العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

الثقافة الجديدة

دمقرطة الفنّ وابتكارٌ بلا حدود

النسخة الورقية

طغت ثلاثة تيّارات ثقافيّة متداخلة على السنوات الأولى من الثورة الروسيّة: الطليعيّة والمستقبليّة والبنيانيّة. ظهرت النزعة المستقبليّة الروسيّة بوحيٍ من سابقتها الإيطاليّة التي نشأت مع بداية القرن العشرين وتميّزت بشغفها بنتاجات العلوم والصناعة والحداثة. وقد مجّدت السرعة والتكنولوجيا وآمنت بالشباب وعبدت العنف وكرهت كلّ قديمٍ ودعت إلى القَطع مع الماضي ومع السلوك السويّ والذّوق السائد. إلّا أنّ المستقبليّة الروسيّة تفارقت كلّياً مع المستقبليّة الإيطاليّة بأنّها التزمت الشيوعيّة ندّاً بل نقيضاً للفاشيّة التي تبنّتها نَظيرتها الإيطاليّة.

المرسوم رقم ١ لدمقرطة الفنون

في أوّل أيّام الثورة دعا أناتولي لوناتشارسكي، مفوّض الشعب لشؤون «التنوير»، إلى إبداع «أشكالٍ جديدةٍ، حرّةٍ وشعبيّةٍ من الحياة الفنّيّة»، فاستجاب ماياكوفسكي وكامنسكي ودافيد بورليوك للدعوة وأصدروا الإعلان «المرسوم الرقم ١ حول دمقرطة الفنون: الأدب والفنّ للشعب» الذي يلخّص مبادئ النّزعة المستقبليّة الروسيّة وطموحاتها:

«الأدب للملأ والرسوم في الشوارع!»

«أيّها الرفاق والمواطنون، نحن، طليعة التيّار المستقبليّ الروسيّ (لفنّ الشبيبة الثوري) نعلن ما يلي:

  • ١ ابتداءً من اليوم، وبناءً على إلغاء النظام القيصريّ، يلغى وجود الفن في مستودعات ومخازن العبقريّة البشريّة: القصور، صالات العرض، الصالونات، المكتبات، المسارح.
  • ٢ باسم المسيرة الكبرى نحو مساواة الجميع أمام الثقافة، لتُدوّن «الكلمة الحرّة» للكائن المبدع عند زوايا البنايات، والأسيجة، والسطوح والشوارع في مدننا وقرانا وعلى ظهور السيّارات والعربات والحافلات الكهربائيّة وعلى ثياب جميع المواطنين.
  • ٣ لتُنشر اللوحات (الملوّنة) من بيت إلى بيت، في الشوارع والسّاحات، على شكل أقواس قُزحٍ متلألئةٍ مثل الأحجار الكريمة، تُفرح عيون المارّة وترَقّي ذائقتهم.

الرسّامون والكتّاب مطالبون بأن يتناولوا بلا تردّد عبوات الألوان وأدوات فنّهم ليزيّنوا ويغطّوا بالرسوم جميع المدن والمحطّات وقطعان قطارات سكك الحديد المنفلتة من أعقلتها.

ابتداءً من اليوم، عند مروره في الشارع، يجب أن يستمتع المواطنُ بكلّ لحظةٍ بعميق أفكار معاصريه اللامعين، وأن يتأمّل الألق الملوّن لهذا النّهار وفرَحه الرّائع، ويجب أن يُنصت أينما كان لموسيقى مؤلّفينا الموسيقيّين البديعين: شجيّة كانت أو صاخبة.

لتكن الشوارع ساحاتِ احتفالات فنّيّة للجميع.

وفي حال وَجدت كلماتنا آذاناً صاغية، فكلّ خارج إلى الشارع سيكبُر ويُثري من خلال تأمّل الجمال، بديلاً من حال شوارع اليوم، وهذه الكتب المعدنيّة (لوحات الإعلانات) حيث الطمعُ والجشعُ والحسدُ السافل والغباءُ المطْبِق وحدها تدوّن كلماتِها التي تلوّث الروح وتُؤذي العَين.

«الفنّ، كلّ الفنّ، للشعب، كلّ الشعب!»

سيُقام أوّل عرض للأشعار والرّسوم في شوارع موسكو يوم تدشين مجلّتنا»١.

البنيانيّة CONSTRUCTIVISM

البنيانيّة تيّار فنّيّ ومعماريّ مثّلَ تطْويراً للمستقبليّة برز في روسيا بُعيد الحرب العالميّة الأولى. وقد جارى المستقبليّة في رفض الماضي والدعوة إلى رمي بوشكين ودوستوييفسكي في البحر «من فوق باخرة الحداثة» وفي احتقار الذّوق السائد الذي جعله ماياكوفسكي موضوعاً لقصيدته «صفعة في وجه الذوق السائد» (١٩١٢).

اهتمّ البنيانيّون على نحْوٍ خاصّ بالرّبط بين الفنّ والإنتاج الصناعيّ. رأوا أنّ الفنّ الجديد يجب أن يستوحى نبض الإنتاج الصناعي. وعملوا على إسهام الفنّ في الصناعة بأشكالٍ مختلفةٍ فصمّموا نقوشاً فنيّة تزيينيّة للأنسجة وأزياءً للعاملات والعمّال وأثاثاتٍ للمنازل ومدافئَ اقتصاديّة الكلفة وتجهيزاتٍ للمكتبات العامّة. وكان للبنائيّين شغَف خاصّ بالتكنولوجيا وما أنتجتْه العلوم. وقد أعلنوا نهاية فنّ اللوحة والعمل الفنيّ الفرديّ. ومبدأُهم الأساسيّ: الفنّ نتاجٌ جماعيّ يلزم أن يُشرِك المُشاهد فيه مثلما يجب أن يخدم أهدافاً مجتمعيّة.

بناءً عليه كان التزام البُنيانيّين بالثورة وقد أسهموا في الحملة الدعاويّة البلشفيّة، فصمّموا ونفّذوا ملصقات ولَوحاتٍ دعاويّةً ملوّنة أو رسموا ما سوف يُعرف لاحقاً بـ«الغرافيتي» على الأبنية، ومن أشهر أعمالهم ملصق إل ليسيتزكي بعنوان «اهزموا البِيض بواسطة الوَتَد الأحمر» (١٩١٩).

ظهرتْ بوادر التصميم الغرافيكيّ عندهم مع رودشنكو وليسيتزكي ولم يقتصر الأمر على تصميم ملصقاتٍ للسّينما أو المسرح أو الدعاية السياسيّة بل تعدّى ذلك إلى ابتكار أنماطٍ جديدة في تصميم المجلّات والكتب والاهتمام بنوع خاصّ بكتب الأطفال.

وكان البنيانيّون روّاداً ايضا في ابتكار تقنيّات التّصوير والتّوليف التصويريّ (فوتومونتاج) القائمة على الكولّاج الذي يجمع بين صوَرٍ أو قصاصاتٍ صحافيّةٍ ورسوم وتلاوين من وحْي التكعيبيّة وأعمال بيكاسّو. ومن أوائل الأعمال التي استُخدمتْ فيها تلك التقنيّة لوحة «لينين وكهربة روسيا» (١٩١٩ - ١٩٢٠) وتزيين رودشنو لقصيدة ماياكوفسكي «عن هذا». وسوف تَلقى تلك التقنيّة تطويراً خلّاقاً لدى جون واترفيلد الألمانيّ اليساريّ المُعادي للفاشيّة بمثل ما سوف تؤثّر ابتكارات البنيانيّين في العمارة والتصميم الغرافيكيّ والتّصميم الصناعيّ والمسرح والأفلام والرّقص والأزياء. ومن أبرز آثارها حركتا «الباوهاوس» في ألمانيا.

لوناتشارسكي و«مفوضيّة التنوير»

طغتْ شخصيّة أناتولي لوناتشارسكي (١٨٧٥ - ١٩٣٣) على الحياة الثقافيّة والتعليميّة الروسيّة خلال أكثر من عقْد من زمن الثورة الأوّل. شغل منصب «مفوّض الشعب للتنوير» Narkompros (لاحقاً مفوضيّة الثقافة والتعليم) من تشرين الأوّل / أكتوبر ١٩١٧ إلى ١٩٢٩.

ولوناتشارسكي من البلاشفة الأوائل منذ انشقاق الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ الروسيّ العام ١٩٠٣، قد انحاز إلى التيّار المناهض للحرب بقيادة لينين وتروتسكي. كان مثقّفاً رفيع المستوى يجيد ستّ لغاتٍ وكاتباً مخصباً له مئات المقالات في الفلسفة والفكر الاشتراكيّ والأدب الكلاسيكيّ والحديث والرسم والموسيقى والنّحت. من أعماله «الدين والاشتراكيّة» ١٩٠٨، و«مقاربات لفلسفةٍ تشاركيّة» ١٩٠٩، وقد صدرت مختارات من مقالاته في الأدب والفنّ بعد الوفاة.

تحدّث عنه لينين بما هو «شخصيّة فائقة الموهبة» وقال عن علاقته به «أنا ضعيفٌ تجاهه. وأحبّه كثيراً، كما هو معروف. إنّه رفيقٌ ممتاز». مع أنّ العلاقة بين الرجلين لم تخْلُ من خلافاتٍ في الفكر كما في السياسة الثقافيّة.

عُرف عن لوناتشارسكي اعتماد سياسةٍ منفتحة ومحترمة لحرّيّة الإبداع والتعدّديّة، وبالمرونة الكبيرة تجاه المثقّفين. دافع عن الأبنية التراثيّة للعهد القيصريّ ضدّ تيّارٍ في الحزب البلشفيّ وبين المثقّفين يريد تدميرها، بحجّة القطع مع كلّ ما يتعلّق بالماضي القيصريّ. ومن هؤلاء الدعاة ماياكوفسكي الذي أعلن في إحدى قصائده «آن الأوان لوشم المتاحف بالرّصاص». وقد ردّ عليه الشاعر الكبير ألكسندر بلوك، مدافعاً عن حماية التراث. وأنشأ لوناتشارسكي في وزارته فرعاً للمحفوظات والمتاحف مركزُه «قصر الشتاء» الشهير، وساعدتْه في تلك المهمّة المناضلة البلشفيّة لاريسا رايزنر (١٨٩٦ - ١٩٢٦) التي كانت أوّل مفوّض سياسيّ نسائيّ في الجيش الأحمر وهي الصحافيّة اللامعة التي عُرفت بتحقيقاتها عن الحرب الأهليّة والثورة الألمانيّة.

البرولتكالت والأجيتبروب

وكان لوناتشاريسكي قد أسهم قبل الثورة بحركة «الثقافة البروليتاريّة» Proletkult صحبة زملائه في اليسار البلشفيّ ألكسندر بوغدانوف ومكسيم غوركي، وضمّت ناديا كروبسكايا، زوجة لينين، ولاريسا رايزنر في لجنتها المركزيّة. مع الثورة تحوّلت الحركة إلى مؤسّسةٍ ثقافيّةٍ تجريبيّةٍ واسعة الانتشار من أدباء وفنّانين طليعيّين طمحوا إلى إنتاج ثقافة جديدة ثوريّة وعمّاليّة تستلهم بناء مجتمع صناعيّ جديد. وقد أعلن دافيد شتيرنبرغ باسمهم أنّ «الأدب البروليتاريّ سوف يكون أدباً غير طبقيّ، يناهض كافّة أنواع الأدب التي عرفها الماضي». وقد نمَت الحركة بسرعة فائقة إذ ضمّت ٨٤ ألف عضو تجمّعوا في نحو ٣٠٠ نادٍ ومحترفٍ حيث يشارك نحو نصف مليون مواطن في فعاليّات الحركة التي تركّزت بنوع خاصّ في المصانع. وأصدرتْ الحركة ١٥ مطبوعة دوريّة. حظيتْ حركة الثقافة البروليتاريّة برعاية لوناتشارسكي ودعم «مفوضيّة التنوير» مع أنّها ناضلتْ للاستقلال عن الدولة التي تموّلها.

على صعيد آخر، كانت «مفوضيّة الشعب للتنوير» أبرز المفوضيّات العاملة في حقول الدعاية وتعميم الثقافة. أسهمت بدورها في الأجيتبروب Agitprop، حملة التحريض والدعاية خاضها لوناتشارسكي بروح المبادرة والحماسة التي أسّس بها البرولتكالت Proletkult. كانت قطارات وبواخر الدعاية والتحريض تجوب البلاد والقنوات والأنهار والبحار و«تنشر الثورة وفنون الثورة» - أشهرها «القطار الأحمر» الذي دشّنه لينين - يوزّع المناشير والكتب وأعداد جريدة «إزفستيا» في كافّة أرجاء روسيا. وعلى قاطراته والعربات ترتسم الشعارات والإعلانات والدعايات واللوحات الفنّيّة، وداخله سينمائيّون ومصوّرون وفنّانون تشكيليّون أدباء يجوبون أرجاء روسيا يتعرّفون على بلادهم ويستوحون منها ويُوحون.

«محترفات الدولة الحرّة»

في نهاية ١٩١٨ أُنشئت «محترفات الدولة الحرّة» في موسكو وبتروغراد لتحلّ محلّ الأكاديميّات الإمبراطوريّة، لتعليم الفنون المختلفة. غرضُها تنمية ثقافة العين وزيادة طاقتها على تعرّف اللّون والكتلة والمدى ثلاثيّ الأبعاد والحركة. وتمكّن الطلّاب من استيعاب نظرة متكاملة للتشكيل والعمارة والنّحت لتنمية مؤهّلات الفرد الفنّيّة الفرديّة، وقد أعلنت الحريّة الفنيّة داخل جدرانها واعترفتْ بكلّ المدارس الفنيّة وتكفلتْ منحَ كلّ طالبٍ فرصة تنمية فرديّته في أيّ اتّجاه يريد.

وفي نهاية ١٩٢٠ رفد لينين «المحترفات» بقرار إنشاء معهدٍ عالٍ للفنون VKhUTEMAS استقطب عدداً كبيراً من ألمع فنّاني روسيا للتدّريس فيه، منهم آلتمان وكاندينسكي وماليفتش وشاغال وبوبوفا وستبانوفا ورودشكنو، وليستزكلي وتاتلين وآخرون. وسوف تنشأ في ظلّ ذلك المعهد أوّل مدرسةٍ للفنون الغرافيكيّة.

ويعود إلى لوناتشارسكي أيضاً تأسيس «بيت الفنون» في بناية مصرفٍ مؤمّمٍ في نهاية العام ١٩١٩. ويحتوي صالات تدريس وقاعات للمؤتمرات ولعروض السينما والمسرح، بالإضافة إلى مكتبةٍ ومقهى وغرَفٍ ومحترفاتٍ لسكن الكتّاب والفنّانين يعيشون فيها مقابل محاضرات يلقونها على الجمهور.

النهايات

ما إن مضى عقدٌ من الزمن حتى كانت معظم تلك المحاولات التجريبيّة، التي انتعشت خلال سنوات الثورة والحرب الأهليّة، التجريبيّة تتعثّر أو تنتقل تحت إشراف الحزب، وقد أخذ يشجّع تيّار «الواقعيّة الاشتراكيّة»، أو الدولة مع بدء إطباق البيروقراطيّة على الحياة الثقافيّة والفنّيّة والتعليم.

باكراً خسرتْ حركة «الثقافة البروليتاريّة» استقلالها عند صدور قرارٍ عن اللجنة المركزيّة للحزب بدمْجها في مفوضيّة التعليم، وأعطيت الأولويّة في نشاطاتها لتعليم العمّال.

وقد عارضتْ شخصيّات وتيّارات الحياة الثقافيّة كافّةً «السياسة الاقتصاديّة الجديدة» (NEP) وانتقدوا النموّ المتضخّم للبيرقراطيّة وظهور الأثرياء الجدد - «رجال النيب». ليس هذا وحسب، تغيّرتْ لغة الثورة، كما يلاحظ: «تدريجيّاً، أخذت الكلمات تحجب من المعاني بقدْر ما تفصح عنها. صار للكلمة وجهان: وجهٌ للنّظريّة ووجهٌ للممارسة. فمثلاً، صارت كلمة «سوفييت» صفة ملازمة للوطنيّة ومصدراً للاعتزاز الوطنيّ. ولم تعد تدلّ - إلّا في النظريّة - على نمطٍ معيّنٍ من الديمقراطيّة البروليتاريّة» (راجع مقالة برجر عن ماياكوفسكي في مكان آخر من هذا العدد). كتب ماياكوفسكي قصائد ومسرحيّات ساخرة ومريرةً ضدّ البيروقراطيّة والأثرياء الجدد. وأسّس مع رفاقه مجلّة LEF النقديّة التي صدرت خلال ١٩٢٣ - ١٩٢٥ لتعاود الصدور بعد عامين باسم New LEF قبل أن تتوقّف عن الصدور العام ١٩٢٩.

عام ١٩٢٥ انتحر الشاعر سيرغاي ييسّينين، آخر غنائيّي الرّيف وأحد أنقى أصوات الثورة الروسيّة والأوسع شعبيّة بين شعرائها (راجع المقال عن إيزادورا دانكن في مكان آخر من هذا العدد). وعام ١٩٣٠ أقدم ماياكوفسكي بدوره على الانتحار، معتذراً من صديقه ييسينين لأنّه لامه على انتحاره. قبل ذلك بعام أخرج ستالين لوناتشارسكي من مفوضيّة الشعب لشؤون الثقافة والتعليم. وفي منتصف الثلاثينيّات، كانت «الواقعيّة الاشتراكيّة» قد حلّت عمليّاً محل البنيانيّة، مع أنّ بعض البنيانيّين أمثال ليسيستزكي ورودشنكو وستيبانوفا ظلّوا يرسمون أعمالاً فنيّةً في خدمة الدولة.

  • ١. نُشر في غازيتا فوتوريستوف (مجلّة المستقبليّين) في ١٥ آذار / مارس ١٩١٨.
العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
دمقرطة الفنّ وابتكارٌ بلا حدود

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.