عمل غوستاف فلوبير طويلاً على جمع وصياغة الكليشيهات المنتشرة في زمنه بشأن كلّ شيء تقريباً في كتابه «قاموس الآراء الشائعة». طبعاً لم يُنه فلوبير هذا الكتاب إذ إنّ جَمْع التّافه الشائع والمتشبّه بالعميق عملٌ لا ينتهي. غير أنّه أشار في ذلك إلى الطبيعة الغفلة، اللاشخصيّة، للسّخافة. ليس من ضرورة أن يُنسب هذا القول أو تلك العبارة إلى فلان من الكتّاب أو من الأرستقراطيّين، بل إنّ هذا القول يجد في إغفال قائله وفي شبهة الصّحة فيه ما يوضح مدى فداحته وشيوعه.
في النّقد الموسيقي المكتوب بالعربيّة، والذي يتسنّى الاطلاع عليه في الصحفات الثقافيّة وبعض الدوريّات والكتب ولكن أيضاً على صفحات الإنترنت والمنتديات وموقع فيسبوك، أيضاً آراءٌ شائعة لعلّها تشكّل القوام الأساسي لكلّ ما يُكتب، وقد اكتست بقوّة التّكرار والشّيوع شبهةً من حقيقةٍ ومن عمقٍ موهوم. وقد يكون من الممكن إسناد هذه الآراء إلى أقسامٍ خمس. ولعلّ أولى مهامّ النّقد الآن توجيه مبضعه نحو النّقد نفسه، والتفكير في هذه الآراء الشائعة وأصولها، ومن ثمّ النّظر في ما لا يزال يفسح بعض المجال ويضفي بعض المغزى على هذا النّقد.
أثر الشّفاهة وهوس التّأريخ
في مفارقةٍ لطيفة، يبدو النّقد العربيّ مهجوساً بالتّأريخ فقليلاً ما نعثر على كتابٍ لا يبتدئ إمّا بذكر النّقوش السومريّة والرسوم الفرعونيّة، أو وهو الأكثر ذيوعاً باعتبار عروبته بذكر دخول الغناء إلى الحجاز وذكر القيان والمغنّيات في قصور بني العبّاس وأخبارهنّ المذكورة في «كتاب الأغاني». غير أنّ هذا النّقد عينه هو ما ينتقل بشكلٍ حاسمٍ إلى تجميع الحكايات والأساطير عن المغنّين والمغنّيات وقليلٍ من الموسيقيّين الملحّنين وغالباً عازفي العود كأنّه هو آلة العرب الوحيدة ما إن ننتقل إلى القرن العشرين.
هكذا يبدو أنّ المادّة التوثيقيّة المكتوبة والمحفوظة والمدروسة إنّما تنتمي إلى عالم الماضي السّحيق الذي تكاد تكون علاقات الممارسة الموسيقيّة معه منقطعة، في حين أنّ مثيل هذه المادّة مفقودٌ في عالمنا المعاصر. ولا يفلت من أثر هذا الفقد إلّا القليل من الباحثين الذين يحاولون العثور على مصادر متنوّعة وأصليّة كسجلّات شركات الأسطوانات أو مذكّرات المعاصرين، ومن ثَمّ تمحيصها بدقّة. ولا يندر أن نرى النّاقد ينتقل من تدقيقٍ في كتب الأقدمين إلى ذكر حادثةٍ رواها له فلانٌ أو علّانٌ وتصديقها من دون تفكيرٍ رغم عيوبها الظّاهرة في الصّياغة وفي الوقائع، وهذا من أثر الشفاهة في بلادنا وتاريخها المعاصر.
ومن جهةٍ أخرى لا يندر أن نرى من يحسب أنّ التثبّت من تواريخ الأغاني أو من أسماء المؤلّفين شغلٌ نقدي يستحقّ الاكتفاء به. والحقّ أنّ التّأريخ بالطّبع ليس نقداً وليس بكافٍ كي نتفكّر في الموسيقى المعروضة على أسماعنا وهذا لا يمنع من أنّه مادّة أوّليّة هامّة يستطيع النّقد أن يشتغل عليها شرط أن ينأى بنفسه عمّا يستتبعه التّأريخ المعتاد من تثبيتٍ لبؤرة النّظر على العبقريّات الفرديّة (سيّد درويش، عاصي الرحباني، إلخ.) وإهمالٍ لشروط التّأريخ الحديث الأغنى والأكثر تعقيداً المتابع لحركة الغفل في التّاريخ ولما يسمح للعبقريّة الفرديّة بالظّهور وبالإنتاج والتّأثير في ما يليها.
الافتتان بغربٍ لا يُعْثَر عليه
الغرب هو، في هذا النّقد، مصدر الشّرور والنّازع إلى تدمير رأسمالنا الفنّيّ وسرقته، بدليل سرقة أحد «الرّابرز» لبعض موازير من أغنية لعبد الحليم مثلاً. لكنّه هو أيضاً، وفي النّقد نفسه، الحكم القاطع في الاعتراف بالعبقريّة والأصالة. أفلم يشهد هذا الغرب لفريد الأطرش، أو لعبد الوهّاب، أو لأمّ كلثوم، أو لرياض السّنباطي؟ هل من كلامٍ بعد كلام هذا الغرب؟ فتصبح جائزة «اليونيسكو» التي نالها السّنباطي دليلاً لا يُردّ على تفوّقه على عبد الوهّاب وعلى أصالته التي سمحت له بهذا التّفوّق، فلو كان سارقاً كغريمه لما كان حاز مثل هذا الاعتراف، رغم أنّ أحداً لم يكلّف نفسه عناء البحث عن هذه الجائزة، جائزة المجلس الدّولي للموسيقى المشتركة مع اليونيسكو، ليكتشف أنّ السّنباطي في العام ١٩٧٧ حازها كمؤدٍّ، كما حازها منير بشير ومحمّد القبنجي وغيرهم، وليس كملحّنٍ أو مؤلّفٍ موسيقي!
وهذا الغرب هو بالطّبع كلّ غربيّ وأيّ غربيّ، سواء كان على علاقةٍ بالموسيقى أو لا. فيكفي الاحتفاء بواحدٍ منّا في مدينةٍ في ألمانيا أو فرنسا مثلاً لنقول إنّ الألمان وضعوه في مصاف بيتهوفن والباريسيّين فتحوا له معاهدهم لينهلوا من علمه. فتجتمع هاهنا افتراضاتٌ ثلاثة فانتازيّة في الغرب كتلة واحدة صمّاء، وشرٌّ مطلقٌ ثابتٌ، وحكمٌ أعلى عادلٌ ونزيه.
في المقابل هنالك أيضاً عالمٌ عربيٌ، هو أيضاً مفترضٌ وموهوم، فقليلاً ما نجد باحثاً يتحدّث عن الموسيقى العربيّة بل ويضعها عنواناً لكتابهولا يكون حديثه في الواقع عن الموسيقى المصريّة مضافاً إليها حيث لزم بعض الحواشي اللبنانيّة أو السوريّة باعتبار قرابتها الفنّيّة من مصر. بل إنّ الحديث قد لا يتجاوز الموسيقى القاهريّة وموسيقى الدلتا، ويتجاهل موسيقات النّوبة والصّعيد وسيوة والكنيسة القبطيّة فضلاً عن موسيقات ليبيا والعراق واليمن والكويت والمغرب والجزائر وسائر البلدان بتنوّع اتّجاهاتها وقواعد موسيقاها وممارساتها.
جدل الأوهام: التعبير والتّطريب، التّجديد والأصالة
ينقسم النّقد العربيّ، بل ينقسم النّاقد العربيّ نفسه، إلى معسكرين في شكلٍ تلقائيّ: أنصار «القديم» أو «الطّرَب» أو «الأصيل» في مواجهة أنصار «الحديث» أو «التّعبير» أو «التّجديد». فالقديم هو هويّتنا، أمّا الحديث فهو عصرنا، والطّرَب غايتنا لكنّ التّعبير هو القيمة التي أنقذتنا من براثن الموسيقى البدائيّة للقرن التّاسع عشر، والأصالة معيارنا لكنّ التّجديد هو الهواء الضروريّ للتّنفّس وللاعتراف بعبقريّة موسيقيّي القرن العشرين تحديداً (مَن في النّقد يبالي بموسيقيّي القرن الحادي والعشرين؟). ولا يندر أن يكتب كاتبٌ في مديح أمّ كلثوم وملحّنيها، أو في مديح عبد الوهّاب، أو في ذمّهما بنفس العبارات ونفس المعايير: أي الجمع والتوفيق والتلفيق ما بين هذه الأقطاب المتعارضة فيمدح المطرب وصوته المعجز مثلما يمدح استدخال آلات جديدة أو بناء القصيدة الملحّنة بناءً درامياً كثيفاً مأخوذاً في العمق عن روح الموسيقى الأوروبيّة.
وقد ساجلتُ من قبل في سخافة فكرة التعبير وتصيّدها لثوانٍ في أغنيةٍ طويلةٍ لإبراز ما تقول، حين يصبح الصّبا راية الحزن والبيّات للرّقص والعجم للحماسة، ويكون تخافض اللّحن دليلاً على عمق الألم ويصبح تصاعده دليلاً على حدّة الألم وشدّته، في حين يغفل أنّ التخافض سبقه تصاعدٌ في نفس الكلمة أو العكس، مثلما يغفل أنّ مثل هذه المصادفة وإن مقصودة لا تعني جماليّاً شيئاً هامّاً عدا استتباع الموسيقى لسطوة اللغة وتحويلها إلى خادمة. كما ساجلتُ من قبل أيضاً في سخافة فكرة الأصالة نفسها وانعدام أصلها وكونها في بواكيرها غطاءً لتمويه الجديد الذي كان يقدّم آنذاك. وسيولة مثل هذه المفاهيم تسمح بالقول من دون أن ينتبه القائل ولا القارئ إلى أيّ فوارق فنّيّة أنّ سيّد درويش والسّنباطي وعبد الوهّاب وزكريّا أحمد والقصبجي، إذا ما لزمنا جانب مصر وحدها، كلّهم أصلاء وكلّهم مجدّدون فلا نرى أيّ عبقريّ لا يملك الصّفتَين السّائلتين معاً، وإنّ تفاوت النقّاد في تعيين نصيب كلّ منهم من هذه السّيولة وفي قدرتهم على الجمع بين وهمَيْن أو أكثر من أقطاب تفكيرنا.
إيديولوجيّة اللغة والنسب العربيّ الشريف
تسيطر اللغة عموماً على كتابة النّاقد العربيّ هذا إذا افترضنا أنّه تخلّص من وهْم كتابة الشّعر في موضوع الموسيقى حيث تنساب شلّالات النّغم وتتلألأ أنهار الطرب فيقضي ردحاً طويلاً من كتابته في متابعة كلام الأغاني وتصيّد لحظات انطباق تصاعد اللحن أو تخافضه أو تغيير الإيقاع على جريان الشعر، والتّصيّد لا يخلو من التّعسّف ولا من جرّ الطّريدة مقتولة. وحين لا تكون عين النّاقد وأذنه على حركات الفريسة، يكون ذهنه في صدد محاكمة الشّعر إسفافاً أو علوّاً (في مقارنات مدرسيّة متكلّسة)، أو في صدد محاسبة موقفه (أو موقف الشّاعر أو المغنّي أو الملحّن) من الثّورة والشّعب والعمّال وحركة التّاريخ حساباً عسيراً. وللمرء أن يسأل في كلّ حين آنذاك: وما ذنب الموسيقى؟
بيد أنّ اللغة تسيطر أيضاً على مستوىً ثانٍ من التحليل، كما ذكرنا في معرض الإشارة إلى الظّنّ بالموسيقى أنّها خادمة لها تنحصر وظيفتها في المحاكاة القاصرة ذات الوسائل الفقيرة للمعنى الشّعري (تخافضاً وترافعاً، أو تسارعاً وتباطؤاً، أو تغيّراً في الآلات والمقامات، بما قد يوحي بالتّعارض أو الحركة في الموقف من دون أن يقول لنا ما هو الموقف نفسه الذي تفترض محاكاته) كما يحاكي القرد حركات معلّمه. فقليلاً ما يخرج ناقدنا من إسار الأغنية إلى رحاب الأنواع الموسيقيّة الأخرى، وإنْ فعل فسيستعير من برنامج موسيقى القرن التاسع عشر الأوروبيّ معانيَ مضمرةً ويلصقها بالموسيقى المعروضة أمامه.
ثمّ أيضاً على مستوى ثالث يرى في الموسيقى لغة فيبحث فيها دائماً عن مفردات وجمَل ومعانٍ وتفاعيل خليليّة. وقد يكون في ذلك بعض المنفعة إذا استعمل أداة لا مندوحة عنها للوصف وللتّقريب من الأفهام لكن مع التّشديد على محدوديّة مثل هذه المقاربة. فعلى سبيل المثال لا يجوز في العربيّة التقاء ساكنين، فكيف نحسب السّكون المتمادي في الموسيقى إذا استخدمنا أسلوب العروض، وليس فيها التقاء أكثر من أربع حركاتٍ متحرّكة فكيف نحلّل جملة موسيقيّة سريعة؟ وقد يكون هذا المستوى أحياناً أكثر ضرراً حين يتمّ لَيّ عنق الموسيقى للخضوع إلى علم العروض لإثبات نسَبها العربيّ وفصاحتها، علماً أنّ معظم «مفرداتها» وتراكيبها مشترك مع موسيقى الأتراك مثلاً!
بقايا الشكلانيّة ونوايا الاختزاليّة
يكون العازف سلطاناً على آلته إذا عزف بسرعةٍ كبيرةٍ أو إذا انتقل بين مقاماتٍ كثيرةٍ شأنه في هذا شأن الملحّن الواعي المعلّم والمتمكّن الذي يُجري انتقالاتٍ مقاميّةً مع كلّ «كوبليه» في الطقطوقة مثلاً، وهذا بغضّ النّظر عن طبيعة هذه الانتقالات نفسها وهل كان فيها جدّة أم أنّها تسلك مسالك مطروقة ومعروفة غالباً في الموشّحات منذ عقود إن لم تكن مئات من السّنين! لكنّ العازف نفسه وكذلك الملحّن يُظهران تمكّنهما وفهمهما لحاجة الجمهور إلى أن يسكن إلى مقامٍ واحدٍ فيبحر فيه ويستكشف أرجاءه المختلفة وغير المستكشفة! ويسري على الانتقالات المقاميّة ما يسري أيضاً على الانتقالات الإيقاعيّة!
مثل هذا الشّغف بموضوع الانتقالات المقاميّة ويوازيه أيضاً شغفٌ بتحليل بنية الأغنية (نوع القوافي وعددها وترتيب تكرارها وعودتها، وكذلك عدد الكوبليهات في الطقطوقة ومقاماتها أو موضع الآهات في الدور على سبيل المثال) وفقاً للقوالب الموروثة رغم أنّ أعمال مُبدع حقيقيّ كزكريّا أحمد لا تختزل في مثل هذا التّحليل (تنويع ألحان الأغصان أو الكوبليهات في الطقطوقة) وهي أصلاً لا تقيم كبير وزنٍ للتميّز بين القوالب المختلفة ولا تدخل في تصانيفها المعتمدة. ويلوح لي أنّ أصل هذا الشّغف ليس إلّا من بقايا البنيويّة التي ذاعت ذات يومٍ في فرنسا في الستينيّات قبل أن تندثر، ومن مقاربة شكلانيّة في التّحليل تغنيك بأسماء أعضاء الفريسة عن متعة تذوّق الطبخة.
هنا أيضاً تلوح بوادر مستوى ثانٍ من التّحليل، المستَقى من أكاديميّات الموسيقولوجي ومناهجها،في اختزال المنتَج الموسيقيّ إلى بنية أصليّة وأصيلة طبعاً يزعم بأنّها كانت متضمّنة في التّراث الفصيح بحيث لا نرى، آخر الأمر،في الإنتاج الجديد المعترف به (وبأنّه ليس ملوّثاً بالغرب)إلّا تنويعاً جديداً على بنية أصليّة لا تخرج غالباً عن كونها تتابع ثالثات أو ائتلافاً تقليديّاً (كالدّو والمي والصّول) يتناثر عقده، أي بعض أبسط التتابعات وأكثرها بداهة واستعمالاً. وليس في هذا عيب، إذ إنّ المعوّل عليه هو بالتّحديد الغائب عن مثل هذا التّحليل، أي تفاصيل تركيب الميلودي وأماكن مخاتلتها للمتوقّع وتلاعبها بالزّمن وزخرفاتها ومن ثمّ تفاصيل تطويرها ومعانقتها لميلوديات أخرى، ومعالجتها الهرمونيّة المعلنة أو المضمرة، وكلّ ذلك ممّا لا يظهر لدى اختزالها المخلّ والمتعسّف.
النقد يشير إلى لذّة الموسيقى
بعد كلّ هذا، إذا كان النقد غير معنيّ بالدّفاع عن هويّة العروبة السّافرة ولا بتصيّد مصادفات التعبير عن المعاني المضمَرة ولا بوصف أشكال البنى الظّاهرة ولا هو معْنيّ بالتّأريخ للأفذاذ الفلْتات العباقرة ولا لنزعات الأسطرة ولا بمنافحة أفكار الغرب وتأثيراته الكافرة، فماذا يظلّ للنّقد الموسيقي أن يقول؟
في تقديري أنّ النّقد أوّلاً يُكتب من أجل القارئ الغفل، لا القارئ الأكاديميّ الذي يقرأ ليكتب، وإن كان النّقد يبني لدى قارئه الغفل هذا معرفةً تتراكم مع الوقت وهدفها زيادة قدرته على الاستمتاع الحسّيّ والعقليّ بالموسيقى التي يشير إليها، فالمعرفة هاهنا شرطٌ لاكتمال المتعة الفرديّة والذوقيّة بمنحها إمكانيّة فهم ما يمتّعها في ما تسمعه (جِدّته الراهنة، تلاعب الجملة الموسيقيّة بالزّمن والإيقاع، مفاجآته المقاميّة أو خصوصيّة أبعاد نوتاته، جرأته على النّشاز أو على إدماج عناصر موسيقيّة من سياقاتٍ مختلفة، استخدامه لتقنيّات تنتج أصواتاً غير مسبوقة، الأنساق التي ينتمي إليها والسياق الذي يغلّفه، علاقته بالصّمت... إلخ.). مثل هذا النّقد يشير إلى القارئ على «لذّة الموسيقى»، وعلى ملامح خَفِرة أو خفيّة تستحقّ الانتباه إليها، مثلما كان رولان بارت يشيرإلى «لذّة النّص».
وفي تقديري ثانياً، أن النّقد، سواء غلبتْ عليه أسئلة الفلسفة أو عناصر التّحليل التقني أو هواجس التّأريخ أو حتى المواقف السياسيّة، لا يصير نقداً إلّا متى انضمّت إلى هذه المسائل قضايا أخرى تسأل عن موقع الموسيقى من أنفسنا وسببها، وعن أثر الزّمن في الموسيقى، وأثر العنف في الصّمت، وأثر حركات المجتمع ومواقع قواه المتغيّرة واختلافات التقنية والانتقال من نموذجٍ اقتصاديٍّ إلى آخر ومن صالوناتٍ خاصّةٍ إلى قاعاتٍ عامّة، في نسيج الموسيقى المسموعة نفسه، أي في الصّوت والأبعاد والخيارات المتاحة أو المستعمَلة في تركيب بنية العمل والعلائق ما بين عناصره وآبائه الكثر (ليس من عمل موسيقيّ، وإن كان كتابة سيمفونيّة، يكتفي بأبٍ واحد). فيبنغي بمثل هذا النّقد أن يستمرّ في حركةٍ دائريّةٍ ما بين تتبّع آثار كلّ هذه العوامل في المسموع، وبين استقرائها على ضوء هذا المسموع نفسه، فتقول لنا هذه العوامل الكثير عن الموسيقى، وتقول لنا الموسيقى الكثير عن هذه العوامل.
ثمّ إنّ النّقد أيضاً، آخر الأمر، تساؤلٌ عمّا يستحقّ الدّفاع عنه والتّرويج له في هذا المسموع، وحسابٌ للعمق التاريخيّ والجغرافيّ الذي صاغ موسيقى ما خلال قرون طويلة وصاغ لها مواردها الخاصّة (أنماطها وأبْعادها وإيقاعاتها وإيحاءاتها وحلياتها وتفضيلاتها). وفي الوقت عينه الذي يدرك المرء أنّ تحجير الزّمن على لحظة ما واعتبارها قُدس الأقداس وسدرة المنتهى مستحيلٌ ومخالفٌ حتّى لفعل صياغة هذه الموسيقى التي يهواها على مرّ بطيءٍ لتلك القرون، فإنّه أيضاً يدرك أنّ فيها ما يستحقّ ألّا يُترك للنّسيان والهباء والاندثار. وينطلق مثل هذا النّقد ممّا هو أمامنا وحولنا وقد تلاشى في نفس الوقت، أي من المسموع أو ينتهي إليه. وفي كلا الحالين يكفيه ثوريّةً ألّا يقع في براثن طبقات الخطاب المتعدّدة التي تقف غشاءً حاجزاً على آذاننا وتضع لنا أنصاباً على الطريق لنتعبّد لها أو لنرجمها، لا فرق.
بكلمات أخرى، في النّقد الموسيقيّ إعلانٌ لموقفٍ شخصيّ سيزيفيّ ومتمرّد يعلن في الوقت عينه أضداد ونقائض كثيرة: حتميّة التغيّر وضرورة الحفاظ على ما تقطّر في مئات من السنين، الاقتناع بأنّ في الموروث موارد كثيرة ظلّت طيّ الاحتمال وتستحقّ التفعيل والاكتشاف والاقتناع بالقوّة عينها بأنّ موارد كثيرة سوف تتمّ استعارتها لتخصيب الموجود وفتح آفاق الممكن غير المسبوق أمامه، وجدل الألفة والحنين في المعهود واحتمالات الممكن في الراهن وأفق الأمل في الآتي. ومن هذا الجدل يتولّد التمرّد الدائم في النّقد، حتى وإن كان هامساً وهذا ما لا ينتقص من فاعليّته، مثلما يكون كلّ عمل فنّيّ جدّي وراهن عملاً متمرداً على سياق مسيطر سابق عليه وعلى هيمنته على وقتنا ومخيّلتنا وإنْ تسمّت هذه الهيمنة بأسماء كثيرة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.