوب جعله أحد عظماء السينما العالمية، وهو أسلوب جعله يُهاجَم في الاتحاد السوفياتي ذاته لاحقاً حيث اتّهم بـ«الشكلانيّة»، بل حتى بـ«الانحطاط» ومعاداة الثورة. وإثر الجزء الثاني من فيلمه «إيڤان الرهيب» (صدر الجزء الأوّل منه العام ١٩٤٥ وبقي الثاني محجوزاَ لدى الرقابة حتى العام ١٩٥٨). وقد انهال عليه النقد الرّسميّ السوفياتي، ليدرك الرّجلُ لاحقاً أنّ المطلوب لا خدمة للثورة بل خدمة ستالين، وإن استلزم ذلك مغالطات تاريخيةً في الأفلام.

«المدرّعة بوتمكين» و«أكتوبر»

يُعدّ فيلم «المدرّعة بوتمكين» (١٩٢٥) أحد أفضل الأفلام في التاريخ، وأكثرها تأثيراً، وهو مثال ممتاز لدراسة المونتاج وأهمّيّته في السينما السوفياتيّة الباكرة، خصوصاً أنّ أيزنشتاين هو أحد أبرز صانعي سينما المونتاج في العالم. يروي الفيلم قصّةً مأخوذة بشكل واقعيّ عن أحداث حقيقيّة، وهي تمرّد بحّارة المدرّعة بوتمكين وعصيانهم أوامر الضبّاط الذين سينفّذون مجزرة بالأهالي، في مشهد ملحميّ (ومن بين الأكثر استعادةً سينمائيّاً) على الدرج الطويل الذي بدا بتصويره كأنّه لا ينتهي. فالفيلم كلّه عبارة عن مقدّمة تُظهر علاقة البحّارة الفقراء بالضبّاط الأغنياء، ثمّ التمرّد عليهم والتحامهم مع تحرّك النّاس في البرّ. البطولة في الفيلم جماعيّة، فليس هنالك بطل فرد يعود إليه الفضل في كلّ ما يحصل، وهذه (بعد المونتاج) إحدى ميزات السينما السوفياتيّة حيث تكون البطولة للجماعة. نرى ذلك في مشاهد المعارك على ظهر المدرّعة كما نراه على السلّم حيث يكون جمعُ النّاس مقابل جمع العساكر.

أمّا الفيلم الآخر فهو «أكتوبر» (١٩٢٧)، وله عنوان إنكليزيّ هو «أكتوبر: عشرة أيّام هزّت العالم» (عنوان كتاب الصحافيّ الأميركيّ جون ريد)، والفيلم يصوّر الأيّام الأخيرة من الثورة البلشفيّة، منتهياً بوصول لينين إلى سانت بطرسبرغ وخطابه، بمَشاهد حقيقيّة، أمام حشود من الثوّار. الفيلم هو الوثيقة السينمائيّة الأبرز للثّورة، تحديداً بمشاهد ملحميّة لاقتحام قصر الشتاء، وهو لحظة تخليد فنّية، ليست «هامّة» وحسب للشيوعيّين والعالم، إنّما منجزة بفنّيّة عالية ساهمت في تكوين مدرسة المونتاج السوفياتيّة.

المونتاج كشكلانيّة

مثلما أنّ «الشكلانيّة الروسية» في الأدب كانت محطّ النّقد الرّسميّ السوفياتي، فتطوّرت ضمن ظروف خاصّة وصارت بحدّ ذاتها مذهباً أدبيّاً / نقدياًّ له إبداعاته، كان المونتاج في السينما الروسيّة كذلك، بظروفه الخاصّة، وذلك للمساحة الآمنة التي يمكن أن توفّرها اللقطات الأرشيفيّة أوّلاً، وللمساحة الضيّقة (جدّاً) التي يمكن أن يسرح ضمنها صانع الفيلم إذا اختار أن يكون فيلمه روائيّاً، بحكاية مكتوبة وأداءٍ وتجسيدات وما لا يمكن أن يعجب البيروقراطيّة السوفياتيّة، نقداً ودولةً.

أتت المدرسة السوفياتيّة في السينما مدرسةَ مونتاج. التضييقات عليها هي، غالباً، ما أدى إلى ذلك، إنّما، كما هو الحال في الأدب وقد برزت الشكلانيّة مزامنةً لصدور هذه الأفلام، أبدع المخرجون السوفيات ضمن المتاح في سينماهم، وصارت الأخيرة تُدرّس كأحد التيّارات السينمائيّة البارزة في التاريخ، وصار أبرز أسمائها - أيزنشتاين - أحد معلّمي السينما الأوائل، ولهذا، في الأدب كما في السينما، ترافق الإنتاج الإبداعيّ مع الإنتاج النقديّ والتنظيريّ.

هذه الأفلام الصامتة المتناوَلة هنا، بأسلوب صناعتها وبحكايتها وبمَشاهدها وبالالتزام السياسيّ فيها، هي وثيقة فنّيّة لمرحلة تاريخيّة كانت الأكثر تأثيراً من غيرها في ما لحقها من سنوات، والحديث هنا عن ثورة أكتوبر عام ١٩١٧ التي أكملت في أكتوبر ٢٠١٧ قرنها الأوّل، والحديث كذلك عن سينما المونتاج في العالم حيث الريادة والتنظير والصناعة فيه كانت أوّلاً للسوفيات. فكانت السينما كما قال لينين «الفنّ الأكثر أهمّيّة» للسوفيات، وكانت هذه السينما السوفياتيّة الباكرة، من بين الأكثر أهمّيّة للعالم في تاريخه السينمائيّ.

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
سيرغي آيزنشتاين وفن المونتاج

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.