العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

إيزادورا دانكن في الثورة

«أرقصُ من أجل الحياة الجديدة»

النسخة الورقية

ولدتْ إيزادورا دانكن العام ١٨٧٧ في حيٍّ فقيرٍ من أحياء سان فرانسيسكو، افترق والداها باكراً وعاشت مع والدتها، مدرّسة البيانو، وإخوتها الثلاثة. متمرّدة منذ النشأة، ضاقت بالمدرسة الكاثوليكيّة الصارمة، واستهواها الرّقص - كانت تقول إنّها ترقص منذ أن وقفتْ على قدمين - فغادرت المدرسة باكراً ودرّست الرقص مساهمةً في إعالة الأسرة. انتقلتْ إلى نيويورك وعملتْ لفترة في المسرح قبل أن تقرّر التفرّغ للرّقص.

غادرتْ إيزادورا إلى لندن بمالٍ اقترضتْه من نساء ثريّاتٍ كانت ترقص لهن في حفلاتهنّ الخاصّة. ومنذ مطلع القرن العشرين أخذتْ تجوب أوروبّا وقدّمت العروض في معظم عواصمها، باريس، فيينّا، بودابست، البندقيّة، اليونان، ألمانيا، سان بطرسبرغ، موسكو، وارسو، هولندا ودوماً ذهاباً وإياباً من نيويورك وإليها. أسّست مدرستين للرّقص قرب برلين وفي جنوب فرنسا، عرفت المشاهير من ملوكٍ وحكّامٍ وكبار الرأسماليّين ومثقّفين، وألهمت الملايين من المشاهدين.

جاهرتْ بعدائها للباليه، بزيّه الضيّق المنمّط وإلزامه الرّاقصة والرّاقص بأداء حركاتٍ اصطناعيّةٍ على المسرح، الذي يقيّد الجسد فيما المطلوب هو تحرير الجسد. صمّمتْ على إعادة الاعتبار إلى الجسد البشريّ «بما هو أداةً تعبيريّة»، وإحياء فنّ الرّقص المتخلّف عن رَكْب تطوّر سائر الفنون، فعملتْ على تطوير حركات رقصٍ حرّة طبيعيّة واستوحت الأساطير والعبادات والمسرحيّات الإغريقيّة. كانت ترقص حافية القدمين وأحياناً عاريةً أو متدثّرة بغلالةٍ أو عباءةٍ تستوحي الأزياء الإغريقيّة أو الرومانيّة، وتؤْثر الرّقص في الهواء الطّلْق. اختارتْ موسيقاها بنفسها. رقصتْ على مقطوعاتٍ لباخ وبتْهوفن وشوبّان وشوبرت وفاغنر. واستلهمتْ في رقصها الشِّعر والأدب والمسرح والفلسفة، في مروحةٍ كبيرةٍ من الاستلهامات تمتدّ من شيكسبير إلى السورياليّين. في الحصيلة، أسّست إيزادورا درانكن لأسلوبٍ في الرّقص هو باكورة ما سوف يُسمّى «الرّقص الحديث».

ارتبطتْ رؤياها للرّقص باكراً بالالتزام الاجتماعيّ والنسويّ. كانتْ تقول «أنا لستُ راقصة. أنا مهتمّة بالبحث عن شكلٍ جديدٍ للحياة والتعبير عنه». شعارُها «بلا حدود» طبّقته في كلّ نواحي الحياة، وخصوصاً في وجه قيود المجتمع البرجوازيّ. جاهرتْ بنقد الرأسماليّة الغربيّة وأعلنت انحيازها للاشتراكيّة، وطالبت بأن تسمّى «رفيقة».

رأتْ إلى رقصها بما هو «رمزٌ لحرّيّة المرأة» قبل أيّ شيء آخر. وحرّيّة المرأة عنَتْ بالنّسبة إليها حرّيّتها في التصرّف بجسدها. تطلّعتْ إلى ولادة امرأة جديدة «أرفع مجداً من أيّ امرأة وُجدتْ من قبلُ وأرقى ذكاءً في جسدٍ هو الأوفر تمتّعاً بالحرّيّة».

زارتْ إيزادورا موسكو العام ١٩٠٥، وتروي في مذكّراتها أنّها دخلتْ سانت بطرسبرغ فيما عرباتٌ تحمل نعوش ضحايا «الأحد الدامي». في ذلك اليوم، اتّجهتْ مسيرةٌ عمّاليّةٌ سلميّة بقيادة رجل دين هو الاب بابون، وترفع الصلبان والأيقونات المقدّسة، نحو «قصر الشتاء» لتقديم عريضة للقيصر تطالب بالخبز لإطعام أولادهم. أمَرَ القيصر الجيشَ وخيّالة القوزاق بإطلاق النّار على المتظاهرين فقتلتْ لا أقلّ من ألف عامل. بكتْ. وكتبتْ في سيرتها «باستنكارٍ لا حدود له شاهدتُ هؤلاء العمّالَ الفقراء المكلومين يحملون شهداءهم... لو أنّي لم أرَ ذلك المشهد، لكانت كلّ حياتي مختلفة. هناك، إزاء تلك المسيرة التي بدتْ بلا نهاية، إزاء تلك المأساة، قرّرُت أن أنذر نفسي وقواي لخدمة الشعب والمسحوقين».

بحماسةٍ استقبلتْ إيزادورا سقوط النظام القيصريّ. احتفلتْ بالثورة الروسيّة الأولى، ثورة شباط / فبراير ١٩١٧، بأن رقصتْ على أنغام «المارسييز»، نشيد الثورة الفرنسيّة. قالت لأصحابها الذين ظنّوا أنّ الثورة حقّقتْ أهدافها بإعلان الجمهوريّة: «إنّي أراهن على لينين» وتنبّأتْ بانتصار البلاشفة وقيام المجتمع الجديد الذي حلم به كارل ماركس والقائم على التشاركيّة والمساواتيّة (Lever, ٢٩١ - ٢). رأتْ في انتصار الثورة الاشتراكيّة في روسيا ما هو أبعد من مجرّد تطبيقٍ لحلم ماركس، وجدتْ فيه تحقيقاً للنّبوءات المشتركة لأفلاطون ونيتشه والمسيح.

عام ١٩٢٠ التقتْ إيزادورا ليونيد كراسين، الدبلوماسيّ

السوفياتيّ، في لندن، وعرضت عليه مشروعها لتأسيس مدرسة للرقص الحديث في موسكو تدرّس «أطفال البروليتاريا، وتمنحهم الفرح والجمال من خلال حركات الجسد الطليقة الحرّة». حمّلتْه رسالةً إلى أناتولي لوناتشارسكي، «مفوّض الشعب للتنوير»، قالتْ فيها «لا أريد أن أسمع بالمال مقابل عملي. أريد مشْغلاً وبيتاً لي ولطلّابي، طعاماً بسيطاً، أرديةً بسيطة والفرصة لأن نقدم افضل ما نستطيعه من عمَل. سئمتُ الفنّ التجاريّ البرجوازيّ. سئمتُ المسرح الحديث الأشبه ببيت دعارةٍ منه بمحرابٍ فنّي... أريد أن أرقص من أجل الجماهير، للشّعب العاِلم الذي يحتاج إلى فنّي ولم يكن له مرّةً المالُ الكافي لمشاهدتي...». ردّ عليها لوناتشارسكي ببرقيّةٍ قال فيها «تعالَي إلى موسكو. سنمنحك مدرسة وألفَ طالب. وستستطيعين تنفيذ فكرتك على نطاقٍ واسع». بالفعل وضع لوناتشارسكي بتصرّفها قصراً ملكيّاً مصادَراً ومئاتٍ من الطلّاب. ومن مفارقات الأمور أنّ من اشدّ المتحمسين لمشروعها كان جارها نيكولاي بودفويسكي، رئيس اللجنة الثوريّة العسكريّة لسوفيات بتروغراد وقائد عمليّة احتلال «قصر الشتاء» وأوّل مفوّضٍ للشّعب للشؤون العسكريّة والبحريّة.

في خريف ١٩٢١ افتتحتْ إيزادورا مدرستها تحت شعار «الرّوح الحرّة لا تكون إلّا في الجسد المتحرّر» وقدّمت استعراضاً راقصاً على مسرح بولشوي في الذكرى الرابعة للثورة. وقد شارك في العرض ١٥٠ راقصة وراقصاً من طلّاب المدرسة. وفي ٢٣ تشرين الثاني / نوفمبر من ذلك العام نشرتْ مقالاً في «إزفستيا» تتبنّى فيه شعار «الفنّ للجماهير»، وهو الشعار السائد حينها بين قطاع واسعٍ من الإنتلجنسيا الروسيّة. وكرّرتْ رأيها القائل إنّ رقص الباليه بقواعده الصارمة البالية لم يعدْ مناسباً لنبَض الحياة الجديدة، مؤْثرةً عليه الرّقص «الحرّ» و«الطبيعيّ».

خلال إقامتها في روسيا، صمّمت رقصةً للنشيد الأمميّ، ورقصاتٍ على نشيدين جنائريّين لذكرى لينين، وسلسلةَ رقصات مستوحاة من أغان ثوريّة عبر العالم.

في العام ١٩٢٢ تزوجتْ إيزادورا الشاعر سيرغاي إيسينين مغنّي الثورة الفلّاحيّة والاشتراكيّة، الذي كان يصغرها بـ١٨ سنة. وجالتْ معه في أوروبا وأميركا. في آخر زيارة إلى نيويورك أُخضعتْ للتّحقيق عند الحدود بتهمة البلشفيّة، وتعرّضتْ لحملات صحافيّة تتّهمها بأنّها مبعوثةٌ خفيّةٌ للينين وتروتسكي، وألغيتْ عدّة عروض لها... إلى أن حُرمتْ أخيراً من جنسيّتها الأميركيّة.

بسبب الحرب الأهليّة والضائقة الاقتصادّية والمجاعة، اضطرّت الدولة السوفياتيّة إلى وقف دعمها الماليّ للمدرسة، لكنّ إيزودورا تمكّنت من جمع ما يكفي من تبرّعاتٍ للاستمرار ولو لفترة وجيزة. انتشر نفوذ مدرستها، وانتعش الرّقص الحديث خلال الثورة وأنشئت مدارسُ له في بتروغراد وموسكو وكييف وأستراخان وتبليسي. لكنّ تلك المدارس لم تعمّر لضعْف الإمكانات. وقد جاب تلامذتها عبر روسيا وسيبيريا يعرضون تلك الرقصات الحديثة، بل وصلوا بها إلى الصين.

في العام ١٩٢٤ قدّمت إيزادورا عرضاً غنائيّاً راقصاً بعنوان «أغاني الثورة» إحياءً لذكرى لينين. ثمّ غادرتْ موسكو بعد انهيار علاقتها العاصفة والعنيفة مع إيسينين بسبب ادمان الشاعر على الكحول وانهياراته العصبيّة التي ما لبثتْ أن قادتْه إلى الانتحار في نهاية العام ١٩٢٥.

لم تشهد الفصول الأخيرة من حياة إيزادورا دانكن أياماً بهيجة، أقامتْ في جنوب فرنسا مع وصيفتها ماري، في ظروف ماليّة صعبة، متّكلةً على مساعدة زوج سابق، من دون نشاطٍ فنّيّ ٍيستحق الذكْر، وواصلت مغامراتها الغراميّة. لكنّها فُجعتْ بمقتل ابنها وابنتها الوحيدَين في حادث سيارة. عالجَت الأمر بأن حمَلَتْ مجدّداً لكنْ سرعان ما تُوفّي المولود الجديد.

تُوفّيتْ إيزادورا دانكن في ١٤ أيلول / سبتمبر ١٩٢٧ إثر حادثٍ مؤسفٍ عندما اختنقتْ حين التفّ شالها حَول عجَلات سيارة كانت تقلّها برفقة أحد المعجَبين. وعند وفاتها كانت قد أنجزَت كتابةَ سيرتها وباشرت العملَ على مخطوطة عن إقامتها في الاتحاد السوفياتيّ.

الهوامش

Isadora Duncan, Isadora Speaks, edited and introduced by

Franklin Rosemon, San Fransisco, 1981

Maurice Lever, Isadora, Roman d’une vie, Paris, 1987

Isadora Duncan, My Life, Liveright, New York, 1927

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
«أرقصُ من أجل الحياة الجديدة»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.