«كانت الذّئاب تتسلّل إلى حدّ البيت. تتحرّك في قطعان كبيرة وتطلق عواءً رهيباً. وكان عواؤها كريهاً ومخيفاً إلى أبعد حدّ. هناك سمعتُ للمرّة الأولى ذلك العواء الثّاقب المتوحّش. لم يكن الأطفال يستطيعون النوم ليلاً وكنتُ أطمْئنهم قائلة: «لا تجزعوا، لدينا كلابٌ قويّة سوف تمنعهم من الاقتراب»».
هكذا وَصفتْ والدة ماياكوفسكي الغابة في جيورجيا الروسيّة حيث نشأ فلاديمير وأخواته. والغرض من إثبات الوصف هنا هو التّذكير منذ البداية بأنّ العالم الّذي وُلد فيه ماياكوفسكي كان شديد الاختلاف عن عالمنا.
عندما ينتحر رجلٌ يتمتّع بصحّةٍ جيّدة، فالسّبب في ذلك - في التّحليل الأخير - أنّه لم يعُد يجد مَن يفهمه. وغالباً ما يستمرّ عدم الفهم هذا بعد الوفاة. لأنّ الأحياء يصرّون على تفسير قصّة المنتحر وعلى استخدامها بما يتلاءم وأغراضهم هم. هكذا يطْبق الصمت على هذا الاحتجاج الأخير ضدّ انعدام الفهم. إنّ اكتناه معنى ظاهرة ماياكوفسكي - وهي ظاهرة مركزيّة لأيّ تأمّل في العلاقة بين السياسة الثوريّة والشّعر - يتطلّب أن نعالج ذاك المعنى بصفته متجسّداً في آن معاً في شعره، كما في مسار حياته وموته.
اللغة أوّلاً
لنبدأ بدايةً بسيطة. إنّ ماياكوفسكي معروفٌ خارج بلاده بصفته أسطورةً رومانسيّة سياسيّة أكثر ممّا هو معروفٌ كشاعر. والسّبب أنّ شعره قد أثبت حتّى الآن استعصاءه الكبير على الترجمة. وقد شجّع ذلك الاستعصاءُ العديد من القرّاء على إحياء تلك الحقيقة المجزوءة القديمة التي تقول إنّ الشّعر غير قابلٍ للتّرجمة. وهكذا فسيرة ماياكوفسكي - حياته في الحركة المستقبليّة، التزامه بثورة ١٩١٧، تماهيه الكامل كشاعر مع الدولة السوفياتيّة، دوره خلال عقدٍ من الزّمن كشاعرٍ منبريّ وكمبشّر، وما بدا أنّه يأسُه المفاجئ الّذي دفعه إلى الانتحار وهو بعدُ في السّابعة والثّلاثين من العمر - تسمّى كلّها مادّة مسيّرة لأنّ مادّة شعره، التي كانت عند ماياكوفسكي سيرة حياته ذاتها، غائبة عنها.
الحقيقة أنّ كلّ شيءٍ عند ماياكوفسكي يبدأ باللغة التي كان يستخدمها، وهذا ما يترتّب علينا تقديره حقّ قدره حتّى لو كنّا لا نجيد اللغة الروسيّة. فسيرة ماياكوفسكي، كما مأساتُه، محكومتان بالعلاقة التاريخيّة المميّزة بينه وبين تلك اللغة. وهذا لا يعني البتّة إفراغ ظاهرة ماياكوفسكي من مضمونها السياسيّ وإنّما الاعتراف تحديداً بما يميّز ذلك المضمون.
ثلاث نقاط بصدد اللغة الرّوسيّة:
١ خلال القرن التّاسع عشر، كان التّمايز بين الروسيّة المحكيّة والروسيّة المكتوبة أقلّ نفوراً ممّا كانه في أيّ بلدٍ من بلدان أوروبا الغربيّة. وعلى الرّغم من أنّ أكثريّة الشعب كانت أمّيّة، فإنّ اللغة الروسيّة لم تكن قد صادرتْها بعدُ الطّبقةُ الحاكمة وسخّرتها للتّعبير عن مصالحها وأذواقها دون سواها. على أنّ نهاية القرن شهدتْ بداية التّمايز بين لغة الشّعب ولغة الطّبقة الوسطى المدينيّة الجديدة. وكان ماياكوفسكي من بين الذين جهروا بمعارضتهم لعمليّة «إخصاء اللغة» هذه. ومع ذلك، كان لا يزال ممكناً، بل طبيعيّاً، لشاعرٍ روسيٍّ أن يعتقد أنّه وريث لغةٍ شعبيّةٍ حيّة. فلم تكن الكبرياء الشّخصيّة وحدها هي التي دفعتْ ماياكوفسكي إلى الاعتقاد أنّه يستطيع النّطق بلسان روسيّة. وعندما قارن نفسه ببوشكين، لم يفعل ذلك من أجل أن يعلن فرادة عبقريّين معزولين، وإنّما من أجل أن يميّز شاعرَين للغةٍ كانت لا تزال قابلة لأن تكون ملكاً لأمّةٍ بأسرها.
٢ لأنّ اللغة الروسيّة لغة منبّرة ومتغيّرة الدّرجات الصوتيّة، تجدها غنيّة غنىً خاصّاً بالقوافي والإيقاعات. وهذا ما يساعد على تفسير ظاهرة حفظ الشعر عن ظهر قلب عند الرّوس. فالشعر الروسيّ، وبخاصّة شعر ماياكوفسكي، أقرب إلى موسيقى «الرّوك» منه إلى شعر ميلتون. اسمعْ ماياكوفسكي نفسَه يحدّثنا عن الأمر:
«من أين يأتي هذا الهدير البدائيّ الأصمّ للإيقاع؟ في الأمر لغزٌ من الألغاز، لكنّ مصدره عندي كلّ أنواع التّكرار في ذهني لأصواتٍ وحركاتٍ موقّعةٍ، بل هو أيّة ظاهرة أستطيع أن أنسب إليها صوتاً معيّناً. فهدير البحر الذي يتكرّر إلى ما لا نهاية قد يكون مصدراً للإيقاع، أو خادمٌ يصفق الباب كلّ صباح، صوت يتكرّر ويدور على نفسه فيكون له رجعٌ في خلدي، أو حتّى دوران الأرض الذي هو في تجربتي، كما في متجر يعجّ بالأدوات البصريّة، ينذر بصفير ريحٍ عاتية ويمتزج به».
على أنّ هذه المميّزات الإيقاعيّة ومنشّطات الذّاكرة للغة ماياكوفسكي الروسيّة لا تأتي على حساب المضمون. قد تختلط الإيقاعات إلّا أّن معانيها تتمايز بدقّةٍ استثنائيّة. وفيما انتظام الصوت يطمْئن، إذا بالمعنى الحادّ والفجائيّ يصدم. فالروسيّة لغة تطاوع على اشتقاق الكلمات الجديدة ذات المعاني شديدة الوضوح، من خلال إضافة البادئات واللاحقات. إنّها مجال لتجلّي طاقة الشاعر على البراعة والابتكار: الشاعر الموسيقيّ والشاعر البهلوان. ذلك أنّ شاعراً ماهراً على أرجوحة البهلوان قد يكون أقدر على استدرار دموعك من ممثّلٍ تراجيديّ.
الثورة تضاعف عدد القرّاء
٣ عقب انتصار الثّورة، وبسبب من حملة محو الأمّيّة الحكوميّة واسعة النّطاق، بات كلّ كاتبٍ روسيٍّ مدركاً إلى هذا الحدّ أو ذاك، أنّ جمهوراً واسعاً من القرّاء هو الآن قيد التّكوّن. أضف إلى ذلك أنّ التّصنيع أخذ يزيد من حجم البروليتاريا، وبعد تحويل البروليتاريّين الجدد إلى فئة من القرّاء «الأبكار» الذين لم تفسدْهم القراءة التجاريّة. فخطر في بال أولئك القرّاء، دونما تكلّف، أنّ الطبقة الثوريّة تطالب بالكلمة الثوريّة وباستخدامها لها كحقٍّ من حقوقها الثوريّة. وهكذا فولادة بروليتاريا تجيد القراءة والكتابة كانت تبشّر بإغناء وتوسيع نطاق الأدب المكتوب في الاتحاد السوفياتيّ، بدلاً من أن تؤدّي إلى إفقاره كما كانت الحال في الغرب في ظلّ السّيادة الرّأسماليّة.
وكان هذا الاقتناع بمثابة فعل إيمانٍ عند ماياكوفسكي بعد ثورة أكتوبر. وقد سوّلت له نفسه أنّ التجديدات الشّكليّة في شعره إنّما هي لونٌ من ألوان النشاط السياسيّ. فعندما كان يبتكر الشعارات لوكالة الدعاية الحكوميّة - الروستا ROSTA - أو يجول في أنحاء الاتّحاد السوفياتيّ طولاً وعرضاً عاقداً النّدوات الشعريّة أمام جماهيرٍ غفيرةٍ من العمّال، كان موقناً بأنّه، بواسطة كلماته، سوف يُدخل استعاراتٍ جديدة، وبالتالي مفاهيم جديدة، إلى لغة الطبقة العاملة. ومع أنّ تلك الجولات أوهنتْ صحّته على مرّ السّنين، إلّا أنّها كانت من المناسبات القليلة التي بدا فيها أنّ الحياة ذاتها تؤكّد صحّة ذلك الدَّور الذي انتدب نفسه للعبه، كان الجمهور يفهم كلماته. ربّما كان المعنى الكامن وراء تلك الكلمات يغيب عن أذهانه، غير أنّه لم يكن ليأبه بذلك «هناك» حيث كان يُلقي وهم يُنصتون، مثلما كان يأبه له في المساجلات اللامتناهية التي كان مضطرّاً إلى الخوض فيها «هنا» مع الناشرين والمسؤولين الحزبيّين عن مجال الأدب. فهناك كان الجمهور، أو القسم الأكبر منه، يحدس أنّ فرادة ماياكوفسكي إنّما تنتمي إلى فرادة الثورة ذاتها. فقد كان معظم الشعراء الروس يُلقون الشعر وكأنّه مناحة، في حين كان ماياكوفسكي يلقيه مثل بحّارٍ يصيح عبر مكبّرٍ للصّوت باتّجاه سفينةٍ أخرى عبر بحرٍ هائج.
هكذا كانت حال اللغة الروسيّة في تلك اللحظة التاريخيّة. والقول إنّها كانت لغةً تستدعي الشعر استدعاءً ليس استعارةً لغويّة مبالِغة إنّما هي محاولةٌ لاختصار لحظةٍ تاريخيّة في عددٍ محدودٍ من الكلمات.
ولكنْ، ماذا بشأن الطرَف الآخر في تلك العلاقة - ماياكوفسكي الشاعر؟ أيَّ نوعٍ من الشعراء كان؟ يبقى ماياكوفسكي على قدرٍ من التّفرّد بحيث يتعذّر تصنيفه بالمقارنة مع شعراء آخرين. ولعلّنا نبدأ تصنيفه كشاعر بتفحّص نظرته إلى الشّعر، ولو انطوى الأمر على قدرٍ من الفجاجة، آخذين بالاعتبار أنّ هذا التّعريف متجرّد من الضّغوط التي كان الشاعر عرضةً لها طوال حياته وهي ضغوط يتعذّر علينا أن نميّز فيها العوامل الذّاتيّة عن العوامل التاريخيّة.
هكذا يصف ماياكوفسكي طريقه إلى الشعر، في الملاحظات نحو سيرته الذاتيّة:
«اليوم كتبتُ قصيدة. أو بالأحرى: مقاطع من قصيدة. إنّها سيّئة. لا تصلح للنّشر. «ليل» جادّة ستريتنسكي. قرأتُ القصيدة لبورليوك. وأضفتُ: إنّها من نظْم صديق. جمد دافيد ونظر إليّ: «أنت نفسُك كاتبُها!» ثمّ صاح: «إنّك لعبقريّ!». فرحتُ لهذا الإطراء الرائع الذي لا أستحقّه... فانكببْت على الشّعر. في تلك الليلة، أمسيتُني شاعراً على نحوٍ فجائيّ تماماً».
تلبية الطلب الاجتماعي
اللهجة ملتبسة. لكنّ المهمّ قوله إنّه صار شاعراً لأنّه استدعي لتلك المهمّة استدعاءً. طبعاً، كانت طاقته العبقريّة كامنةً أصلاً. والأرجح أنّها كانت ستتفجّر عاجلاً أو آجلاً. إلّا أنّ مزاجه قضى بأن يأتي تفجّر تلك الطاقة تلبيةً لطلبٍ معيّن.
فيما بعد، سوف يواصل الإشارة إلى الشعر بصفته أمراً يجب أن يقابله بالضرورة «طلبٌ اجتماعيٌّ» معيّن، تأتي القصيدة تلبيةً مباشرةً له. والجامع المشترك بين شعره المتوقّد في فترته المستقبلية وشعره السياسيّ اللاحق هو تحديداً شكل المخاطبة. ونعني بذلك نمط مواجهة الشاعر للـ«أنت» الذي يخاطب. قد يكون هذا الـ«أنت» امرأةً أو الله أو المسؤول الحزبيّ، إلّا أنّ تغيّراً لا يطرأ على شكل تقديم الشاعر لحياته إلى الذين يخاطبهم. عبَثاً تبحث عن الـ«أنت» في حياة الـ«أنا»، ذلك أنّ الشعر هو عمليّة إضفاء معنى شاعريّ على حياة الشاعر الموضوعة في تصرّف الآخر. قد يقول قائلٌ إنّ ذلك القول ينطبق، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على الشعر إطلاقاً، غير أنّ الفكرة القائلة إنّ الشعر نمطٌ من التبادل يفعل فعله بين حياة الشاعر وبين الطلَبات التي تضعها عليه حيواتٌ أخرى، فكرة متبلورة بنوع خاصّ في الظاهرة الماياكوفسكيّة. إنّها تنطوي على المبدأ القائل إنّ الشعر يلقى تبريره أو لا يلقاه بحسب نمط استقبال النّاس له. هنا نلامس صراعاً هامّاً من الصراعات التي كانت تخترم حياة الشاعر. فالمبتدى هنا هو اللغة بما هي المُعطى الأساس. على أنّ المنتهى هو حكم الآخرين على كيفيّة استخدامه لتلك اللّغة في ظروف معيّنة. فقد تعاطى ماياكوفسكي مع اللغة وكأنّها جسده ذاته، وترك للآخرين أن يقرّروا ما إذا كان لذاك الجسد الحقّ في الحياة أم لا.
كانت المقارنة بين إنتاج الشّعر والإنتاج الصّناعيّ واحدة من المقارنات الأثيرة لدى ماياكوفسكي. غير أنّ اختزال تفسير تلك الاستعارة بإعجابه المستقبليّ بالتكنولوجيا الحديثة يجانب الحقيقة. فالشعر بالنسبة إلى ماياكوفسكي تصنيعٌ للتجربة الشخصيّة وتحويل. وهو يتحدّث عن تجربة الشاعر بما هي المادّة الخام للشعر، في حين أنّ القصيدة هي المنتوج النهائيّ الذي يلبّي الطلب الاجتماعيّ:
«وحده جهد تمهيديّ قد نال نصيبه الوافي من الاختمار يوفّر لي الوقت اللازم لإتمام نصٍّ معيّن، ذلك أنّ متوسّط إنتاجي اليوميّ يتراوح بين ثمانية وعشرة أسطر».
«إنّ الشاعر هو ذلك الكائن الذي يرى إلى كلّ اجتماعٍ أو إشارة مرور أو كلّ حدثٍ من الأحداث، في أيّ ظرفٍ من الظروف، على أنّه مادّة قابلة للصّياغة في كلمات».
والذي كان يعنيه بالجهد التمهيديّ هو تأليف القوافي والصوَر والأبيات الشعريّة واختزانها من أجل استخدامها اللاحق. فـ«صناعة» القصيدة تمرّ بأطوارٍ عديدة، كما يقول بصراحةٍ نادرة في مقاله «كيف تصنع الأشعار؟». يأتي في المقام الجهد التمهيديّ الذي يقوم على سكب التجربة في كلماتٍ واختزان تلك المقاطع الكلامية الموجزة نسبيّاً.
«حوالي العام ١٩١٣ كنت عائداً من ساراتوف إلى موسكو، ولكي أثبت إخلاصي لامرأةٍ كانت ترافقني، قلت لها: «ما أنا ببشر، إنّما أنا غمامةٌ ترتدي سروالاً». وما إن تفوّهتُ بتلك العبارة حتّى لمَع في خاطري أنّها قابلة للاستعمال في قصيدة. بعد مضيّ سنتين على الحادثة، استخدمتُ «غمامة في سروال» عنواناً لقصيدة جاهزة كانت تبحث عن عنوان».
بعد ذلك يأتي إدراك الشاعر بأنّ ثمّة «طلباً اجتماعيّاً» لقصيدةٍ حول موضوعٍ معيّن، فيجهد لكي يتفهّم الحاجة الكامنة وراء ذلك الطّلب بأشمل ما يمكن. وأخيراً، تأتي عمليّة نظم القصيدة بما يتلاءم وتلك الحاجة. هنا يحاول الشاعر أن يفيد الإفادة القصوى ممّا قد سكبه سابقاً في كلمات. إلّا أنّ هذه العمليّة تتطلّب الاختبار تلو الاختبار. وعندما يستوي النّظر أخيراً، إذ ذاك تكتسب القصيدة طاقتها التفجيريّة:
أيّها الرفيق جابي الضرائب
أقسم بشرفي
أنّ قافيةً
لا تكلّف الشاعر
أكثر من فلس أو فلسين
اسمحْ لي بهذه الاستعارة:
القافية
عبوة
عبوة ديناميت
وبيت الشعر هو الفتيل
يحترق الفتيل
فتنفجر العبوة
ويتناثر حطام المدينة في الجوّ:
تلك هي القصيدة
فما هي الضريبة
على القوافي
التي تصيب الهدف؟
وتقتل على الفور؟
لو أنّه
لم يبقَ على هذه البسيطة
غير خمس قوافٍ متوارية
ولو أنّها في مجاهل فنزويلّا
لاقتفيتُ أثرها
غيرَ آبهٍ بقيظٍ أو صقيع
ولغصْتُ بحثًاً عنها
مثقلاً بجلاميد التسليفات والقروض
فيا أيّها المواطن،
ادّخرْ ثمن بطاقة السّفَر!
فالشعر - كلّ الشعر! -
رحلةٌ في المجهول!
الشعر
مثل التّنقيب عن الرّاديوم
أوقيّة واحدة من المنتوج
مقابلَ عامٍ من العمل.
في سبيل إنتاج كلمةٍ واحدة
عليكَ أن تصنّع
آلاف الأطنان
من خام الكلام
ولكن، قارن قدح شرار
تلك الكلمة
بالاحتراق البطيء
للكلمات الخام!
فتلك الكلمة
تقطّر ألوف السنين
وتهزّ أفئدة الملايين!
الشعر عمليّة تبادل
ما إن ينتهي نظم القصيدة حتّى تتطلّب أن يقرأها القرّاء أو أن يلقيها الشاعر نفسه إلقاءً. في ندواته الشعريّة العامّة، كان ماياكوفسكي، مثل سائق سيّارة سباق أو طيّارٍ تجريبيّ، يستعرض ميزات منتجاته، مع فارق أنّ معرض القصائد لم يكن على الأرض ولا في الجوّ إنّما في أذهان مستمعيه.
ومهما يكن من أمر لا يجوز أن تخدعنا رغبة ماياكوفسكي في عقلنة عمليّة إنتاج الشعر، فنحسبها خلوّاً من الأسرار. فقد كانت رؤياه الشعريّة مترعة بشغفٍ تزعزعه أبداً رغبة الشاعر.
يغفو الكون
وأذنه الجبّارة
المحشوًة ببراغي
- هي النجوم -
ملقاة على كتفه
مع ذلك، كان ماياكوفسكي يرى إلى الشعر بصفته عمليّة تبادل، بل عمليّة ترجمةٍ تهدف إلى جعل تجربة الشاعر قابلةً للاستخدام من قبل الآخرين. كان يؤمن بكيمياء اللغة. ففي فعل الكتابة نفسه يحدث التحوّل العجائبيّ. وعندما كتب عن انتحار الشاعر ييسينين عام ١٩٢٥، عجز عن تقديم حجّةٍ واحدةٍ مقنعةٍ لماذا كان على الشاعر أن يبقى على قيد الحياة، وإن يكن اعتبر أنّ هذا ما يمليه عليه الطّلَب الاجتماعيّ. إنّ المقاطع الأولى من الرّثاء هي بيت القصيد: لو كان في غرفة ييسينين في الفندق مجرّد دواة حبر، لما قطع شرايين رسغه وشنق نفسه. لو كان في مقدوره فقط أن يكتب، لربّما بقي على قيد الحياة. فأن تكتب يعني أن تختلي بنفسك وأن تنضمّ إلى الآخرين في آنٍ معاً.
يتحدّث ماياكوفسكي في القصيدة ذاتها عن الشعب الروسيّ الذي «تعيش فيه لغتنا وتتنفّس»، ويهاجم كلّ استخدام خجول أو أكاديميّ للّغة (مردفاً أنّه لو قدّر لييسينين أن يستمع إلى الخطباء التقليديّين في تأبينه، لدعاهم أن يدسّوا مراثيهم في إستهم). إلّا أنّه يعترف، في المقابل، بأنّ وقْع الأزمة شديد الوطأة على الكتّاب، مع أنّه يتساءل: ولكن أيّ زمنٍ لم يكن شديد الوطأة عليهم؟ ثمّ يقول:
إنّما الكلمات
هي طلائع
البشريّة الزّاحفة
تقدّموا!
خلفُنا
الزّمن
يتفجّر مثل ألغامٍ أرضيّة!
لن نترك
للماضي
غير ضفائر
شعورنا
المتشابكة بالرّيح
بين ماياكوفسكي وريتسوس
توضيحاً لفكرتنا، قد يساعد أن نقارن ماياكوفسكي بكاتبٍ آخر هو الشاعر اليونانيّ المعاصر بانيس ريتسوس الذي هو، مثله كمثل ماياكوفسكي، شاعرٌ سياسيٌّ وشيوعيّ. لكنْ على الرّغم من الالتزام المشترك لشاعرَينا، يقع ريتسوس في الضفّة الأخرى من الشعر بالمقارنة مع ماياكوفسكي. إذ لا تولد الأشعار عند ريتسوس من فعل كتابةٍ ولا من تصنيعٍ للكلمات. يولد الشعر عنده كمحصّلة لقرار أساسيّ لا علاقة له بالشّعر. وبدلاً من أن تكون الأشعار المنتوج النهائي لعمليّةٍ إنتاجيّةٍ شديدة التّعقيد، تبدو كمنتوج فرعيّ من منتجاتها. فيساورُك الانطباع بأنّ أشعار ريتسوس تأتيه قبل تراكمها في كلمات: إذ إنّها ترسّبٌ من ترسّبات موقفٍ أو قرارٍ مسبق. ليس بقصائده يؤكّد ريتسوس تضامنه السياسيّ. بل بالعكس من ذلك، بسببٍ من موقفه السياسيّ، تتلبّس بعض الأحداث لديه لبوساً شعريّاً:
يوم السبت، الساعة الحاديةَ عشرة قبل الظّهر
النسوة يجمعن الثّياب
من على حبل الغسيل.
صاحبة الدّار واقفة عند عتبة
الفناء
رجلٌ يحمل حقيبة.
وآخر يعتمر قبّعةً سوداء
الموتى لا يدفعون الإيجار
قطعوا خطّ الهاتف عن إيلين.
بائع الكعك ينادي عمداً:
«كعك، سخن، يا كعك»
عازف الكمان الشابّ على النّافذة
«سخن وطيّب الكعك»
يقول.
يرمي كمانه على الرّصيف
الببغاء تراقب من فوق كتف الخبّاز.
صاحبة الدّار تخشخش بمفاتيحها.
النسوة الثّلاث يدخلْن البيت
ويصفقْن الباب.
ليس القصد الاستشهاد بريتسوس في مواجهة ماياكوفسكي، أو العكس. إنّهما نمَطان مختلفان من الشعراء يكتبان في ظروفٍ هي نفسها متغايرة. فشعر ريتسوس (بسببٍ من عبقريّته الشعريّة) منتوج فرعيٌّ من منتجات خياره الذي هو خيار معارضة ومقاومة. فيما يرى ماياكوفسكي أنّ الواجب السياسيّ يُملي عليه أن يمجّد وأن يؤكّد. الشكل الشعريّ عند واحدهما علنيّ، سرّيّ عند الثّاني. وعلى عكس ما قد يبدو ظاهريّاً، فالأوّل أشدّ عزلةً من الثاني.
تغيّرتْ لغة الثورة
لنعدْ الآن إلى ماياكوفسكي. يمكننا القول إنّ اللغة الروسيّة كانت تستدعي شعراً جماهيريّاً، وتنقّب عن شعرائها الوطنيّين قبل الثورة وخلال سنواتها الأولى. ومع أنّه يستحيل الحسم في مسألة ما إذا كانت عبقريّة ماياكوفسكي قد ظهرت بفعل ذلك الاستدعاء أم أنّها ترعرعت فقط في كنفه، فإنّ هذا التّزامن بين عبقريّته وبين حالة اللغة في عصره كان عنصراً حاسماً في نتاج الشاعر على امتداد حياته وربّما أيضاً في موته، لكنّه تزامنٌ لم يعمّر طويلاً.
منذ افتتاح «السياسة الاقتصاديّة الجديدة» (الـ«نيب» NEP) أخذتْ لغة الثورة نفسها تتغيّر، كان التّغيّر خفيّاً، أول الأمر، إلّا أّنه لم يكن ليَخفى على شاعرٍ منبريّ مثل ماياكوفسكي. ومع الوقت، لم تعد الكلمات تعني تماماً ما تقوله. (إنّ تصميم لينين على القول الصّدق كان خارقاً. فإذا وفاتُه منعطفٌ حاسم في هذا المضمار كما في سواه). تدريجيّاً، أخذَت الكلمات تحجب من المعاني بقدْر ما تفصح عنها. صار للكلمة وجهان: وجهٌ للنّظريّة ووجهٌ للممارسة. فمثلاً، صارت كلمة «سوفيات» صفة ملازمة للوطنيّة ومصدراً للاعتزاز الوطنيّ. ولم تعدْ تدلّ - إلّا في النظريّة - على نمط معيّن من الديمقراطيّة البروليتاريّة. هكذا أمسى جمهور القرّاء «الأبكار»، إلى حدٍّ بعيدٍ، جمهوراً من المخدوعين.
مات ماياكوفسكي قبل أن تستفحل ظاهرة خفْض قيمة اللغة الروسيّة. لكنّه في سنوات حياته الأخيرة، ازدادت رؤياه سخريةً كما نتبيّن من أعمال «الخير» و«البقّ» و«الحمّام»، وقد لقيَتْ جميعها استقبالاً سلبيّاً. فقد أضحت كلماته مشحونة بمَعانٍ فقَدَت الصحّة والصّدق. فلنستمعْ إلى المخرج في الفصل الثّالث من «الحمّام»:
«حسناً! الآن جميع الرّجال على المسرح. اركعوا على ركبةٍ واحدة، احنُوا الظهور وطأطئوا الرّؤوس. يجب أن تبدوا مستعبَدين، تمام؟ انهالوا بمعاولكم الوهميّة على الفحم الحجريّ الوهميّ. أشدّ بؤساً، أنت هناك، يجب أن تبدو أشدّ بؤساً، فإنّ القوى الظلّامةَ تقهرك.
«وأنت هناك! أنت تمثّل «رأس المال». قفْ هناك، أيّها الرفيق، «رأس المال». سوف تؤدّي لنا رقصةً قصيرة تمثّل «القهر الطّبقيّ»...
«النساء على المسرح الآن. أنتِ سوف تكونين «الحرّيّة». أخلاقك الحميدة تخوّلكِ ذلك. وأنت تستطيعين لعب دور «المساواة»، ليس مهمّاً من يمثّل هذا الدّور، أليس كذلك؟ وأنتِ، يا عزيزتي، ستمثّلين دور «الأخوّة»، فلستِ تستثيرين من المشاعر إلّا هذا الشّعور! جميعكنّ مستعدّات؟ هيّا! انفثن الجماهير الوهميّة بحماستكنّ الوهميّة! حسناً! حسناً!».
ما الذي كان يحلّ بماياكوفسكي في تلك الأثناء؟ امرأة يحبّها تتركه. وإنتاجه يتعرّض لنقدٍ متزايد الحدّة، على اعتبار أنّ «نَفَسَه» بعيدٌ عن الطبقة العاملة. أبلغَه الأطبّاء بأنّه أعطب أوتاره الصوتيّة بلا أمل في شفاء، لأنّه يرهق صوته عند تلاوة الشعر. وهو، من جهته، أعلن حلّ رابطته الأدبيّة الطّليعيّة («ليف» LEF وقد أعيدت تسميتها «نيف» NEF) وأعلن انضمامه إلى رابطة الكتّاب «الأكثريّين» الرسميّة («الرّاب» RAPP) التي كانت دوماً سلبيّة تجاهه. والنتيجة أنّه بات معزولاً في الرابطة الجديدة، فيما أصدقاؤه السابقون يصنّفونه في عداد المرتدّين. من جهةٍ أخرى، المعرضُ الاسترجاعيُّ لنتاجه - من أشعارٍ ومسرحيّاتٍ وملصقاتٍ وأفلامٍ - لم يحرز النجاح الذي كان يتوقّعه له. كان في السابعة والثّلاثين من العمر - كان بوشكين في السنّ ذاتها عندما قُتل. غير أنّ بوشكين كان مؤسّس اللغة الحديثة للشعر الروسيّ بلا منازع. فما الذي سيحلّ بلغة الشعر الروسيّ الثوريّ التي آمن بها ماياكوفسكي ذاتَ يوم؟
إذا كان الكاتب يرى إلى حياته على أنّها مادّة خامٌ تنتظر دخول اللغة، وإذا كان مشغولاً على الدّوام بتصنيع تجربته الشخصيّة، ويرى إلى الشعر على أنّه عمليّة تبادل في المقام الأوّل، ينجم عن ذلك خطرُ أن يستنتج ذاك الكاتب أنّ حياته ذاتها مستنفدة عندما يُحرم من جمهوره المباشر. فلن يرى بعد الآن إلى تلك الحياة إلّا كشذرات منشورة على امتداد السنين. فكأنّما نجحت الذّئاب، بالرّغم من كلّ شيء، في تمزيق جسمه إرباً:
«لا تجزعوا، لدينا كلابٌ قويّة سوف تمنعهم من الاقتراب». ثمّة من أخلف بالوعد. فقد هجَمَت الذّئاب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.